الفصل الثالث

الميتافيزيقا المرفوضة

١

نريد إذن أن نجعل الفلسفة تحليلًا منطقيًّا لقضايا العلوم وعبارات التفاهم في حديثنا اليومي، وقد أسلفنا لك القول (في الفصل الأول) بأن «الفلسفة» لم تكن دائمًا بهذا التحديد، إنما جرى العرف في كثير من الأحيان أن تدخل فيها مباحث «شَيْئِيَّة» أو «عَيْنِيَّة» إلى جانب هذا التحليل المنطقي الذي نريده، وقد كانت هذه المباحث الشيئية تنقسم قسمَين رئيسيَّين؛ فقسم يبحث في «أشياء» لا تدخل في حدود التجربة الحسية كالمطلق والعدم وما إليهما، وهو ما يطلق عليه عادةً اسم الميتافيزيقا، وقسم آخر يبحث في «أشياء» العلوم نفسها، كأن تبحث مثلًا في الإنسان والطبيعة وما إليهما، وهو ما يطلقون عليه عادةً اسم الفلسفة الطبيعية، وقد ذكرنا لك فيما مضى أننا نقترح ترك هذا القسم الثاني من المباحث الفلسفية إلى العلوم ورجالها، فهم أَوْلَى به؛ لأنهم بموضوعاته أدرى وعلى بحثه أقدر، كما ذكرنا لك أيضًا أننا نريد حذف القسم الأول — أعني الميتافيزيقا بمعناها السالف الذِّكْر — لأن التحليل ينتهي بأقوالها إلى غير معنًى، وبذلك لا يبقى للفلسفة إلا ما أردناه لها، وهو تحليل العبارات اللغوية.

إن فلسفتنا التحليلية تقضي على الميتافيزيقا بالحذف لاستحالة أن يكون لكلامها معنًى، لكنك قد تقول: إن لكلمة «الميتافيزيقا» معانٍ كثيرة، اختلفت باختلاف الباحثين فيها، فبأي معنًى تريد حذفها؟ ما هي «الميتافيزيقا» على وجه التحديد، تلك التي تريد حذفها من دائرة الكلام المفهوم؟

وأظننا — إذ نحاول الإجابة عن هذا السؤال — نرتكز على أرض ثابتة، إذا نحن اتخذنا أرسطو أساسًا لنا في تحديد المعنى المراد؛ لأنه هو الذي أنشأ أول كتاب أجمع دارسو الفلسفة جميعًا على أنه «ميتافيزيقا»١ مهما اختلفوا بعد ذلك في تحديد معنى هذه الكلمة، فإنه لَممَّا يستوقف النظر حقًّا أن «فلاسفة كثيرين قد أنتجوا في الميتافيزيقا إنتاجًا غزيرًا، لكن هذا الإنتاج كله لم يشمل قط مراجعة أساسية للجواب عن سؤالنا: ما هي الميتافيزيقا؟ وكذلك ازورَّ عن الميتافيزيقا كثيرون، حتى لقد أعلنت طائفة كبيرة من هؤلاء أن الأمر كله من فاتحته إلى ختامه كلام بغير معنًى على الإطلاق، لكن حتى هؤلاء لم يتناولوا في كلامهم مراجعة أساسية يبحثون بها ماذا عسى هذه الميتافيزيقا أن تكون.»٢

يطلق أرسطو على مادة البحث التي وردت في الفصول التي أطلق عليها فيما بعد كلمة «ميتافيزيقا» أسماء ثلاثة:

فهو يطلق عليها أحيانًا اسم «العلم الأول»،٣ وكلمة «الأول» هنا تدل على أسبقية منطقية بالنسبة لسائر العلوم، فالعلم الأول هو ذلك الذي يكون موضوعه سابقًا من الوجهة المنطقية على أي علم آخر، أي هو العلم الذي تفترض قيامه سائرُ العلوم كلها، ولو أنه يأتي بعدها جميعًا في ترتيب الدراسة. ثم هو يطلق عليها أحيانًا أخرى اسم «الحكمة» قاصدًا بذلك إلى أنها الغاية التي تسعى إليها العلوم في بحثها، وهذا معناه أن العلوم المختلفة — بالإضافة إلى قيام كل منها ببحث موضوعه الخاص — تقوم بواجب آخر، تخرج به عن حدود بحثها الخاص، وهو أن تكشف عمَّا تنطوي عليه منطقيًّا من فروض سابقة، ولما كان وراءها جميعًا فرض سابق عليها، لا بد من افتراضه أولًا حتى يمكن الكلام فيها، فكشفها عن هذا الفرض السابق هو نهاية سَعْيِها وغاية سَيْرِها، وذلك هو ما يريده أرسطو بكلمة الحكمة، ثم هو يطلق على المباحث الميتافيزيقية أحيانًا ثالثة اسمًا ثالثًا، هو «اللاهوت» أو العلم الذي يشرح طبيعة الله.

وهو بإطلاقه هذه الأسماء الثلاثة المختلفة على علم بعينه، قد أبان عمَّا يتصوَّره موضوعًا لهذه الفصول التي كتبها، ولشرح ذلك نقول:

إن العلم — كائنًا ما كان — يتصف موضوعه بالتجريد والتعميم، والتجريد والتعميم درجات، فحيثما قسَّمت جنسًا — ولنرمز له بالرمز «أ» — إلى نوعَين يقعان تحته — ولنرمز لهما بالرمزَين: «ب» و«ﺟ» — كما تقسم مثلًا العدد إلى نوعَين: العدد الزوجي والعدد الفردي؛ وجدت «أ» أكثر تجريدًا وأكثر تعميمًا من «ب» أو «ﺟ»، وفي مثل هذه الحالة تكون «أ» هي الأساس المنطقي لكل من «ب» و«ﺟ»، بمعنى أنك لا تفهم الزوجية أو الفردية إلا إن كان لديك فهم سابق لطبيعة العدد بصفة عامة، وكذلك إذا فهمت طبيعة العدد فهمًا كاملًا، استتبع هذا الفهم أنه لا بد أن يكون العدد منقسمًا إلى نوعَين: ما هو زوجي منه وما هو فردي، هذا هو المقصود حين نقول إن فكرة «العدد» هي الأساس المنطقي لفكرتَي «الفردية» و«الزوجية».

فإذا فرضنا أن النوعَين: «ب» و«ﺟ» اللذَين يندرجان تحت الجنس الأعم «أ»، عِلْمان، كان بين هذين العلمَين مبادئ مشتركة — وإلا لما جاز جمعهما معًا تحت جنس واحد — ومن هذه المبادئ المشتركة يتألَّف العلم الذي يحتويهما معًا، وهو «أ».

فافرض أن «أ» رمز للكمية، وللكمية نوعان: كمية متصلة كمساحة السطح مثلًا، وكمية منفصلة وهي ما يمكن عدُّه كأربع برتقالات مثلًا، والعلم الخاص الذي يبحث في الكميات المتصلة هو الهندسة، والعلم الخاص الذي يبحث في الكميات المنفصلة هو الحساب، وسنرمز لعلم الهندسة بالرمز «ب» ولعلم الحساب بالرمز «ﺟ»، فها هنا «أ» تنقسم إلى فرعَين هما «ب» و«ﺟ» ولكل منهما موضوع خاص به، لكنهما يشتملان على مبادئ مشتركة تظهر فيهما معًا، فتكون هذه المبادئ المشتركة هي مادة العلم «أ»، وبعبارة أخرى: ما بين الهندسة والحساب من مبادئ مشتركة، هو موضوع علم أعمَّ منهما، هو الرياضة بصفة عامة وبغير تخصيص، ويبحث في الكمية، بغضِّ النظر عن نوعها: هل هي متصلة أو منفصلة.

هذا العلم العام الذي يبحث في الكمية على إطلاقها، يسبق العلمَين الفرعيَّين الهندسة والحساب أسبقية منطقية؛ لأنه يستحيل تصوُّر الكمية المتصلة أو الكمية المنفصلة إلا إذا تصوَّرت الكمية أولًا، لكن دارس الرياضة الناشئ، يجعله مرحلة ثانية تتلو هاتَين، أي إنه لا بد أن يبدأ بدراسة الهندسة والحساب؛ لكي ينتقل منهما إلى دراسة ما هو أعمُّ منهما، وهكذا الحال دائمًا في ترتيبك للعلوم إلى ما هو عام وخاص، العام منها يسبق الخاص أسبقية منطقية، لكنه يلحق الخاص في ترتيب الدراسة.

وإذا أنت حاولت ترتيب العلوم كلها في نسق واحد، وجدت الواحد منها إما أن يكون:
  • (١)

    مساويًا في درجة التخصيص لسواه، كالحساب والهندسة، إذ يقعان معًا في منزلة واحدة.

  • (٢)

    أو أعلى من سواه في درجة التعميم، كالرياضة بصفة عامة بالنسبة للهندسة أو بالنسبة للحساب.

  • (٣)

    أو أدنى من سواه في درجة التعميم، كالهندسة أو كالحساب بالنسبة للرياضة بصفة عامة.

على أننا نُخْرِج من هذا الكلام مجموعتَين من العلوم التي نسَّقناها على هذا النحو تعميمًا وتخصيصًا: نُخرج أولًا ما يقع منها في طرفها الأعلى، ونُخرج ثانيًا ما يقع في طرفها الأدنى، أما الأولى فلأنها غير مسبوقة بما هو أعمُّ منها، وأما الثانية فلأنها غير متبوعة بما هو أخصُّ منها.

ويرى أرسطو أنك إذا رتَّبت العلوم كلها على هذا النحو الهرمي، فستنتهي عند القِمَّة بعلم واحد، هو أعمُّها جميعًا، وهو علم الوجود، الوجود المجرَّد، أو الوجود بما هو وجود، أو الوجود الخالص، أو الوجود بغضِّ النظر عما يتمثَّل فيه من موجودات.

هذا «الوجود المجرد» هو «العلم الأول» بمعنى أنه هو المفروض منطقيًّا في أي علم آخر، فيستحيل أن تبحث في شيء كائنًا ما كان إلا إذا كانت له صفة الوجود أولًا، وإذن فهذه الصفة سابقة منطقيًّا على كل ما عساك واضعه موضع البحث، لكنه كذلك هو «العلم الأخير» بالنسبة للدارس؛ لأن دارس العلوم لا يبدأ به، بل ينتهى إليه، وبذلك سيكون هو الغاية الأخيرة التي يتجه نحوها الدارس في رحلته، وتستطيع إن شئت أن تقول إن الدارس للعلوم الأخرى هو بمثابة مَنْ يُعِد نفسه لدراسة هذا العلم الأخير، وإذن فلا عجب إذا نحن أسميناه ﺑ«الحكمة» على اعتبار أن كل علم آخر وسيلة جزئية للوصول إليه.

