الفصل السادس عشر

في الضرائب

(١) في ضرورة الضرائب

مهما كانت الأعمال المتعهدة بها الحكومة، فلا بدَّ من وجود حكومةٍ ما مفتقرة إلى نقودٍ كثيرةٍ، ومن النادر أنها تتحصل على هذه المبالغ من الأعمال التي تديرها، فيترتب عليها إذن فرض الضرائب، والضرائب عند الاقتصاديين هي كلُّ مبلغٍ يُطلب من الأمة لسداد المصاريف اللازمة للحكومة المحلية والعمومية، وكثيرًا ما تُدفع ضرائب بدون أن نشعر بها، ومن هذا القبيل نصف ثمن طوابع البوستة، وبعض المدن تدفع الضرائب ضمن ثمن الغاز والماء الذي تستعمله.

وقد تفننت الأمم على اختلاف الأزمان والأماكن في كيفية تحصيل الضرائب، فكان يوجد ضريبةٌ مفروضةٌ على كلِّ شخصٍ، ذكرًا كان أو أنثى، راشدًا أو غير راشدٍ، وقد أُلغيت هذه الضريبة من إنكلترا في عهد غيليوم الثالث، وكان يوجد ضريبةٌ أخرى على المواقد، فكان أهل الميسرة الذين يسكنون البيوت المتسعة يدفعون أكثر من الفقراء الذين يَأْوون المنازل الحقيرة لقلة مواقدها، وكانت الأهالي تتذمر من دخول الجابي إلى بيوتهم لتعداد المواقد، فأُلغيت هذه الضريبة واستُبدلت بضريبةٍ على النوافذ؛ لأن الجابي يمكنه أن يعدها بطوافه حول البيت، والآن في إنكلترا قد عدلت الحكومة عن هذه الضريبة، وصارت تفرض الأموال على كلِّ إنسانٍ بالنسبة لقيمة أجرة بيته ومقدار دخله.

(٢) في الأموال المقررة والأموال غير المقررة

الأموال المقررة عند الاقتصاديين هي التي يتحمل أعباءها بصفةٍ نهائيةٍ من يدفعها، كالضريبة المفروضة على من كان عنده خدامٌ أو عرباتٌ خصوصيةٌ أو نحو ذلك؛ إذ إن أغلب الناس لا تستعمل عرباتها إلا لمصلحتها الخصوصية، فلا يمكنها تحويل ما تدفعه عليها من الضرائب على شخصٍ آخر، ولكن إذا اقترضت الضريبة على عربات النقل وعربات التجارة فإن الركاب والمبتاعين للبضائع المنقولة هم الذين تُحمل على عواتقهم، وفي هذه الحالة لا تكون الضريبة مقررة؛ ولهذا السبب لا تُفرَض ضرائب على عربات التجارة. ومن الأموال المقررة في إنكلترا الضريبة المفروضة على دخل كلِّ إنسانٍ أو على الكلاب أو ضريبة الفقراء وهلمَّ جرًّا، وقد يكثر تحويل الضريبة المقررة إلى غير مقررةٍ، ومن المستحيل الوقوف على معرفة الذين يدفعون كلَّ ضريبةٍ في الحقيقة؛ فالأموال غير المقررة تتحصل من التجار ولكنهم يستعيضون ما دفعوه من معامليهم، وأهم هذه الأموال في إنكلترا رسوم الجمرك المضروبة على النبيذ والمشروبات الروحية والدخان وغير ذلك من الأصناف المجلوبة للبيع، وكان يؤخذ قسمٌ من البضاعة المصنوعة داخل المملكة مقابلة رسوم الجمرك، والآن تؤخذ هذه الرسوم في إنكلترا على بعض الأصناف فقط مثل المشروبات الروحية، والحكومة تجهد نفسها في أن تكون هذه الرسوم مساويةً لما يؤخذ في الجمرك على الواردات الأجنبية، فالعرقي الإنكليزي يُدفع عليه بقدر ما يُدفع على العرقي الفرنساوي، فيحصل هناك توازنٌ يضمن حرية التجارة، وتتحصل الحكومة على أموالٍ طائلةٍ، ورسم التمغة؛ أي الرسم الذي يدفعه هو أيضًا من أهم الأموال غير المقررة؛ إذ القانون يقضي بأن الحجج والإيصالات والحوالات لا يُعمل بها إلا إذا دفعت رسم التمغة، ويختلف هذا الرسم من بنسٍ إلى آلافٍ من الجنيهات بالنسبة لقيمة الشيء المتعاقد عليه، وهذا الرسم هو في الغالب ضريبةٌ مقررةٌ، ولكن من الصعب معرفة مَنْ يتحمله نهائيًّا؛ لأن ذلك أمرٌ يتغير بتغير الظروف.

