المقدمة

انظر في تاريخ مصر الحديث، منذ بدأت نهضتها التي وافقت أعظم نهضات الأمم نشأة وغاية؛ تجد في صفحاته وبين سطوره بثورًا كبثور المرض الجلدي، ثم تبيَّنها وقل بعد ذلك: أليست هي فقاقيع تملؤها جراثيم السياسة الغادرة؟

في الوقت الذي ثارت فيه فرنسا ثورتها الكبرى، فدكت صرح الظلم، ومزقت حجب الجهالة، وأطلعت شمس حريتها لتستقبل حياتها طيبة، في ذلك الوقت بعينه كان محمد علي يخطو بمصر خطوات الجبار الذي يرمي ببصره إلى غاية يأبى إلا أن يدركها، وقد لا تجد تناسبًا بين أمة جاءها رجل واحد فوكزها لتصحو ثم ساقها لتتقدم، وأمة أخرى وقف الموت بروحها بين شفتيها فجمعت من اليأس قوة أطفأت نار الظلم ودقَّت عنقه.

قد لا تجد تناسبًا بين الأمة المصرية يوم جاءها محمد علي حاكمًا مطلقًا يوقظها من النوم ويرفعها من الضعة، والأمة الفرنسوية يوم ثارت بنفسها تذيب قيود الاستبداد وأغلاله بنار الحقد والضغينة، ولكن محمد علي كان زارعًا جديدًا، وكان طامعًا في ملك عريض ومجد باذخ، فلا عجب أن يكون همه أن يبني الملك العظيم في شعب له من عظمة المجد التاريخي ما ليس لغيره.

وكأنما كان محمد علي يريد أن يكتب بيده صفحة تاريخه فلا يدع بين سطورها مكانًا يكتب فيه: إن هذا الجندي الألباني الصغير لم يكن وارث الملوك، ولا ربيب العروش فكيف لا تصيبه الخيبة كما أصابت كثيرين غيره خرجوا من دهماء العامة يطمعون في العرش والتاج. كأنما كان هذا الجندي يريد أن تضيق سطور تاريخه عن أن تسع مثل هذه الوصمة، فكتب صفحته بيده، وأبى أن تغلبه الحوادث على أمره، فبلغ ما أراد على كره من الأيام.

إن مثل مصر بين الناس كمثل السفينة على غوارب البحر الهائج، تسلمها لجة إلى لجة، ولكنها قوية على متن البحر فلا تغرق، وكأنها الحبة الوسطى في عقد الممالك، كل أحد يريدها، وكل أحد يصرفه عنها طمع غيره فيها، ولم يكن محمد علي يجهل أن هذه مكانة بلاده عند الناس. وماذا كان يصنع إلا أن يعوِّذها بتعاويذ السياسة ويرقيها برُقَى الختل والخداع ليداوي الداء بالداء ويبرد الحديد بالحديد، وكان أخوف ما يخافه أن تتهيأ الفرصة للإنكليز فيظهروا ما أبطنوا ويعلنوا ما أضمروا، وكانت عقارب السياسة تدب بين فرنسا وإنكلترا في خفاء، فتحذر كلتاهما أن تغلبها الأخرى على مصر، ولكن فرنسا كانت بصيرة في الطمع معتدلة في الشراهة، فمال إليها محمد علي لأنَّها أخف ثقلًا ولأن سياستها أقل سماجة، على أن إنكلترا مع هذا لم ترد عقارب سياستها إلى الوكر.