وهذا «العلم الأول» و«العلم الأخير» هو نفسه «اللاهوت»؛ لأنك إذ تبحث في «الوجود الخالص» فإنما تكون باحثًا في طبيعة «الله»، وذلك هو موضوع الميتافيزيقا كما تصوَّره أرسطو.

وإذن فلو تخيَّرنا عبارات مما تقوله الميتافيزيقا بمعناها هذا، ثم لو أظهر لنا تحليل هذه العبارات أنها كلام فارغ خالٍ مما يجعل للعبارة معنًى، فلن يكون من حق الناقد أن يقول إننا قد اخترنا جانبًا يؤيِّد مذهبنا، وكان يمكن أن نختار جانبًا آخر لا يؤيِّده، على أننا نفضِّل فيما يأتي أن نجعل كلامنا عن «المطلق» لا عن «الله»؛ «إذ الموضوع الذي يناقشه كبار الفلاسفة، حين يناقشون فكرة وجود الله، لا يمت إلا بصلة واهية — ذلك إن كانت هنالك صلة على الإطلاق — «بالله» كما تفهمه الأديان، وإنما هو فكرة من تركيب العقل؛ ولذلك يحسن استخدام المصطلح الفلسفي، وهو كلمة «المطلق» بدل اللفظة الدينية «الله» في سياقنا هذا.»٤

٢

وإذا أردنا أن نسوق أمثلة من الأقوال الميتافيزيقية لنحلِّلها ولنبيَّن خلاءها من المعنى، فلا يتحتم أن نختار جملة فيها كلمة «مطلق» حتى تجيء هذه الجملة مما يصح وصفه بأنه قول ميتافيزيقي، فحسبنا أن يكون في الجملة كلمة دالة بحكم تعريفها على مُسمًّى من غير المحسوسات؛ ليكون لنا الحق في اعتبارها قولًا ميتافيزيقًا بالمعنى الأرسطي: فمن أهم المشكلات التي تبحثها ميتافيزيقا أرسطو، هذه المشكلة: «هل هنالك عناصر لا حسية، وإن كان الأمر كذلك، فهل هي من نوع واحد أو أكثر؟»٥

وسأختار الآن للتحليل هذه العبارة الآتية: «كل شيء في هذا العالم يحتوي على ذات ووجود.» وهي عبارة وردت في كتاب «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» (ص٢٤) للمغفور له الشيخ مصطفى عبد الرازق، قالها وهو يعرض لخصائص الفلسفة الإسلامية.

خذ كلمات هذه العبارة السابقة واحدة واحدة، لنحلِّل مدلولها ونقف على وظيفتها في تصوير المعنى المراد، لكننا قبل ذلك ينبغي أن نلاحظ أن ألفاظ اللغة نوعان رئيسيان من حيث المهمة التي تؤديها اللفظة في بناء العبارة، فاللفظة إما أن تكون واردة في العبارة لتسمِّي شيئًا ما،٦ وإما أن تكون واردة لتقوم بعملية البناء اللفظي بين أجزاء العبارة الأخرى٧ دون أن تكون هي ذاتها اسمًا لشيء من أشياء العالم، فلو قلت عبارة كهذه: «القلم بين المحبرة والكتاب» كان هنالك ثلاثة ألفاظ، كل منها يسمِّي شيئًا من أشياء العالم الخارجي، وهي «القلم» و«المحبرة» و«الكتاب»، لكن هنالك لفظتَين تقومان بعملية البناء دون أن تسمِّي الواحدة منهما شيئًا، وها لفظتا «بين» و«و»، فليس في العالم شيء اسمه «بين»، كما أنه ليس في العالم الخارجي شيء اسمه «و»، فهاتان اللفظتان البنائيتان وأمثالهما تكوِّن الإطار للصورة المراد رسمها بالألفاظ الأخرى.

ونعود الآن إلى العبارة التي نريد تحليلها: «كل شيء في هذا العالم يحتوي على ذات ووجود … إلخ.» فنلاحظ أنها تحتوي على أربعة ألفاظ شيئية فقط، وهي كلمات «شيء» و«عالم» و«ذات» و«وجود»، وأما سائر ألفاظها (وهي: «كل» «في» «هذا» «يحتوي على») فليست أسماء الأشياء، إنما هي تقوم بيناء الصورة المراد تصويرها من الأربعة المسميات السالفة الذِّكْر.

والسؤال الذي يجدر بنا أن نبدأ به التحليل هو: هل هذه الأسماء الشيئية تسمِّي أشياء حقًّا، أم أنها لا ترمز إلى شيء، ولا يكون لنا منها إلا الخديعة والضلال؟ نبدأ بكلمة «شيء» فنلاحظ أنها كلمة ليست بذات معنًى، أي إنها لا ترمز إلى فرد بذاته، فما دمت تستطيع أن تقول عن كل كائن بغير استثناء: إنه «شيء»، إذن فهذه الكلمة ليست اسمًا دالًّا مميِّزًا لفرد بعينه من الأفراد، وإذن فهي لا تزيد عن الرمز «س» المجهول الدلالة، فخير لنا أن نضع «س» مكانها، حتى نجنِّب أنفسنا كل خطأ يُحْتَمل الوقوع فيه بسبب استعمال كلمة لا تدل على شيء، إذ قد نظن أنها دالة، فكلمة «شيء» هي من الكلمات العامة التي اعتبرها «كارناب»٨ «مُدرَكات زائفة» أو «أشباه مُدرَكات»، إذ إنها قد توهم بأنها رمز يرمز إلى مُدْرَك مع أنها ليست كذلك، أقول: إنه خير لنا أن نضع مكانها «س»، فتصبح العبارة التي أمامنا «كل س في هذا العالم يحتوي على ذات ووجود.» والذي نستفيده من هذا الوضع الجديد للعبارة، هو أننا سنرى على الفور أنها لا تدل على معنًى إلا إذا وضعنا مكان «س» اسمًا لفرد من الأفراد، كاسم «العقاد» مثلًا.

فكأن العبارة بهذا التحوير قد أصبحت: «العقاد يحتوي على ذات ووجود.» فلنجعل هذه الصورة هي مدار التحليل، ونترك كلمة «ذات» مؤقَّتًا، لننظر في معنى كلمة «وجود»، فنلاحظ للوهلة الأولى أنها هي الأخرى ليست اسمًا قيل ليسمِّيَ شيئًا بذاته، فلو أننا — نظريًّا — أعطينا لكل كائن جزئي في العالم اسمًا خاصًّا به، لاستغنينا عن كلمة «وجود» ومشتقاتها، إنه من تحصيل الحاصل أن تصف الفرد الجزئي بالوجود، كأن تقول مثلًا: «العقاد موجود»؛ إذ اسم العَلَم وحده كافٍ للدلالة على وجود مُسمَّاه، فاسم العَلَم هو بمثابة اسم الإشارة «هذا»، ويستحيل منطقيًّا أن تستعمل اسم الإشارة دون أن يكون هنالك الفرد الجزئي المشار إليه، فلا معنى لقولك مشيرًا إلى فرد ما: «هذا موجود.» إذ يكفي قولك عنه «هذا» ليبرز وجوده ويتحدَّد، وكذلك قُلْ في عبارة «العقاد موجود.» «فالعقاد» وحدها تشير إلى الفرد الذي نريد أن نجعله موضوع الحديث، فقولنا: «العقاد يحتوي على وجود.» قول فارغ من المعنى، اكتسب ما حسبناه معنًى له من شبهه بأقوال أخرى، مثل: «هذا الصندوق يحتوي على برتقالة.» فليس في العالم الخارجي كائنان: أحدها يُسمَّى العقاد، والآخر يُسمَّى وجود، حتى يجوز لنا أن نقول عن الكائن الأول إنه يحتوي على الكائن الثاني، إنني أدعو القارئ في هذا الموضوع إلى ملاحظة هامة جدًّا، وهي أنني لا أقول عن عبارة «العقاد يحتوي على وجود» إنها كاذبة أو إنها تصوِّر الواقع تصويرًا خاطئًا، بل أقول عنها: إنها كلام فارغ من المعنى، إنها لا تصوِّر شيئًا أبدًا، وبالتالي فلا مُسوِّغ للحكم بأنها صورة صحيحة أو صورة فاسدة، هي لا تصوِّر شيئًا لأنني إذا أردت أن أبحث في أجزاء «العقاد» لأرى هل يكون من بينها «وجود» أو لا يكون، لا أدري منذ البداية عن أي شيء أبحث؟ لو قيل: «العقاد يحتوي على أربعة آذان» لكان للكلام معنًى، وإن يكن صورة خاطئة للواقع، فأنا في هذه الحالة أعلم عمَّ أبحث في الواقع الخارجي لأعلم صدق ما تزعمه العبارة أو كذبه، أما أن «العقاد يحتوي على وجود» فليست بذات معنًى.

فيبقى لنا من عبارتنا الأصلية هذه البقية الآتية «العقاد يحتوي على ذات.» فهل لهذا القول معنًى؟ لكي نجيب على هذا السؤال، نعود فنسأل: أين المُسمَّى الذي أُطْلِقَت عليه كلمة «ذات» حتى يتسنى لي أن أفحص العقاد؛ لأرى إن كان محتويًا على «ذات» أو لم يكن؟ إنني هنا لا أطلب من المتكلم سوى أن يصوِّر لي الفرد الذي أطلق عليه اسمًا معينًا، هو كلمة «ذات» فإن استطاع كان للعبارة معنًى، وإلا فهي قول فارغ، أيُّ المرئيات تقع على عَين الرائي، وأيُّ المسموعات تطرق أذن السامع، مَن الشيء الذي أسميناه «ذاتًا»؟ إذا قال القائل «ذات العقاد» هي ملابسه أو هي كتبه، أو هي صوته في الحديث، أو هي ما شاء لها أن تكون من بين ما يمكنني أن أراه وأن أسمعه، كان لقوله معنًى — سواء كان القول بعدئذٍ يقدِّم صورة صحيحة عن العقاد أو صورة فاسدة — فللقائل إذن أن يختار شيئًا يرمز إليه بهذا الرمز الذي يستخدمه، وأعني به كلمة «ذات»، أما إذا زعم لنا أنه يشير بهذا الرمز إلى كائن لا تراه عين ولا تسمعه أذن، فما الفرق عندئذٍ بين أن يقول كلمة «ذات» وبين أن يضع مكانها أي ترقيم آخر يُخَطُّ على الورق؟ إذا لم يكن هنالك شيء بعينه يريد أن يرمز له بهذا الرمز، ففيمَ استخدامه؟ من ذلك كله ترى أن عبارة «العقاد يحتوي على ذات ووجود» فارغة لا تصوِّر شيئًا مما يمكن للسامع أن يفهمه … ولنا إلى هذا الحديث عودة أخرى.