(٣) في توزيع الضرائب

إن آدم سميث هو أول من وضع قواعد لإرشاد الحكومة في فرض الضرائب، وبما أن هذه القواعد على غايةٍ من الحكمة فيجب علينا التمسك بها، وهاك بيانها:

(٣-١) قاعدة المساواة

رعايا كلِّ دولةٍ يجب عليهم مساعدة حكومتهم مناسبة لثروتهم، أي لقيمة الدخل الذي يحصلونه تحت حماية الحكومة، فكلُّ فردٍ من هؤلاء الرعايا مفروضٌ عليه جزءٌ نسبيٌّ من أجرته أو مرتبه أو مما يكتسبه بوجهٍ ما، فمجموع الأموال في إنكلترا يبلغ العشرة في المائة من الإيرادات، ويتوزع بالمساواة التقريبية على طبقات الأمة المختلفة، وربما كان أرباب الثروة الواسعة يدفعون أقل مما يجب عليهم، كما أن الفقراء المعافين من دفع المال المفروض على الدخل، والذين لا يدخنون ولا يشربون مشروبًا ما لا يتحملون شيئًا من الأموال إلا ضريبة الفقراء، ومن الصعب وجود ضريبةٍ يتساوى فيها جميع الأهالي، فالضريبة المفروضة على الدخل هي ضريبةٌ نسبيةٌ، ولكن من المستحيل معرفة دخل كلِّ إنسانٍ بالتدقيق، والفقراء من الناس لا يدفعونها أبدًا، ومن ذلك يظهر لزوم فرض جملة ضرائب مختلفةٍ حتى إن من يتنصل من أحدها لا مناص له من الأخرى.

(٣-٢) قاعدة التحديد

يجب تحديد مقدار ما يدفعه كل فردٍ من أفراد الأمة، بمعنى أن الحكومة يجب عليها توضيح زمن الدفع وكيفيته وقيمة الأقساط، وهذا التحديد غايةٌ في الأهمية؛ إذ بدونه يتمكن الجابي من ظلم الأهالي وتحصيل ما شاء، وربما تعرض لقبول الرشوة متعهدًا بتنقيص الضريبة؛ ولذلك لا يجب أن تحصل الأموال بواسطة تثمين البضائع، فالزيت مثلًا تختلف أثمانه كثيرًا باختلاف أصنافه وشهرته، ولكن يبعد على الجابي أن يقدر بالتدقيق قيمته؛ لأنه إن صدق ما يقوله أصحاب الزيت خشي أن تكون القيمة أكبر مما يقولون، وبما أن من الصعب إظهار ما يرتكبه التجار أو الجباه من الغش، فيُخشى من أنَّ بعض المثمنين يقبلون الرشوة، ولكن إذا كانت ضريبة الزيت متعلقةً بكميته فقط فيظهر حينئذٍ الغش بسهولته، وما ذكرناه عن الزيت يصدق على جميع الأصناف التي تختلف أثمانها اختلافًا كبيرًا.

