الفصل الثاني

«كَانْت» وفلسفته النقدية

١

أريد بهذا الفصل أن أبيِّن أن الفلسفة عند «كَانْت» هي — أولًا وقبل كل شيء — تحليل للقضايا، وليست هي بالفلسفة التي يريد بها صاحبها أن يقول من عنده شيئًا إيجابيًّا عن العالم أو أي جزء منه، الفلسفة عنده طريقة أكثر منها مادة، وليس هذا القول استنتاجًا منا، بل هو نقل مباشر عن نص صريح ذكره، «كَانْت» نفسه في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه «نقد العقل الخالص» يصف به كتابه ذاك، إذ يقول إنه إنما يحاول أن يلتمس للميتافيزيقا طريقة للبحث تجعلها علمًا على غِرار علمَي الرياضة والطبيعة، فالكتاب «رسالة في المنهج وليس هو بشرح لمذهب في مادة العلم نفسه.»١ وقد كان حسبنا أن نلاحظ الأسماء التي أطلقها «كَانْت» على مؤلفاته، كيف اشتملت على كلمة «نقد» (نقد العقل الخالص، نقد العقل العملي، نقد الحكم)؛ لنعلم منذ اللحظة الأولى أنه قد أراد بكتبه تحليلًا في هذا المجال أو ذاك، لكننا قبل أن نحدد المراد بالطريقة «النقدية» عند «كَانْت»، يحسُن بنا أن نشرح فكرة «الفروض السابقة»٢ بقسميها النسبي والمطلق؛ لأنها ستُلقي ضوءًا شديدًا يُعين القارئ على إدراك الطريقة النقدية إدراكًا واضحًا جليًّا.

كل عبارة ينطق بها الإنسان ليصف بها شيئًا مما يصادفه في خبرته، أو يعبِّر بها عن فكرة، إنما تتضمن سؤالًا سابقًا ألقاه المرء على نفسه، أو ألقاه عليه شخص آخر، فجاءت عبارته بمثابة الجواب على هذا السؤال، فإذا نظرتُ إلى الساعة التي أمامي الآن فقلت: إنها الواحدة إلا عشر دقائق، فذلك القول هو في حقيقة أمره جواب لسؤال — ضمني أو صريح — ألقيته على نفسي، وهو: «كم الساعة الآن؟» وإذا قلت عن فلان إنه هو المسئول عن كسر الفنجان، كان ذلك أيضًا جوابًا لسؤال: «على مَن تقع التَّبِعة في كَسْر الفنجان؟» … وهكذا.

على أن السؤال بدَوْره يتضمن افتراضًا سابقًا عليه، افتراض حقيقة معينة أو عقيدة بذاتها، يستند إليها السائل في سؤاله، فلولا أنني أعلم أن الساعة التي أمامي تقيس الزمن وتُخبر به، لما أمكنني أن أسأل ناظرًا إليها: «كم الساعة الآن؟» ولولا أنني أعتقد في أن الإنسان مسئول عن بعض أعماله، لَما أُتيح لي أن أسأل عمَّن تقع عليه تبعة كسر الفنجان.

ويُلاحَظ أن العبارة التي تقولها تصف بها شيئًا أو تعبِّر بها عن فكرة، إنما يتوقف قَول السامع لها على اعتقاده في صدقها، سواء أكان في ذلك مخطئًا أم مصيبًا. أما الفروض التي تنطوي عليها العبارة، أعني تلك الفروض المتضمنة التي لولاها لَما أمكن قول العبارة، فليست هي مما يُعْتمد في قبوله على كَوْنه صادقًا؛ لأنه لو خضع «الفرض» إلى مقاييس الصدق والكذب، لما كان «فرضًا»، بل عبارة تصف هي الأخرى شيئًا أو تعبِّر عن فكرة.

إن قولي: «(١) لو كان عندي عشرة آلاف جنيه، (٢) كنت أغنى فرد في أسرتي.» مؤلَّف من جزأين: (١) فرض. (٢) حقيقة تترتَّب على الفرض. فها هنا يجوز لك أن تصف الجزء الثاني من العبارة بأنه صادق أو بأنه كاذب، بناءً على الحالة الواقعة فيما يختص بالثروة التي يملكها كل من أفراد أسرتي. أما الجزء الأول من العبارة، وهو الفرض: «لو كان عندي …» فليس هو بمتوقِّف في قبوله على شيء من حالات الواقع، وبالتالي لا يكون متوقِّفًا في قبوله على صدقه.

غير أن الفرض المتضمَّن في العبارة التقريرية التي أصف بها شيئًا، هو بدوره قد يكون متضمنًا لفرض سابق عليه — وعندئذٍ يكون فرضًا نسبيًّا؛ أي إنه يكون فرضًا بالنسبة للعبارة المترتبة عليه، لكنه يكون قضية تقريرية بالنسبة للفرض السابق عليه — أو قد يكون فرضًا نهائيًّا لا يتضمن وراءه أي افتراض أسْبَق منه، وعندئذٍ يكون فرضًا مطلقًا؛ أي إن هناك أقوالًا كثيرة واعتقادات كثيرة متوقِّفة عليه، أما هو فمفروض بذاته من غير استناد إلى فرض أعم منه.

بعبارة أخرى، إذا أمكن أن تسأل سؤالًا عن الفرض المتضمَّن، كان ذلك دليلًا على أنه فرض نسبي، معتمد على فروض أسْبَق منه، إذ لولا أسبقية تلك الفروض الأخرى لما أمكن إلقاء السؤال، وأما إذا رأيت استحالة أن يسأل عن الفرض المتضمَّن، فاعلم أنه إذن لا بد أن يكون فرضًا مطلقًا لا يسبقه فرض آخر.

لو قال قائل، مثلًا: حُمَّى هذا المريض سببها الذباب، فإن قوله يتضمن اعتقادًا سابقًا هو أن لهذه الظاهرة المعيَّنة سببًا، فلو سألته: وما الذي أدراك أن لهذه الظاهرة سببًا بحيث رُحْت تبحث عنه؟ فقد يجيبك بقوله: لأن لكل شيء سببًا، عندئذٍ يكون المتكلم قد وصل إلى الفرض المطلق في تفكيره في هذه الناحية التي نتحدث عنها، بدليل أنك لو عُدْت فسألته: وكيف عرفت أن لكل شيء سببًا؟ أخذه الغضب أو أخذته الحيرة؛ لأنه يرى الأمر عندئذٍ لا يحتمل سؤالًا؛ أي إنه فرض مطلق لا يتوقَّف على فرض سابق عليه.

والنقطة الهامة التي نريد إبرازها هنا، هي أن الفروض المطلقة لا يُسْأل عنها، لا لأننا نحاول السؤال فلا نجد الجواب، بل لأنه تناقض منطقي أن نقول عن القول: إنه افتراض مطلق، ثم نظن في الوقت نفسه أنه قابل للتعليل بما هو أعم منه وأشمل، ومما هو جدير بالذِّكر في هذا الصدد أن الناس يثير منهم الغيظ الشديد أن تسألهم أي سؤال عن فروضهم المطلقة، فمثلًا هنالك فرض مطلق تنبني عليه أحكام كثيرة، وهو افتراض أسبقية الله على مخلوقاته، فها هنا لو سألت: وكيف عرفت أن الله غير مسبوق بشيء آخر؟ غضب منك المسئول؛ لأنه يحس أن سؤالك غير ذي موضوع، إذ هو مُنْصَبٌّ على ما لا يحتمل السؤال، وهو لا يحتمل السؤال لأنه فرض مطلق بالنسبة إليه.

فإذا صَدَقْنا فيما نرمي إلى تقريره في هذا الكتاب، وهو أن الفلسفة مهمتها التحليل، كان الكشف عن الفروض السابقة المطلقة التي ينطوي عليها تفكير الناس في عصر من العصور، هو الواجب الأول للفيلسوف، فلن نَمَلَّ من تكرار ما قلناه، وهو أن الفيلسوف ليس من شأنه أن يقرر الحقائق عن العالم أو أي جزء منه؛ لأن ذلك من شأن العلماء وحدهم، كل عالِم في المجال الذي اختصَّ في بحثه، وإنما ينحصر عمل الفيلسوف في تحليل ما يقوله العلماء من قضايا، تحليلًا يبرز تكوينها وعناصرها، ثم يُظهر ما استبطن في جوفها من فروض سابقة متضمنة، ولعل سقراط أن يكون أول مَن استحق اسم الفيلسوف في تاريخ الفِكْر، إذ هو أول مَن اضطلع بمثل هذا التحليل على نحو صريح، فجعل مهمته أن يأخذ من الناس أقوالهم وأحكامهم — وبخاصة في مسائل الأخلاق — ليمضي في تحليلها، صاعدًا من القول إلى الفرض المتضمَّن فيه، ومن هذا الفرض إلى ما قبله، وهكذا حتى يصل بمَن يحاورهم إلى مرحلة فروضهم المطلقة، فإذا ما سألهم عن الفروض المطلقة؛ أخذهم الغضب، فقد أسلفنا لك في الفقرة السابقة أن الإنسان كثيرًا ما يغضبه أن تضع له فروضه المطلقة موضع السؤال والبحث، ولعل معاصريه حين اتهموه بأنه «مفسد للشباب»، كان ذلك أخص ما يقصدون إليه من المعاني، وهو أنه يبيح لنفسه أن يضع الفروض الأولية المقبولة عند الناس في غير حاجة إلى جدل أو نقاش، يضعها موضع البحث، فيشكك الشبان فيما لا يجوز لهم أن يتشكَّكوا فيه.

إن الإنسان في تفكيره العابر — أعني حين لا يأخذ نفسه بصرامة المنهج العلمي — لا يكاد يدرك أن ما يقوله من عبارات تبدو عليها البساطة منطويةٌ على فروض سابقة، فعند التفكير العابر لا تكون عبارة مثل قولنا: «الساعة تدل على الزمن» منطوية على شيء غير معناها هذا البسيط الظاهر، مع أنها — كما أسلفنا لك منذ حين — تنطوي على سؤال هو: «لماذا صُنِعَت الساعة؟» وهذا السؤال بدوره ينطوي على فرض أسْبَق منه هو «أن لبعض الأشياء غايات مقصودة»، وهذا بدوره يتضمن اعتقادًا أسبق، هو أن العالم ليس قوامه المصادفات … وهكذا.