٣

العبارة الميتافيزيقية التي تخبرنا عن شيء غير مُحَسٍّ عبارة فارغة من المعنى، لسبب بسيط، وهو أنها ليست مما يجيز المنطق أن يكون كلامًا على الإطلاق، فمتى يُقْبَل الكلام عند المنطق؟

المنطق يقبل الكلام إذا كان لدى السامع وسيلة لتحقيقه، فإما أن يصدقه بعد التحقيق أو يكذبه، أما الكلام الذي يستحيل بطبيعة تركيبه أن نتصوَّر وسيلة لمراجعة صدقه أو كذبه، فهو كلام خاوٍ من المعنى، ولا أقول إن الكلام يكون كذبًا أو باطلًا أو خاطئًا؛ لأن هذه صفات لا يصح استعمالها إلا إذا كانت هنالك وسيلة لمراجعة الصورة الكلامية على الحقيقة التي تصوِّرها ثم وُجِدَ أنها لا تطابقها.

على أن الصدق (أو الكذب) يختلف معناه باختلاف نوع العبارة التي نقولها، ولا تخرج العبارة التي يمكن وصفها بالصدق أو الكذب عن أحد نوعَين: فهي إما تحليلية أو تركيبية، وليست العبارة الميتافيزيقية بواحدة منهما، كما سترى فيما بعد.

والعبارة التحليلية هي التي لا تقول شيئًا جديدًا عن الموضوع التي تتحدث عنه، فهي لا تفعل سوى أن تحلِّل ذلك الموضوع إلى عناصره، بعضها أو كلها، فإن قلت مثلًا: «الزاوية القائمة تسعون درجة، فأنت لا تقول شيئًا جديدًا عنها يضاف إلى تعريفها، أي إنني إذا سألتك: قل لي أولًا ما معنى «الزاوية القائمة» قبل أن تقول لي عنها ما تنوي أن تقوله؛ لأنني لم أسمع بهذا الاسم من قبل، فلن تستطيع أن تعرِّفني بها بغير أن تلجأ إلى قولك: إنها تسعون درجة، بعد أن تشرح لي — إذا طلبت منك ذلك — ما معنى زاوية، وما معنى درجة، وبعد ذلك الشرح لمعنى «زاوية قائمة»، سأجد، وستجد معي، أنك حين قلت لي: «إن الزاوية القائمة تسعون درجة.» لم تكن في الحقيقة تخبرني بجديد، إذا فرضنا أنني أعرف من قبل معنى كلمتَي «الزاوية القائمة» وحدها، أعني أن عبارتك هذه جاءت تحصيل حاصل، أو هي عبارة تحليلية.

في مثل هذه الحالة يكون تصديق العبارة قائمًا على مراجعة التحليل، لنرى هل جاء وفق ما اتفقنا عليه من معاني الألفاظ، أم خرج عليه، ولا يكون التصديق بمطابقة القول على شيء في الطبيعة، إذ ماذا عساك واجد في الطبيعة مما يعينك على تصديق عبارة كهذه أو تكذيبها؟ لو وجدت زاوية وقستها ووجدتها أقل من تسعين درجة أو أكثر، سأقول لك إنها ليست قائمة، وإذن فيستحيل أن تعثر على مشاهدة لشيء في الخارج، يمكنها أن تفند ما أقوله لك، ومن هنا كان يقين القضايا الرياضية كلها، فالقضية الرياضية يقينية؛ لأنها تحصِّل حاصلًا، ولا تقول شيئًا جديدًا، أعني أنها تحلل صيغة أو رمزًا إلى صيغة أخرى أو رمز آخر تحليلًا يجعل الصورتَين متساويتَين متعادلتَين.

وأما العبارة التركيبية فهي التي تقول لك خبرًا جديدًا، إذا أردت تصديقه أو تكذيبه، كان لا بد لك من الخروج إلى حيث الطبيعة تشاهدها، لتقارن ما تأتيك به الخبرة الحسية منها، بما تزعمه لك عبارة القائل، فإن قلت لك — مثلًا — إن في السَّلَّة عشر برتقالات، فلست بذلك أقول معنى كلمة السلة، وإنما أضيف إلى معناها المعروف خبرًا، هو أنها تحتوي على برتقالات عشر. افرض — كما فرضنا في حالة الزاوية القائمة — أنك لا تعرف معنى كلمة «سَلَّة» وسألتني: قل لي أولًا ما معنى «سَلَّة» قبل أن تقول لي عنها ما تنوي أن تقوله؛ لأنني لم أسمع بهذا الاسم من قبل، عندئذٍ أستطيع أن أشرح لك معنى الكلمة دون أن يكون احتواؤها على عشر برتقالات جزءًا من معناها، وإذن فقولي عنها إنها تحتوي على تلك البرتقالات العشر هو خبر جديد، يكون تصديقه بالمطابقة بينه وبين حالة واقعية خارجية، وتكون وسيلة هذه المطابقة هي الخبرة الحسية.٩

ونعود الآن إلى الميتافيزيقي فنسأله: ماذا أنت معتزم أن تقول إذا ما قلت عبارة ميتافيزيقية موضوعها كلمة «المطلق» كالعبارة التي قالها «برادلي» وتناولناها بالتحليل (في الفصل الأول) وهي «المطلق يدخل في تطوُّر العالم وتقدُّمه ولكنه هو نفسه لا يطرأ عليه تطوُّر أو تقدُّم.»

هل تريد أن تقول عن «المطلق» — مثلًا — كلامًا هو نفسه تعريف «المطلق» عندك، وبذلك لا تفعل سوى أن تعرِّف لنا كلمة على هواك، أم تريد أن تقول لنا عن هذا «المطلق» خبرًا جديدًا بحيث يتحتم عليك أن تبيِّن لنا نوع الخبرة الحسية التي يجوز لنا أن نرجع إليها إذا أردنا لكلامك التحقيق والتصديق.

أما أن الميتافيزيقي يقول كلامًا مستمدًّا من الخبرة الحسية، ويمكن الرجوع إلى الخبرة الحسية في تحقيقه، فذلك ما لا أظن أحدًا يزعمه؛ لأن «المطلق» — الذي قلنا إنه موضوع ميتافيزيقي غير منازع — ليس مما يُرى بالعين أو يُسْمَع بالأذن، أو يُحَس بأيَّة حاسة أخرى، إنه إذا كان بين المُحسَّات، أصبح محدَّدًا بمكان معيَّن وزمان معيَّن وصفات معيَّنة، ولم يَعُد «مطلقًا»، فلست إذن بمُطالَب، ولا هو من حقك، أن تقول للميتافيزيقي الذي يقول: «إن المطلق يدخل في تطوُّر العالم وتقدُّمه، لكنه هو نفسه لا يطرأ عليه تطوُّر أو تقدُّم.» أين وكيف عساي إن أرى هذا المطلق أو أسمعه أو ألمسه؛ لأرى إن كانت ظواهر العالم تتطوُّر بقوله أو لا تتطوَّر؟ لست بمُطالَب بهذا، ولا هو من حقك أن تطلبه؛ لأن الميتافيزيقي لا يدعيه.

فهل يقول لنا الميتافيزيقي — إذن — عبارات تحليلية كهذه التي يقولها الرياضي؟ لو كان أمره كذلك، لقيل في كلامه ما يُقال في القضايا الرياضية، وهو أنها تحصيل حاصل، تحلِّل صيغة بصيغة تساويها؛ ولذلك فهي يقينيَّة حتمًا، لكن أمر الميتافيزيقي ليس كذلك، إنه لا يقول، حين يدَّعي ما يدعيه، إني أحلِّل لفظة إلى ما يساويها، بل هو «يصف» كائنات يزعم وجودها بصفات معيَّنة، فإذا طلبتَ إليه أن يدلَّك على الخبرة الحسية التي من شأنها أن تطلعك على تلك الكائنات، حتى ترى لنفسك إن كانت حقًّا موصوفة بالصفات التي زعمها أو لم تكن، أجابك بأنها ليست مما يُحَس … وإذن فهو في موقف عجيب، يقول كلامًا عن «أشياء»، ثم يرفض أن يدلَّك كيف يمكن أن تلتمس تلك «الأشياء» في خبرتك لتصدقه أو تكذبه، فلا هو على استعداد أن يحقِّق لنا ما يقوله بالخبرة الحسية كما يفعل الذين يحدثونا عن الأشياء الخارجية في العلوم أو في الحياة الجارية، ولا هو بقانع أن يجيء كلامه تحصيل حاصل حتى نصفه بالصدق من غير التجاء إلى خبرة حسية، وإذن فلا هو يقول عبارات تركيبية كالتي يقولها العلماء الطبيعيون، ولا عبارات تحليلية كالتي يقولها علماء الرياضة، فأي نوع من الكلام يقول؟

٤

كلام الميتافيزيقي فارغ لا يحمل معنًى، «فتعريف الجملة الميتافيزيقية هو أنها عبارة يُراد بها أن تعبِّر عن قضية حقيقية، لكنها في حقيقة أمرها لا هي بمعبِّرة عن تحصيل حاصل، ولا عن فرض تحقِّقه التجربة. ولمَّا كانت تحصيلات الحاصل والفروض التجريبية تستنفد كافة القضايا ذات المعنى، كان لنا ما يبرِّر التأكيد بأن ما تقوله الميتافيزيقا خالٍ من المعنى.»١٠

يزعم لنا الميتافيزيقي أنه قد جاءنا بعِلْم عن الحقيقة التي لا تدخل في نطاق الطبيعة المحسوسة المشهودة، إذ هو يحدثنا عن «أشياء» تجاوز عالم الشهادة والحِسِّ، فنسأله من أي المقدمات استخلصت نتائجك التي انتهيت إليها؟ أليس يتحتم عليك — كما يتحتم على سائر الناس — أن تبدأ بشهادة حواسك؟ وإن كان ذلك كذلك، فكيف يجوز أن تستنبط من مقدمات حسية نتائج عن حقيقة أخرى خارجة عن نطاق الحواس؟ إنك إذا بدأت بمقدمات تجريبية، وحصرت نفسك فيما تنبئك به، فيستحيل أن تستدل وجود «شيء» أو «صفة» مما يخرج عن نطاق التجربة.