(٣-٣) قاعدة اللياقة

يجب تحصيل الضرائب على الوجه وفي الوقت المناسب للممول، وهذه القاعدة ذات منفعةٍ عظيمةٍ، وبما أن الحكومة ليست موجودةً إلا لمصلحة الأمة، فيجب عليها أن تراعي راحتها بما في وسعها، فلا تطالبها بالأموال إلا في الزمن الذي يسهل فيه الدفع عليها، وقد يعترض كثيرًا على العادة المتبعة في إنكلترا من جهة التحصيل في يناير؛ لأن الطلبات تزداد على الأهالي في هذا الشهر، فمما تقدم يظهر أن رسوم الجمرك والمكوس موافقةٌ لهذه القاعدة؛ لأن الممول يدفع الرسم عند ما يشتري زجاجةً من المشروبات أو أوقيةً من الدخان مثلًا، فإذا لم يشأ دفعها فما عليه إلا أن يكف عن الشراء — وربما كان ذلك أحسن له من جميع الوجوه — وعلى كلِّ حالٍ فإن من يهون عليه صرف النقود في شراء الدخان أو المشروبات يهون عليه أيضًا مساعدة الحكومة ببعض الدراهم، ومن هذا القبيل يكون الرسم المتحصل على الإيصالات في محله؛ لأن الشخص الذي يتحصل على ماله يسهل عليه إعطاء جزءٍ ضعيفٍ من النقود التي استلمها من الحكومة.

(٣-٤) قاعدة الاقتصاد

يجب استعمال طريقةٍ للتحصيل تكون فيها المصاريف قليلةً جدًّا، حتى إن ما يدفعه الأهالي يرد معظمه الخزينة، وعلى ذلك لا يستحسن فرض الضرائب التي تستلزم عمالًا عديدين لتحصيلها؛ لأن مرتباتهم تستغرق جزءًا عظيمًا منها، أو تحدث ارتباكًا عظيمًا في التجارة، أو يجعل الأثمان ترتفع، وفضلًا عن ذلك فلا يجب على الحكومة أن تضطر لصرف شيءٍ من وقتها أو ثروتها في التحصيل؛ لأن ذلك يكون بمثابة ضريبةٍ أخرى، ومن هذه الوجهة يكون رسم التمغة مذمومًا؛ لأنه يلزم المتعاقدين الذهاب إلى مكتب التمغة، أو تضطر الحكومة إلى استخدام عمالٍ عديدين.

وفي بعض الأحيان يكون التمغة سببًا لأتعابٍ عديدةٍ، فلا يدفعه المتعاقدون، معتمدين على ذمة بعضهم البعض، وتكون عقودهم في هذه الحالة ملغاةً، فهل يجوز أن تحرم الحكومة رعاياها من حماية القانون طمعًا في بعض دُرَيهماتٍ؟

(٤) في مذهبي حرية المبادلات التجارية وحماية المحصولات الوطنية

إن أغلب الحكومات قد استعملت على توالي الأزمان فرض الضرائب رغبةً في مساعدة صناعة البلاد، ظنًّا منها أنها لو منعت الأهالي من ابتياع البضائع الأجنبية بواسطة الضرائب التي تعرضها عليها لأقبلوا على شراء محصولات البلاد، فتروج حركتها، وهذا خطأٌ جسيمٌ يمكننا أن ندعوه بخطأ حزب المحصولات الوطنية، ولكنه قريب الدخول على عقول الجمهور؛ إذ من الأمور المشاهدة أن التاجر يكره كلَّ شخصٍ قام ليعطل عليه أو يبيع الأصناف التي يتجر فيها بأثمانٍ أقل، فعندما يُقبِل الأهالي على البضائع الأجنبية ترى الصناع والتجار الوطنيين يشكون ويتجمعون ليفهموا الناس أنهم مغبونون في البضائع الأجنبية، وتلك الأقوال تحرك في قلوب الشعب الكبرياء وحب النفس، فلا يرضى بأن تتغلب عليه أمةٌ أجنبيةٌ، وترى أرباب المعامل — لما لهم في ذلك من المصلحة الشخصية — يسددون على الحكومة كلما لاح لهم من البراهين والأدلة، ليبينوا لها أنها لو منعت دخول البضائع الأجنبية لاجتهدوا في تشغيل ما يضارعها في زمنٍ قريبٍ، وأشغلوا في هذا العمل كثيرًا من العَمَلة، فتتحسن حالة البلاد التجارية وتزداد ثروتها، وهم في الحقيقة في ضلالٍ مبينٍ [انظر الفصل الثامن – أوهام متداولة بشأن العمل]؛ لأن المقصود من العمل ليس مجرد العمال، ولكن التمتع في بحبوحة العيش والرفاهية.