الرجل الذي أراد أن يبني الملك العريض على أساس من عزمه استطاع أن يرفع له صرح ملك يضرع النجم، وما كان ليتم له ذلك إلا لأنه اختار لبنائه أرضًا يستقرُّ عليها البناء، ولولا أنه كان كمثل الزارع لما وجب أن يقال إنه اختار أخصب تربة وأصفى جَوٍّ لزرعه فأصبح بهيجًا، ففي ربع قرن جعل اليابس رطبًا، والقحل خصبًا، والجهل علمًا، والفقر غنًى، والخراب عمارًا، والليل نهارًا. وفي ربع قرن أحيا الصناعة، ونشر التجارة، وأنشأ الأسطول، وسدَّ الثغور، وحشد الجيوش، وكان يعتمد على شعب مرن في الخير، بصير بما ينفع، متطلع للحياة الطيبة والمجد العطر، وكان له من هذا الشعب ومن الوطن المختص بمواهب الثروة ومزايا الغنى قوة حسية ومعنوية تغنيه عن الناس وتلقي في روعه أن الناس مفتقرون إليه أو حاقدون عليه أو طامعون فيه، ولم تستعصِ على الجندي العصامي أسباب العظمة في هذا الوطن العظيم، فكل شيء هُيِّئَ سريعًا كأنه شذوذ في سُنَّةِ تكوين الأمم، أو كأنه ظاهرة غريبة بين ظواهر الاجتماع البشري، ولم يسترخ الزمن بمحمد علي طويلًا حتى قام يفتح الأقطار بجيشه المصري، وأسطوله المصري، وماله المصري، وذخائره المصرية، وقد استفحل أمره وعظم شأنه، فخافته الدول وهابته الممالك، وقذف الله به الرعب في قلب أوربا القوية بجيوشها وأساطيلها، الغنية بأموالها وصناعتها وتجارتها، المالكة زمام النصر بالعلم المنشور والفضل المأثور.

هذا إجمال تاريخ النهضة المصرية أيام محمد علي الجندي الألباني الصغير، وقد ذكرنا أنها وافقت النهضة الفرنسوية، والذي ينظر في تاريخ النهضتين يوم ابتدأتا لا يسعه إلا أن يحكم أن نهضة مصر كانت أوفر نشاطًا وأوسع خطوة؛ إذ لم تكن تتعثر في طريقها بما كانت تتعثر به نهضة فرنسا وهي طفلة، فكان يجب أن تؤدي مقدمة النهضة المصرية إلى نتيجة كالتي أدت إليها مقدمة النهضة الفرنسوية إن لم تكن أعظم منها، فلماذا لم يكن ذلك؟

يوم طلع فجر النهضة المصرية فرسم نوره على أفق العالم خطًّا أبيض يجلو سعادة مصر وأبنائها، كانت أفعى السياسة تملأ شدقيها سمًّا، وكانت ترصد الغفلات فتنفث من هذا السم قطرات تصيب جديد حظِّنا فيصدأ، فكم مرة قتلتنا هذه الأفعى، وكم مرة قعدت لنا منذ القِدَمِ مقاعد الشر لتقتلنا!

ولكن الجندي الألباني كان يقظًا، غير أن أفعى السياسة مكرت بغيره فآذته بهذا المكر، ويذكر التاريخ من أمثلة ذلك قصة إحراق الأسطول المصري التي لم تزل مكتوبة في تاريخ السياسة الروسية بقلم العار، وقد كان يتاح لروسيا أن تنال فخر إحراقه بقوتها وإرادتها معًا، لو أنها كانت غير مسخرة للسياسة التي وُصِفَتْ بالغدر في أول سطر من تاريخ العالم السياسي، غير أن جندينا الصغير كان في أمته أعظم من أصحاب العروش وحملة التيجان.

مضى لنا منذ تولي محمد علي ولاية مصر نحو قرن وربع قرن، فلنقسم هذا الزمن ثلاثة عهود: الأول عهد محمد علي، الثاني عهد خلفائه إلى سنة ١٨٨٢، الثالث عهد الاحتلال الإنكليزي من سنة ١٨٨٢ إلى اليوم. وقد يعتقد الناس أننا قطعنا ما قطعنا من العهد الأخير برقي يناسب حركة العالم في التقدم العصري، وتقتضيه طبيعة روح الحياة إبان شباب الإنسانية، وإذا كان الحق خلاف ذلك فإن هذا الحق لا يثبت عند من يجهلونه ومن خدعتهم أضاليل السياسة إلا بعنف وعناء؛ فإن العقل البشري لا يكاد يصدق أن أمة لزمت الجمود على حال واحدة فلم يطرأ عليها جديد من أسباب الحياة غير ما كان لها منذ قرن وربع قرن اللهم إلا ما بلغته بنفسها وهي تتحرك تحت الأثقال وتعاني ما أصابها من القيود والأغلال، فنحن لذلك نعالج عنف الإقناع وننهض بعناء الإثبات بالبرهان القاطع، حتى إذا سطع نور الحق لم نعد نشعر بعنف ولا نجد عناء.

