الفصل السادس

الرقي الاقتصادي

«إنا لو رجعنا البصر إلى أبعد الأزمان التي يحدثنا عنها التاريخ؛ لوجدنا أن قدماء المصريين كانوا عائشين في ظل حكومة كاملة النظام، يتنعمون بمزايا حضارة لا تدانيها حضارة سواها»

لجنة التجارة والصناعة

يحسن بنا قبل الكلام فيما بلغته الأمة من الرقي الاقتصادي خلال ثلث القرن الأخير، وقبل النظر في أسباب هذا الرقي ومآخذه، أن نقف قليلًا على طلل الماضي نندب فوق قبره مجدًا فَنِيَتْ معاهده، ولم تَفْنَ آياته وشواهده.

لنسأل الطلل الدارس: أين الدفائن من أرض مصر تخرجها همة تحشد العلم جيشًا وتسوق الدهر خادمًا؟ وأين السفائن من بحار مصر تغادرها موقرة بالمتاجر مما أنبتت التربة الذهبية، وما أبدعت اليد الصانعة، فتروح بفضل الإحسان للناس بما تحمله إليهم، وتغدو بربح المال لأهلها والثناء على بنيها؟ وأين الحياة الصاعدة إلى منزلة النجم إدراكًا لغاية الرقي في كل ضرب من ضروبه؟ أين الزراعة فياضة الغلات، والصناعة باهرة الآيات، والعلم شجرة أصلها في مصر، وظلها في كل مكان؟

أين هذا كله؟ بل أين مصر ألتي رآها صاحبها وليس في الدنيا قطر يدانيها، ولا في الأرض رقعة تفضلها، فحسب أن مُلكها لا ينبغي لغير إله، ووجد ذلك الإله في نفسه فقال محتجًّا: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أين مصر التي أرادها «يوسف» حين قال لصاحبها: اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ وأين مصر التي صدق ابن العاص في وصفها حين قال: «إنها زمردة خضراء»؟

طُوِيَ الكتاب وجف القلم، وبقيت عيون السماء شاخصة ترى كيف يتغير الإنسان ولا يتغير المكان، وبقي النيل جاريًا ينظر كيف تتبدل ألوان الخلائق ولا يتبدل لونه الفضي، ولكنها أمة لا تبكي الماضي لتجلس على قبره حتى تهلك، وإنما تبكيه لتذكره فتنتفع، وتتمثل جلاله فتتعظ.

كانت مصر منذ أقدم تاريخها كأعظم ما تكون أمة في رقيها الاقتصادي، نقول كانت كذلك من قبلُ لأنها هوت في أيامها الأخيرة من منزلة رقيها العظيم، ولكن الأبرار من أبنائها تداركوها فجعلوا يقيلون عثرتها فلا ينالهم كلال ولا ملل كلما دكوا عقبة فوجدوا بعدها عقبات، تلك حقيقة لا عناء في الاقتناع بها، فمصر تقول إن صناعتها وتجارتها وزراعتها بارت أشد البوار، وهي حين تقول ذلك تأمن كل اعتراض من جانب اليد التي قامت على منافس الحياة الاقتصادية، فقد جاءت هذه اليد في الزمن الأخير تعترف بأن مصر الاقتصادية لا تتنفس أنفاس الحياة، ولا تنبض نبض الصحة، وكان هذا الاعتراف عملًا لا قولًا، والعمل لا يكذب إذا جاز أن يكذب القول.

نسمع الآن كما كُنَّا نسمع قبل الآن أن الأمة المصرية مغمورة بفضل الإصلاح الذي تم في ثلث القرن الأخير، فعلينا أن نعرف هذا الجميل لأهله، نعم الأمة المصرية أكرم الأمم أخلاقًا وأكثرها سماحة، فهي تعرف الجميل إذا رأته في موضعه أو رأت أنها مقصودة به أو ببعضه وإن لم يقع في موضعه، أما لسان الحكومة فينطق بأن هذا الجميل لم يكن ولم يحصل، فمن الغبن أن تكلف الأمة معرفته، وتعنف على إنكاره، أو يقال إنها جحدته.

أتدرون ماذا يقول لسان الحكومة؟ إنكم تسمعونه في المذكرة التي وضعتها وزارة المعارف المصرية لتطلب إلغاء الشهادة الابتدائية من مجلس الوزراء، وتسمعونه في الأمر الحكومي الذي قضى بتأليف «لجنة التجارة والصناعة»، وفي الأمر الذي قضى بتأليف «لجنة تعميم التعليم الأولي»، وفي الأمر الذي قضى بتأليف «مجلس التجارة الزراعية»، إنكم تسمعون هذا اللسان في هذه الصور الحكومية المسجلة؛ فإن وزارة المعارف لم تفتقر إلى الشجاعة الأدبية ساعة سجلت على نفسها في مذكرتها أن التجربة دَلَّتْ على فساد التعليم الابتدائي وعدم جدواه، ولم تأنف السلطة الفعالة أن يشهد الأمر الخاص بلجنة التجارة والصناعة أن صناعة مصر وتجارتها طُوِيَتَا فأريدَ نشرُهما في الزمن الأخير، ولم تخش أن يعجب الناس حين يسمعون أنها تحركت بعد الجمود الطويل لتنشئ «جامعة أميرية» فلم تكن هذه الجامعة أكثر من ضم المدارس العالية وراء سور واحد، ولم تعبأ بالغرابة التي تفيض بها دعوى إصلاح التعليم بالهيكل العظمي الذي خلق للتعليم الأولي، ولم تأبه للدهشة التي تملك النفوس حين ترى ألفاظ العناية بالتجارة الزراعية مسموعة الآن فقط.

