الفصل السادس

في توزيع الثروة

(١) كيف توزع الثروة؟

عرفنا ماهية الثروة، وكيفية وجوب استعمالها، وكيفية الوصول لإحداثها بكميةٍ وافرةٍ مع قلة التعب، غير أننا لم نتكلم للآن على أهم مسألةٍ في الاقتصاد السياسي، ألا وهي توزيع الثروة بين من أحدثوها.

ومواد الصناعة هي كما أسلفنا الأرض والشغل ورأس المال، فإذا تيسرت هذه الوسائل الثلاث لدى شخصٍ واحدٍ فلا مرية في أنه يكون المالك للمحصول عدا ما تأخذه الحكومة كالضرائب مثلًا، ولكن يندر في حالة الهيئة الحاضرة وجود عاملٍ يملك الأرض كلها ورأس المال كله الذي يستعمله؛ إذ الحاجة تضطره للانتقال عند غيره أو المعيشة في بيت غيره والاستفادة من الاختراعات والاكتشافات والأعمال التي قام بها غيره.

فإحداث الثروة إذن لا يتوقف على إرادة شخصٍ واحدٍ، بل على اتحاد جملة أشخاصٍ يأتي بعضهم بالأرض والثاني بالمال والثالث بالعمل، ولكلِّ فريقٍ من هؤلاء نصيبٌ.

أمَّا إذا لم يتيسر إلَّا وسيلةٌ واحدةٌ في الثروة المحدثة، فعلى صاحبها أن يعرضها معرض المساومة، وله الخيار حينئذٍ في طلب ما يقابل هذه الوسيلة من نتائج العمل، ومع ذلك فإن توزيع الثروة مبنيٌّ على قواعد طبيعيةٍ ثابتةٍ ليس للصدفة ولا للجزاف تأثيرٌ عليها، وسنشرحها فيما بعد مقتصرين الآن على إيراد ما يُعلَم منه سبب اختصاص قسمٍ عظيمٍ من الأهالي بشيءٍ يسيرٍ من الثروة، واختصاص بعض الأفراد بمعظمها، وإنما نجد بعضًا من الناس يكدون ويكدحون ويبذلون ما في وسعهم في خدمة الأرض حتى يستغلوا محصولاتها، فيأتي بعدئذٍ صاحب الأرض ويأخذ من تلك المحصولات الجزء الأعظم بحيث لا يصيب العمَلة إلَّا ما يكفي لقضاء حاجتهم، فمتى عرفنا السبب في أن العامل يأخذ شيئًا يسيرًا سهل علينا الوقوف على الطريقة المثلى لنمو إيرادها، غير أننا نقول: إن هذا الأمر متعلقٌ بالنواميس الطبيعية. وموضوع كلامنا الآن يبحث فيه عن توزيع الثروة بين العَمَلة وأصحاب الأرض ورأس المال والحكومة، فنصيب العامل يسمى أجرةً، ونصيب صاحب الأرض يسمى دخلًا، ونصيب صاحب المال يسمى ربحًا، ونصيب الحكومة يسمى ضريبةً.

فيمكننا إذن أن نقول على وجه العموم: إن نتيجة الشغل تنقسم إلى أربعة أنصبةٍ على الصفة الآتية:

المحصول، والأجرة، والدخل، والربح، والضريبة.

(٢) نصيب العامل في الأجور

يجب علينا أن نفقه كنه المعاني ونتمعَّن فيها جيدًا. إن كلمات: أجرةٌ، وإيرادٌ، وربحٌ، التي نستعملها هنا لا تنطبق كلَّ الانطباق على المعنى الشائع بين الناس؛ لأن ما يُعطَى من الأجور للعَمَلة يشتمل على جزءٍ من الربح، والإيراد يتضمن في الغالب جزءًا من الربح، وأمَّا ما يدعونه بالربح فيمكن اعتباره أجرةً أو إيرادًا إلى حدٍّ معلومٍ.