وقد يجيب الميتافيزيقي على ذلك قائلًا: لا، إنني لم أبدأ رحلتي بشواهد مما تأتي به الحواس، إنما اعتمدت على أداة أخرى لكسب ما كسبته من المعرفة بما يقع خارج حدود العالم التجريبي، وتلك الأداة هي «الحَدْس» أو العِيَان العقلي المباشر، فبهذه الوسيلة الإدراكية أستطيع أن أعلم ما يستحيل على الحواس أن تجيئني به … وحتى لو كنت أستخلص نتائجي الميتافيزيقية اللاتجريبية من مقدمات تجريبية، ثم تبيَّن لكم أنني مخطئ في استنتاج ما هو لا تجريبي مما هو تجريبي، فإنكم بذلك تشيرون إلى خطأ عقيدتي في سلامة استدلالي، لكنكم لا تقيمون الدليل بذلك على أن النتائج التجريبية في ذاتها مخطئة، فقد تظل هذه النتائج صوابًا على الرغم من خطئي أنا في الظن بأنها مُسْتَمَدَّة من المقدمات التي زعمتها لها … بعبارة أخرى، ليس لكم الحق في رفض الميتافيزيقا وحذفها على أساس أن المنهج الذي اتُّبِعَ في تحصيلها منهج خاطئ؛ لأن الخطأ قد يكون محصورًا في الطريقة، ولا ينصبُّ على النتيجة.

ونحن إزاء ذلك نقول: إن اعتراضنا على العبارات الميتافيزيقية لا يقوم على أساس خطئها في ذاتها أو خطأ منهجها أو صوابه، بل يقوم على أساس أنها ليست بذات معنًى من الوجهة المنطقية، فهي إذن ليس مما يوصف بصدق ولا بكذب، لقد سبق «كَانْت» إلى القول باستحالة الميتافيزيقا، لكنه بنى تلك الاستحالة على أساس آخر، إذ بناها على أساس أن العقل البشري بحكم طبيعته لا يستطيع الحكم إلا على ظواهر الأشياء، وأنه إذا ما غامر في مجال «الأشياء في ذاتها» وقع في المتناقضات، وعلى ذلك فاستحالة المعرفة الميتافيزيقية في رَأْي «كَانْت» حقيقة واقعة، وليست هي بالاستحالة المنطقية كما يرى المذهب الوضعي المنطقي، هي عند «كَانْت» حقيقة واقعة بمعنى أنه لو كان الإنسان على غير ما هو عليه في إدراكه الأشياء، لأمكن ألا تكون المعرفة الميتافيزيقية مستحيلة، هي مستحيلة الآن؛ لأن العقل الإنساني لم يُخْلَق لإدراكها، كما لم تُخْلَق العين لسماع الأصوات، أما أصحاب المذهب الوضعي المنطقي — أو التجريبيون العلميون كما يسمون أنفسهم أحيانًا — فيبنون استحالة الميتافيزيقا على أساس أن كلامها فارغ من المعنى، إنه لا يدل على شيء حيث يجوز لنا أن نقول هل يمكن للإنسان حقًّا أن يدرك هذا الشيء أو لا يدركه؟

خذ مرة أخرى عبارة برادلي بأن «المطلق يدخل في تطوُّر العالم وتقدُّمه، لكنه هو نفسه لا يطرأ عليه تطوُّر أو تقدُّم.» هذا الكلام مستحيل قوله في رأي «كَانْت» كما هو مستحيل قوله في رأي الوضعيين المنطقيين، أما «كَانْت» فيرى أن استحالته راجعة إلى أن العقل لم يُخْلَق بحيث يستطيع أن يدرك «المطلق» إدراكًا يمكنه من الحكم عليه بهذه الصفة أو بتلك، وأما الوضعيون المنطقيون فيقولون إن هذا الكلام مستحيل قوله؛ لأنه فارغ بغير معنًى، هل إذا قلت لك: «إن الإسكبرانوس يدخل في تطوُّر العالم وتقدُّمه» حين يكون الإسكبرانوس رمزًا مُلَفَّقًا لا معنى له، جاز لك أن تقول: إن عقلي لم يُخْلَق بحيث يستطيع إدراك «الإسكبرانوس» فيحكم عليه؟ كلا، فالاستحالة هنا مرجعها أنني حدثتك بأصوات فارغة خالية من الدلالة، ومن ثم وجب حذفها من نطاق الكلام المقبول.

إنك إذا زعمت للعقل الإنساني حَدًّا لا يستطيع أن يتجاوزه، ثم زعمت في الوقت نفسه بأن وراء ذلك الحد «أشياء» هي فوق إدراكه، كنت تناقِضُ نفسك بنفسك؛ لأن اعترافك بوجود تلك «الأشياء» وراء الحد المزعوم، هو في ذاته دليل على عبورك إلى المنطقة المحرَّمة، فمثل هذا النقد — إذن — نوجهه إلى «كَانْت» الذي جعل استحالة المعرفة الميتافيزيقية مسألة سيكولوجية لا مسألة منطقية، إنه يجعل الاستحالة متوقِّفة على قدرة العقل وعدم قدرته، أما الوضعيون المنطقيون فرأيهم في هذه الاستحالة أنها قائمة على أن ما تقوله الميتافيزيقا يفقد شروط اللغة التي يمكن فهمها، «إن الاتهام الذي نوجِّهه للميتافيزيقي، ليس هو أنه يحاول استخدام العقل في مجال يستحيل عليه أن يغامر فيه مغامرة مجدية، بل هو أنه يقدم لنا عبارات لا تحقِّق الشروط التي لا بد من توافرها لكي تكون العبارة ذات معنًى.»١١
وللدكتور «بارنز»١٢ في هذه النقطة دفاع يجدر بنا إثباته لنرد عليه، يقول: «يزعمون أحيانًا أن الميتافيزيقا هي خطأ في استخدام اللغة، وذلك شبيه بقولك عن فن التصوير: إنه وضع للطلاء في غير ما خُلِقَ له، نعم إنك إذا نظرت إلى العبارة اللغوية على أنها تصوُّر العالم، كانت الميتافيزيقا تخطئ في استخدام اللغة؛ [لأنها لا تصوِّر شيئًا منه] لكنها باعترافها تحاول شيئًا آخر غير تصوير العالم، وهو أن نقرِّر وجهة نظر أخرى غير مجرد التصوير الحرفي، وإذن فما يسمونه استعمالًا خاطئًا للغة، هو في الحقيقة استعمال جديد لها.»

ونحن نوافق الدكتور «بارنز» على قوله هذا، لكننا نخلص منه إلى غير النتيجة التي خلص إليها، فهو يريد الإبقاء على الميتافيزيقا؛ لأنها «تثبت وجهة نظر أخرى» غير التصوير، ونحن نريد إلغاءها؛ لأنها إذا لم تصوِّر شيئًا في الطبيعة، فليس هناك إذن ما يُنظَر إليه من هذه «الوجهة للنظر» التي اختارتها لترى منها ما تراه، أريد أن أقول إنها إذا لم تصوِّر شيئًا من العالم، فهي كلام فارغ من المعنى، اللهم إلا إذا أراد بها قائلها أن يصف وجدانًا خاصًّا به كما يفعل الشاعر مثلًا، وعندئذٍ تخضع عباراتها لمقاييس الفن لا لمقاييس المنطق، فمقاييس الفن تحكم على الكلام بالجمال أو القبح لا بالصدق أو الكذب، أعني أن الميتافيزيقي إذا أراد أن يكون كلامه من قبيل الآثار الفنية التي تُعجِب أو لا تُعجِب فهو ليس بحاجة إلى إقامة برهان على صدق ما يقوله، بمعنى الصدق في لغة المنطق، لكننا نرى الميتافيزيقيين حريصين على أمثال هذه البراهين العقلية على ما يقولون، وإذن فهم لا يريدون إلى الفن حين يتحدثون، بل يحسبون أنهم يتكلمون كما يتكلم العلماء الذين يتصدون لوصف العالم وما فيه، ومن هنا وجب عليهم أن يخضعوا لما يخضع له العلماء من حيث صدق التصوير.

٥

إن كانت دعوى المتكلم بجملة هي أنه يفيدك علمًا جديدًا عن العالم في جملته أو في تفصيلة من تفصيلاته أو فيما شاء من أجزائه، فالمقياس الذي لا مقياس سواه لقبول كلامه، هو أن يكون ممكن التحقيق في حدود الخبرة الحسية، ونقول «ممكن التحقيق»، ولا نقول عن هذا التحقيق إنه لا بد أن يقع فعلًا؛ ذلك لأن الكلام قد نقبله من الناحية المنطقية قبل أن نهمَّ في تحقيقه فعلًا، ما دمنا ندرك فيه إمكان التحقيق.

وإذا قلنا إن المقياس الذي لا مقياس سواه لقبول الجملة الخبرية هو أن تكون الجملة ممكنة التحقيق في حدود الخبرة الحسية، فلسنا نشترط بهذا شرطًا جزافًا تمليه أهواؤنا، وكان يمكن لهذه الأهواء أن تتغيَّر فيتغيَّر المقياس المُشترَط تبعًا لذلك، بل هو شرط مُستمَد من طبيعة اللغة نفسها، التي يتم بها التفاهم، ويستحيل على مَن ينقل إلينا علمًا جديدًا عن العالم، أن يفعل ذلك بغير لغة أو ما يقوم مقامها من رموز، فإذا حلَّلنا هذه اللغة التي هي بحكم الضرورة أداة نقل الخبر، ثم وجدنا أن طريقة فهمها هي نفسها طريقة تحقيق الخبر المنقول بها، نتج عن ذلك بالضرورة أن يكون شرط الكلام المقبول هو أن يكون ممكن التحقيق، ما دام قائله يدَّعي أنه يقول به علمًا جديدًا عن العالم، ولا يكتفي بمجرد تحليل لفظة أو عبارة بمعناها الذي يريد أن يصطلحه لها، كما أنه لا يريد بكلامه هذا أن يعبِّر عن شعور ذاتي في نفسه ليثير في نفس السامع شعورًا ذاتيًّا شبيهًا به.