أقول: إن التفكير العابر، يأخذ أمثال هذه العبارات على أنها مكتفية بذاتها قائمة بنفسها، وليس وراءها من شيء آخر، وأما إذا أراد المفكر أن يمعن في تحليل أفكاره — والتحليل شرط جوهري للتفكير العلمي — فإنه لا بد أن يتعقَّب الفكرة إلى أصولها السابقة، حتى ينفُضَ كل فحواها وينثر كل مكنونها، فيأمن بعد ذلك أن يقع في خطأ.

إنه يستحيل على الإنسان أن يكون صاحب تفكير علمي، إلا إذا أخذ نفسه أخذًا شديدًا في ترتيب الأسئلة التي يلقيها في موضوع بحثه، فَلَأن تعرف أي سؤال تلقيه في مجال بحثك، وكيف يكون ترتيب أسئلتك، هو في الحقيقة معرفتك لخطوات السَّيْر المنتج المستقيم.

ومن وسائل التدريب على مثل هذا المنهج العلمي، أن تعتاد حلَّ الجملة إلى ما تنطوي عليه من أسئلة وفروض؛ فذلك بمثابة فَكِّ الخيوط المعقَّدة في حزمة متشابكة، ثم ترتيب تلك الخيوط خيطًا خيطًا، فعندئذٍ يُتاح لك أن تعرف عناصر المشكلة التي أنت بصددها معرفة علمية مستنيرة. وفي كتب المنطق مغالطة مشهورة، هي مغالطة إدماج جملة أسئلة في سؤال واحد، تضليلًا للشخص المسئول، والمثل الذي تسوقه معظم الكتب المنطقية لهذه المغالطة، هو أن يسأل سائل: «هل أقلعت عن ضرب زوجتك؟» هذا سؤال واحد من وجهة نظر النحو واللغة، لكنه جملة أسئلة عند المنطق، فيمكن تحليله إلى الأسئلة الآتية: (١) هل لك زوجة؟ (٢) وهل تعوَّدت ضربها؟ (٣) وهل فكرت في الإقلاع عن ضربها؟ (٤) وهل بدأت في تنفيذ ما اعتزمتَ عليه بفِكْرك؟

والتحليل وحده لا يكفي، بل لا بد من ترتيب العناصر؛ لأن سؤالًا من الأسئلة قد يتوقف على السؤال السابق، ففي هذا المثل لا يجوز السؤال عن الإقلاع عن ضرب الزوجة، إلا إذا سبقه سؤال عما إذا كان هناك عادة ضربها، وهذا بدوره لا يجوز إلقاؤه إلا إذا سبقه سؤال عن وجود زوجة لدى الشخص المسئول.

هذا المثل الساذج، هو في الحقيقة صورة مُصغَّرة بسيطة للتفكير العلمي المنهجي، فالتفكير العلمي هو تفكير مرتب، والترتيب معناه أن تضع عناصر المشكلة في وضعها المنطقي سابقًا فلاحقًا، ولا يتيسر ذلك بغير إخراج جميع العناصر الكامنة في المشكلة التي نكون بصدد بحثها لكي نضع الخطوة المفترضة قبل الخطوة التي تنبني على افتراضها.

ولو استطعنا أن نحلِّل أفكار شخص كما هي مبسوطة في عباراته، أو أفكار عصر كما هي قائمة في إنتاجه من مؤلَّفات وما إليها، بحيث نبرز الفروض الأولى التي يقوم عليها البناء كله، كُنَّا بذلك فلاسفة بالمعنى الذي نريد تقريره لكلمة «فيلسوف»، وإذا قبلنا هذا المعنى للفلسفة، ثم إذا جعلنا «الميتافيزيقا» هي مثل هذا التحليل الذي يُخرج الفروض السابقة المنبثَّة في التفكير العلمي، كانت «الميتافيزيقا» عملًا مقبولًا من وجهة نظرنا، إذ «الميتافيزيقا» بالمعنى المرفوض هي تلك المحاولات التي يحاول بها أصحابها أن ينبئوا بأحكام إيجابية عن أشياء غير محسوسة.

ولما كان «عمانويل كَانْت» قد جعل مهمته الأولى أن يحلِّل قضايا العلم مثل هذا التحليل الذي أشرنا إليه، كنا نَعُدُّه في طليعة فلاسفة التحليل، وجدير بنا أن نلقي بعض الأضواء على ما أخذ «كَانْت» على نفسه أن يؤدِّيه؛ ليزداد هذا القول وضوحًا في ذهن القارئ.

٢

كان الشائع منذ «ديكارت» أن العلوم ثلاثة، هي: الرياضة وعلم الطبيعة والميتافيزيقا، واستعرض «كَانْت» موقف هذه العلوم الثلاثة واختبر صلابة الأُسُس التي تقوم عليها، فانتهى إلى نتيجة أيقن بصدقها، وهي أن الرياضة وعلم الطبيعة كِلَيهما يقومان على أُسُس صحيحة؛ ولذلك تقدَّما، وأما الميتافيزيقا فهي وحدها التي يقوم بناؤها على أساس واهٍ متهافت ضعيف؛ ولذلك رآها متعثِّرة الخُطى، فجعل مهمته أن يحلِّل الأُسُس التي قامت عليها الرياضة وعلم الطبيعة، لعله يهتدي على ضوئها إلى الأساس الذي يمكن أن تقوم عليه الميتافيزيقا فتتقدم بمثل ما تقدَّما.

وجد «كَانْت» أن الرياضة قامت على أساس متين منذ أيام اليونان، وأن علم الطبيعة كذلك قد قام على أساس سليم منذ جاليليو في عهد النهضة الأوروبية، فماذا صنع اليونان للرياضة؟ وماذا صنع جاليليو لعلم الطبيعة؟ لعلنا نستطيع أن نصطنع للميتافيزيقا مثل ما صنع هنا أو هناك، فتستقيم لها الطريق كما استقامت طريق الرياضة والعلوم الطبيعية.

أما الرياضة فقد كشف اليونان لها عن طريق التقدُّم العلمي، حين عالجوا مشكلاتها لا على أساس أنها مسائل جزئية عملية تصادف الإنسان في حياته اليومية، بل عالجوها على أساس فروض افترضوها، ثم حاولوا أن يستنبطوا منها كل ما يمكن استنباطه من نظريات ونتائج، فليس علم الهندسة — مثلًا — هو أن أرسم مثلثًا وأقيس أبعاد أضلاعه وانفراج زواياه، بل هو افتراض مسلَّمات أولية، ثم استنتاج بناء نظري يتولَّد بالضرورة عن تلك المسلَّمات، فانظر إلى كتاب إقليدس، تجده قد بدأ الكتاب ببديهيات ومصادرات مسلَّم بها وتعريفات يشترطها لبعض ألفاظ هامة في علم الهندسة، كالنقطة والخط والسطح، ثم أخذ بعد ذلك يستنتج النظريات التي تلزم عن تلك المقدمات المفروضة، إن الهندسة لا تكون علمًا حين نقول لأنفسنا: هذه قطعة أرض مثلثة الشكل، فهلمَّ نَقِس أبعادها، بل تكون الهندسة علمًا حين نبدأ بفرض قائلين: افرض أن أ ب ﺟ مثلث، وافرض أن أ ب = أ ﺟ، فماذا يترتب على هذا الفرض وذاك من نتائج؟ وبكلمة مختصرة نقول: إن اليونان قد جعلوا الرياضة علمًا قائمًا على أساس صحيح، حين جعلوها بناءً قائمًا على فروض، فيفرضون الفروض أولًا، ثم يسألون أسئلة محاولين الإجابة عنها على أساس تلك الفروض.

وذلك بعينه ما وجده «جاليليو» في علم الطبيعة حين أراد أن يُرسي قواعده على أرض صلبة، إذ وجد أن طريق التقدم العلمي في هذا الميدان أيضًا، هو في فرض الفروض ثم في التفكير في التجارب التي تثبتها، وليس تقدم العلوم الطبيعية مرهونًا بمشاهدات جزئية ثم البحث عما تدل عليه تلك المشاهدات.

والسمة المشتركة بين موقف اليونان إزاء الرياضة وموقف جاليليو إزاء علم الطبيعة، هي أن كِلَيهما لم يحاول بناء العلم بادئًا تدليله من مشاهدة الأشياء الجزئية التي تمر عابرة في الحياة اليومية، بل راح يسأل الأسئلة بناءً على فروض يفرضها، ثم يحاول الإجابة عنها، فكأنما العلم هو في صميمه أسئلة يُجاب عنها، وفي ذلك قال «بيكن» بحق عن علم الطبيعة: إنه استجواب للطبيعة، فالعالم يفرض لنفسه فرضًا، ثم يلقي على الطبيعة سؤالًا تِلْو سؤال؛ ليرغمها على الإجابة له إن كان فرضه ذاك صوابًا أو لم يكن، وليست مهمة العالم عنده هي أن يقف إزاء الطبيعة موقفًا سلبيًّا، يشاهد ما يفرضه عليه، ويسجله وهو قانع به، وقد اعترف «كَانْت» بما هو مدين به ﻟ «بيكن» في هذا الاتجاه، بل اتخذ عبارة مقتبسة من بيكن شعارًا لكتابه في «النقد».٣

فالذي أراد «كَانْت» أن يدعو إليه، هو أن طريق التقدم للميتافيزيقا مرهون كذلك — كما هي الحال في الرياضة والعلوم الطبيعية — بأن يعرف الميتافيزيقي كيف يفترض لنفسه الفروض، ثم كيف يلقي الأسئلة على أساس تلك الفروض بطريقة مُنظَّمة منسقة، بدل أن يمضي في حِجَاج أعمى انتظارًا لما قد يؤدِّي هذا الحِجَاج إليه من نتائج.