أول ما تدعيه السياسة الإنكليزية أنها أفاضت على مصر حياة حِسِّيَّةً لم تكن تحلم بها من قبل، فإذا سئلت أي شيء هي هذه الحياة الحسية؟ وأين مجراها من عروق الأمة؟ قالت هذه السياسة مفتخرة: ليس بعد الزراعة وبهجتها ونظام الري ودقته من حياة. أما مجراها من عروق الأمة فبين أجساد الفلاحين الذين يُسَبِّحُونَ بحمد المصلحين بكرةً وأصيلا!!

هذه هي الدعوى التي ترى السياسة أنها في مكان التصديق من النفوس لأنها تزعم أن الحس شاهد عليها، ولكن السياسة أخطأت حين ظنت أن حقائق التاريخ الحديث مجهولة، أو أنها تملك أن تمحوها من الصدور إذا ملكت أن تمحوها من السطور، وستظل مخطئة هذا الخطأ إذا ظلت ظانَّةً ذلك الظن.

إن الزراعة في بهجتها منذ أحياها محمد علي، ولو لم يكن هناك دليل على ذلك إلَّا تاريخه الحربي لكان دليلًا قاطعًا، فالرجل حارب أقوى الدول بجيوش كثيفة، وارتحل عن بلاده إلى الأقطار البعيدة بذخائر وأساطيل، ولم يكن يعتمد على غير بلاده، فهل كان يتخذ من الحصى نقودًا، ومن التراب خبزًا وماء؟ أم ماذا كان يفعل لجيوشه في الحرب الطويلة إذا لم تكن زراعته نضيرة وغلاته وفيرة؟ ثم كيف كانت نضرة الزرع ووفرة الغلات إذا لم تكن الزراعة في محل العناية العظمى علمًا وعملًا؟

ينهض هذا الدليل إذا لم يكن هناك نص صريح في أن ما نراه اليوم هو ما فعله محمد علي، وعندنا مصادر كثيرة مستفيضة بالنصوص التاريخية، ولكن الدليل الذي لا يستطيع الخصم إنكاره ما كان قائمًا من ناحيته أو ما كان له حَظٌّ في إقامته، ونحن نجد هذا الدليل في تقرير «لجنة التجارة والصناعة»، وليست قيمته في أن اللجنة حجة ثقة عند الحكومة لأنها هي التي ألفتها، بل في أن بين أعضاء اللجنة ثلاثة من كبار الإنكليز هم المستر «سدني ويلز» مدير إدارة التعليم الفني والصناعي والتجاري، والمستر «كريج» الذي كان مراقبًا لقلم الإحصاء العام بوزارة المالية، والمستر «ف. مردوخ» من أرباب الصناعات بمدينة «المنصورة».

والدليل الذي نشير إليه هو قول اللجنة في الفصل الأول من الباب الثاني من تقريرها:

«وكان همه الأكبر — تريد محمد علي — متجهًا إلى ترقية الزراعة والصناعة، وتحقيقًا لهذا الغرض السامي رأى أن يستعين بمدنية أرقى من مدنية بلاده، كما أنه مهد للشعب سبيل الحصول على حاجته من التعليم، وبَثَّ فيه الرغبة في طلب العلم ووضع كذلك المشروع العظيم لأعمال الري والترع والقناطر وبدأ في تنفيذه فتكللت أعماله بالنجاح».١

لم يحدث في العهد منذ سنة ١٨٨٢ شيء جديد للزراعة المصرية، لم تزد أنواعها، ولم تتغير أساليبها، اللهم إلا شيء واحد جديد، هو نقص متوسط المحصول وكثرة الآفات، وإرهاق الفلاح بالمغارم المتنوعة.

