الفصل الثالث

في إحداث الثروة

(١) وسائل الإحداث

أول أمرٍ ينبغي لنا مراعاته في الصناعة هو كما سبق الكلام عليه تعيين الأشياء التي نحتاج إليها، والثاني الحصول عليها؛ أي عملها وإحداثها، مع ملاحظة أنه ينبغي علينا إحداثها بأقل ما يمكن من العمل. وللوصول إلى هذه الغاية يستلزم البحث عن الأمور الضرورية لإحداث الثروة، وهي ثلاثةٌ تسمى وسائل الإحداث؛ الأولى: الأرض. الثانية: العمل. الثالثة: رأس المال. ولا بدَّ من توفر هذه الثلاثة أمورٍ قبل إمكان الشروع في إحداث الثروة، فإذا توفرت نستخدم العمل في خدمة الأرض، ونستعمل رأس المال في موافاة العامل بالآلات والعُدَد ومداركته بالغذاء اللازم له أثناء اشتغاله، ونشرع في البحث عن كلٍّ من هذه الوسائل بالتوالي فنقول:

(١-١) الأرض ينبوع المواد

تدلُّ كلمة الإحداث بالصراحة على أننا إذا أردنا إحداث الثروة يجب أن نعمد إلى قطعةٍ من الأرض أو إلى بحيرةٍ أو نهرٍ أو بحرٍ، ونستخرج منه المادة التي يجب تحويلها إلى ثروةٍ، ولا يهمنا البحث عمَّا إذا كانت المواد آتيةً من سطح الأرض أو من المعادن والمناجم أو من البحار والأقيانوسات. وغاية ما نقوله: إن أغذيتنا تحدث على سطح الأرض كالحبوب والماشية والطيور … إلخ، وملابسنا تُصنَع من القطن والصوف والتيل والجلود، وهي واردةٌ من ذلك المورد بعينه، والمعادن يكون الحصول عليها بواسطة حفر الأرض والبحث في جوانبها، والأنهار والبحيرات والبحار من الينابيع المهمة للثروة؛ لأننا نستخرج منها الأغذية والزيت وعظام البال … إلخ. ولا يخفى أننا لا نستطيع عمل أي محصولٍ بدون أن تتوفر لدينا المواد الأولية التي لا بدَّ من تشغيلها لإحداث هذا المحصول، فلعمل الدبوس مثلًا يلزم أن يكون عندنا النحاس والزنك والقصدير المستخرج من المعادن، ولعمل خيط الحرير يلزم وجود الحرير والصبغة الضرورية لتلوينه، وكل شيءٍ نلمسه أو نستعمله أو نأكله أو نشربه لا بدَّ أن يكون مصنوعًا من مادةٍ واحدةٍ أو جملة مواد، وينبغي أن تكون عنايتنا موجهةً إلى ادِّخار كمية من نوع المواد الضرورية.

وفي غالب الأحيان نحتاج إلى شيءٍ غير المادة الأولية كالقوة الضرورية لنقل هذه المادة وتشغيلها، وقد فُطر الإنسان على الميل إلى تجنب تكبد عناء العمل؛ لكيلا تتعب أعضاؤه من مزاولته، فيشيد حينئذٍ طواحين الهواء لطحن الحبوب، والسفائن لنقل البضائع، وآلات البخار لدفع المياه، والقيام بأنواع الأعمال الصعبة القاسية، فالأرض هي التي تنتج لنا معًا مواد الثروة، والقوة التي تساعد على تحويل هذه المواد إلى ثروةٍ، وكل شيءٍ يكون من وسائط الحصول على الواسطة الأولى من وسائط الإحداث يُسمى العامل الطبيعي.