ونعيد هذا الذي قلناه، بعبارة «كَانْت» نفسه كما وردت في مقدمته للطبعة الثانية من كتابه «نقد العقل الخالص»،٤ يقول «كَانْت»:
«في الرياضة وعلم الطبيعة — وهما العلمان اللذان يقدِّم العقل فيهما معرفة نظرية — يتعيَّن الهدف قبل المُضِيِّ في طريق البحث، فالرياضة تفعل ذلك معتمدة على العقل الخالص، وأما علم الطبيعة فلا بد له — إلى حد ما على الأقل — أن يُعوِّل على مصادر أخرى للمعرفة غير العقل.»٥
«بدأت الرياضة سَيْرها على الطريق القويمة للعلم، منذ أقدم العصور التي يمكن الرجوع إليها بتاريخ العقل البشري، وأعني به العصر الذي عاش فيه ذلك الشعب العجيب، شعب اليونان، ولا ينبغي لظانٍّ أن يظن بأن الأمر [كان هَيِّنًا ميسورًا] … إذ لم يكن من اليسير على الرياضة أن تهتدي إلى طريق العلم، أو قُلْ: إنه لم يكن من اليسير عليها أن تشقَّ لنفسها طريقها السلطاني المستقيم، بل الأمر على نقيض ذلك، فعقيدتي هي أن الرياضة قد لبثت أمدًا طويلًا — وبخاصة عند المصريين — في مرحلة التَّحسُّس، ولا بد أن يكون التحول في طريقها [من طريق التحسس إلى الطريق العلمي] قد جاء نتيجة لانقلاب أحدثته فكرة مواتية طرأت لواحد من الناس، فاصطنع لها تجربة بعينها، فكان هذا [أي ورود الفكرة أولًا واصطناع التجربة لها ثانيًا] هو العلامة التي مَيَّزت الطريق الذي لا بد للعلم أن يبدأ السير فيه … إن التاريخ لم يحفظ لنا الوقت الذي حدثت فيه هذه الثورة العقلية — وهي أهم بكثير جدًّا من كشف الطريق حول رأس الرجاء الصالح — كذلك لم يحفظ لنا التاريخ مَن هو صاحب هذه الثورة الموفَّق … فلقد لمع شعاع جديد من الضوء على عقل الرائد الأول (وليكن هذا الرائد طاليس أو غيره) الذي أقام البرهان على خصائص المثلث المتساوي الساقَين.»٦

فالطريقة الصحيحة التي التمسها ذلك الرائد الأول في البرهان الرياضي، لم تكن في أن يرسم مثلثًا أمامه، ثم يبحث في خصائصه التي يراها بعينيه، بل هي أن تَرِد على عقله فكرة بالنسبة إلى هذا المثلث، ثم يسأل نفسه الأسئلة عما يترتَّب على هذه الفكرة من نتائج، على فرض أنها فكرة صحيحة، وبعدئذٍ إذا ما رسم مثلثًا أمامه ليُثبت عليه ما قد رآه بعقله بادئ ذي بدء، فلا يكون هذا المثلث المرسوم إلا بمثابة جزئية تمثِّل الفكرة التي سبقت إلى ذهنه.

«ولبث العلم الطبيعي أمدًا أطول بكثير جدًّا [مما لبثته الرياضة] حتى بدأ سَيْره في الطريق السويَّة للعلم، فالحق أن العلم الطبيعي لم يقضِ في هذه الطريق العلمية إلا قرنًا ونصف قرن، وكان ذلك منذ بيكن، إذ اهتدى إلى هذا الكشف بفضل آرائه الفذَّة … ففي حالة العلم الطبيعي أيضًا، يمكن تفسير الكشف الجديد بأنه النتيجة المباغتة لثورة عقلية …

إن جاليليو حين أقام التجربة لكرات كان قد سبق له تصميم أوزانها، بحيث تتدحرج هابطة على سطح منحدر، وإن «تورشلي» حين جعل الهواء يحمل ثِقَلًا، كان قد حسب مقداره بفكرة سابقة، وهو أن يكون الثِّقَل مساويًا لوزن عمود معيَّن من الماء … عندئذٍ أشرق شعاع من الضوء على دارسي الطبيعة، إذ علموا أن العقل لا يدرك في الأشياء إلا ما أنتجه هو وفق خطة من وضعه … فلا بد للعقل أن يشقَّ هو الطريق أولًا بمبادئ يقيِّمها … ثم يضطر الطبيعة بعد ذلك اضطرارًا أن تجيب له عن أسئلة صاغها العقل نفسه، فالملاحظات العابرة التي لا تتم وفق خطة سابقة مُدبَّرة، يستحيل أن تنتهي إلى قانون ضروري، فالقانون الضروري [أي الذي تكون صحته مؤكَّدة يقينية] لا يكشف عنه إلا العقل وحده.»

«أما الميتافيزيقا؛ فلم يواتها الحظ السعيد بعدُ لتبدأ سَيْرها في طريق العلم المأمون … فترى الباحثين في الميتافيزيقا أبعد ما يكونون عما يشبه إجماع الرأي، مما يجعل الميتافيزيقا توشك أن تكون ميدانًا للقتال، ولم ينجح أحد من المتقاتلين في كسب شبر واحد من الأرض، وهذا يدل — بغير شك — على أن الطريقة التي اتبعتها الميتافيزيقا إلى الآن، قد كانت مجرد خبط عشوائي، فما الذي اعترض سبيل الباحثين دون الكشف عن الطريق العلمي القويم في هذا الميدان [ميدان الميتافيزيقا]؟ أيكون هذا الطريق مستحيلًا كشفه على الإنسان؟ أم أَنَّا أخفَقْنا حتى الآن، ولكن هنالك من الدلائل ما يبرِّر لنا الأمل في أننا إذا بذلنا جهدًا جديدًا، فربما كُنَّا أحسن حظًّا من أسلافنا في ذلك؟»٧

٣

بهذا الأمل كتب «كَانْت» كتابه في «نقد العقل»، إذ أراد به أن يمهد السبيل إلى ميتافيزيقا تقوم في المستقبل خالية من أوزار الماضي وأخطائه، إنه لم يُرِد بكتابه في «نقد العقل» أن يقدِّم تفكيرًا ميتافيزيقيًّا إيجابيًّا، بل أراد أن يتخذ منه أداة تعينه على كشف الطريق السَّوِيِّ للبحث الميتافيزيقي المنتج، وهذا البحث الميتافيزيقي — كما قال في المقدمة — إنما يدور حول موضوعات ثلاثة؛ هي: الله والحرية والخلود.

لقد بدأ «كَانْت» عمله هذا بوعد قطعه على نفسه، وهو أن يترك الموضوعات الميتافيزيقية جانبًا — وهي عنده البحث في الله والحرية والخلود — حتى يفرغ من تحليله لبناء العلم الرياضي وبناء العلم الطبيعي، وبعدئذٍ يعود إلى البحث الميتافيزيقي؛ ليُقِيمه على نفس الأُسُس التي رآها في ذَيْنك العلمَين، لكنه فرغ من «نقده» للرياضة وعلم الطبيعة، ثم لم يتم ما كان قد وعد به من تشييد بناء الميتافيزيقا على غرارهما، ولما سُئِل في ذلك، قال: إنه وجد أن «النقد» هو نفسه الميتافيزيقا التي أرادها،٨ وهذا هو عندي بيت القصيد.
قام «كَانْت» بتحليل لقضايا الرياضة وقضايا العلوم الطبيعية ظنًّا منه — في بداية الأمر — أنها ستهديه إلى طريقة التفكير السديد في القضايا الميتافيزيقية، فتراه يقول في مقدمة كتابه «نقد العقل»: إن «محاولة تغيير طريقة البحث في الميتافيزيقا حتى تكون على غرار الهندسة والطبيعة، هي الغرض الرئيسي من هذا الكتاب.»٩

لكنه لا ينتهي من بحثه ذاك إلا وقد أدرك أن التحليل للقضايا العلمية في الرياضة والطبيعة هي كل ما يرجوه الفيلسوف لنفسه، ولا شيء غير ذاك، فإن كان للميتافيزيقا معنًى، فهي تحليل القضايا العلمية.

ومن حُسْن الطالع أن «كَانْت» كان رجلًا شديد الاهتمام بالتفصيلات فيما يتعرض له من أمور، فلما قرَّر لنفسه أنه لا قيام لعلم إلا إذا أُلْقِيَت أسئلة معينة، وأن الطريقة العلمية الدقيقة هي نفسها المهارة في إلقاء الأسئلة، ولما قرَّر لنفسه أن إلقاء الأسئلة يتضمن دائمًا فروضًا، ولما رأى أن الرياضة وعلم الطبيعة قد أصابا تقدُّمًا حين عرفا كيف ينظِّمان إلقاء الأسئلة على أساس الفروض التي يفرضها أصحاب هذا العلم أو ذاك، أقول: إنه من حُسْن الطالع أن «كَانْت» حين رأى هذا كله في علم الرياضة وعلم الطبيعة، لم يكتفِ بمثل هذا التعميم في القول، بل راح يفصِّل القول تفصيلًا شديدًا في الرياضة وعلم الطبيعة، حتى استغرق كتابه كله، وحتى ظنَّ الناس أنه قد نسي موضوعه الأصلي، وهو التماس الطريقة القويمة للبحث الميتافيزيقي المنتج، راح فيلسوفنا يبحث بحثًا تفصيليًّا في الفروض الكائنة وراء البناء الرياضي والفروض الكائنة وراء بناء العلم الطبيعي، راح يحلِّل القضية الرياضية والقضية الطبيعية تحليلًا تفصيليًّا دقيقًا ليتعقبها حتى الأساس الذي تقوم عليه هذه القضية أو تلك، ولما سُئِل آخر الأمر: وأين الميتافيزيقا في هذا العمل كله؟ أجاب: إنها في هذا التحليل نفسه.

ومما هو جدير بالملاحظة أن «كَانْت» قد اختصر القول في تحليله لقضايا الرياضة؛ لأنه لم يكن من علماء الرياضة، أما علم الطبيعة فقد كان مادة اختصاصه إذ كان عالمًا في الطبيعة من الطراز الأول في عصره، واشتغل بتدريسها مدة طويلة؛ ولذلك تراه قد أفاض القول في تحليله للقضية الطبيعية إفاضة لا تدع زيادة لمستزيد؛ لأنه ها هنا كان يجول في ميدانه الذي يألف كل شيء فيه، ما ظهر منه وما خفي على العين العابرة.