هذا ولا يسعنا الإنكار بأن كثيرًا من أرباب الأملاك أو المناجم أو المعامل لهم مصلحةٌ كبرى في فرض الرسوم على البضائع الأجنبية المماثلة لما يتجرون فيه، إلا أنا نقول: إن الذين تعود عليهم هذه الرسوم بالفائدة يجب عليهم أن يتنازلوا عنها؛ إذ المقصود من الاقتصاد السياسي إنما هو منفعة الأمة بأسرها، لا منفعة قسمٍ مخصوصٍ منها، وقد يفوت أرباب مذهب حماية المحصولات الوطنية أن الغرض من البضاعة هو إيجاد الأصناف بكثرةٍ وبثمنٍ بخسٍ، وأنه من المستحيل أن ترد بضائع أجنبيةٌ بأثمانٍ متهاودةٍ بدون أن تصدر بضائع وطنيةٌ لدفع قيمتها، وقد شرحنا فيما سبق أن الثروة تزداد بواسطة تشغيل الأصناف في المحل المناسب، وليس دليلٌ أعظم على مناسبة المحل إلا بيع الأصناف التي توضع فيه بثمنٍ متهاودٍ، أي إنه لو كان في قدرة أرباب المعامل الأجنبية قهر أصحاب المعامل الوطنية، لكان ذلك من أجل البراهين القاطعة على أن تشغيل الصنف المقصود في البلاد الأجنبية أفيد.

ورب معترضٍ يقول: ماذا يصير إليه عملتنا لو أتتنا جميع الأصناف من البلاد الأجنبية؟ فنجيبه إن ذلك أمرٌ مستحيل الحصول؛ إذ إن ورود البضائع الأجنبية إلى بلادنا يستلزم دفع أثمانها، إما بواسطة النقود أو بواسطة بضائع أخرى، فإذا بادلناهم بالبضائع لزم تشغيل هذه البضائع عندنا، وكلما زاد ابتياعنا للواردات الأجنبية كلما زاد استعمال عملتنا، فبهذه الطريقة يكون شراء الأصناف الخارجية أعظم مساعدٍ للمعامل الوطنية؛ لأنه يزيد في حركة أنواع الصناعة المتوفرة شروطها في البلاد، والتي بواسطتها تزداد الثروة كثيرًا.

(٥) في النظرية التجارية

أما لو دُفع ثمن البضائع الأجنبية بواسطة النقود لما نفدت ثروة البلاد كما زعمه الأقدمون، الذين كانوا يظنون أن البلاد تزداد ثروةً كلما دخلها شيءٌ من الذهب أو الفضة، ولَعَمْر الحق إنها لفكرةٌ سخيفةٌ؛ إذ ما الفائدة من جمع القناطير المقنطرة من هذه المعادن الثمينة، فإنه فضلًا عن عدم الفائدة يتكبد مقتنوها نقصًا في الأرباح، وربما حمل ذلك الأغنياء على استعمال الذهب والفضة في أوانيهم، فيزداد سرورهم بقدر ما تنقص أرباحهم. ولكن على وجه العموم تخزين النقود الزائدة عما يلزم لحركة التجارة الاعتيادية لا يعود بالخسارة إلا على صاحبه، ولا خوف من أن البلاد تصبح يومًا ما وقد نفد ما عندها من النقود؛ لأنه إن قلت كميتها زادت قيمتها — قانون العرض والطلب — وهبطت الأسعار فتقل الواردات وتزداد الصادرات، ولما حوته بلاد أستراليا وأميركا الشمالية من مناجم الذهب والفضة يُستحسن أن تدفع قيمة وارداتها نقودًا لتوفر المعادن الثمينة عندها، وليس بخافٍ أن الذهب والفضة يستخرجان من المناجم، فيترتب إذن على البلاد التي ترغب دفع ثمن وارداتها نقودًا أن يكون عندها مناجم، أو أن تستجلب ما يلزمها من هذه الأصناف من البلاد الموجودة فيها، فإذن لا يمكنها أن تشتري أصنافًا أجنبيةً بدون أن تعمل عندها من البضائع ما يوازي قيمتها، وحينئذٍ تكون التجارة الأجنبية من الأسباب المساعدة على رواج الصناعة الوطنية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