ولم يحدث شيء جديد للري، اللهم إلا نظام يهلك الزرع ظمأ، ويملأ قلب الفلاح كمدًا وغيظًا، كلما وقف أمام زرعه فرآه يموت بنار القيظ الشديد، ونار الظمأ الشديد، والماء حرام عليه وهو على قيد شبر منه.

لم نعرف أثرًا لهذا العهد في احتفار ترعة أو بناء خليج، ولسنا من يكتم الحق إذا قيل إن «خزان أسوان» أثر خالد للاحتلال الإنكليزي، ولكن لا ينبغي لأحد أن يكتم الحق أيضًا إذا قلنا إن هذا الأثر العظيم قام حدًّا فاصلًا بين مصر وسودانها فأصبح محبس الماء عن الوادي، فلا يرسلُه إلا بقدر معلوم، ولا يجري هذا القدر إلا بمشيئة مطلقة، تعطي وتمنع، لا بخلًا ولا كرمًا، بل تحكُّمًا وإكراهًا على الإذعان.

كل الأنهار والترع والجسور والقناطر والدساكر كانت قبل هذا العهد، وفلاح مصر اليوم هو فلاحها منذ القدم، لم يتعلم جديدًا غير أسلوبه الموروث، ولم يتناول بذرًا جديدًا غير بذره المعروف، والأرض هي الأرض، والهواء هو الهواء، والشمس هي الشمس، وفصول السنة لم تتغير فهي التي تمر بنا منذ خلق الله الزمان، فماذا حدث؟ أين الحياة الزائدة؟ أو أين القدر الزائد في الحياة؟

إذا لم تبلغ مصر حظها الحسي الذي بلغته الآن، لوجب ألَّا تكون من الأرض التي يعمرها البشر، على أنها لم تبلغ حظها من الحياة التي ارتقى إليها العالم بخطواته الواسعة؛ لأنها قُيِّدَتْ بينَا كان العالم طليقًا! ولكن موطن النظر هو هل كانت تبقى جامدة لو أنها كانت طليقة؟ هذا الذي نريد أن نعرفه الآن.

أنشأ محمد علي وخلفاؤه المصانع لكل شيء، فبقيت المصانع إلى أن طغى على مصر سيل العهد الأخير. وأنشأوا القلاع ليذودوا الطارق المغير عن الثغور والسواحل، فبقيت قلاعهم إلى أن دخل على مصر ليل العهد الأخير. وأنشأوا المدارس لكل علم وفن، فبقيت مدارسهم إلى أن نشبت بمصر أظافر العهد الأخير. فماذا أصاب مصر في هذا العهد الأخير؟

هُدمت المصانع فأصبحت مصر عالة على غيرها تستجديه أحقر الحاجات، ودرست الصناعات والفنون فأطبقت على الأمة جهالتها، وهدمت القلاع، وأبيحت السواحل والثغور، فصارت البلاد كالدار المهجورة يدوسها كل طارق، أو كالحمى المباح ينتهكه كل راعٍ، وهُدم بعضُ المدارس وبقي منها ما تتم الخدعة ببقائه بعد أن مُسخ فأصبح صورة جوفاء.

وهيهات أن تفتخر علينا يد الإصلاح بشيء، اللهم إلا سياسة تشهد بالعجز قبل أن تشهد بسوء النية، ويا ويل العلم والإصلاح والتمدين ممن يعالجها ستًّا وثلاثين سنة ثم يقول بنفسه في نفسه إن الدواء كان داء، ومن العجب أن يتمرَّن الطبيب ستًّا وثلاثين سنة فيختمها بالخيبة، ثم يطلب أن يتمرن مدة مثلها!! ويا رحمتا لمريض عملت مشارط طبيبه المتمرن ومقاريضه في جسمه كل هذه المدة لا لشيء إلا أن الطبيب يتمرن!