وأهم العوامل الطبيعية الأرض؛ لأنها لما تكتسب ضوء الشمس والرطوبة بكميةٍ وافرةٍ يمكن حرثها وزرعها فتأتي بأنواع المحصولات، ولأهمية ذاك العامل نرى أن الاقتصاديين قد أفاضوا في الكلام عليه، وإن تكن ملحوظاتهم تنطبق أيضًا على الصخور والأنهار، ولا يخفى أن ثلاثة أرباع سطح الأرض مشغولةٌ بالبحار، غير أن هذا المتسع العظيم من الماء الملح لا يُستخرج منه إلَّا القليل من الثروة، هذا فيما عدا سمك البال وبعض أنواع الأسماك. فإذا تكلمنا على الأرض فإنما نقصد بكلامنا حقيقة كل ينبوعٍ من ينابيع المواد الأولية؛ أي كل عاملٍ من العوامل الطبيعية، والأرض وينبوع المواد والعامل الطبيعي حدودٌ متساويةٌ في المعنى.

(١-٢) العمل

ومع ذلك فإن العوامل الطبيعية لا تقوم وحدها بإيجاد الثروة وإحداثها، ودليل ذلك أن الإنسان قد يموت في وسط الجهة الكثيرة الخصب الجيدة التربة إذا لم يتكبد مشقة الاستفادة من الأشياء المحيطة به، فالواجب حينئذٍ هو بذل التعب لاقتطاف ثمار الأشجار حتى تكون ثروةً، واصطياد الطيور التي ينبغي الحصول عليها قبل إمكان إنضاجها والتلذذ بطعمها، والواجب أيضًا للحصول على الملابس الجيدة والمنازل اللازمة للسكنى والأغذية التي ينبغي ادِّخارها بانتظامٍ، أن يبذل الإنسان الجهد ويكدَّ ويعمل، ثمَّ لا بدَّ من جمع المواد اللائقة بالتدريج ومعالجتها بما يجعلها منطبقةً على حاجاتنا.

وعليه فثروة الأمة تتوقف على ما تبذله من النشاط والمهارة في العمل أكثر مما تتوقف على كثرة المواد المحيطة بها، فهذه بلاد أميركا الشمالية مثلًا قد لاحظنا سابقًا أنها من البلاد الغنية، وذات أرضٍ نباتيةٍ كثيرة الخصب، تحتوي في باطنها على مناجم الفحم الحجري والمعادن، وتشمل أنهارها على الأسماك الكثيرة، وغاباتها على الأخشاب النافعة، وبالجملة على جميع المواد التي يحتاج إليها الإنسان، ومع ذلك نعلم أن الهنديين الأمريكيين سكان تلك البقاع قد عاشوا آلاف السنين وهم في ذلِّ الفقر والفاقة؛ والسبب في ذلك هو تجردهم عن المعارف الضرورية لتشغيل تلك العوامل الطبيعية على الوجه الأليق واستخراج الثروة منها، وفي هذا ما يدل بالوضاحة على أن العمل الذي رائده الحذق والمهارة والانتظام ضروريٌّ لإحداث الثروة.

(١-٣) رأس المال

لإمكان إحداث كثيرٍ من الثروة لا بدَّ من وجود شيءٍ آخر غير ما سبق وهو رأس المال، الذي يساعد العَمَلة أثناء تناولهم الأعمال على قضاء حاجاتهم، ولا يخفى أن الإنسان يلزمه أن يأكل مرةً في اليوم على الأقل إن لم نقل مرتين أو ثلاث مراتٍ، فإذا لم يكن عنده ذخيرةٌ من الغذاء فلا بدَّ أن يتحصل عليها بأحسن ما يستطيع من الوسائط وإلَّا مات جوعًا، فنراه ينزع الجذور من مغارسها ويجمع الحبوب المتفرقة، ويستولي إذا أمكنه على الحيوانات الوحشية، فإذا فعل ذلك يكون قد صرف كميةً كبيرةً من العمل تلقاء فائدةٍ طفيفةٍ جدًّا، وقد يضطر أهالي أستراليا الأصليون في بعض الأحيان لاصطياد الحيوانات النافعة لغذائهم أن يعمدوا إلى الأشجار التي تأوي إليها هذه الحيوانات، فيلقونها على الأرض بعد عناءٍ طويلٍ بقطع أصلها الثابت بمقاطع من الحجر الصلد، والذين تكون معيشتهم هكذا لا يجدون القوة والوقت اللازمَيْن للحصول على الأغذية بالطرق السهلة؛ لأنه يلزم زمنٌ طويلٌ لأجل حرث الأرض وعزقها وبذرها وحياطتها بما يدفع الغوائل عنها، على أنه إذا تيسرت هذه الأعمال فلا بدَّ من انتظار الحاصلات مدة ستة أشهرٍ على الأقل، ولا ريب في أن كمية الغذاء التي يتحصل عليها بطريق الزراعة تكون كثيرةً ووافرةً بالنسبة لما بُذِل من المجهود، غير أن الهنديين المتوحشين والقبائل الأخرى الهائمة في وديان الجهالة لا تقدر على تحمل الصبر حتى تنبت البذور وتنمو وينضج ثمرها؛ ولذا نرى فقراء الأهالي الأصليين من أستراليا يضطرون إلى التقاط الحبوب والتغذي بالديدان وبعض الحيوانات.