أطلق «كَانْت» اسم «التحليل النقدي»١٠ على بحثه الخاص بتحليل قضايا العلم الطبيعي، وردَّها إلى الفروض الكائنة وراءها، وأعيد القول مرة أخرى لأهميته، فأذكر أن «كَانْت» حين أجرى هذا البحث التحليلي في قضايا العلم الطبيعي، لم يقصد به إلى أن يكون بحثًا ميتافيزيقيًّا، بل أراد به أن يكون مفتاحًا للميتافيزيقا، أو منوالًا ينسج عليه مَن أراد البحث في الميتافيزيقا، لكنه عاد آخر الأمر فغيَّر وجهة نظره، إذ جعل هذا البحث النقدي نفسه هو بعينه البحث الميتافيزيقي الذي كان ينشده.١١

ولكن ماذا نقول في الموضوعات الثلاثة التي كان قد جعلها عند بداية حديثه، موضوع البحث الميتافيزيقي بصفة خاصة، وأعني بها: الله والحرية والخلود؟ هل يجوز القول فيها أو لا يجوز؟

يجيب «كَانْت» على ذلك بأنها موضوعات يستحيل أن يستغني الإنسان عن الحديث فيها، لكنها خارجة عن حدود العقل النظري ومستطاعه، فإذا نحن جعلناها موضع بحث نظري عقلي علمي، وقعنا في متناقضات … يقول كانْت في مُستهَلِّ كتابه «نقد العقل الخالص» (في الطبعة الثانية) ما يأتي:
كُتِبَ على العقل الإنساني أن يتسم بهذه السِّمَة المميزة، وهي أنه — في جانب من جوانب علمه — مُثْقَل بأسئلة، ومحتوم عليه بحكم طبيعته نفسها ألا يهملها، لكنه في الوقت نفسه لا يستطيع الإجابة عنها؛ لأنها تجاوز حدود قدراته كلها،١٢ وإذا اضطر العقل إلى الرجوع إلى مبادئ تجاوز حدوده، فهو بذلك «يُطوِّح بنفسه في الظلام والمتناقضات.»١٣

فكأنما يريد «كَانْت» أن يقول: إن الحديث في الموضوعات الميتافيزيقية بهذا المعنى الخاص؛ وهي: الله والحرية والخلود، ممكن، لكن إمكانه لا يكون عن طريق العقل النظري؛ لأن هذا العقل النظري له حدود لا يستطيع مجاوزتها بغير أن «يطوِّح بنفسه في الظلام والمتناقضات»، وها هنا تختلف الوضعية المنطقية عن «كَانْت»؛ لأنه في رأي هذا المذهب الوضعي المنطقي أن الحديث في هذه الأمور وأمثالها غير مشروع بتاتًا، ما دمنا نريد بالحديث أن يكون منطقيًّا، أي قابلًا لأن يوصف بأنه صادق أو كاذب، فإذا كان «كَانْت» قد سبق إلى القول باستحالة الميتافيزيقا على العقل النظري، فقد بنى تلك الاستحالة على أساس غير الأساس الذي ترفضها عليه الوضعية المنطقية، فبينما الوضعية المنطقية ترفضها على أساس أن عبارتها ليست من الكلام المفهوم عند المنطق ومعاييره، نرى «كَانْت» يرفضها على أساس أن العقل البشري بحكم طبيعته لا يستطيع الحكم إلا على ظواهر الأشياء، وأنه إذا ما غامر في مجال «الأشياء في ذاتها» وقع في المتناقضات، وعلى ذلك فاستحالة المعرفة الميتافيزيقية عنده حقيقة نفسية، وليست هي بالاستحالة المنطقية كما يرى المذهب الوضعي المنطقي. هي عند «كَانْت» حقيقة نفسية بمعنى أنه لو كان الإنسان على غير ما هو عليه في إدراكه للأشياء، لأمكن ألا تكون المعرفة الميتافيزيقية مستحيلة، هي مستحيلة الآن لأن العقل الإنساني لم يُخْلَق لإدراكها، كما لم تُخْلَق العين لسماع الأصوات، أما أصحاب المذهب الوضعي المنطقي فيبنون استحالة الميتافيزيقا على أساس أن أقوالها فارغة من المعنى بحكم ما اتفقنا عليه في طرائق استعمال اللغة، إنها أقوال لا تصف شيئًا هنا أو هناك، بحيث يجوز لنا أن نسأل: أيمكن حقًّا أن يدرك الإنسان هذا الشيء أم أن إدراكه مستحيل عليه.

ونحب بعد هذا الاستطراد أن نجمع شَتَات القول، فنلخص ما أسلفناه في هذه الفقرة من حديثنا فيما يأتي: يمكنك أن تجعل للميتافيزيقا عند «كَانْت» معنيين، وهي عنده مستحيلة بأحد هذين المعنيين، لكنها ممكنة بالمعنى الآخر، هي مستحيلة على العقل النظري العلمي إذا أريدَ بها البحث فيما هو فوق متناول التجربة البشرية، وهي ممكنة إذا أريدَ بها تحليل القضايا العلمية تحليلًا ينتهي بنا إلى إبراز الفروض التي تستند إليها تلك القضايا.

وقد بدأ «كَانْت» بالاعتراف بمعنًى واحد لها، وهو المعنى الأول، إذ كانت لفظة «الميتافيزيقا» عنده بادئ ذي بدء تعني «مجموعة الأحكام الفلسفية كلها فيما عدا الأحكام المنطقية، وذلك بعبارة أخرى معناه: كل الأحكام التي لا تنبني على الحدس التجريبي أو الحدس الرياضي»،١٤ لكنه بعد خوضه في تحليل الأحكام العلمية — رياضية وطبيعية — انتهى إلى المعنى الثاني، فأصبحت الميتافيزيقا بمعناها المُجدي من الناحية العلمية، هي مجرد تحليل القضايا العلمية.

فموقفنا إزاء «كَانْت» هو رفض للمعنى الأول، لا على أساس أن الميتافيزيقا عندئذٍ تكون فوق مستطاع العقل الإنساني، بل على أساس أن أقوالها تكون فارغة من المعنى وتأباها قواعد تكوين اللغة ذاتها، وقبول للمعنى الثاني، فإن كانت كلمة «ميتافيزيقا» معناها «تحليل القضايا العلمية» كان موضوعها هو الذي قَبِلْنَا أن يكون عمل الفيلسوف، وسنبين فيما يلي طريقة «كَانْت» النقدية، أي طريقته في التحليل.

٤

تبدأ الطريقة النقدية بالاعتراف بأن لدى الإنسان مُتفرِّقات من المعرفة، فأنا أعلم مثلًا أن هذا الجدار أبيض، وأن ٥ + ٧ = ١٢، وأن جسمي له امتداد محدود في المكان … وهكذا، إنها لا تريد أن تتشكَّك في صدق ما نعلمه عن الدنيا الخارجية، فليس البحث في صِدْق العلم أو كذبه من شأنها، بل هي تبدأ — كما قلنا — بقبول هذه الحقيقة الواقعة، وهي أن الناس يعلمون كذا وكيت من القضايا عن دنياهم الخارجية، فما هي الشروط الأولية التي أتاحت للإنسان أن يعلم ما يعلمه؟ بعبارة أخرى: تستطيع أن تقول إن القضية تنقسم إلى نوعَين: قضية ابتدائية وقضية ثانوية، الأولى هي القضية التي تُصوِّر واقعة من وقائع العالم الخارجي، كقولنا: «الغربان سوداء.» والثانية هي القضية التي تُقرِّر علم الناس بقضية ابتدائية، كقولنا: «الناس يعلمون أن الغربان سوداء.»١٥ القضية الابتدائية تقابل الحقيقة الخارجية مقابلة مباشرة، وهي تُصوِّرها تصويرًا قد يكون صوابًا وقد يكون خطأً، وأما القضية الثانوية فتشير إلى موقف الإنسان العرفاني إزاء حقيقة معينة، والذي نقوله الآن: هو أن الطريقة النقدية عند «كَانْت» لا تُعْنَى بالنوع الأول من القضايا، بل تُعْنَى بالنوع الثاني، وهي تريد بالتحليل أن تكشف عن الظروف العرفانية الأولية التي أتاحت للإنسان أن يعلم ما يعلمه.
ومعلومات الإنسان — على كثرتها — يمكن حصر مصادرها في مصدرَين، فهي إما جاءت إلى الإنسان خلال التجربة الحسية، وإما أن تكون عنده غير معتمدة على تلك التجربة، أو بعبارة أخرى؛ معلومات الإنسان إما بَعْديَّة أو قَبْليَّة،١٦ وكل من هذين يعود فينقسم قسمَين، فهو إما تحليلي أو تركيبي.١٧
وإذن فمعلومات الإنسان على كثرتها تقع في أقسام أربعة، تمثِّلها أربعة أنواع من القضايا، فالقضية التي نعبِّر بها عن شيء نعلمه، لا تخرج عن أن تكون واحدة مما يلي:
  • (١)

    قضية قبلية تحليلية، مثل قولنا: «الأجسام ممتدَّة.» فهذه معرفة قبلية لا تحتاج إلى خبرة حسية لكسبها؛ لأن كلمة «الأجسام» نفسها لا يمكن فهمها بغير أن نعلم أن «الامتداد» جزء من معناها، فكأنني إذا عرفت كلمة «الأجسام» وحدها وأدركت معناها، فقد عرفت بالتالي أنها «ممتدة»، وإذن فهي معرفة قبلية؛ لأنها لا تعتمد على الخبرة الحسية، وهي تحليلية لأن محمولها لا يضيف شيئًا إلى موضوعها، أعني أننا لا نقول بها شيئًا سوى أن نحلِّل الموضوع تحليلًا يُبرِز بعض عناصر معناه.