لا تكون الجملة الخبرية ذات معنًى إلا إذا كان في وسع سامعها أن يعرف كيف يمكن له أن يحقِّقها إذا أراد، أعني إلا إذا عرف أي الخبرات الحسية — من مشاهدات ومسموعات … إلخ — عساه واجد في عملية تحقيقها، بحيث ينتهي به هذا التحقيق إلى تصديق أو تكذيب، «لو تقدَّم لك عالِم بقضية لا يمكن أن تستنبط منها ما عساك أن تدركه بالحس، فماذا يكون موقفك إزاءه؟ افرض مثلًا أنه زعم لك أن الأجسام لا تتأثَّر فقط في مجال الجاذبية تبعًا لقوانين الجاذبية المعروفة، بل أضاف إلى ذلك زعم آخر، وهو أن للأجسام مجالًا آخر تتأثَّر فيه أيضًا، وهو مجال «اللاذبية»، فإذا سألته: ماذا عساي أن أشاهد في ظواهر الأجسام مما ينتج عن هذا المجال «اللاذبي» تبعًا للنظرية المزعومة؟ وأجاب بأنه ليس هناك أثر مما تمكن مشاهدته بالحواس، أو بعبارة أخرى: إذا سألته هذا السؤال فاعترف بعجزه عن تقديم طريقة معلومة يمكننا بمقتضاها أن نعلم ما يمكن مشاهدته بالحس مما يطرأ على الأجسام في مجالها «اللاذبي»، فماذا يكون موقفك إزاءه؟ لا شك أنك ستقف من كلامه موقفك من الكلام الذي يتخذ صورة الكلام وليس منه، إن كلامه فارغ لا يتحدث به عن شيء قط.»١٣

فلو استثنينا تحصيلات الحاصل التي تقولها الرياضة والمنطق؛ وجدنا أن كل عبارة مقبولة إنما يكون معناها هو نفسه طريقة تحقيقها، أي إن طريقة التحقيق ليست مجرد وسيلة توصلك إلى معنى العبارة، بل هي نفسها المعنى، وعلى ذلك فإن لم يكن لعبارة ما طريقة نحقِّقها بها، فهي بالتالي عبارة لا معنى لها.

ويترتب على ذلك أن العبارة المقبولة هي التي تتنبأ لك بمجموعة من أحاسيس — بصرية وسمعية ولمسية — أنت ملاقيها إذا كانت العبارة صادقة، وليس معناها إلا هذه المعطيات الحسية التي تتنبأ بها، وعلى ذلك فلو أردت أن تحلِّل عبارة لترى إن كانت مما نقبله أو لا نقبله، فما عليك سوى أن تلتمس فيها العناصر الحسية الأولية التي تتنبأ بها، فمثلًا: «هذه منضدة» يمكن تحليلها إلى «أرى بقعة لون» «ألمس صلابة» … إلخ، وعبارة «في الغرفة المجاورة منضدة» يمكن تحليلها إلى «إذا ذهبت إلى الغرفة المجاورة فسأرى بقعة لون، وسألمس صلابة … إلخ».

هكذا تكون العبارات التي نقولها عن العالم من حولنا — إذا لم يكن الجزء الذي نتحدث عنه أمام الحواس مباشرة — بمثابة «وعود» بأحاسيس إذا اتخذت هذه الوقفة أو تلك، وأقرب شبه لذلك أن نقول إن معنى العبارة «لي مائة جنيه في البنك» هو أني إذا كتبت شيكًا صورته كذا وكذا، صُرِفَت لي الجنيهات المائة، وعلى هذا يكون العالم الغائب بالنسبة لنا عالمًا تحت الحساب، كما هي الحال في ودائعنا في البنك، فنحس كذا وكذا لو فعلنا كيت وكيت. أما العبارة التي ليس فيها أبدًا ما يدل على فعل نفعله لكي نحس هذا الإحساس أو ذاك فهي عبارة فارغة ليس لها معنًى، كقولنا مثلًا: إن المطلق يتدخل في تطوُّر الأشياء».

وإذا قلت لي كلامًا لا أجد في الخبرة الحسية شيئًا يتأثَّر بالفرق بين صدقه وكذبه، فهو كذلك كلام فارغ لا تحدثني به عن شيء، أريد أن أقول إنك لو زعمت لي زعمًا في جملة معيَّنة، ثم خرجت إلى عالم الأشياء لأصدقك في زعمك أو أكذبك حسب ما أجد في ذلك العالم، فلا أجد زعمك هذا يناقض شيئًا من مشاهداتي سواء فرضت فيه الصدق أو فرضت فيه الكذب، فالجملة فارغة من المعنى؛ لأن الكلام المفهوم الذي يحمل معنًى، هو الذي أتصوَّر به فرقًا في أشياء العالم الخارجي بين حالتَي صدق ذلك الكلام أو كذبه.

لو قلت لي إن على المنضدة كتابًا وقلمًا، فقولك هذا مفهوم مقبول؛ لأن صورة المشاهدات الحسية التي ألاقيها في خبرتي في حالة صدقه تختلف عن صورتها في حالة كذبه.

لكن إذا قال قائل: إن للكتاب مثالًا عقليًّا أفلاطونيًّا قائمًا في عالم المُثُل، فأين يكون الاختلاف في مشاهداتي للكتاب بين حالتي صدق هذا القول أو كذبه؟ لا اختلاف، وإذن فلا معنى، ولنذكِّر القارئ بأننا ها هنا نحصر كلامنا في الجمل الخبرية، مستبعدين الجمل التحليلية التي هي تحصيل حاصل لا يضيف علمًا جديدًا، والجمل الشعورية التي يراد بها إثارة شعور السامع؛ لأن هذه وتلك لا تدَّعيان أنهما تصوِّران حقيقة في العالم الخارجي.

وقُلْ مثل ذلك في السؤال الذي يجوز إلقاؤه، فالسؤال الذي يستحيل أن نجد له خبرة حسية ممكنة تمكِّننا من الإجابة عليه، ليس بالسؤال الذي يقبله المنطق؛ لأنه عندئذٍ يكون قد اتخذ الصورة النحوية للسؤال دون الصورة التي تجعله ممكن الجواب، لو سألتك: ما عُمْق المحيط الأطلسي عند نقطة كذا؟ كان سؤالي مقبولًا؛ لأن الإنسان في وسعه أن يتصوَّر نوع الخبرات الحسية التي يمكن أن تقع في محاولة إيجاد الجواب، أما إذا سألتك ما مقدار زوايا الإنسان؟ كان السؤال مرفوضًا، لا لأنه أصعب من أن يتناوله العقل البشري، بل لأنه ليس في وسعنا أن نقول ما نوع الخبرات التي عسانا أن نمارسها في الإجابة عليه.

السؤال الذي تستحيل الإجابة عليه استحالة منطقية، ليس بالسؤال إطلاقًا، نقول ذلك ونردِّده ونكرِّره لنحارب به هذه الطائفة من الأسئلة التي تراهم يلقونها ثم يجدون فيها هذه الاستحالة، فيتهمون العقل البشري بالعجز عن الجواب، كأن الأمر ممكن، لكنه فوق متناولنا الآن، وربما يكون في متناولنا غدًا أو بعد غد، وها هنا يحسن بنا أن نلقي ضوءًا على المعنى المقصود «بالاستحالة المنطقية» فنقول: إن الاستحالة ثلاثة أنواع:١٤
  • (١)

    استحالة فنية، بمعنى أنني لا أستطيع بحكم الأدوات التي عندي الآن أن أؤدي ما يُراد أداؤه، وقد أستطيع هذا الأداء لو توافرت تلك الأدوات، فمثلًا ليس لديَّ المقياس الذي أقيس به طول هذه الورقة بالسنتيمتر، بحيث أصل في دقة القياس إلى سبعة أرقام عشرية، وأقول: إن طولها هو ٥٫٦٧٩٣٥٤٧؛ لأن آلات القياس الموجودة تستطيع ذلك إلى أربعة أرقام عشرية فقط، فاستحالة معرفتي إن كان هذا الرقم ذو السبعة الأرقام العشرية صحيحًا أو غير صحيح، هي استحالة فنية.

    ومن قبيل ذلك أمثلة كثيرة، كأن نستطيع الطيران إلى القمر، أو نستطيع أن نطير فوق الأرض بسرعة ألف ميل في الساعة … وهكذا.

  • (٢)

    استحالة تجريبية، وهي التي تناقض قانونًا من قوانين الطبيعة، فعدم ذوبان الثلج حين يوضع في ماء يغلي مستحيل استحالة تجريبية، وطيران الطائرة في خلاء لا هواء في استحالة تجريبية … وهكذا.

    ويُلاحَظ أنه قد تكون هناك استحالة فنية دون أن يكون معها استحالة تجريبية، فاستحالة أن تطير الطائرة بسرعة ألف ميل في الساعة استحالة فنية وليست بالاستحالة التجريبية، على فرض أنْ ليس فيها ما يناقض قانونًا من قوانين الطبيعة، وكل ما هنالك من أمر هو أنْ ليست لدينا المهارة الفنية الكافية لأداء ذلك.

  • (٣)

    وأما الاستحالة المنطقية فهي اجتماع النقيضَين، فمثلًا شعوري بوجع ضرسك مستحيل استحالة منطقية؛ لأنني إذا شعرت بشيء من ذلك أصبح الوجع في ضرسي أنا.

    والاستحالة المنطقية تتضمن الاستحالتَين السابقتَين، فما هو مستحيل منطقيًّا لا بد كذلك أن يكون مستحيلًا تجريبيًّا، ومستحيلًا فنيًّا كذلك، فما دام شعوري بوجع ضرسك مستحيلًا منطقيًّا، فيستحيل كذلك أن يكون هنالك قانون من قوانين الطبيعة يشمله، كما يستحيل أن تكون هنالك الأدوات الفنية التي أستعين بها على تحقيق هذا الشعور.

لكن العكس غير صحيح، فما هو مستحيل فنيًّا وما هو مستحيل تجريبيًّا قد لا يكونان مستحيلَين من الوجهة المنطقية، فلا تناقض هناك في أن نستطيع يومًا أن نبني طائرة تطير بسرعة ألف ميل في الساعة، ولا تناقض هناك في أن يكون أي قانون من قوانين الطبيعة على غير ما هو عليه، إننا عرفنا أن «ق» قانون من قوانين الطبيعة؛ لأننا هكذا وجدنا الأشياء، وكان من غير المستحيل عقلًا أن تجدها على غير ذلك، وجدنا — مثلًا — أن المعادن تتمدَّد بالحرارة وتنكمش بالبرودة، فكان ذلك قانونًا من قوانين الطبيعة، لكن كان يمكن منطقيًّا أن تجدها على عكس ذلك، فنرى المعادن تنكمش بالحرارة وتتمدَّد بالبرودة، وكنا عندئذٍ سنسجِّل قانون الطبيعة بما يصوِّر الواقع الذي وجدناه، لاحظ جيدًا أننا قد عرفنا قوانين الطبيعة بالمشاهدة والتجربة، فما وقع لنا في المشاهدة والتجربة سجَّلناه، ولم تكن هناك استحالة في أن نشاهد ظواهر الطبيعة فنجدها على غير ما وجدناه.

ونعود الآن إلى وصل الحديث فيما يجوز قبوله من الجمل الخبرية والأسئلة وما لا يجوز، فما يجوز قبوله هو ما يمكن منطقيًّا أن نجد له وسيلة لتحقيقه، فإذا وجدنا العقبة التي تحول دون التحقيق الفعلي عقبة فنية أو عقبة تجريبية، لم يكن ذلك مانعًا من قبول الجملة أو السؤال من الوجهة المنطقية.