وجاء في الأمثال اليابونية: «احفر البئر قبل أن تشعر بالعطش.» ونحن نودُّ لو أن يكون مغزى هذا المثل ساريًا ومعمولًا به، ولكن لا بدَّ من وجود رأس المال للقدرة على المعيشة أثناء حفر البئر، كما لا بدَّ إذا أردنا نوال الثروة بلا تكبد مشقة العمل الزائد أن تكون لدينا كميةٌ احتياطيةٌ من الغذاء، تساعدنا على البقاء أثناء مزاولة العمل، فهذه الكمية الاحتياطية تسمى رأس المال، وبدون رأس المال لا يكفُّ الإنسان عن مصادفة العوائق والصعوبات، بل يكون على شفا خطر الموت من الجوع، وقد وصفت السيدة مارتينو Miss Martineau في القصة الأولى من أقاصيصها التي وضعتها لتسهيل تناول علم الاقتصاد السياسي بعنوان «المعيشة في الصحراء» La Vie au désert أحوال النزلاء الأوروبيين في رأس الرجاء الصالح بالطرف الجنوبي من أفريقيا، حينما فرضت وهمًا أن أمة البشمن Les Bushmen هجمت عليهم، ونهبت ما كان محفوظًا عندهم من الأموال الاحتياطية، فبينت حينئذٍ صعوبة الحصول على الأغذية واستحالة القيام بالأعمال النافعة؛ إذ لا يمكن القيام بالعمل إلَّا بواسطة الآلات والمواد والزمن الضروري لإنهاء العمل، ولكن أين يوجد الوقت؟ والمجردون عن أموالهم الاحتياطية لا يخطر على بالهم سوى الاهتمام بالبحث عن ملجأٍ يأوون إليه أثناء الليل اتقاء الحرِّ والبرد، وغذاءٍ يطفون به نار جوعهم.

ومن يرغب تمام الوقوف على ضرورة رأس المال والفائدة منه يجب عليه أن يقرأ قصص السيدة مرتينو أولًا، ثم يدرس مصنفاتها في علم الاقتصاد السياسي بعد ذلك.

ويتعذر علينا القول بأن ضرورة رأس المال للإحداث كضرورة الأرض والعمل لها؛ لأن رأس المال ليس إلَّا ثمرةٌ من ثمرات الأرض والعمل فهو فرعٌ منهما وهما الأصل له، ومع ذلك فيجب دومًا قبل الإحداث بكثرةٍ أن يكون في حوزة الإنسان رأس مالٍ وإن يكن صغيرًا.

على أنه لا جدوى من محاولة تصور الكيفية التي نكوِّن بها رأس المال الأول؛ إذ لإصابة هذا الغرض لا بدَّ من القهقرى إلى الأزمان الأولى من الخليقة، حيث كانت معيشة بني الإنسان أقرب إلى الوحشية منها إلى البشرية، ومن المؤكد أنه لا يمكننا الوصول إلى الحصول على العيش والمُدَى والملاعق، وأن نستجلب الحرارة إلى جسومنا بواسطة الملابس والمساكن إذا لم يكن لدينا رأس مالٍ يساعدنا على المعيشة أثناء عمل جميع هذه الأشياء، فرأس المال حينئذٍ ضروريٌّ ضرورةً مطلقةً إذا لم يكن للعمل، فعلى الأقل للتأكد من إتمام هذا العمل بنجاحٍ، مع مراعاة الاقتصاد فيه، وفي وسعنا أن نعتبر رأس المال كواسطةٍ ثانويةٍ، ونرتب وسائط الإحداث بالكيفية الآتية:

الوسائط الضرورية العامل الطبيعي
العمل
الواسطة الثانوية رأس المال

(١-٤) كيفية زيادة الاستثمار من العمل

يجب أن يكون الغرض الأصلي الذي نكدُّ للحصول عليه هو زيادة الاستثمار من العمل، أعني الاستحصال على أكثر ما يمكن من الثروة من العمل الذي نقوم به، ولأجل ذلك ينبغي العناية بالعمل على أحسن طريقةٍ، أعني:
  • أولًا: في الوقت المناسب.
  • ثانيًا: في المكان المناسب.
  • ثالثًا: بأنسب طريقةٍ.

الاشتغال في الوقت المناسب

ينبغي طبعًا عمل الأشياء في الوقت الذي يسهل القيام بها، وحينما نرى أن في الإمكان استثمار الفوائد الكثيرة من العمل الذي نقوم به، فإذا نظرنا إلى الصياد نرى أنه يجلس على ضفة النهر قبيل الفجر أو في المساء، أي في الوقت الذي تكثر فيه الأسماك وتظهر قابليتها لأكل ما يُدلى إليها بواسطة الصنارة، وكذا الفلاح تراه لا يحصد الحشائش إلَّا عند ظهور الشمس ولمعان ضوئها، والطحان لا يطحن الحبوب إلَّا إذا هبَّ النسيم أو امتلأ الغدير بالماء، وربان السفينة لا يترك سفينته تَمْخَر عُباب البحر إلَّا إذا كان الهواء موافقًا ودرجة المد والجزر مساعدةً، وعلم الفلاح بالتجارب الطويلة أوقات السنة التي يصح فيها القيام بأي نوعٍ من أنواع الأعمال الزراعية، فتراه يبذر الأرض في فصل الخريف أو فصل الربيع، وينقل السماد في فصل الشتاء عندما يتراكم الجليد على سطح الأرض، ويعتني بوضع الحواجز وغيرها من الأعمال الثانوية حينما لا يجد ما يشتغل به من الأعمال غير هذا، ويخزن الحصاد عند تمام نضجه واعتدال الطقس.

واعتاد الفلاحون في بلاد نروج أن يشتغلوا بتمام النشاط والهمة في قطع الحشائش؛ لتجفيفها وجعلها غذاءً للحيوانات أثناء شهري يوليو وأغسطس، فلا يعلقون أفكارهم بالغابات وقطع الأخشاب منها مدة ذينك الشهرين؛ لأنهم يعلمون تمام العلم أنه سيكون لديهم الوقت الكافي أثناء فصل الشتاء المستطيل عندهم للقيام بذلك العمل، وسبب قطعهم الأشجار في فصل الشتاء دون غيره من الفصول هو لكون الثلوج في هذا الفصل تملأ تجاويف الجبال وما بينها من الوديان، فيتسنى لهم وقتئذٍ أن ينقلوا الأشجار المقطوعة بالسهولة التامة إلى حيث توجد الأنهار التي تمتلئ بالمياه الناشئة من ذوبان الثلوج، فتدفع تياراتها جذوع تلك الأشجار إلى حيث يُرَاد من المدائن والمواني. ومن القواعد الحسنة والمبادئ المشكورة أن لا يعمل الإنسان اليوم ما يمكنه أن يعمله بسهولةٍ في الغد، ولكن توجد قاعدةٌ أحسن وأجدر بالاتباع من تلك وهي لا يصح أن نؤجل للغد ما في استطاعتنا أن نعمله اليوم بسهولةٍ تامةٍ، على أنه للقدرة على الاصطبار وإجراء كل عملٍ في الوقت المناسب له ينبغي أن يكون لدى الإنسان رأس مالٍ يعيش منه في الفترة بين كلِّ وقتٍ مناسبٍ وآخر.