والأجر في الاقتصاد السياسي لا يُطلَق إلَّا على ما يُدفع مقابل أتعاب العمل؛ لأن كثيرًا من العَمَلة يمتلكون أدواتهم ومعداتهم اللازمة لهم، وهذه الأدوات كلها عبارةٌ عن جزءٍ من رأس مال كلِّ عاملٍ منهم يستحق جانبًا من الأرباح. فالأجرة إذن هي ما يبقى بعد خصم هذا الربح، ويكون من الموافق أيضًا تنزيل ما يُدفع للحكومة بصفة ضرائب.

(٣) في حصة الأرض

الإيراد وهو القسم الثاني من المحصول يدل في الاقتصاد السياسي على ما يُدفع لأجل استخدام أي عاملٍ طبيعيٍّ سواء كان أرضًا أو نهرًا أو بحيرةً، فإيراد المنزل أو المعمل لا يُعتبر كله إيرادًا حقيقيًّا؛ لأن بناء البيت والمعمل يستدعي صرف مبلغٍ من النقود، ولا بدَّ لهذا المبلغ من أرباحٍ يجب استنزالها من الدخل للحصول على الإيراد الحقيقي، فبعد استنزال هذه الأرباح يكون إيراد المنزل هو ما تبقى من الدخل قيمة ما يخص الأرض المشيد فوقها المنزل، ويمكننا التعبير عن الإيراد الحقيقي بلفظة مكسب، وهو ما سنقف على حقيقته بعدُ.

نصيب رأس المال أو الربح يكون في الحقيقة أقل بكثيرٍ مما يبقى تحت تصرف المتمول، فصاحب المال هو الذي يشرع في عمل الأشياء كأن يستأجر قطعة أرضٍ أو يشيد معملًا أو يشتري آلاتٍ، ويستخدم حينئذٍ رجالًا ليقوموا بأعباء الأعمال وينقدهم أجرةً، وقد يكون صاحب المال هذا في الغالب مديرًا لأعمال نفسه ويشتغل مع العَمَلة يدًا بيدٍ وربما اشتغل أكثر منهم، ومتى انتهت الأشغال وبيعت البضائع حفظ ثمنها، ولكنه يكون قد سبق له دفع جزءٍ عظيمٍ من أجور العَمَلة زمن التشغيل، ويجب عليه خلاف ذلك دفع إيجار الأرض، وبعد خصم هذه المبالغ يبقى له مبلغٌ يستعين بجزءٍ منه على المعيشة، وهذا المكسب يجب أن يشتمل على أرباح رأس المال وعلى قيمةٍ أخرى في مقابل أتعاب مدير العمل. ومير العمل لا يقوم بشيءٍ من الأعمال اليدوية إلَّا في النادر، لكن من نصيبه الأعمال العقلية، مثل: تقدير قيمة البضائع، والبحث عن المحل الذي يمكنه أن يبتاع منه المواد الأولية الجيدة بسعرٍ رخيصٍ، وانتقاء العمَلة الماهرين، ومسك الدفاتر، وإجراء عدة أشياء أخرى، ولا يخفى أن الشغل العقلي هو في الحقيقة أكثر صعوبةً وأدعى إلى الضعف للإنسان من الشغل اليدوي، فإذا بدأ في إدارة عملٍ مهمٍّ تصادفه أزمات وصعوبات تدعوه إلى اضطراب الفكر وتكبد أعظم الأشجان؛ فلذلك لو نجح هذا العمل لكان له الحق في أخذ النصيب الأوفر من الإيراد في مقابلة أتعابه، وهذا النصيب يسمى مصاريف إدارة العمل ومراقبته، وهو وإن كان في العادة أهم بكثيرٍ من نصيب الأجير البسيط إلَّا أنه لم يخرج عن كونه أجرةً.