  • (٢)

    قضية قبلية تركيبية، مثل قولنا: «كل المعادن تتمدَّد بالحرارة.» فهي أولًا تركيبية بمعنى أن المحمول فيها وهو «يتمدَّد بالحرارة» ليس جزءًا من المعنى الضروري لكلمة «معادن»، فليس يشترط العقل أن تكون المعادن مما يتمدد بالحرارة، وإنما علم الإنسان عنها هذه الصفة بالخبرة والمشاهدة، لكن الإنسان في خبرته تلك ومشاهدته لم يستعرض كل أجزاء المعادن جزءًا جزءًا، بل اكتفي بقليل منها رآه يتمدد بالحرارة، فعمَّم الحكم قائلًا: «كل المعادن تتمدد بالحرارة.» فهو بهذا الحكم العام يحكم على أجزاء من المعادن لم تقع له في خبرته ولم تخضع لمشاهدته، وإذن فعِلْمه عنها قَبْلي غير معتمد على تجربة حسية.

    ومن هذا القبيل تكون قضايا العلوم التجريبية كلها، فهي كلها تعميمات يعلم الإنسان شمولها على أفراد النوع كله، وضرورة صِدْقها على كل هذه الأفراد، على الرغم من أن الباحث لم يستعرض بخبرته إلا جانبًا ضئيلًا من هذه الأفراد، وسترى فيما بعد أن هذا النوع من القضايا — أعني القضايا القبلية التركيبية — هو الذي كان عند «كَانْت» مشكلة المشاكل، حتى تستطيع أن تعدَّ فلسفة «كَانْت» كلها محاولة لتحليل هذا النوع، كي يقوم بناء العلم على أساس مكين، إذ العلم — كما قلنا — قضاياه كلها من هذا القبيل.

  • (٣)

    قضية بعدية تحليلية، كقولي مشيرًا إلى الحائط الذي أمامي «هذا الجدار أبيض.» فأنا في هذه الحالة أتحدث عن جدار جزئي معيَّن أراه رؤية مباشرة وأشير إليه، ويستحيل أن أراه ولا أرى في الوقت نفسه أنه «أبيض»، وإذن فكلمة «أبيض» لا تضيف عِلْمًا جديدًا إلى معرفتي «لهذا الجدار»، إنني ما دمت قد عرفت «هذا الجدار» بأن وجهت انتباهي إليه، فقد عرفت بالتالي صفة البياض فيه، وعلى ذلك فهي قضية تحليلية، أما إنها بعدية فواضح من أنني لا أستطيع أن أعرف «هذا الجدار» إلا بعد خبرة حسية، فلا بد أن أوجِّه إليه بصري لأعرف وجوده ولونه.

  • (٤)

    قضية بعدية تركيبية، كقولي: إن عدد أوراق هذه الزهرة مساوٍ لعدد أوراق تلك الزهرة، المعرفة هنا جاءت من الخبرة الحسية، وإذن فهي بعدية، ثم هي تركيبية؛ لأن معرفتي لعدد أوراق الزهرة الأولى لا تتضمن شيئًا بالنسبة لعدد أوراق الزهرة الثانية، فقد تكون الزهرة الثانية أكثر أو أقل أو مساوية في عدد أوراقها للزهرة الأولى.

هذه أنواع أربعة من القضايا تمثِّل كل ضروب المعرفة عند الناس، وليس فيها ما يثير الإشكال إلا القضية القبلية التركيبية، فلا إشكال في قضية قبلية تحليلية؛ لأني ما دمتُ قد اعترفت أن علمي فيها مستقل عن الخبرة الحسية وغير معتمد عليها، فقد اعترفت بالتالي أنني لم أزد بها على عملية تحليل لبعض معارفي، كذلك لا إشكال في قضية بعدية تركيبية؛ لأني ما دمت قد اكتسبتها من الخبرة الحسية وحدها، فلا بد أن يكون فيها إضافة إلى ما كنت أعلمه، ولا إشكال أيضًا في قضية بعدية تحليلية حين يكون الموضوع فيها فردًا جزئيًّا ندركه بحواسنا إدراكًا مباشرًا، وحين يكون المحمول فيها صفة لا بد أن تظهر في الموضوع بمجرد إدراكه، كلون الجدار في المَثَل الذي أسلفناه.

لكن الإشكال كل الإشكال في القضية القبلية التركيبية؛ لأنها بحكم كَوْنها تركيبية، تكون معتمدة على الخبرة الحسية، إذ هذه الخبرة وحدها هي التي تضيف إلى علمي عِلمًا جديدًا، وتكون أيضًا بحكم كَوْنها تركيبية لا هي بالشاملة ولا هي بالضرورية؛ لأني إذا خبرت بعض أفراد المعادن — مثلًا — ووجدتها تتمدَّد بالحرارة، فهذا «البعض» المُختبَر هو وحده حدود علمي، ولا يجوز لي أن أجاوزه إلى سائر أجزاء المعادن التي لم أخبرها، إذن فالقضية بحكم كونها تركيبية لا تكون شاملة، كذلك لا تكون ضرورية؛ لأنه كان يجوز للخبرة الحسية أن تأتيني من العلم بغير ما أتَتْ به، كأن يجوز مثلًا أن أَخْبُرَ المعادن فلا أجدها تتمدد بالحرارة، فكوني وجدتها تتمدد بالحرارة أمر لا ضرورة فيه من العقل ولا تحتيم، فهكذا وجدتها، وكان يمكن أن أجدها على غير هذه الصورة. أعود فأقول: إن القضية بحكم كونها تركيبية لا هي بالشاملة ولا بالضرورية، لكنها من جهة أخرى بحكم كونها قبلية لا بد أن تدل على الشمول والضرورة، فالقضية العلمية: «كل المعادن تتمدد بالحرارة» لا يقتصر صدقها على جزئيات المعادن التي خبرناها، بل صدقها شامل للمعادن كلها بكل أجزائها، وصدقها ضروري بمعنى أنه يستحيل أن نجد جزءًا من المعدن لا يتمدد بالحرارة،١٨ فمن أين جاء هذا الشمول وجاءت هذه الضرورة للقضايا التركيبية القبلية، وهي بعينها قضايا العلوم؟ وبعبارة أخرى: من أين جاء هذا اليقين لدينا بصدق أحكام العلم؟ هذا هو السؤال الذي حاول «كَانْت» أن يجيب عنه، فانتهج في محاولته هذه طريقته النقدية التي نحن بصدد شرحها.

إننا إذ نقول عن فلسفة «كَانْت»: إنها «نقدية» فإنما نعني بذلك أنها تحليلية، فماذا تحلِّل؟ هي تتناول أحكام الناس الكلية التي يقولونها في العلوم — أو في حياتهم اليومية — محاولة حلَّها إلى عنصرَيها: ما هو مستمَد من التجربة الحسية فيها، وما هو قبلي لم يعتمد على تجربة حسية بل يستند إلى مبادئ عقلية.

وحين نصف فلسفته بأنها «ترانسندنتالية» فإنما نعني أنها تتناول القضية الكلية من هذه القضايا التي يقولها الناس في علومهم وفي حياتهم اليومية، فتوغل في باطنها لتستخرج ما يكون فيها من مبادئ عقلية، أو قل: إنها تحفر تحت البناء التجريبي المتمثِّل في القضية لعلها تصل إلى الأساس الخفي من مبادئ العقل، الذي يقوم عليه هذا البناء، فإذا اصطدمت كرة بأخرى فحرَّكَتها، ثم قلنا: إن الكرة الأولى سبب في حركة الكرة الثانية، كان قولنا هذا معتمدًا على الحِسِّ من جهة، لكنه معتمد على مبدأ عقلي من جهة أخرى هو مبدأ السببية، وطريقة «النقد» هي أن أحاول استخراج هذا المبدأ من وراء الخبرة الحسية.

لاحظ أنني حين أقول قضية علمية مثل «كل المعادن تتمدد بالحرارة.» فكأنني أقول: إن أي جزء من المعدن لا بد أن يتمدَّد بالحرارة، وواضح أنني إن كنت قد شاهدت بحواسي معدنًا، وشاهدت نارًا، وشاهدت المعدن يتمدد على أثر اقترابه من النار، فإني لم أشاهد «لا بد» لم أشاهد «الضرورة»، شاهدت كذا يحدث مرة ومرة، فمن أين جئت بهذه «الضرورة» حين أقول عن الشيء: إنه «لا بد» أن يحدث على هذه الصورة المُعيَّنة في الظروف الفلانية، فإذا بحثت عن المصدر الذي أتاح لي أن أقول «لا بد» أن يحدث كذا وكذا، فأنا أبحث عن «المبدأ العقلي» الذي يجعل من التجربة الحسية المحدودة قانونًا علميًّا واجب النفاذ.

وواضح أنني حين أقول عن شيء: إنه «لا بد» أن يحدث على هذه الصورة أو تلك، فأنا لم أقتصر بهذا على مجرد ذِكْر ضرورة الحدوث، بل أقول ضِمنًا: إنه حكم عام شامل لجميع أفراد النوع الذي أحكم عليه، فقولي عن حادثة معينة إنه ولا بد لها من سبب، مساوٍ لقولي: إن لكل حادثة سببًا، وإذن فالحكم بضرورة الصدق في حالة معينة هو في الوقت نفسه حكم بشموله. وجدير بنا في هذا الموضع أن نفرِّق بين نوعَين من التعميم: أحدهما التعميم الذي يجيء بعد حصر المفردات كلها التي أريد أن أحكم عليها، كقولي مثلًا: إن طلبة قسم الفلسفة بكلية الآداب هذا العام كلهم مصريون، وثانيهما التعميم الذي ينطبق على مفردات غائبة ومجاوزة لحدود المفردات التي وقعت تحت الخبرة، كقولي: «كل المعادن تتمدد بالحرارة.» والتعميم الذي يكون في قضايا العلوم، والذي هو متضمن في كون الحكم ضروريًّا، هو التعميم الذي يكون من النوع الثاني.١٩
«النقد» عند «كَانْت» هو استخراج المبادئ العقلية المشتركة في تكوين أحكامنا العلمية التي فيها شمول وضرورة، في الأخلاق — مثلًا — مهمة الفيلسوف النقدي، ليست هي أن يتناول أحكام الناس الأخلاقية بالتأييد أو بالتفنيد، فإن قال الناس مثلًا: إن طاعة الآباء واجبة على الأبناء، فليست مهمة الفيلسوف الأخلاقي النقدي هي أن يقول: نعم، أصاب الناس في حكمهم هذا، أو كَلَّا فقد أخطأ الناس فيه، بل مهمته منحصرة في تعقُّب هذا «الوجوب» إلى مصادره الأولية، من أين استمد الناس فكرة «الوجوب» هذه؟ إنهم لم يجدوها فيما خبروه بحواسهم من تجارب؛ لأنهم في هذه الخبرة رَأَوْا فلانًا وفلانًا وفلانًا يطيعون آباءهم، ولم يَرَوْا «وجوبًا»، فمن أين جاءهم حين قالوا حكمهم الأخلاقي: «يجب على الأبناء طاعة الآباء؟» ولو كان التعميم هنا من قبيل الإحصاء لما كان إشكال، لكنه التعميم بمعناه الضروري الذي يشمل أفرادًا لم يقعوا في حدود تجاربنا.٢٠

