الفصل الثالث

الحكم الذاتي

«إنه لا يمكن قط أن تقوم حكومة حسنة مقام حكومة أهلية»

المستر لويد جورج

الأشكال التي تتخذها صور الحكم في الشعوب تتلون بألوان من الخصائص الفطرية، أو الملكات المكسوبة بالوراثة، أو بتحدي التاريخ، أو العادة المألوفة التي لم يذهب بها طول أمد الإهمال.

وإن المشاهدة لتدل على أن الناس مفترقون في ذلك، فالجماعة التي لم تعرف من خصائص الحياة إلا الشعور الساذج بأنها موجودة على قدر المكان الذي يحتويها والزمان الذي يشتملها، لا يصلح فيها حكم يعتمد على إرشادها لنفسها؛ فإن مثلها كمثل الطفل تعوزه الرعاية في حركاته، والتقويم في انتقال خطاه، ولكنك لا تجد تلك الجماعة إلا فيمن تهبط بهم «الصدفة» من رءوس الجبال، أما الذين تحملهم أرض المدائن ويكتنفهم عمران الحياة فإن مجرد اجتماعهم على هذا النحو بجعلهم أهلًا لأن يستقلوا بشأنهم، ويعيشوا بإمرة أنفسهم لا بإمرة سواهم، وقد لا تكون صلاحيتهم للمثل الأعلى من الكمال تامة، ولكنهم لا يدركون هذا المثل الأعلى إلا أن يتركوا لأنفسهم ترفعهم لجة وتُهبطهم لجة، حتى يجيدوا السباحة فوق غوارب بحر الحياة.

في العالم الآن أمم هي المثل الأعلى للحكم الذاتي في أَجَلِّ معانيه، ولم يزل التاريخ ناطقًا أن هذه الأمم لم تصل إلى ذلك إلا بعد أن تركت لنفسها، ولم يقل التاريخ قط إن أمة مغلوبة خرجت من يد أمة غالبة ظافرة منها بالتدريب على الحكم الذاتي الكامل، ولا قال التاريخ إن أمة فقدت حواسها وهي مقهورة حتى لم يوقظها القهر إلى ما تجهل مما يجب أن يكون لها، كل الأمم التي وعاها صدر التاريخ وكانت مغلوبة شعرت في غلبتها بأن الغالب سُلِّطَ عليها بحكمه وأن سبيل نجاتها أن تحكم نفسها، وكان هذا الشعور مفتاح باب التفكير في الحكم الأصلح، أليس ذلك كافيًا لإثبات أهليتها لأن تكون لنفسها، وأن تعيش لنفسها، وأن تنفصل عمَّن عداها لتنال الحق الطبيعي، وهو أن تبقى للوطن ويبقى الوطن لها؟

متى علَّم الرومانيون والدانماركيون الشعب الإنكليزي أن يحكم نفسه بنفسه؟ ومتى علم الإنكليز الأمريكيين أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم؟ ومتى تلقى البولونيون والفنلنديون والقوقازيون وشعوب الملايا وغيرهم دروس الحكم الذاتي عن قياصرة روسية؟ ومتى وعت شعوب أمريكا آيات هذا الحكم عن الإسبانيين؟ بل متى طلعت شمس الحرية في فرنسة بإرادة الغالبين الذين تلقفتها أيديهم جيلًا بعد جيل؟

التاريخ تجارب صادقة إن لم يكن قواعد تُبْنَى عليها الأحكام الصحيحة، وإلى جانب التاريخ الطبائع المكسوبة والتقاليد الموروثة، ولا ينكر حكم هذه الأقضية الثابتة إلا ذو غاية يمقتها العدل، أو جهل يبرأ منه العلم، أو عقل أعمى لا يبصر الحقائق.

والتاريخ يشهد أن مصر كانت لنفسها مستقلة أكثر ما عاشت من عمر الدهر، وكانت لها تجارب في حكم الشورى أكثر ما رأت من الأحكام في حياتها، وكانت تقاليدها الشورية متصلة الحلقات بماضيها البعيد وعهدها الحاضر، فإن لم يقتنع المعاندون بشهادة التاريخ فليقتنعوا بدلالة التجربة، وإم لم يقتنعوا بهذه فليقتنعوا بآثار الملَكة النفسية التي استلزمتها التقاليد الموروثة، وإن لم يقتنعوا بهذه أيضًا فلا أقنع المعاند إلا الله.