ويجب أيضًا حفظ جانب من المكسب ضمانةً لما عساه يحصل من المخاطر؛ لأنه يوجد في التجارة بعض تقلباتٍ، وربما أن أعظم مديرٍ مهارةً وعقلًا تضيع منه دراهم معدودةٌ وتذهب أدراج الرياح لأسبابٍ لم تكن في الحسبان، فأحيانًا تجده بعد أن يشيد المعمل يعرض الناس عن طلب مصنوعاته، وتارةً يتعذر عليه شراء المواد الأولية، وربما يظهر لهم فيما بعد أن المعمل بُنِيَ في مكانٍ غير موافقٍ، وطورًا يتضرر العَمَلة ويضربون عن العمل طلبًا في زيادة أجورهم، ومهما كان الخطأ فالخسارة عائدةٌ على صاحب المال في كلِّ حالٍ؛ لأنه يخسر مبالغ طائلةً كانت تجعله في عيشةٍ راضيةٍ لو لم تضطره دواعي الحال لصرفها، وقد شوهد كثيرٌ من الناس قد أمضوا حياتهم في الشغل وأصبحوا أغنياء، ولكنهم في آخر الأمر ضيعوا كلَّ أرزاقهم وأموالهم لاعوجاجٍ في الرأي أو لنزول طارئٍ خارجيٍّ.

فيجب تنشيط صاحب المال بما يدفعه على اقتحام هذه الأخطار؛ لأنه لو أقرض الحكومة رأس ماله لتسنى له أن يأخذ منه ربحًا مؤكدًا، فإذا ترك هذا الربح المؤكد واستعمل أمواله في التجارة غير مبالٍ بالأخطار لا بدَّ وأن يُكافأ عليه باختصاصه بجانبٍ عظيمٍ من الأرباح، حتى إنه بهذه الوسيلة توازي أرباح الأعمال الناجحة خسائر المشروعات غير الناجحة، بحيث يتحصل أصحاب المال على أرباح أموالهم وقيمة أتعابهم، فمن ذلك يمكننا إذن وضع المعادلة الآتية:

المكسب = مصاريف الإدارة + الربح + مبلغ الضمانة من الأخطار.

(٤) في الربح

الربح هو ما يُدفع نظير الانتفاع برأس المال، وهذا الربح تكون زيادته وقلته متعلقتين بزيادة مبلغ رأس المال وقلته، ويختلف على حسب طول المدة وقصرها الموضوع لأجلها رأس المال، فمعدل الفائدة إذن يقدر باعتبار المبلغ والمدة، فلو قلنا: إن سعر الفائدة خمسةٌ في المائة لكان المراد من ذلك أن كلَّ مائة فرنكٍ تربح في السنة خمسة فرنكاتٍ، وكلما تعددت السنوات وتكرر وجود مائة فرنكٍ في المبلغ ازداد الربح زيادةً مناسبةً.

وأمَّا معدَّل الفائدة الذي يدفع الآن فإنه يختلف من ١ إلى ٥ في المائة.

ولكن متى تجاوز المعدل خمسةً أو ستةً في المائة لم يُعتبر حينئذٍ ربحًا حقيقيًّا، وإنما يعتبر بصفة تعويضٍ للأخطار التي تتهدد رأس المال.

فلمعرفة حقيقة متوسط معدل الفائدة يلزمنا البحث عمَّا يدفعه أرباب الأملاك؛ لأنه برهن تلك الأملاك بأمن صاحب المال من ضياع حقوقه، فمن المحتمل إذن أن يكون متوسط معدل الفائدة الحقيقي في الحالة الحاضرة أربعةً في المائة تقريبًا، ولكنه يختلف باختلاف البلاد؛ لأنك تراه في إنكلترا وهولاندا أقل من كلِّ الجهات الأخرى، وفي الولايات المتحدة نجده تقريبًا ٦ أو ٧ في المائة، ومما يجب الالتفات إليه هو أن معدل الفائدة لا يختلف باختلاف الأعمال، بعكس المكسب الذي يتغير؛ لأن بعض الأعمال تستلزم مصاريف أو تكون معرضة لأخطارٍ أكثر من غيرها؛ لأن صاحب المال لا يهمه الوقوف على موضوع استعمال المبلغ المقترض؛ ولذلك نرى أن معدل الفائدة يكاد أن يكون واحدًا في جميع أنواع التجارة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