العمل في المكان المناسب

وفضلًا عن ذلك يجب أن نقوم بكلِّ نوعٍ من أنواع الأعمال في المكان الذي يناسبه أكثر من مناسبة غيره له من الأمكنة التي تحت تصرفنا، وهذه حقيقةٌ ظاهرةٌ لا تحتاج إلى برهانٍ؛ حتى إن مجرد الإشارة لها قد تعد من الأمور التافهة؛ إذ لا يصح مثلًا أن نغرس أشجار الفواكه في رمال سواحل البحار، كما لا يصح بذر الحبوب على الصخور في أمل استثمارها، ولا يرتاب أحدٌ في أن هذه خسارةٌ مؤكدةٌ، والشخص الذي يضع تعبه ووقته في موضع الخسارة والضياع لا خلاف في أنه يُعد فاقد العقل والتصور.

وفي أحوالٍ أخرى تتوقف المسألة على التفاوت في المحصول؛ إذ قد يوجد في جهةٍ من الجهات محصولٌ قد لا يوجد بكميته في جهةٍ أخرى، ففي جنوب إنكلترا مثلًا يمكن زرع الكروم في الخلاء واتخاذ النبيذ منها، إلَّا أن الكروم تنمو في فرنسا وإسبانيا وألمانيا أحسن من إنكلترا، والنبيذ الذي يُستخرج منها إذا بُذِلَ فيه نفس المجهود الذي يُبذَل لاستخراجه من الكروم الإنكليزية كان أكثر في الكمية وأجود في الصنف، وعليه فالذين يرغبون من الإنكليز استخراج النبيذ يجدر بهم أن يسكنوا القارة الأوروبية، أو يتركوا الفرنسويين والإسبانيين والألمانيين يستخرجون النبيذ برسمهم، ولسنا ننكر أن البلاد الإنكليزية جيدة التربة كثيرة الخصب، ولكنها كثيرة الرطوبة، وهذا ما يجعل أرضها أنسب لنمو الحشائش التي يستفيد منها المزارعون لتربية الماشية والعناية بها حتى يُستخرَج منها الكثير من اللبن والزبدة والجبن.

ولكي يُثري الناس بقدر الإمكان يجب أن كل جهةٍ من الجهات تتمسك بما تنتجه أرضها بسهولةٍ، وأن تتحصل على الأشياء الأخرى التي لا تنتجها تلك الأرض من الخارج بواسطة التبادل مع التجارة الأجنبية، فهذه بلاد الولايات المتحدة يمكنها أن تؤدي كمياتٍ وافرةً من القطن والحبوب والشحم واللحم والفواكه وزيت البترول، هذا عدا الذهب والفضة والنحاس وغيرها من المعادن، وكذا أستراليا وزيلاندا الجديدة وبلاد أفريقيا الجنوبية تنتج الصوف والجلود والسكر والمتبلات الغذائية والذهب والنحاس والماس، والجهات الأفريقية المحصورة بين المدارين تنتج زيت النخل والعاج وخشب التيك والصمغ … إلخ، وأميركا الجنوبية تكثر فيها الماشية التي نتخذ منها الجلود والعظام والشحم والقرون واللحوم … إلخ، والصين تبعث إلى جهات الأرض ما تخرجه أرضها من الشاي، وهي تصدر غير هذا الصنف الحرير والزنجبيل وما لا يُعَدُّ من البضائع، وكذلك الهند تصدر القطن والنيلة والأرز والسكر، وهكذا كل جزءٍ من أجزاء الأرض تنتج فيه بعض المحصولات والبضائع بسهولةٍ أكثر مما تنتج في غيرها، ولو أنصف بنو الإنسان وحكومات البلاد وجعلوا الحكمة والتدبير رائدَيْن لهم في أعمالهم لمنحوا التجارة الحرية الممكنة حتى يمكن استنتاج كل شيءٍ في الجهة التي لا تستلزم فيها زيادة العناء والمشقة.