من هنا ترى «الأخلاق» عند «كَانْت» مهمتها البحث عن المبادئ الأولية القَبْلية التي تبرِّر أحكامنا الأخلاقية، أو بعبارة أخرى هي البحث عن المبدأ العقلي الذي يصدر عنه إلزامنا بأداء الواجب لذاته. كلما قلنا: «يجب فعل كذا وكذا.» فما الذي أوجب الواجب؟ لماذا نلتزم بفعل ما نقول عنه: إنه «واجب»؟ وهذا السؤال هو بعينه السؤال: «ما هي المبادئ القبلية الكامنة في أحكامنا الأخلاقية؟» واستخراج الجانب القبلي من أحكامنا هو مهمة «النقد» في فلسفة «كَانْت»، ولا يكون هذا طبعًا بغير تحليل الموقف كله، الذي يكون عليه الإنسان حين يُصدِر حكمًا، فنستخرج الأساس الذي يرتكن إليه في إصدار حكمه.

٥

«نقد العقل» عبارة معناها: «إقامة البرهان على صحة الأحكام العامة الضرورية التي يصدرها الإنسان، وإقامة البرهان هنا تكون بالكشف عن الأُسُس أو المبادئ الأولية التي جعلت تلك الأحكام ممكنة الصدور.»٢١

الطريقة النقدية هي أن نختار من أقوال الناس — في ميدان العلم أو في مجال الحياة اليومية — طائفة من الأحكام التي ليس عليها خلاف، ثم نتعقبها راجعين خطوة خطوة، فنقول — مثلًا: إن هذا الحكم الفلاني يتضمن اعترافًا بكذا، وهذا الاعتراف بدَوْره يتضمن كيت، وهذا بدَوْره يتضمن كذا، حتى نصل إلى المبادئ التي تكمن وراء هذه الأحكام كلها التي اخترناها، فقولي مثلًا: «إنني وجدت الكرة التي ضاعت بالأمس.» يتضمن اعتقادًا عندي بأن الكرة بعينها ظلَّت محتفظة بذاتيتها، وهذا معناه قبول مني لمبدأ ثبات «العنصر» ودوامه، وقولي: «إن سقوط الحجر على رأس الحوذي سبب موته.» يتضمن اعترافًا مني بأن الحوادث ترتبط ارتباطا سببيًّا، وهذا معناه قبول مني لمبدأ السببية وقيامه وإن لم يكن ملحوظًا في خبرة الحواس … وهكذا، فنحن نحلِّل العبارة التي نقولها في موقف معيَّن تحليلًا يضع أعيننا على مبدأ كامن فيها، ثم نجرِّد هذا المبدأ من تطبيقاته الجزئية لنجعله ضروريًّا شاملًا، مهما اختلفت المواقف الجزئية التي يلبسها ملتفًّا بتفصيلاتها وحوادثها.

إننا بهذه العملية التحليلية لا «نبرهن» على المبادئ، بل نكشف عنها، وإنما يكون «البرهان» هنا مُنصَبًّا على العبارة التي نحللها، فنقول: إنها قد تأيدت بالبرهان حين نعثر على المبدأ الذي ترتكن إليه. وما الذي يحملنا على التسليم بهذا المبدأ؟ لا شيء، إلا أننا افترضنا فيه ضرورة التسليم، ومجرد كونه «فرضًا» نفرضه ونزعمه يجعله واجب القبول؛ لأن الفرض لا يُقال فيه: إنه صادق أو كاذب، فإذا قلت مثلًا: «على فرض احتفاظ الأشياء بذاتيتها، فإن هذا المكتب الذي أمامي يكون هو المكتب الذي كان أمامي بالأمس.» فليس من حقك هنا أن تقول عن الفرض شيئًا، ولا أن تطالبني بالبرهنة عليه، لكن من حقك أن ترى هل النتيجة التي رتَّبتها على الفرض تترتب فعلًا عليه أم أني أخطأت استدلال النتيجة من الفرض المزعوم؟

المبادئ الأساسية المنبثة في أحكام الناس ينكشف الغطاء عن وجودها بعملية التحليل، ولا يكون الكشف عنها برهانًا عليها؛ لأن البرهان على شيء يكون بإرجاعه إلى سند، والمبدأ الأساسي لا يستند إلى شيء وراءه، بل هو الذي يقف وراء أحكامنا ليسندها ويؤيدها، فإذا فرضت في علم الهندسة بعض المُسلَّمات ثم استنتجت منها نظريات، فالبرهان لا يكون هنا إلا على النظريات بإرجاعها إلى المُسلَّمات التي تستند إليها وتتفرَّع عنها وتشتق منها، أما المُسلَّمات نفسها فينبغي قبولها؛ لأنها فروض مفروضة لتكون أساسًا لما سيأتي بعدها من استدلالات، ولقد صدق مَن قالوا: إنك لا تستطيع المناقشة مع مَن يخالفك في المبدأ، فهذا صحيح؛ لأن المبدأ الأساسي الذي يكون بمثابة الأم الأولى يتولَّد عنها كل الأفكار بعدئذٍ، أمر يُفْرَض فرضًا، فلو دخلت معي في هذا الفرض كان لك حق مناقشة ما يتولد عنه، لترى هل كان التوليد سليمًا أو فاسدًا، أما إذا رفضت الدخول في الفرض منذ البداية، فقد انقطع بذلك كل وجه للمناقشة والجدل.

إن من حقك أن تشك في قضية معينة، ثم يزول شكك هذا بإرجاع القضية إلى السند الذي يؤيدها، فإن وجدته زال الشك بالحكم بالصدق على القضية، وإن لم تجده زال الشك أيضًا بالحكم بالكذب عليها، وهذا السند نفسه إما نسبي أو مطلق، فهو نسبي إذا كان بدوره مستندًا إلى سند وراءه، وهو مطلق إذا لم يكن وراءه سند، فهو مفروض الصدق بغير برهان، ومثل هذا السند المطلق هو المبدأ العقلي القبلي الذي تحاول الطريقة النقدية أن تلتمسه في الحكم الذي تختاره من كلام الناس لتحلله.

أعود فأقول مرة أخرى: إن المبدأ الأساسي أو الفرض الأولي لا يقوم عليه برهان، بل يُكْشَف عنه الغطاء وكفى، وبِكَشْف الغطاء عنه نضعه في مركز الرؤية فيتضح بعد أن كان ملتفًّا غامضًا، وتوضيح المبادئ الأولية على هذا النحو، هو مهمة الفلسفة الذهنية، وهو تحليل كما ترى.

وها هنا يتضح الفرق بين الفلسفة النقدية من جهة، والفلسفة الاعتقادية أو «الدوجماطيقية» من جهة أخرى، فالفيلسوف الاعتقادي أو الدوجماطيقي، يقرِّر مبادئه أحيانًا على أنها أساسية لا يجوز عليها التحليل أو إقامة البرهان، مع أنها قد تكون مبادئ نسبية، أعني قد يكون وراءها سند تستند إليه، ويحتاج الأمر في توضيحه وإبرازه إلى تحليل، فالذي لا يقبل تحليلًا ولا برهانًا هو المبادئ المطلقة التي لا تستند إلى شيء وراءها، ولا نطمئن إلى أن ما أمامنا هو من هذا القبيل إلا إذا حاولنا التحليل فوجدنا أنه مستحيل لعدم وجود فرض سابق على المبدأ الذي نحلله، يمكننا أن نستند إليه في البرهنة على هذا المبدأ.

والفيلسوف الاعتقادي أو الدوجماطيقي أحيانًا أخرى تراه يحاول إقامة البرهان على ما يعتقد أنه مبدأ أوليٌّ، مثلًا يفرض وجود الله كمبدأ أساسي لتفكيره، ثم يحاول البرهان على ذلك، مع أنه لكي يبرهن لا بد أن يرتد بما يريد البرهنة عليه إلى مبدأ أسبق أوليَّة وآصَل منطقيًّا، وفي هذا تناقض واضح؛ لأن اعترافك عن مبدأ معيَّن بأنه أولي أصيل، هو وحده دال على أنه ليس ثمة ما هو أسبق منه مما يمكن أن نتخذه برهانًا عليه؛ ولذلك فالطريقة النقدية في الفلسفة — دون الدوجماطيقية — هي وحدها التي تحرَّرت من الوقوع في هذا الدَّور؛ لأنها لا تسعى إلى البرهنة على المبادئ الأولى، بل تكتفي بالبحث عنها واستكشافها وإبرازها لإدراكها في تجرُّدها. الطريقة النقدية لا تقيم برهانًا على شيء، بل تجعل مهمتها البحث عن المبادئ التي يسبق الناس إلى افتراضها ليستخدموها في براهينهم.