أما المدارس العالية، فالحمد لله، لا تستطيع السياسة الإنكليزية أن تدعي أنها أنشأت منها واحدة في عهد الاحتلال، فكلها قبله. على أنها تستطيع أن تقول إنها ألغت بعضها، وإنها جاهدت لتقضي على «جامعة الأمة»، ولا ندري فلَعَلَّ ذلك كان في سبيل التعليم أيضًا!!

إلى هنا يسهل على القارئ أن يعرف العهد الأول والعهد الثالث من ثلاثة العهود التي مضت منذ تَمَّ الأمر في مصر لمحمد علي، ومتى عرفهما بما وصفنا سهل عليه أن يفاضل بينهما ليرى أيهما يفضل الآخر، وسهل عليه بعد ذلك أن يبصر بعينه ويلمس بيده حقيقة هائلة تنطوي في أحرف هذا السؤال: هل كنا نكون في مثل حالنا الحاضرة إذا دامت بنا الحياة على نحو ما كان لعهد محمد علي وعباس الأول وسعيد وإبراهيم وإسماعيل؟ وبعبارة أخرى: هل تقدمنا أو تأخرنا؟

يجري قلم السياسة في كتابة التاريخ أحيانًا، ولكن للسياسة قلمًا غير القلم الذي يكتب الحقائق الصريحة ويمحص مسائل التاريخ فمثل القلم الذي حملته يدُ اللورد كرومر حين وضع كتابه «مصر الحديثة» لا يكون مقبول الشهادة أمام العدل التاريخي؛ لأنه مغموس في مداد السياسة، وقد لا يجد الكاتب السياسي غضاضة إذا حمل هذا القلم وهاجم به الحقائق، بل قد لا يجد عيبًا في ذلك وإن حمله بيدٍ ترعشها الشيخوخة كيَدِ اللورد كرومر يوم أَمْلَتْ عليه أضغانه السياسية ذلك الكتاب.

وليس كثيرًا في لغة السياسة أن يقعد الرجل إلى مسألة يبحثها وهو يعرف الحق في أمرها، ولا عجيبًا في أخلاق السياسة أن يجلس صاحبها جلسة ربما كانت طويلة، ليستخرج العلل والأسباب كما يهوى لا كما تهوى الحقيقة.

هكذا كان اللورد كرومر في كتابه، فقد جلس يبحث أسباب احتلال الإنكليز مصر، وجعل يحاول إقناع الناس بأن الاحتلال كان خطبًا جسيمًا على إنكلترا تحملته بشمم وشرف وإباء، لا لشيء إلا أن تنقذ مصر وتسعدها! فكانت في ذلك كالأب الرحيم، يتعب ليريح أبناءه.

ولم يقنع الرجل بهذا التضليل فجعل مسألة الاحتلال تبعة كانت محل النظر بين المحافظين والأحرار، وكان كل فريق يلقيها على الآخر ويترفع عن أن تنسب إليه، ثم وقف موقف الحكم بين الخصمين فقال في الفصل التاسع من كتابه:

«وسيظهر من الفصول القادمة من هذا الكتاب أن جُلَّ التبعة في وقوع الاحتلال راجع إلى ما فعلت حكومة المستر غلادستون لا إلى تدابير الحكومة التي رأسها اللورد سلاسبوري قبله».

ولا ريب أن من يُلِمُّونَ أقل إلمام بتوفق السياسة الإنكليزية أمام المسألة المصرية في كل أطوارها، يعلمون كيف يقع التناقض بين زعم الشعور بالتبعة ومحاولة الفرار منها، وبين النيات التي استكنت في صدر السياسة الإنكليزية حتى ظهرت يوم بدأت إنكلترا وفرنسا تتحرشان بالخديو إسماعيل.