ليست سطور التاريخ هي التي شهدت وحدها بأن مصر كانت في أقدم أيامها شورية على أكمل مثال، بل شهدت الآثار الناطقة بذلك أيضًا؛ فقد صح أن قصر «لابيرنت» الذي كان في إقليم الفيوم وكان مؤلَّفًا من ثلاث آلاف غرفة لم يكن إلا الدار التي يجتمع فيها «مجلس الأعيان» للنظر في شئون البلاد كافة، ولما دخل الإسلام مصر دخل وفي يمينه علم الشورى فقضى أن تكون سبيل حكم الناس. وبقيت مصر إسلامية تقرأ كتابها الكريم وتعي أحكام شريعتها القويمة، ولم تنسخ آية الشورى من كتابها، ولا رفعت أحكامها من شريعتها، وإذا كانت الأديان تطبع النفوس على غرارها، وتَسْتَجِدُّ لها كيفيات وملكات لم تكن من قبل؛ وجب أن تقضي الضرورة أن الدين الإسلامي أكسب المصريين ملكة الحكم الذاتي وطبع نفوسهم عليها، هذا أهون الحكمين، أما الحكم العظيم الذي جاء به الإسلام فهو أمره لأهله أن يكونوا أولياء أنفسهم صونًا لهم من عسف الغريب، وحرصًا على ريحهم أن تذهب فيعيشوا أذلِّاء مقهورين.

يتصل عهد مصر اليوم بأول عهدها بالإسلام، فهي لا تزال إسلامية، وقبل ذلك كانت متصلة بعهد المجد العظيم أيام كانت سيدة العالم، ومفيضة الحياة على الأكوان، ومعلمة الشعوب أن الحكم الذاتي حق لكل شعب حين كان قصر «لابيرنت» مقر شوراها، والآن فعهدها بالحكم الذاتي في أمثلته الحديثة ليس بعيدًا.

كان لمصر لعهد محمد علي «مجلس المشاورة الملكي» و«المجلس المخصوص» وهو بمثابة مجلس الوزراء، وكان لها «مجلس نواب» لعهدي إسماعيل وتوفيق، وكان لها «مجلس الشورى» و«الجمعية العمومية» حتى استعيض عنهما بالجمعية التشريعية، وكانت لها مجالس المديريات التي لم تزل باقية، وقد لقي مَجْلِسَا النواب ومجلس الشورى والجمعية العمومية من تصاريف السياسة ما لقيت، فإن الأولين قُتِلَا في مهدهما، والأخيرين عاشا يُجزيان على الإحسان بالإساءة وعلى الإساءة بالإحسان، كانت كل حجة تصدر منهما على أن الأمة خليقة بالحكم الذاتي الكامل تعد ذنبًا يستحقان عليه عقوبة الطعن ونقصًا يتخذ دليلًا على عكس المطلوب.١

هكذا وقفت السياسة للأمة هذا الموقف الغريب، وكان المنصفون يسخرون من هذا الموقف أكثر مما يعترضون عليه؛ لأنه كان موقف الرجل يقيم نفسه وليًّا على آخر فيضمر له ما شاء هواه ثم يعجز عن أن يستقيم على الصدق فيما يقول ويفعل.

لم يخلق الله أمة — منذ خلق الدنيا — لتُعَلِّمَ أُمَّةً أخرى كيف تحكم نفسها بنفسها، وما خرجت أمة قط من يد أمة أخرى وفي يدها إجازة هذا الحكم بعد أن تكون قد نالتها بالامتحان، ولكن الذي وُجِدَ وقامت عليه شواهد الحس والعلم والتاريخ أن الشعوب تخرج من أيدي غالبيها كما يخرج المريض من فراش المرض ولا تكون قد شفاها دواء من مرضها، بل تكون هي قد علمت الدواء وعلمت أنه محرم عليها فشرعت تطلبه لتستطب به.