الاشتغال على الوجه الأنسب

مهما كان نوع الصناعة المعمول بها في مكانٍ من الأمكنة يجب علينا أن نعمل ما من شأنه إلزام العامل بإتمام عمله على أليق وجهٍ وأنسبه، أي لا نتركه يضيع زمنه أو يدخل الغش في عمله، وتوجد طرقٌ كثيرةٌ للقيام بالعمل الواحد يلزم لاختيار أحسنها أن يكون العامل على جانبٍ من النباهة والحذق، أو تحت ملاحظة وإدارة شخصٍ توفرت فيه المعلومات اللازمة والمهارة الضرورية، وسوى ذلك لا بدَّ من تقسيم العمل إلى أقسامٍ متعددةٍ، بحيث يتمكن كلُّ عاملٍ من إتمام العمل الذي عُهد إليه على أحسن وجهٍ، وعليه فصاحب العمل في حاجةٍ إلى العلم وتقسيم العمل.

(١-٥) العلم

لكي يستفيد الإنسان من عمله بقدر الطاقة لا يلزم فقط أن يكون العامل حاذقًا أي ماهرًا متدربًا على صنعته، بل ينبغي أيضًا أن يكون حائزًا على معارف علميةٍ لها مساسٌ بالعمل الذي فُوِّضَ إليه القيام به.

والجزء الأهم من علم الحوادث الطبيعية يبحث في أسباب الأشياء، أي الوقوف على حقيقة الأشياء التي يجب جمعها لتكوين أشياءَ أخرى، مثال ذلك آلة البخار فإنها ناتجةٌ من الاكتشاف الذي مآله أنه إذا سُخِّنَ الماء تصاعد منه بخارٌ يتمدد تمددًا جسيمًا، ومن لوازم ذلك مكان الوقيد والفحم الحجري والماء والمرجل فهي إذن من أسباب القوة. وإذا كان لدى الإنسان عملٌ يريد إتمامه فأول أمرٍ ينبغي له الوقوف عليه هو أن يعلم ما هي الأسباب التي بواسطتها يمكن الوصول إلى ذلك بالسهولة مع الإكثار منه؛ لأن العلم لا يكلف الإنسان مؤنة العمل الذي لا فائدة منه.

وقال السرجون هرشل: إن العلم يرشدنا في بعض الأحيان إلى معرفة أن بعض الأشياء التي نريد القيام بعملها يستحيل في الحقيقة إجراؤها، مثال ذلك اختراع آلةٍ تتحرك بنفسها حركةً أبديةً لا انقطاع لها، وفي أحيانٍ أخرى يرشدنا العلم إلى أن الطريقة التي نحاول بواسطتها عمل شيءٍ من الأشياء فاسدة بالكلية، مثال ذلك أنه كان من المظنون مدة زمانٍ طويلٍ أن أنجع الطرق لإذابة الحديد هي تمرير الهواء البارد من الفرن الموضوع فيه الحديد، غير أن العلم قد بيَّن أن اللازم للوصول إلى ذلك إنما هو تمرير الهواء الساخن بقدر الإمكان وليس البارد كما كان المتبادر إلى الذهن أولًا، وفي غالب الأحيان قد يرشدنا العلم إلى إتمام العمل الذي نِيط بنا مع تجنب الإكثار من الاشتغال.

ولذا نرى الملاحين يستطلعون حوادث المد والجزر؛ لكي تكون موافقةً لهم أثناء أسفارهم، ومساعدةً على قطع المشقة، ونرى أيضًا علماء الحوادث الجوية يصنعون الخرط البحرية التي ترشد ربَّان السفينة إلى حيث يكون الريح وتيار المياه، مساعدين لقطع المسافات الطويلة في زمنٍ قصيرٍ. وخلاصة القول: إن العلم يكشف لنا الغطاء عن أمورٍ عجيبةٍ لولاه لخلناها من المستحيلات، ومن أقرب الشواهد على ذلك اكتشاف التصوير الشمسي (الفوتوغرافيا) وأسلاك المكالمة (التلفون)، ويمكن القول بأن جميع التحسينات الصناعية التي من شأنها أن ترفع مرتبة الإنسان إلى الدرجات العلية، وتميزه عن الحيوانات العجم، لا منشأ لها إلَّا العلم، ولقد قال الشاعر الروماني الشهير ما معناه: «طوبى لمَنْ وقف على أسباب الأشياء.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