غير أن شر التناقض ما قصد به إخفاء الحقائق بتشويه سمعة الرجال تنفيرًا من النظر في سيرتهم؛ حتى لا يظهر فضل أيامهم على أيام سواهم، وهذا الذي يجب الالتفات إليه خاصة، فقد جهد اللورد كرومر كما جهد غيره في النَّيْلِ من عباس باشا الأول وسعيد وإسماعيل، فألقى عليهم صورة الوحوش، ومن ذا الذي يظن أن للوحش عقلًا حتى ينتظر أن يرى له مأثرة في الإصلاح؟ ولكن الحق لا يخفى، وقد قلنا قبلُ إن السياسة لا تستطيع أن تمحو الحقائق من الصدور، إذا استطاعت أن تمحوها من السطور، وهذه أمثلة من تناقض الحق والسياسة.

قال اللورد كرومر في عباس باشا الأول:

«أما عباس فكان عاتيًا شرقيًّا من أردأ الأنواع، تُروى حكايات لا تُعَدُّ عن قسوته التي تنفر منها النفوس ولم يكن له مع هذه السيئات حسنة مثل أسلافه، بل إن صفاته كانت قبيحة من جميع الوجوه».

ويقول التاريخ الصحيح إن من أعمال عباس باشا الأول على قِصَرِ عهده أنه «أرسل بعوثًا علمية إلى أوربا عدد طلبتها ٤٨ طالبًا أنفق عليهم ٨٢٩٣٣ جنيه»، فلعل اللورد كرومر يَعُدُّ هذا العمل إحدى سيئاته التي لم يكن له معها حسنة واحدة!! ولعلَّه لم ينسَ حين كتب ما كتب أن عهده في مصر كان عهد قضاء على البعوث العلمية!.

وقال هذا اللورد في سعيد باشا:

«إنه كان أقل غلظة وتوحشًا من سلفه، ولكنه أتى أعمالًا في منتهى القسوة والشناعة».

وقال أيضًا إن المستر ولن قنصل إنكلترا في القاهرة كتب إلى المستر سينيور سنة ١٨٥٥:

«إن سعيد باشا طائش متهور مجنون فقد صوابه من مداهنة الأجانب المحيطين به».

وتقول لجنة التجارة والصناعة في تقريرها:

«وقد جنى أعقابه — تريد محمد علي — ثمار أعماله العظيمة ولم يألوا جهدًا في أن يحذوا حذوه ويقتفوا أثره غير مدَّخرين وسعًا في أعمال التحسين والتكميل، وكان لسعيد باشا وإسماعيل باشا قصب السبق في هذا الميدان».

أما إسماعيل باشا فلا يحتاج أبناء الجيل الحاضر إلى تكذيب ما تتقوله عليه السياسة؛ فإنهم لم يزالوا مغمورين بآثاره يرونها في كل شيء، وتقابلهم في كل مكان، فكل شيء في المدن والأقاليم وطرقها وشوارعها ناطق بهذه الآثار، ولا يظن أحد أن سليلًا من سلالة هؤلاء الرجال المصلحين يسلم من تلك اللدغات إذا وقف في طريق الأفعى السياسية.

ولعلَّنا في حاجة إلى أمر لا بد لنا أن نذكره قبل ختام هذه الكلمة؛ فإنا نحسب أن الأذهان غير ملتفتة إليه:

يسمع المصريون أحيانًا ذكر أسماء رجال النهضة الحديثة من مصريين وأوربيين، أما رجالنا وشباننا فإنهم يعرفون تلك الأسماء، وأما ناشئتنا الحديثة فهي لا تعرفها؛ لأنها لم تعد تسمع ذكرها بعد أن كانت من المدارس في مكان الأساتذة، ومن الألسنة في محل التمجيد.