ولا غرابة بعد هذا أن نرى الفلسفة النقدية والفلسفة الاعتقادية الدوجماطيقية مختلفتَين حتى في وجهة السير؛ فالفيلسوف الدوجماطيقي يبدأ بافتراض مبادئ معينة، ثم يهبط منها إلى أحكامه التي يقولها عن هذا الكون وما فيه، كأنما مبادئه هذه هي المبادئ التي يستحيل أن يبدأ مفكِّر آخر بغيرها، تراه يبدأ مثلًا — مثل ديكارت — بافتراض العقل ومشروعية أحكامه، ثم يرتب على ذلك ما يلزم عنه من نتائج. وأما الفيلسوف النقدي التحليلي فلا يفرض من عنده شيئًا، إنما يقبل ما يُصدِره الناس من أحكام على الأشياء، ثم يتناولها بالتحليل، راجعًا بها إلى مبادئها التي تستند إليها، ليس هو الذي يفرض على الناس مبادئهم هذه؛ أي إنه لا يدَّعي لنفسه دَور المُشرِّع الذي يقرِّر هذا وينفي ذاك، لكنه رجل يحلل للناس أقوالهم ليتبصَّروا ما يكمن وراءها من مبادئ لعلهم لا يكونون على وعي بها ما لم يبرزها لهم التحليل عارية مما حولها من تفصيلات الحياة التجريبية الجارية في حوادث الأيام. الفلسفة الدوجماطيقية تبدأ بفروض تفرضها تعسُّفًا واعتباطًا، وقد تقع في الخطأ الذي أسلفنا الإشارة إليه، وهو أن تحاول إقامة البرهان على تلك الفروض، ناسية أن مجرد التفكير في إقامة البرهان على مبدأ مفروض يسلبه أوَّليته ومشروعيته، وأما الفلسفة النقدية التحليلية فتبدأ من وقائع، والوقائع التي أقصدها هي أحكام الناس الواقعة فعلًا والتي يصدرونها فعلًا في أمور حياتهم.

الفلسفة النقدية — أي التحليلية — تقبل أحكام الناس كما هي في الواقع، لتفحصها وتحللها كي تقرر ماذا تتضمنَّه تلك الأحكام من مبادئ؟ فهي كمَن يحفر بئرًا ليرى أين يكون الماء، فهو لا «يبرهن» على الماء ولكنه يكشف عن وجوده؛ ولهذا ترى الفلسفة النقدية التحليلية لا تختص نفسها بقول دون قول من عبارات الناس، إنها «تحفر» أينما ضربت فأسها، لترى ماذا تستبطنه هذه العبارة أو تلك من مبادئ، فأيَّة عبارة تصلح موضوعًا لبحثها، العبارة التي يقولها عالم الطبيعة أو عالم الرياضة أو التي يقولها الناس في حياتهم اليومية، ولا تجعل الفلسفة النقدية مهمتها معرفة الأشياء الخارجية، فهي لا تتصدى أبدًا لوصف شيء ولا للحكم على شيء، بل تترك ذلك لمَن هم أَوْلَى بالكلام فيه، تترك وصف الأشياء الطبيعية — مثلًا — لعلماء الطبيعة بطرقهم الاستقرائية التجريبية،٢٢ وهي لا تعترك مع هؤلاء العلماء فيما يقولون؛ لأنها لا تعطي لنفسها الحق في أن تقول شيئًا، كلا ولا هي تدَّعي أنها قادرة على إثبات شيء عما هو فوق الطبيعة، فبحثها منصبٌّ على مبادئ المعرفة أيًّا كان نوعها، تلك المبادئ التي تنبثُّ في أقوال الناس وأحكامهم، وتحتاج إلى التحليل الذي يخرجها؛ لهذا كله ترى الفلسفة النقدية لا تتحيز إلى حكم دون حكم، ولا تحصر نفسها في مجال من القول دون مجال، فهي — كما قلنا — في استهلال هذه الفقرة من فقرات بحثنا؛ تقبل المعرفة كما هي قائمة على أنها أمر واقع، لا لتقيم برهانًا على صدقها، بل لتتعقبها بالتحليل راجعة إلى المبادئ الأولية التي تُسنِد كل ما يترتب عليها، وليس وراءها هي من مبادئ تسندها، فهي مفروضة فرضًا مطلقًا، حتى إذا ما انكشفت لنا مجموعة المبادئ التي نراها سندًا لمعارف الناس كما تتبدَّى في أقوالهم، نسَّقنا هذه المبادئ، وكان لنا أن نقول عن مجموعة نسقها: هذه هي نتيجة عملنا الفلسفي.

٦

إذا كانت مهمة الفيلسوف الحقيقية هي تحليل معارف عصره تحليلًا ينتهي به إلى المبادئ الأولية التي إليها تستند تلك المعارف، فإنه بهذه المهمة إنما يقوم بعمل المؤرِّخ الذي يسجِّل لعصره مبادئه، إنه لا يشرِّع لعصره تلك المبادئ، ولا هو يتصدى للحكم على تلك المبادئ بصدق أو كذب، بل هو يحلِّل ليكشف الغطاء عنها لا أكثر ولا أقل، وإذا رأينا فيلسوفًا يتناول هذه المبادئ نفسها بتأييد أو بتفنيد أو بتغيير وتحوير، علمنا أنه قد جاوز بذلك مهمة الفيلسوف كما ينبغي لها أن تكون.

بهذا المعنى التاريخي وحده نقبل «الميتافيزيقا»، وهذا المعنى التاريخي للميتافيزيقا هو الذي نزعم أن «كَانْت» قد أدَّاه بعمله، وإن لم يكن هو الذي قصد إليه عند اعتزامه القيام بذلك العمل.

فالفيلسوف إذا ما انتهى من تحليله للفِكْر في عصره، واستخراجه للفروض المطلقة التي ينطوي عليها ذلك الفِكْر، هو بمثابة مَن يقول: إن هذا العصر المعيَّن يعتقد في هذا المبدأ وهذا وذاك، إن أهل هذا العصر المعيَّن لا يقبلون مناقشة في هذا الفرض وهذا وذاك، هم يبرهنون صدق أقوالهم بالمبدأ الفلاني، أما المبدأ نفسه فهو عندهم فرض مطلق لا يقبل البرهنة عليه، وبالطبع يجوز للفيلسوف أن يحلِّل الفِكْر في أي عصر غير عصره، ويستخرج المبادئ الكامنة في ذلك الفكر، وهو هنا أيضًا يعمل عمل المؤرِّخ الذي يسجِّل عن عصر ما حقيقة معينة بناءً على وثائق، وما الوثائق هنا إلا ما خلَّفه ذلك العصر من مدوَّنات اشتملت على تفكيرهم.

ولنضرب مثلًا بمبدأ السببية٢٣ نوضح به ما نقول:
  • (أ)
    في علم الطبيعة عند «نيوتن» افتراض تنبني عليه أقواله في هذا العلم، وهو أن لبعض الحوادث أسبابًا، وأما بعضها الآخر فبغير أسباب، وهذا النوع الأخير يخضع في حدوثه إلى قوانين، أي إن «نيوتن» يبني كلامه في علم الطبيعة على افتراض سابق، هو أن السببية شيء والقوانين الطبيعية شيء آخر، فإذا تحرَّك جسم حركة خالية من المؤثِّرات الخارجية، منتقلًا في خط مستقيم ومارًّا بالنقط ن١، ن٢، ن٣، ن٤ … فمروره بأيَّة نقطة واقعة على خط مساره في لحظة معينة، يمكن حسابه مُقدَّمًا من سرعته بناءً على «قانون» الحركة، وليس هنا — بناءً على «نيوتن» — سببية على أيَّة صورة من الصور، وإذن فمرور الجسم المتحرك على نقطة ن٣ — مثلًا — حادثة بغير سبب، وإن تكن قد حدثت وفق قانون معلوم، أما إذا غيَّرَ الجسم المتحرك طريق سيره بفعل جسم آخر اصطدم به، فعندئذٍ يكون التحوُّل في مجراه نتيجة لسبب، وعلى هذا النحو يجعل «نيوتن» مبدأ السببية غير شامل لحوادث الطبيعة كلها، وهو يجعل ذلك «مبدأً مفروضًا» ليس مما يقوم عليه برهان.
  • (ب)

    فلما جاء القرن الثامن عشر، غيَّرَ الناس افتراضهم، واستبدلوا به افتراضًا آخر، أو قل: اتخذوا لأنفسهم «مبدأً» آخر في فهم الطبيعة، إذ جعلوا السببية شاملة لحوادث الطبيعة كلها، وأصبح المبدأ عندهم هو أن لكل حادثة سببًا، وها هنا كتب «كَانْت» ما كتبه من فلسفة يحلِّل بها قضايا العلم الطبيعي، فكان أن انتهى من تحليله إلى أن السببية مقولة من المقولات العقلية التي يفهم بها الإنسان كل مُدرَكَاته التجريبية، لا لأن السببية مبدأ عمَّ الطبيعة في كل عصوره، بل لأنه المبدأ المأخوذ به في عصره هو، وكان هذا هو ما ردَّ به على الفيلسوف الإنجليزي «هيوم»، إذ لاحظ «هيوم» أن السببية لا تقع فيما يقع للإنسان من خِبْرة، وإذن فليس يمكن إقامة برهان عليها. إن الإنسان — في رأى هيوم — حين يشهد كرة تصدم كرة أخرى فتحرِّكها، لا يرى «سببية» بين الكرتَين، وكل ما يراه بعينيه من هذه الحادثة هو أن كرة أولى تحركت وكرة ثانية تحركت عند لحظة زمنية معينة، هي اللحظة التي تماست فيها الكرتان، وعلى هذا فلا تكون حوادث الطبيعة مرتبطة بهذا الرباط السببي الذي زعمناه، فجاء «كَانْت» بتحليله السالف الذِّكْر، يقول: نعم، إن «السببية» ليست ما نراه بالأعين، بل هي «مبدأ عقلي» نفهم على ضوئه تتابع الحوادث، فما معنى ذلك؟ معناه أن علماء الطبيعة في عصره يفهمون حوادث الطبيعة على افتراض افترضوه، وهو أن لكل حادثة سببًا، وكان يمكن أن يفترضوا افتراضًا غيره، وأن يفهموا حوادث الطبيعة فهمًا يختلف عن فهمهم لها، كما حدث ذلك في القرن السابق لعصر «كَانْت» — وهو عصر «نيوتن» كما قدَّمنا لك — وكما حدث أيضًا في العصر الحديث.