فالجملة القائلة: «إن على الوجه الآخر من القمر جبالًا» جملة مقبولة، على الرغم من أن تحقيقها الفعلي مستحيل (القمر يواجهنا بنصف واحد بذاته لا يتغير، فلا يرى سكان الأرض نصفه الثاني)، هو مستحيل من الوجهة الفنية، إذ ليس لدينا الآن وسيلة نطير بها إلى القمر فنرى وجهه الآخر، وقد يكون مستحيلًا تجريبيًّا كذلك، بمعنى أنه ربما يُقال: إن قوانين الطبيعة نفسها تحول دون أن تطير الطائرات في الفراغ الخالي من الهواء بين الأرض والقمر، ومع ذلك فالجملة مقبولة؛ لأنها ممكنة التحقيق من الوجهة المنطقية، ففي وسعي أن أعرف نوع الخبرات الحسية التي يمكن للمشاهد أن يمارسها إذا وقف الوقفة التي تُمكِّنه من المشاهدة، وليس هنالك تناقض منطقي في أن يقف هذه الوقفة من القمر، حتى على فرض وجود الاستحالة الفنية بل والاستحالة التجريبية التي تحُول دون ذلك من الوجهة العملية.

لكن قارن ذلك بجملة ميتافيزيقية كالتي أسلفنا ذكرها: «المطلق يدخل في تطوُّر العالم وتقدُّمه …» فما نوع الخبرات الحسية التي عساي أن ألاقيها إذا أردت التحقُّق من صدق هذا الزعم؟ إذا كان مستحيلًا تحديد مثل هذه الخبرات المتوقَّعة، فمستحيل منطقيًّا أن آخذ في تحقيق الكلام صدقًا أو كذبًا، إذ شروعي في عملية التحقيق، متضمن تصوري لما عساي أن ألاقيه من خبرة، فإن استحال هذا التصوُّر استحال بالتالي إمكان الشروع في التحقيق، وإذن فمثل هذه الجملة بغير معنًى؛ لأنها مستحيلة التحقيق، وليس الأمر قاصرًا على قدرة حاضرة أو قدرة مستقبلة؛ لأن الاستحالة ليست فنية، بل ليست تجريبية، وإنما هي — كما قلنا — استحالة منطقية تتضمن الاستحالتَين المذكورتَين معًا، وهي مستحيلة منطقيًّا لأن فيها اجتماع نقيضَين؛ أحدهما أنني قبلت هذه الجملة الخبرية على أساس أنها يمكن أن توصف بالصدق أو بالكذب؛ (لأن ذلك هو تعريف القضية)، والنقيض الآخر هو أن هذه الجملة لا يمكن أن نجد وسيلة لتصديقها أو تكذيبها. نعم، إن المتكلم في مستطاعه أن يحدِّد ألفاظه بأي معنًى يريد، فمثلًا يستطيع القائل بأن «المطلق يدخل في تطوُّر العالم وتقدُّمه» أن يقول: إني أقصد بكلمة «المطلق» هنا «المطر» أو «حرارة الجو» أو ما شاء من معانٍ، لكنه — وهو يحدِّد لنا معناه — محتوم عليه أن يشرح الكلمة شرحًا داخلًا في حدود خبراتنا، وإلا فلو استبدل بكلمة كلمة أخرى، وكلاهما لا ندري له مقابلًا من خبرة حسية، فستظل المشكلة قائمة كما هي، وسيظل كلامه خاليًا من المعنى لاستحالة تحقيقه حتى من الوجهة النظرية.

ويفرِّق الأستاذ آير١٥ بين نوعَين من التحقيق، وهو يتحدث عن إمكان التحقيق من الوجهة المنطقية: التحقيق «القوي» والتحقيق «الضعيف».

فالتحقيق القوي يكون حين تأتي الخبرة الحسية مُدعِّمة لصدق القضية تدعيمًا تامًّا كاملًا، وأما الضعيف فيكون حين تأتي الخبرة مُدعِّمة لصدق القضية على وجه الاحتمال، ولمَّا كانت القوانين العلمية (في العلوم الطبيعية) يستحيل فيها التحقيق الذي يجعلها يقينية، فتحقيقها إذن من النوع «الضعيف»، وكذلك قُلْ في القضايا التي تحدِّثنا عن حوادث الماضي كقضايا التاريخ؛ لأنه مهما اجتمع لديك من الشواهد على حادث مضى، فهي كلها لا تقطع بيقين، فلو استثنينا تحصيل الحاصل — كالرياضة — وجدنا أن التحقيق دائمًا هو على سبيل الاحتمال والترجيح، فسؤالنا في التحقيق لا يكون: هل هناك من المشاهدات وسائر الخبرات الحسية ما يجعل العبارة المزعومة ذات يقين قاطع؟ بل يكون: هل هناك من المشاهدات وسائر الخبرات الحسية ما له صلة بتقرير صدق هذه العبارة المزعومة أو كذبها؟ فإن كان الجواب الثاني هو بالنفي، كانت العبارة كلامًا فارغًا غير ذات معنًى على الإطلاق.

إننا إذن لا نتعسف فنشترط إمكان تحويل العبارة المقولة إلى خبرات حسية تحويلًا كاملًا شاملًا؛ لأننا لو طالبنا بذلك فقد لا ننتهي أبدًا من تحقيق عبارة واحدة، وحسبك في ذلك أن تنظر في جملة مثل «الكتاب على المنضدة»، وتسأل نفسك ما نوع الخبرات الضوئية التي أتوقعها لأثبت بها صدق هذه العبارة، وستجد أن هذه الخبرات الضوئية لا نهاية لعددها ولا حصر لدرجاتها؛ لأنها خبرات تختلف باختلاف وقفاتك ومساقط الضوء وما إلى ذلك، إنما نكتفي لقبول الجملة بأن نجد في حدود إمكاننا استدلال بعض الخبرات الحسية التي لها صلة بصدقها، دون المطالبة بهذه الخبرات على سبيل الحصر والشمول.

طبِّق هذا المقياس على هذه العبارة: «العالم الخارجي وهم.» فستبدأ بسؤال نفسك: هل يمكن أن ألتمس أيَّة خبرة حسية يكون لها صلة بتصديق هذا الزعم؟ ذلك مستحيل بحكم ما تقتضيه العبارة نفسها؛ لأنها تسد عليك الطريق فلا تأذن لك بالالتجاء إلى الخبرة الحسية؛ لأن هذه كلها وهم في زعمها، لو قلت هذه ألوان أراها وتلك أصوات أسمعها، وإذن فالعالم الخارجي حقيقة لا وهم، فيُقال لك بل الألوان والأصوات التي توهَّمتها ليست بحقائق، إذن فماذا عساي أن أقع عليه من خبرتي لأصدق هذه الدعوى؟ قد يُجاب أحيانًا على هذا السؤال بأن تصديق الدعوى هنا معتمد على خداع الحواس، فقد ترى العين عصًا مكسورة في الماء حتى إذا ما لمستها بيدَيك وجدتها مستقيمة … وهكذا، وفي هذا دليل على أن مُدرَكات الحواس أوهام، لكنها لا تكون كذلك ما دمتُ أصحِّح أخطاء الحواس بالحواس نفسها، وعلى ذلك فليس في وسعنا أن نجد من خبراتنا خبرة نلجأ إليها لتحقيق إن كان العالم الخارجي وهمًا حقًّا، وبالتالي تكون هذه الجملة فارغة من المعنى.

لكن هنالك إشكالًا في إمكان التحقيق — كما شرحناه — يثيره الناقدون، وهو أنه بناءً على هذا المقياس الذي أسلفناه، لا يمكن تحقيق القضايا العلمية الكلية ولا قضايا التاريخ التي تُحدِّثنا عن شيء مضى، فأما القضايا العلمية الكلية فمتعذرة على هذا المقياس؛ لأننا — مثلًا — حين نقول إن الخشب يطفو على الماء، لا نُسمِّي قطعة بذاتها من الخشب ولا منطقة بعينها من الماء، وبالتالي لا يكون في مستطاعنا أن نستنبط من مثل هذه العبارة الكلية نوع الخبرة الحسية التي ستصادفنا إبَّان التحقيق، وكذلك قُلْ في قضايا التاريخ، فقولنا — مثلًا — إن نابليون جاء في حملة على مصر سنة ١٧٩٨م، لا يمكن أن تكون له وسيلة مباشرة لتحقيقه، فليس بين الناس اليوم رجل اسمه نابليون جاء في حملة على مصر، وليست السفن والجنود التي تكوِّن حملة نابليون على مصر بموجودة في جزء من أجزاء الأرض حتى نستطيع الرجوع إليها، فكيف — إذن — يُراد بنا أن نتوقَّع نوع الخبرة الحسية التي سنصادفها، وكيف يُتاح لنا أن نحقِّق مثل هذه العبارة؟

من أجل هذا تحوَّط الأستاذ «آير» في وصفه لطريقة التحقيق الممكنة التي نتخذها مقياسًا لما يجوز قبوله من الجُمَل وما لا يجوز، فقال: إن القضية التي نقبلها على أنها ذات مضمون واقعي، ليست هي التي يمكننا أن نترجمها بذاتها إلى عبارات تصف الخبرة التي سنلاقيها مباشرة، بل هي القضية التي نستطيع أن نستدل بعض الخبرات منها ومن قضايا أخرى تُضاف إليها، على شرط ألا يكون في مستطاعنا أن نستدل تلك الخبرات من هذه القضايا الأخرى وحدها.١٦

فإذا أضفت إلى قضية «نابليون جاء في حملة على مصر.» التي يُراد تحقيقها قضايا أخرى كل منها يمكن أن يُحقَّق بالحس المباشر، كأن تصف في عدَّة عبارات بعض آثاره التي لا تزال قائمة، أو بعض الوثائق التي يمكن الاطلاع عليها مباشرة، أمكنك من هذه المجموعة أن تستدل ماذا عساك أن تَخْبُرَ إذا أردت أن تحقِّق صدق القضية التاريخية المراد تحقيقها، وهي «نابليون جاء في حملة على مصر.»