إن الأمة التي يقال إنها عليلة تحتاج إلى المعالجة بيد أمة صحيحة ليست بين الأمم التي تعمر الأرض، تلك أمة ضربت في المجاهل مع الوحوش فلها فطرة وحشية، فحاجتها قبل كل شيء أن تُسْتَأْنَسَ وتُرَاضَ على طبائع الإنسان، ومثل هذه الأمة لا حيلة في أن تتسلط عليها أمة أخرى، لا حيلة في ذلك ولا واقي لها من أن تبلغ بها غاية المتسلط القاهر وهي الإدماج والتسخير.

يقول المستر لويد جورج:

«إنه لا يمكن قط أن تقوم حكومة حسنة مقام حكومة أهلية».

هذا القول حسن، معناه أنه لا بد أن تكون الحكومة التي تقوم مقام الحكومة الأهلية حكومة غير حسنة أي قبيحة.

فهل من إنصاف الحق أن يكون العمل بهذه القضية في مكان دون مكان؟ تلك إحدى عجائبهم!

هوامش

(١) عقد اللورد كرومر في تقريره سنة ١٩٠٥ فصلًا للكلام عن مجلس الشورى والجمعية العمومية فقال: «إن مجلس الشورى تقلب على ثلاثة أطوار: الطور الأول كان في السنين الأولى من سني الاحتلال وفيها لم يكن أحد يلتفت إليه. والطور الثاني ابتدأ سنة ١٨٩٢ وفيه تقاذفت المجلس الأحوال حتى سلك سبيل العداوة للحكومة ولكن زمان هذا الطور لم يدُم طويلًا لحسن الحظ بل مضى الآن وانقضى وابتدأ الطور الثالث فأبدى الأعضاء فيه مزيد الرغبة في معاونة الحكومة على الإصلاح المصري.
وقال في تقريره سنة ١٩٠٦:

«لا خلاف في أن مجلس شورى القوانين كان في زمن من الأزمان يجري على خطة مصبوغة بالعداوة والشبهات، وربما لم يكن ذلك منه عن عمد وقصد بل عن خطأ في إدراك سياسة الحكومة العمومية فتأتي عن ذلك ما لا بد منه في مثل تلك الحال وهو حدوث غيظ كثير وكدر شديد وتجاهل الحكومة لآراء المجلس، ولكن من يقابل الأمور التي أشار المجلس بها بعد عدوله عن خطة العداوة وما فعلته الحكومة بتلك الأمور، يجد أن المجلس استفاد كثيرًا من توثيقه عُرَى الصداقة مع الحكومة سواء كان من جهة حفظ كرامته أو زيادة نفوذه».

وقال السير غورست في تقريره سنة ١٩٠٨:

«ذكرت في تقريري الماضي أن اختبار السنوات الأخيرة دل على أنهما — مجلسي الشورى والجمعية العمومية — ناهجان نهجًا قويمًا وأنهما أظهرا في كثير من الأحوال مقدرة في المناقشات التي دارت فيهما على المشروعات التشريعية التي عرضتها الحكومة عليهما، ولذلك يسوءني جدًّا الآن أن أقول إن الخطة العمومية التي جرى مجلس شورى القوانين عليها وأعماله من حيث هو مجلس استشاري كانت الاثني عشر شهرًا الماضية مما لا يُقَوِّي آمال الذين يتمنون توسيع سلطته تدريجيًّا، فقد أتى أخيرًا أعمالًا يصح الاستنتاج منها أنه أخذ في الرجوع القهقرى وأنه لم يحسن القيام بنصيبه من الأعمال الإدارية كما كان يحسنها قبلًا، فقد أضاع وقتًا طويلًا في مناقشات عقيمة في الحكومة النيابية لم تأتِ بفائدة ما في تمهيد السبيل للنظر في هذا الأمر ولا أظهرت أدلة جديدة على استعداد الأمة للحكم الذاتي بل أضاعت وقتًا وتعبًا كان يمكن صرفهما في وجوه أفضل، وبعد الأخذ والرد وتأجيل المجلس شهرين اتفق المجلس على قرار يطالب به الحكومة بإعداد مشروع يخول الأمة حق الاشتراك الفعلي مع الحكومة في إدارة شئون البلاد الداخلية والقوانين المحلية، بحيث يكون قرار الأمة نافذ المفعول في الشرائع والقوانين التي تسري على الوطنيين وفي فرض العوائد والضرائب».

ثم قال بعد ذلك:

«وفي شهر فبراير الماضي وافقت الجمعية العمومية على قرار شبيه بالقرار المتقدم».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