هذا هو لسان الحكومة في مذكراتها وأوامرها، وهو فصيح في الاعتراف بأن التعليم والزراعة والتجارة والصناعة لبثت مرتكسة في هاوية من الإهمال ليس في قرارها إلا الفناء حتى أيقظت الحاجة الوقتية العيون المغمضة فانفتحت بالنظر، النظر الذي لا يتجاوز الإشارة والكلام، على أن هذه الأشياء كانت أثناء تأجُّج الحرب يوم كان السكون ألزم الأشياء للمتحاربين، والآن فأين هي؟ وما خبرها، اللهم لا أثر ولا خبر، ولعل كل شيء عاد إلى أصله!

الزراعة

ماذا بلغت زراعة مصر من الرقي؟ إن الرقي الذي تضاف إلى الحكومة أسبابه وآثاره يُقاس بمقياس العدم فهو لا شيء. أستغفر الله، فإن هناك شيئًا عظيمًا رجعت أسبابه وآثاره إلى النظام الذي ابتلع الأموال العظيمة، هذا الشيء اسمه خيبة الآمال وفساد الأعمال، وله شاهد موجود ناطق، هو طرق الري التي أثبت الفنيون فسادها يوم كانت نظرية لم يجربها العمل، والتي أثبتت التجربة القاسية ما قاله الفنيون فيها، والتي لم تزل باقية إلى الآن.

أما أصل التفكير في الحاجة إلى نظام الري الحديث، ففضله راجع إلى محمد علي ورجال عهده، ولم يزل عمله في تحقيقه ناطق الآثار، بل أشار «السير ولكوكس» بالرجوع إلى الطرق التي وضعها محمد علي للري، وهي إشارة معناها أن المصلحين في هذه الأيام لم يعرفوا كيف ينظرون بعين ذلك المصلح الكبير، فرضوا لأنفسهم أن يتقهقروا إلى الوراء قرنًا وربع قرن ليلتمسوا فضله في الإصلاح.

لم تزل الحياة الزراعية جامدة كأن لم تمر بها الأعوام الطويلة، فإذا لم يكن الري قد صلُح بما فعله به فإن الأرض لم تَرَ بذرًا جديدًا غير ما تعرف من البذور، وهذه البذور القديمة لم تجد عناية لتجويد نوعها، بل وجدت نقيض ذلك إهمالًا أصاب بعضها بالرداءة وبعضها الآخر بالانحطاط بجانب مثله من بذور الأمم الأخرى، وهل تفتقر هذه الحقيقة إلى برهانٍ بعد أن رأينا مصيبة القطن بانحطاط درجته، وبعد أن شاهدنا غفلة الحكومة عنه، فلا هي رفعت من هذا الانحطاط بتوليد الأنواع الجيدة، ولا هي دعت الزُّرَّاعَ إلى ذلك وحببت إليهم العمل بحسن الجزاء، إنما كانت دلائل العناية أن انصرفوا بكل قوتهم إلى السودان يستنبتونه قطنًا يرتفع على القطن المصري ويحتجزون له النيل ليرى نبات مصر وفلاحها أمرًا جللًا لم يريانه من قبل.

إن الأثر الملموس هو أن محصول القطن زاد في جملته لأن الفلاح زاد الأرض التي يزرعها قطنًا ونقص في مقداره الجزئي، فقد أصبح متوسط محصول الفدان الواحد ثلاثة قناطير وكان قبل سنة ١٩٠٠ نحو ستة قناطير، وما كان لهذا النقص من علة إلا أن الأرض ضعفت بكثرة تداولها في زراعة القطن لكثرة ما تطلبه المصانع الإنكليزية وغيرها منه، وإن نظام الري ملأ بطن الأرض ماء ولم يقم بجانبه نظام الصرف ففسدت تربتها.

أما محصول الغلال فإليك ما قالته لجنة التجارة والصناعة فيه:

«إن محصول الغلال المصرية لم يزل على ما كان عليه منذ قرن خلافًا للبلدان الكبرى الزراعية فإن محصولاتها تضاعفت وذلك بفضل الأساليب الزراعية الحديثة».

هذا هو الأثر الملموس، وهو الجميل الذي أُسْدِيَ لمصر فما أعظمه! وما أثقله على رقبتها! وما أوجب عليها أن تعرفه فلا تنكره أبد الدهر! أليس كذلك؟

إن للإصلاح مواقيت لا تنقطع عن أمة ما دامت حاجاتها في الحياة متجددة، والإصلاح ليس كلامًا يُقال ويذاع، ولكنه عمل، فلماذا لم نره في مواقيته؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