    إن من أهم ما يميز علم الطبيعة في القرن الثامن عشر — وهو عصر «كَانْت» — هو أنه يستخدم «السببية» و«القانون الطبيعي» بمعنًى واحد، فما هو خاضع لقانون طبيعي خاضع في الوقت نفسه للرابطة السببية، والعكس صحيح على خلاف ما رأيناه في القرن السابع عشر، إذ جعلوا حوادث الطبيعة نوعَين: فمنها ما يخضع لقوانين ومنها ما يخضع للسببية، جاعلين لكل من هاتَين الكلمتَين معنًى غير معنى الكلمة الأخرى.

  • (جـ)

    وجاء علم الطبيعة في عصرنا الراهن، فاختفت فكرة السببية من أذهان العلماء اختفاءً تامًّا، ولم يعد شيء في رأيهم يحدث بفعل هذا «السبب» أو ذاك، بل تحدث الظواهر وفق «قوانين»، وما القوانين إلا ضروب من تتابع الحوادث لوحظت وسُجِّلَت، فإذا اصطدم جسم متحرك بجسم آخر بحيث تغيَّر مجراه، لا نقول ما كان يقوله «نيوتن»: إن قانون الحركة قد تعطَّل فعله في هذه الحالة «بسبب» خارجي هو الصدمة التي جاءت من جسم آخر فغيَّرت مسار الجسم المتحرك، وإنما نجعل الحركة كلها بما يحدث فيها من انكسارات خاضعة لقانون أو أكثر.

فما معنى هذا كله، ماذا نقول في فيلسوف يقرِّر — مثلًا — أن لكل حادثة سببًا، وأن مبدأ السببية شامل لحوادث الطبيعة كلها، كما قال «كَانْت»؟ إننا نقول له: هذا مبدأ قام في عصر واحد، وانبنى عليه علم ذلك العصر، فإذا قرَّرته فأنت إنما تؤرِّخ للفكر في ذلك العصر، لا أكثر ولا أقل، ولو أرَّخت لعصر «نيوتن» لاضطررت إلى قول آخر، وهو أن لبعض الحوادث أسبابًا دون بعضها الآخر، ولو أرَّخت للعصر الحاضر، لاضطررت أن تقول قولًا ثالثًا، وهو أن ليس لأيَّة حادثة من حوادث الطبيعة سبب على الإطلاق.

إن من حق الفيلسوف — بل من واجبه في رأينا — أن يحلِّل الفكر في أي عصر شاء ليستخرج مبادئه الأولى المفروض صدقها عند أهل ذلك العصر، لكن ليس من حقه، ولا مما يؤدي إلى معنًى، أن يتناول هذه المبادئ بالتأييد أو بالتفنيد، كأنها من القضايا العادية التي تزعم عن الكون هذا الشيء أو ذاك، الفيلسوف الذي يتناول المبادئ الثلاثة السابقة عن «السببية» ليقول: إن رأيه هو صواب هذا وخطأ ذلك، يجاوز حدود مهمته المعقولة المشروعة، ليدخل في مجال الكلام الذي لا يحمل معنًى، فليس مما له معنًى أن تقول عن فرض ما: إنه صادق أو كاذب؛ لأن الفرض في كل الحالات مُسلَّم به؛ لأنه مجرد فرض، وليس هو بالعبارة التي تدَّعي الوصف والتصوير. والذي يُقال عنه إنه صحيح أو خطأ، هو ما ينبني على الفرض من نتائج، فعندئذٍ يجوز لنا أن نقول عن نتيجة ما إنها صواب؛ لأنها تتسق مع الفرض الأول، أو إنها خطأ؛ لأنها لا تتسق مع الفرض الأول.

لو قال قائل: «ليس في العالم سببية تربط حوادثه.» لكان قوله هذا صوابًا بالنسبة لعصرنا هذا؛ لأنه متفق مع الفرض الأول الذي ينبني عليه علم الطبيعة الآن، لكنه يكون خطأً بالنسبة لعصر «كَانْت»؛ لأنه لا يتسق مع الفرض الأول الذي افترضه أهل ذلك العصر.

وهنا يظهر الفرق بين عمل العالِم وعمل الفيلسوف: العالم يقيم أبحاثه ونظرياته على أساس فروض مزعومة ليس من شأنه أن يتعرَّض لها، بل ليس حتمًا عليه أن يكون على وعي بها، والفيلسوف يحلِّل أقوال العالم ليستخرج من لفائفها الفروض التي على أساسها بُنِيَت تلك الأقوال، أو بعبارة أخرى: يقرِّر العلماء في العصر المعين مبدأ على أنه حقيقة، ويأتي الفيلسوف فيؤرِّخ لهم ما يقرِّرون، فلو تكلم عالم من القرن الثامن عشر لقال على صورة تقريرية: «لكل حادثة سبب.» ولو تكلم فيلسوف عن ذلك العصر لقال: «يفرض العلماء أن لكل حادثة سببًا.» وواضح أنك إذا أردت مناقشة الفيلسوف في قوله هذا، فينبغي أن تقوم المناقشة على أساس تاريخي، فهو في قوله مستند إلى «وثائق» هي القضايا التي قالها علماء ذلك العصر، وأما أنت فتدَّعي له أن تلك «الوثائق» لا تدل على النتيجة التي انتهى إليها، إنكما لا تختلفان في صحة المبدأ نفسه، بل يكون موضع الاختلاف بينكما هو: هل يدل تحليل ما قاله العلماء في ذلك العصر على أنهم كانوا يفرضون هذا المبدأ المعين أساسًا لتفكيرهم؟

ولو كانت «الميتافيزيقا» عند «كَانْت» هي هذا التحليل، كان هذا الفيلسوف العظيم في طليعة الفلاسفة بالمعنى الذي نقبله لهذه الكلمة، وهو أن «الفلسفة» إمَّا أن تكون تحليلًا لكلام الناس، وإمَّا ألا تكون شيئًا.

١  نقد العقل الخالص ص٣٠، الترجمة الإنجليزية للأستاذ orman Kemp Smith.
٢  راجع الفصل الخامس من كتاب: Collingwood, R. G., An Essay on Metaphysics.
٣  فيما يلي نص العبارة التي أخذها كانْت من بيكن، وصدر بها الطبعة الثانية من كتابه «نقد العقل»: إننا لا نقول شيئًا عن أنفسنا، أما الموضوع الذي نبسطه ها هنا للبحث فإننا نرجو ألا ينظر إليه الناس على أنه مجرد تعبير عن شعور شخصي، بل أن ينظروا إليه على أنه كتاب يقصد إلى الجد، ولهم أن يكونوا على يقين بأن الأسس لم توضع لنقيم عليها مدرسة فلسفية أو لنبني عليها اعتقادًا جامدًا، بل هي أسس وُضِعَت لينهض عليها شيء يُراد به نفع الإنسانية وإصلاحها؛ ولذلك [فإننا نرجو] أن يتبادل الناس المشورة وأن ينضموا إلى صفوفنا من أجل صالحهم، وأن يكونوا على ثقة من أنفسهم حتى لا يذهب بهم الوهم إلى حد الاعتقاد بأن [هذا الكتاب] يخوض في اللانهاية ويجاوز حدود البشر، إذ الواقع أنه بمثابة النهاية والخاتمة المشروعة لخطأ لم يكن له حدود يقف عندها.
٤  الترجمة الإنجليزية للأستاذ Kemp Smith، ص١٨–٢٢.
٥  المصدر المذكور، ص١٨.
٦  المصدر نفسه، ص١٩.
٧  المرجع السابق نفسه، ص٢١.
٨  Collingwood, R. G., Essay on Metaphysics، ص٢٣٧.
٩  كتاب «نقد العقل الخالص»، الترجمة الإنجليزية للأستاذ Kemp Smith، ص٢٥.
١٠  تُرْجِمَت كلمة Transcendental ﺑ «النقدي»، وترجمة هذه الكلمة ترجمة تحتفظ لها بكل معناها الكانتي، أمر لم يُتَّفَق عليه بعدُ، راجع اقتراح الدكتور عثمان أمين في ذلك، كتاب «مشروع للسلام الدائم» هامش صفحة ١١٣.
١١  راجع: Collingwood, Essay on Metaphysics، ص١٤١.
١٢  نقد العقل الخالص، الترجمة الإنجليزية Kemp Smith، ص٧.
١٣  المرجع نفسه، في الصفحة نفسها.
١٤  Leonard Nelson, Socratic Method and Critical Philosophy، ص١٠٥.
١٥  راجع هذا التقسيم في الفصل الرابع من كتاب Johnson, W. E., Logic، ج١، ف٤.
١٦  Apriori قبلي، Aposteriori بعدي.
١٧  Analytic تحليلي، Synthetic تركيبي.
١٨  لاحظ أننا هنا نعبِّر عن رأي «كانت» — وإلا فالرأي الحديث في القضية العلمية — وهو الرأي الذي ترتكز عليه الوضعية المنطقية، هو أنها قضية احتمالية لا ضرورية، وبهذا يزول كثير من الإشكال الذي حاول «كانْت» أن يجد له حلًّا.
١٩  يُطلق على النوع الأول بالإنجليزية generalisation، وعلى النوع الثاني Universality، راجع في التفرقة بين هذين النوعين من التعميم كتابي «المنطق الوضعي» ص١٦٤ وما بعدها.
وراجع كذلك: Paton, H. J., The Categorical Imperative، ص٢٧ وما بعدها.
٢٠  نكرِّر مرة أخرى أننا هنا نعبِّر عن رأي «كَانْت»، وإلا فالرأي الأخلاقي الذي يتفق مع اتجاه الوضعية المنطقية هو أن كلمة «يجب» إما أن يكون معناها تعميمًا إحصائيًّا دلَّت عليه التجربة، حتى إذا ما قال قائل: يجب أن أفعل «س» كان معنى الوجوب أن «س» تؤدي إلى غاية معينة مرغوب فيها، وإما أنها لا تعني شيئًا.
٢١  Leonard Nelson, Socratic Method and Critical Philosophy، ص١٠٥.
٢٢  راجع في ذلك كله: Leonard Nelson, Socratic Method and Critical Philosophy، ص١١٠ وما بعدها.
٢٣  راجع في ذلك كتاب: Collingwood, R. G., Essay on Metaphysics، الفصل السادس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