رجالنا يعرفون أمثال رفاعة، ومصطفى مختار، ومظهر، وعلي مبارك باشا، وعبد الله فكري، وبهجت باشا، ومحمود الفلكي باشا وإسماعيل الفلكي باشا من العلماء والمهندسين، ومحمد الدري باشا وعلي إبراهيم باشا وعيسى حمدي باشا من الأطباء، والقواد الذين فتحوا السودان قبل أن يفتحه الجيش المصري الفتح الأخير، ثم ينسب ذلك إلى اللورد كتشنر ويكون به قائدًا من عظماء الرجال يعرف رجالنا هؤلاء وإخوانهم الكثيرين بآثارهم الماثلة فيما تركوا من الأعمال والمؤلفات والمترجمات، ويعرفهم شباننا بأسمائهم فقط؛ لأن إرادةً خاصة طوت آثارهم العلمية، وقطعت صلة النسب بين أسمائهم وآثارهم العملية، ولا تعرفهم ناشئتنا لأن هذه الإرادة الخاصة أزالت ذكرهم من كل شيء أمام الناشئة.

ويعرف رجالنا وشباننا غير هؤلاء العلماء الوطنيين، العلماء الأوربيين من أبناء فرنسا وإيطاليا وسواهما، أمثال كلوت بك وكياني ولينان موجل وهامنت ولمبير … إلخ إلخ.

فقل لمن يعرفون هؤلاء وهؤلاء، ولم يذكرونهم بأثر قائم أو حديث مروي: هل رأت مصر أمثالهم، مصريين أو غير مصريين أثناء العهد الذي طغى عليها ستًّا وثلاثين سنة؟ ثم سل نفسك بعد أن تسمع الجواب، وسل كل إنسان: لماذا لم تر مصر أمثالهم؟ ألأن العلم رُفع من الأرض؟ أم لأن الدنيا خلت من العلماء؟ أم لا لهذا ولا لذاك، بل لشيء آخر؟!

هل يُقَدَّرُ أن ترى مصر أمثال هؤلاء العلماء؟ نعم ذلك مقدور إذا عاد جوُّها كما كان صالحًا لهم، ومن يعيد صلاح الجو غير أبنائها؟!

اللهم إن الأمل كل الحياة، وحوادث الأيام غذاء الأمل ولا أمل إلا بالثقة، ولا ثقة إلا أن يغلب الحذر سلامة النية، أما الحذر فهو هنا، هنا تحت كل حرف من حروف هذا البيت:

أسأت مذ أحسنت ظني بكم
والحذر سوء الظن بالناس

هوامش

(١) شرحت اللجنة ما فعله محمد علي بأطناب الفصل الأول من الباب الثالث من تقريرها (ص ٤١، ٤٢، ٤٣) وكلامها في ذلك برهان على أنه فعل ما فعل ليصل بمصر إلى غاية يرمي إليها وهي أن تستقل استقلالًا سياسيًّا واقتصاديًّا، فاتخذ لذلك الأسباب الصحيحة التي ذكرتها اللجنة، ومعنى هذا أن التحول عن خطته وإماتة آثاره يؤديان إلى نقيض الغاية وضياع الاستقلال سياسيًّا واقتصاديًّا، وقد أَدَّيَا إلى ذلك فعلًا، وهذا ما قالته اللجنة:

«كان محمد علي باشا يطمح إلى رؤية مصر في مَصَافِّ الأمم الكبيرة، وكان هَمُّهُ الأكبر تحريرها من القيود الأجنبية كافة، ومنحها في آن واحد الاستقلال السياسي والاستقلال الاقتصادي، فتوصلًا إلى هذه الغاية أخذ ينشئ في نفس القطر موارد الإنتاج التي لا بد منها لبلوغ الرقي المنشود».

وقالت بعد ذلك:

«افتتح المصلح الكبير عمله بإحياء صناعة السفن فشَيَّدَ دار الصنعة في بولاق حيث كانت تصنع أجزاء المراكب من خشب الأشجار النامية بالقطر، ثم تحمل هذه الأجزاء على ظهور الجمال إلى السويس حيث كان يُجَهَّزُ الأسطول الْمُعَدُّ لحملة الحجاز.

