خاتمة

نثبت هنا المقالة التي نشرها الباحث المدقق الأستاذ الههياوي أفندي في جريدة الأفكار الغراء إبَّان توليه رئاسة تحريرها أخيرًا تحت عنوان «الشعب القوي» فإنها أثمن خاتمة تلحق بتلك الآيات البينات، لما تضمنته من القضايا الصحيحة والمقدمات المنتجة في مسألتي: القوة والضعف، وكيف يناوئ الضعيف الذليل ذا القوة الغاشمة والجبروت الظالم فينال حقَّه منه. قال:

ليس الشعب القوي من يملأ البحار حديدًا ونارًا، ويملأ الأرض فضة وذهبًا، وينزل أفرادًا منه منزلة الملائكة من الناس يحسبون أنهم أطهار وإن دنسوا، أبرار وإن غدروا، ولكن الشعب القوي هو من تكون له روح الثقة بنفسه، ومن ينطوي صدره على إرادة للحياة، تذيب الحديد ولا يُذيبها.

لم تخلق القوة مع الأقوياء يوم خرجوا إلى الأرض، فكل قوة مسبوقة بضعف، ولكن الأقوياء أرادوا أن يغلبوا الزمن ويصرعوا الأيام، فطردوا من نفوسهم هواجس الضعف، ونزعوا من صدورهم رهبة القوي المخيف، وثبتوا على الإيمان بأنهم أقوياء في ضعفهم، ما داموا يرون في أنفسهم قومًا أهلًا للحياة، وأهلًا لما تقتضيه الحياة من إباء الضيم، والغيرة على حق الوجود.

إن الضعيف الذي يترفع عن وصفه بالخور وقصر الباع وانحلال العزيمة يجد في قرارة نفسه قوة معنوية، إن لم تكن هي القوة المادية التي تبطش وتحطم فهي سبيلها المؤدية إليها حتمًا، وليست بالضعيف حاجة إلى القوة الباطشة ليصول بها على أمثاله الضعفاء، ولكن حاجته إليها حاجة الأعزل إلى السلاح يدفع به عن حياته، فإذا عاش عاش كريمًا مهيبًا، وإذا مات مات شريفًا، هذه كلها حاجة الضعيف إلى القوة كي لا يموت كما يموت المغفلون.

حسب الذي يظن بنفسه الضعف أن تكون له إرادة الأقوياء ليكون قويًّا، هذه حقيقة تتناول الناس جميعًا، أما أن ننظر إلى مكانها من حياة الشعب المصري فذلك الذي يشهد الحق بأنها كاملة فيه.

تصعد الآمال بنا إلى السماء أو ما فوقها، وترتفع آمالنا على أطراف العزائم الصادقة ويثبت أصلها في أعماق القلوب المؤتلفة، وإذا كان في الأرض شعب خليق أن تعجل له عزيمته وصدق إخلاصه لنفسه بالمطلب الجليل؛ فذلك هو الشعب المصري، ولكنا نخشى أن يكون ضلال بعض الآراء القديمة لم يزل ضاربًا حجابه على بعض النفوس، بل نحن لا نخشى ذلك ولا نخاف أن يكون في مصر أمثال أولئك الذين كانوا يقولون: أين نحن من خصومنا، وأين قوتنا من قوتهم، وكيف السبيل إلى الحق الضائع ونحن ضعفاء؟

هذا سمٌّ كانت النفوس الميتة تعصره من خور العزيمة وسقوط الهمة ومرض القلب، والآن كل مصري يقول: أين نصيب الظالم من الثبات بجانب المظلوم؟ وأين قلق الغاصب من رزانة المغصوب منه؟ وأين برودة الغالب من نار المغلوب؟ بل أين ضجعة الباطل من صولة الحق؟ وقد يعجب من هذا الذين خدعتهم ظواهر الناس، ولكنهم سيطمئنون بالحقيقة إذا رجعوا إلى تاريخ العالم.

هل كانت أمة ضعيفة فبقيت على ضعفها أبد الدهر؟ وهل كانت أمة قوية فسالمتها الأيام ثم كتبت لها عهدًا أن تبقى على قوتها؟ إن شمس السماء تحدث أهل الأرض بمن كانوا أهل قوة وبأس فضربهم الزمن حتى أفناهم، وإن الأرض لتخبر أنها حملت آخرين كانوا من الضعف في درجة العدم، ثم استحال ضعفهم قوة فعَزُّوا بعد ذلتهم، وحيوا بعد موتهم؟ وكيف نفتري الكذب على الله فيجري في بعض الخواطر أن الله خلق الضعف لباسًا لصنف من أصناف البشر وخلق القوة تاجًا لصنف آخر. وهذا لسان التاريخ يخبرنا أن القوة والضعف صفتان تداولتهما البشرية، ولا تزال تتداولهما بين أبنائها.

إن قيل إن هناك ميزانًا يعرف به نصيب كل شعب من قوة الحياة فإنَّا نقول: إننا شعب رجحت به كفة الميزان، أليست القوة أثرًا تتركه المواهب الإنسانية، وثمرة تخرجها خصائص الوطن المعين؟ فمن ذا الذي يقول إن المصريين لم ينالوا من تلك المواهب نصيبهم الأوفر، وإن وطنهم لم ينفرد من تلك الخصائص بأجلها وأطيبها؟ إن كانت الثروة إحدى وسائل القوة الباطشة؛ فإن مصر أوفر بلاد الله ثروة ومالًا، وإن كان الذكاء والأنفة والماضي الحافل بالمجد بعض هذه الوسائل، فالمصري الذي طوَّق عنق أوربا بفضل المعلم على التلميذ، والذي أقام صرح مجده القديم بين كواكب السماء، والذي أقسم ألَّا يقبل هضمًا، ولا يحمل ضَيْمًا، هذا المصري القوي خليق أن ينشر سلطانه بقوته، إذا قيل: أين الجديرون بالقوة القادرون في حكم العدل على بسطة السلطان.

لسنا نصف شيئًا من صياغة الخيال، بل نحن نَصِفُ الواقع الذي خرج من يد أهله، ونصف الحق الذي يجب أن يكون ويطلب ويرده أصحابه إلى أنفسهم، فإذا أحد وصفنا بالضعف فقد أراد بنا سوءًا، وإذا أحد أراد أن يقنعنا بأننا ضعفاء فقد أغرانا بالجمود، وإذا نحن سمعنا ذلك وصدقناه، أو وصفنا به أمتنا، فقد وضعنا بأيدينا أغلال الهوان في أعناقنا، وإنما ينبغي أن نكون أنصار الحقيقة فيما تقضي به لنا، والحقيقة تقضي أننا شعب اختصه الله بأسباب القوة، فلا ينقصنا إلا أن نعتقد أننا أقوياء بما لدينا من تلك الأسباب، وألَّا نعطل أسباب قوتنا أو نتركها يقوى بها غيرنا؛ وإنا إذن لترانا في قوة الأحياء العاملين المرهوبين، ما دمنا نطلب ما طلبه الضعفاء من قبلنا.

يجب أن نقول بل نعتقد أننا أهل قوة، لننظر في أنفسنا فنعالج ما ينقصنا من القوة، ويجب أن نثق كل الثقة بأن لنا قوة روحية لا تهبط عن مثلها في أعظم الشعوب حياة، هنالك تدفعنا هذه القوة الروحية في طريقها فإذن نحن أقوياء من كل وجه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