وقد كانت الصناعات الحربية تستغرق بطبيعة الحال الشطر الأكبر من اهتمام محمد علي، فبدأ بالتقاط القليل الباقي من أرباب الصناعات منذ العهد القديم، وحشد تحت رئاستهم الآلاف من العمال فشرعوا يصنعون آلات القتال وسائر ما تحتاجه الجيوش من الذخائر والمعدات، وكان ذلك بإشراف جماعة من الخصيصين الأوربيين، ولما تأمل محمد علي في حاجته إلى تجهيز الجيش بالملابس واللوازم خطر على باله أن يُنشئ في مصر المصانع والمعامل، وما لبث أن حرَّك هذا الأمر في نفسه أشد الاهتمام حتى دعاه إلى توسيع مشروعاته الصناعية بحيث أصبح في طاقة المصانع المصرية أن تُخرج من المصنوعات ما لا يقتصر على الوفاء بحاجة الجيش ومطالب البلاد، بل كانت تنتج أيضًا بعض الأصناف برسم التصدير إلى الأسواق الأجنبية.

وكان أول ما أنشأه من هذا القبيل مصنع النساجة بجبهة الخرنفش في القاهرة، وكان يقوم بإدارته أخصائيون من الطليان، وكانوا يصنعون به القطيفة والحرائر فضلًا عن الأقمشة القطنية والكتانية.

ولما رأى محمد علي نجاح هذا المصنع دعاه ذلك إلى إنشاء أربعة مصانع أخرى للغزل والنساجة في أنحاء مختلفة من القاهرة، وكان القطن المصري أهم الخامات المستعملة بتلك المصانع، ثم أمر بإنشاء عشر ورش أخرى للنسيج في قليوب وشبين الكوم والمحلة الكبرى وزفتى وميت غمر والمنصورة ودمياط ودمنهور ورشيد وشربين من مدائن الوجه البحري، وكانت ورشة دمياط متوفرة على صنع قلوع المراكب، وأمر كذلك بإنشاء ثماني ورش في بني سويف والمنيا وأسيوط وجرجا وطهطا وفرشوط وقنا والواحات من جهات الوجه القبلي. وكان نتاج هذه المصانع يفي بمطالب الشعب والجيش وما يفضل من ذلك يُصَدَّرُ إلى الشام وإلى بعض البلاد الأوربية.

وقد فكر محمد علي في إدخال صناعة الحرير إلى مصر، فأمر بغرس الكثير من شجر التوت، وبذل مساعيه في تنشيط هذه الزراعة وتوسيع نطاقها، ثم استدعى من القسطنطينية جماعة من أهل الخبرة بهذا الأمر، وقد أسفرت التجارب الأولى عن النجاح وأخرجت المصانع المصرية حريرًا يضاهي حرير الهند.

وفي عهد هذا الأمير وبفضل همته ظهرت في مصر عدة صناعات أخرى، أهمها صناعة الجوخ والحبال والبسط والطرابيش والزيوت والأعطار والشمع، وهو الذي أمر بتشييد مصنع الزجاج في معمل القزاز، وبإنشاء معامل أخرى للورق والصابون وصب المدافع وصنع سائر الأسلحة، وصناعة الحدادة وسبك المعادن والسكاكين والمطاوي والسروج، وبث هذه المعامل في جهات مختلفة من البلاد ولا سيما في جهة بولاق، وكان القوة المحركة تختلف باختلاف المعامل، فالمصانع الكبيرة كانت تدار بالآلات البخارية والمصانع المتوسطة والصغيرة كانت تدار بالحيوانات أو بمجرد القوة البشرية.

وما كان هذا المجهود العظيم لينتج ثماره لو لم يقرن في الوقت عينه بتعليم النابتة المصرية المُعَدَّة للاشتغال بالصناعة تعليمًا وافيًا صحيحًا؛ فتوصُّلًا إلى هذا الغرض أنشأ محمد علي مدرسة الفنون والصنائع القائمة الآن ببولاق، كما أنه أخذ يكثر من إرسال البعوث إلى أوربا حتى يصير من هؤلاء الطلبة مديرون للمعامل ورؤساء للصناعات» اهـ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