وقد يزيد الأمر وضوحًا لو ضربنا مثلًا آخر من الحياة اليومية، فالقاضي حين يحكم بأن «زيدًا قتل عمرًا بسكين» لا يستطيع أن يحقِّق هذه العبارة تحقيقًا مباشرًا بالحس؛ لأن الحادث وقع في الماضي ولا يمكن إعادته أمام أبصارنا من جديد، لكنه يستعين على ذلك بعدد من عبارات أخرى، كل عبارة منها تصف شيئًا مما يمكن إدراكه بالحواس مباشرة، بحيث إذا ضَمَمْنا هذه العبارات الأخرى إلى الحكم الأصلي، القائل بأن «زيدًا قتل عمرًا بسكين» وجدنا أمامنا مجموعة يمكن أن نستنبط منها ما شئنا استنباطه من شواهد على أن الحكم صحيح، على شرط ألا يكون في مستطاعنا أن نستنبط هذه الشواهد من العبارات الأخرى وحدها التي استعان بها القاضي، مستغنين بذلك عن القضية الأصلية، وهي أن «زيدًا قتل عمرًا بسكين»؛ لأنه لو أمكن تفسير كل شيء مع الاستغناء عن افتراض قَتْل زيد لعمرو، لما كان لدينا الأساس الصحيح الذي نحكم به على صدق ذلك الحكم.

هكذا يكون لدينا طريقان لتحقيق العبارة التي نزعم أنها ذات مضمون واقعي؛ طريق مباشر كأن أقول «هذه بقعة مستديرة من اللون الأصفر.» مشيرًا إلى برتقالة، وطريق غير مباشر، بأن أستعين بعدد من الشواهد التي تُضاف إلى الجملة المراد تحقيقها، فتهيئ لي مجموعتها وسيلة استنباط الخبرة الحسية التي يمكن أن أصادفها إذا كانت الجملة الأصلية صادقة.

ولعل هذا الشرح يعيننا على فهم ما أورده الأستاذ «آير» في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه،١٧ خاصًّا بطريقة تحقيق العبارات، إذ قال: «إنني أزعم أن العبارة تكون ممكنة التحقيق بطريق مباشر، إذا كانت هي نفسها عبارة شهادية (أي عبارة تدل على ما يمكن مشاهدته مباشرة)، أو إذا كانت عبارة، لو أضيفت إليها عبارة شهادية واحدة أو أكثر، استتبعت على الأقل عبارة شهادية واحدة لا يمكن استنتاجها من تلك العبارات المضافة وحدها، وأزعم كذلك أن العبارة تكون ممكنة التحقيق بطريق غير مباشر لو أَوْفَت بالشرطَين الآتيَين؛ أولًا: لو كانت بالإضافة إلى مقدمات أخرى تستتبع عبارة أو أكثر مما يمكن تحقيقه مباشرة، وثانيًا: لو كانت هذه المقدمات الأخرى لا تتضمن عبارة غير تحليلية أو غير ممكنة التحقيق بطريق مباشر، أو غير ممكن تحقيقها في ذاتها بطريق غير مباشر.»

خذ مثلًا يوضِّح مرة أخرى: أمامك عبارة «الماء يغلي في درجة مائة.» فكيف يمكن تحقيقها؟

أولًا ليست هذه العبارة مما يُحقَّق بالشهادة المباشرة؛ لأنه ليس في دنيا الواقع شيء اسمه «ماء» بصفة عامة، إنما الذي في دنيا الواقع هو هذه الحفنة الجزئية من الماء وتلك الحفنة الجزئية منه، وعلى ذلك فلا بد أن نلجأ إلى التحقيق بطريقة غير مباشر، بأن نضيف إليها عِدَّة عبارات أخرى، مثل: (١) «الماء في هذا الوعاء يغلي.» (٢) «الزئبق في الترمومتر يشير إلى رقم مائة.» (٣) «الدرجة الحرارية اصطلاحًا هي امتداد الزئبق بين خطَّين من خطوط الترمومتر.» … إلخ، ونلاحظ أن العبارتَين الأوليَين يمكن أن تُحقَّقا بالشهادة المباشرة، وأن العبارة الثالثة جملة تحليلية تُحدِّد معنى اصطلاح علمي معيَّن، وإذن فلا تحقيق لها من عالم الحس، وهذا يفسر لنا قول «آير» السابق، من أن العبارة التي يمكن تحقيقها بطريق غير مباشر، نضيف إليها عِدَّة عبارات أخرى، تكون إما ممكنة التحقيق مباشرة، أو تكون عبارة تحليلية.

ثم يضيف الأستاذ «آير» إلى قوله السابق ما يأتي: يُلاحَظ أنني عندما ذكرت شرطَي إمكان التحقيق غير المباشر، ذكرت صراحة شرطًا يجيز أن تتضمَّن «المقدمات الأخرى» عبارات تحليلية، ومرادي بذلك هو أن أفسح المجال للنظريات العلمية التي تعبِّر عنها بمصطلحات ليست في ذاتها تدل على شيء مما يمكن شهادته بالحواس؛ لأنه في مثل هذه الحالة يمكن إنشاء «قاموس» يُمكِّننا من تحويل هذه المصطلحات إلى عبارات يُستطاع إخضاعها للتحقيق، والعبارات التي يتألَّف منها القاموس قد تُعتبَر عبارات تحليلية، وإلا لما وجدنا فرقًا بين النظريات العلمية وبين العبارات الميتافيزيقية التي نريد حذفها «غير أنني أرى أنه مما يميِّز الميتافيزيقي أن عباراته ليست تصف شيئًا مما يمكن — ولو من الوجهة النظرية — أن يخضع للملاحظة، ثم لا يقتصر أمره عند هذا الحد، بل إنه ليس هنالك قاموس يمكننا بواسطته تحويل العبارات التي يقولها الميتافيزيقي إلى عبارات يمكن تحقيقها بطريق مباشر أو غير مباشر.»١٨

٦

«العبارة الميتافيزيقية هي قضية لا تجريبية ذات مضمون وجودي، ويرى الوضعيون أن أمثال هذه العبارة هي أشباه قضايا، وإنما تقوم نظريتهم في ذلك على أساس أوَّلي، وهو أن الوقائع التي تصفها أمثال هذه العبارات، يستحيل أن يدل عليها برهان منطقي أو منهج تجريبي، وليس ثمة من سبيل غير هذين: الاستدلال اليقيني (أي البرهان المنطقي)، ومناهج التجريب، فليس لدينا منهج ثالث نُقرِّر به معنى الصدق لعبارة ما.»١٩

ولا يجادل الميتافيزيقيون في أن قضاياهم لا تجريبية، إذ هم لا يستخدمون خبرة الحواس حين يقولون مثلًا: «إن العنصر المعيَّن يستحيل أن يتولَّد عن عنصر آخر» (سبينوزا)، و«وجود الشيء هو نفسه إدراكه» (باركلي)، و«كل شيء قائم بالفعل فيه اتحاد مباشر بين الذات والوجود، أي بين الباطن والظاهر» (هيجل).

لكنَّ الميتافيزيقيين إذ هم لا يجادلون في أن قضاياهم لا تجريبية، تراهم يزعمون أن ثَمَّة مناهج أخرى للوصول إلى الحقائق، من ذلك أن تبدأ الإدراك بالحدس المباشر ثم تولِّد من الحدوس نتائج عن طريق الاستنباط القياسي، وعلى أساس هذا المنهج قامت الفلسفات العقلية في التاريخ الحديث كفلسفة ديكارت وفلسفة سبينوزا وفلسفة ليبنتز، «وأيًّا ما كان المنهج الذي يستخدمه الميتافيزيقيون، فلا شك أن الميتافيزيقا مؤلَّفة من عبارات لا ترتكز على التحقيق التجريبي.»٢٠
ويسير الوضعيون المنطقيون في مهاجمتهم للميتافيزيقا على خطوتَين:
  • (١)

    فهم أولًا يبينون أن كل القضايا يمكن ردها إلى قضايا أولية، مما نحققه بالخبرة الحسية تحقيقًا مباشرًا.

  • (٢)

    ثم يبينون ثانيًا أن الميتافيزيقا إنْ هي إلا نتيجة أخطاء في منطق التركيب اللغوي لعباراتها.

ونقصد بالقضية الأولية عبارة تحدثنا عن شيء فرد أو حالة جزئية مما يقع أو يمكن أن يقع لنا في مجرى الخبرة، فقولي «البرتقال أصفر.» ليس قضية أوَّلية بهذا المعنى، أما قولي «هذه البرتقالة صفراء.» فقضية أولية؛ لأن الأولى تحدِّثني عن «البرتقال» بصفة عامة، وخبرتي ليس فيها «أشياء عامة»، إنما هي تتألَّف من جزئيات دائمًا، فالعين لا تقع على «برتقال» بصفة عامة، بل تقع على هذه البرتقالة أو تلك.

ونقول: إن كل قضية — مهما تكن — يمكن ردها إلى قضية — أو مجموعة قضايا — أولية، فإذا استحال علينا ذلك، كانت القضية المزعومة قد أشبهت القضية وليست بالقضية حقًّا، أعني أنها كلام فارغ من المعنى، خُدِعْنا بكونه يشبه الكلام المفهوم، فقولنا «البرتقال أصفر» يمكن ردُّها إلى جملة قضايا أوَّلية، كل منها يتحدث عن برتقالة بذاتها معينة: «البرتقالة ١ صفراء» و«البرتقالة ٢ صفراء» و«البرتقالة ٣ صفراء» … وهكذا، حين تكون البرتقالات ١، ٢، ٣ … مما يمكن أن يُشار إليه في مكان معين لتقع صورتها على عين الرائي.

ويجمُل بنا في هذا الموضع أن نعيد ما ذكرناه في موضع سابق عن اللغة التي نتكلمها أو نكتبها، من حيث انقسام الألفاظ قسمَين: ألفاظ هي أسماء لأشياء، وألفاظ بنائية تعمل على تكوين العبارة اللغوية دون أن تكون أسماء لأي شيء.

أي كلام تكتبه أو تقوله هو مجموعة رموز، فإن كان الكلام مكتوبًا كانت الرموز تخطيطًا على ورق أو خشب أو ما شئت — تخطيطًا تقع صورته على عين الرائي — وإن كان منطوقًا كانت الرموز موجات صوتية تبلغ أذن السامع، فكيف يكون لهذه الرموز معنًى؟

انظر إلى هذه الجملة: «الكتاب بين الدواة والقلم.» فلاحظ أولًا أنها تتألف من خمس كلمات: «الكتاب» «بين» «الدواة» «و» «القلم»، من هذه الكلمات الخمس اثنتان لا ترمزان إلى أشياء في العالم الخارجي، وهما كلمتا «بين» و«و»، فليس هنالك «شيء» اسمه «بين» ولا شيء اسمه «و»، في هذه الحالة التي أصفها بعبارتي السالفة، عدد الأشياء ثلاثة، هي: (١) كتاب. (٢) دواة. (٣) قلم.

ولذلك تراهم يفرِّقون في ألفاظ اللغة — منطقيًّا — بين ما يُسمَّى بالكلمات الشيئية، وما يُسمَّى بالكلمات البنائية، الأولى أسماء الأشياء، وأما الثانية فلا تُسمِّي شيئًا، إنما هي تربط وتبني الأسماء في كتلة يكون لها معنًى وتتكوَّن منها صورة.

ونعود فنسأل: كيف تكتسب الأسماء معناها؟ الأسماء رموز مرقومة على ورق أو خشب أو غيرها، أو موجات صوتية يهتز بها الهواء، فكيف يكون لهذه الرموز معناها؟ لاحظ جيدًا أن الكلمات ليست هي الأشياء، إن كلمة «كتاب» ليست هي الكتاب الذي هو شيء يُحْمَل ويوزَن ويُقْذَف به ويُقْرَأ ويُمَزَّق، وكلمة «قلم» ليست هي القلم الذي تحفظه في مكتبك وتملؤه بالمِداد وتكتب به وتحاول إصلاحه إذا فسد، وهكذا.

ليست الكلمة هي الشيء، إنما هي ترمز للشيء أو تمثِّله أو تشير إليه أو تدل عليه، فكيف أُتيح لها أن تفعل ذلك؟ الجواب على ذلك غاية في اليُسْر، على الرغم مما تَعقَّد به الموضوع من أبحاث كثيرة يكتنفها الخلط والغموض، تكتسب الكلمة قدرتها على الدلالة بعملية الربط الذي هو من طبيعة الإنسان — بل والحيوان — كما يسجِّلها عالِم النفس في ملاحظاته وتجاربه، أرى شيئًا بعيني ويُقال لي «كتاب»، فيرتبط المرئي بالمسموع ربطًا يجعل الواحد قادرًا على اجتلاب الآخر في الذهن، فإذا سمعت صوت كلمة «كتاب» منطوقة، ارتسمت لديَّ صورة الكتاب كما رأيته، فإن كنت قد رأيت كثيرًا من الكتب، فإن صورة واحدة منها، أو عِدَّة صُوَر متداخلة مهوشة، سترتسم نتيجة لسمعي كلمة «كتاب»، وكذلك قُلْ في الكلمة وهي مكتوبة، هنا يرتبط مرئي بمرئي، فإذا رأيت المرئي «كتاب» مرقومة على الورق، جاءتني صورة الكتاب كما وقع لي في خبرتي.٢١

والصوت المنطوق أو الرسم المرقوم يكون غير ذي معنًى، إذا لم يكن قد ارتبط عندي بشيء، من أجل هذا لا أفهم الصيني وهو يتكلم، ويفهمه صيني مثله؛ لأن أصواته لم ترتبط عندي بأشياء، وارتبطت عند زميله، وقد أرى الكلمة فلا أفهم لها معنًى، ثم يُشار لي إلى مدلولها، فتبدأ الكلمة في اكتساب معناها، وإذا صادفتها بعدئذٍ عرفت مدلولها.

وليست مهمة القواميس في شرح الكلمات إلا هذه؛ تصادفك الكلمة فلا تفهم إلى ماذا ترمز، فتبحث عنها في القاموس، فتجد إلى جانبها ترقيمًا على الورق، تفهمه إذا كان قد سبق لك أن ربطته بشيء، وعندئذٍ تأخذ في ربط الكلمة الأولى التي كانت مجهولة المعنى بهذا الشيء نفسه، أما إذا وجدت الترقيم الآخر هو نفسه غريبًا عليك، أي لم تجده مما كنت في خبرتك السابقة قد ربطته بمسماه، فستظل الكلمة التي تبحث عن معناها مجهولة المعنى.

قل لي أيَّة جملة شئت هذا من حقك، لكنه من حقي كذلك أن أسألك عن معنى كل كلمة مما قد استخدمته في جملتك، فإذا شرحت لي الكلمة المجهولة بأخرى، ولم أفهم هذه الأخرى، فسيظل من حقي أن أطالبك بثالثة، حتى ننتهي آخر الأمر إلى الإشارة إلى المُسمَّى في عالم الأشياء، فإن كان ذلك مستحيلًا عليك، كان كلامك فارغًا من المعنى الذي زعمته له.

ونعود إلى ما بدأنا به الحديث، فنقول إن كل عبارة ذات معنًى، لا بد أن يكون في إمكاننا ردُّها إلى قضية أوَّلية، يكون الحديث فيها عن فرد يُشار إليه، أو عن حالة جزئية معينة من الحالات التي تقع أو يمكن أن تقع في مجرى خبراتنا.

وسنرى فيما بعد أن العبارات الميتافيزيقية يستحيل فيها ذلك، وبالتالي فهي عبارات ليست بذات معنًى، فإذا قلت لي «العنصر لا يتولَّد عن عنصر آخر»، فسأطالبك بأن تردَّها إلى جملة عبارات هي «العنصر١ لا يتولَّد …» «العنصر٢ لا يتولَّد …» إلخ، حين يكون العنصر ١، ٢ … إلخ جزئيات مما تقع لي في خبرتي، أو يمكن منطقيًّا أن تقع، فإذا احتججت بأن «العنصر» ليس مما يقع في خبرة حسية، وبالتالي ليس له أفراد جزئية كما للبرتقال والكتب والأقلام، كان ذلك دليلًا على أنك تستخدم كلمة غير ذات مدلول؛ لأنها غير مرتبطة بشيء، وقد رأينا أن الكلمة التي لا أجد عندي ما ترتبط به، لا تكون عندي اسمًا لشيء.
موضع الخطأ عند الناس في كثير جدًّا من الحالات، هو أنهم كلما صدَّروا عبارة يقولونها بكلمة ما، حسبوا أن تلك الكلمة دالة على شيء بعَيْنه، وحسبوا بالتالي أنهم بعبارتهم تلك يصفون جانبًا من جوانب العالَم، وإن تفكيرنا ليستقيم إلى حد بعيد إذا نحن وضعنا نُصْبَ أعيننا هذه التفرقة الهامة بين أنواع ثلاثة من العبارات، هي:
  • (١)

    عبارات تتحدث عن أشياء جزئية فردية، متمثِّلة في أسمائها، كقولنا — مثلًا — «العقاد يقيم في القاهرة.» أو «الهرم الأكبر يقع على الضفة الغربية من النيل.» أو «هذه البرتقالة بغير بذور.» … إلخ. نحن في هذه الأمثلة كلها نتحدث عن أفراد، وفي كل حالة من الحالات نستطيع أن نشير إلى الفرد الذي نتحدث عنه، فهو شخص «العقاد» في المثل الأول، وهو «الهرم الأكبر» في المثل الثاني، وهو «البرتقالة الواحدة المعينة باسم الإشارة (هذه)» في المثل الثالث، وفي أمثال هذه الحالات كلها، تكون القضية التي نقولها قضية أولية، ويكون تحقيقها مباشرًا؛ لأن كل قضية هنا صورة مباشرة لجزئي معين مُحدَّد يمكن الرجوع إليه بخبرتنا الحسية للتحقُّق من صدق الصورة الكلامية التي استخدمناها لتصويره ووصفه.

  • (٢)

    عبارات تتحدث عن كلمات لا عن أشياء، كقولنا «العقاد كلمة مؤلَّفة من ستة أحرف»، وها هنا أيضًا يكون التحقيق بالرجوع إلى الكلمة الموصوفة في العبارة رجوعًا مباشرًا.

  • (٣)

    وعبارات ثالثة هي التي تُسبِّب للناس كثيرًا جدًّا من أخطائهم الفكرية؛ لأنها تتحدث عن «كلمات»، ويحسبها الناس متحدثة عن «أشياء»، ويدخل في هذه المجموعة الثالثة كل عبارة موضوعها كلمة كلية، مثل قولنا «القطن يُزْرَع في مصر.» و«السكر يذوب في الماء.» و«الإنجليزي قليل الانفعال.» … إلخ، فموضوع الحديث في العبارة الأولى، وهو «القطن» كلمة لم تُخْلَق لتُطْلَق على فرد واحد من أفراد الكائنات، كما هي الحال في كلمة «العقاد» أو «الهرم الأكبر» مثلًا، لكنها كلمة وُضِعَت مشاعًا لأفراد لا حصر لعددها، هي شجرات القطن، وإذن فعمَّ أتحدث حين أقول: «القطن يُزْرَع في مصر»؟ عن أي كائن فرد من كائنات العالم الخارجي أصرف الحديث؟

إنني في الحقيقة لو أردت لكلامي أن يصوِّر الواقع لوجب أن أحلِّل عبارة «القطن يُزرَع في مصر» إلى عبارات كثيرة جدًّا، يكون موضوع كل منها اسمًا لشيء جزئي واحد، فأقول: «هذه الشجرة١ هي من أشجار القطن» و«هذه الشجرة٢ هي من أشجار القطن» و«هذه الشجرة٣ هي من أشجار القطن» … إلخ، والشجرة١ والشجرة٢ والشجرة٣ … كلها مزروعة في مصر، عندئذٍ فقط يمكنني أن أحقِّق كل عبارة جزئية من هذه العبارات التحليلية تحقيقًا مباشرًا بالرجوع مباشرة إلى الكائن الواحد الفرد الذي يكون موضوع الحديث في كل عبارة على حدة، بعبارة أخرى: يستحيل تحقيق العبارة المحتوية على كلمة كُلِّيَّة بغير الرجوع إلى المفردات التي تُطْلَق الكلمة على مجموعها.

فافرض أنني أردت الرجوع إلى المفردات التي تمثِّلها الكلمة الكلية الواردة في الجملة، فلم أجد أفرادًا جزئية لها، ثم لم أتصوَّر إمكانًا تجريبيًّا حسيًّا لوجود مثل هذه الأفراد، فماذا أقول عن الجملة؟ أقول إنها فارغة لا تتحدث عن شيء قط لا فعلًا ولا إمكانًا.

خذ لذلك مثلًا هذه العبارة الميتافيزيقية الآتية: «النفس الإنسانية كانت موجودة في عالم روحي قبل حلولها في الجسد.» كيف أفهم هذه العبارة فهمًا منطقيًّا سليمًا؟

لا بد أولًا من تحليل كلمة الموضوع — وهي «النفس» — تحليلًا يبيِّن المفردات الجزئية الواقعة في العالم الخارجي، التي تنطوي تحت هذه الكلمة، فلاحظ جيدًا أن الكلمة الكلية — كما أسلفنا لك الحديث — لا تُسمِّي شيئًا بذاته، إنها ليست اسم يُطْلَق على فرد كما تُطْلَق أسماء الأعلام على أفرادها، هي في الحقيقة وصف تشترك فيه مجموعة أفراد، فينبغي أولًا أن نعثر على تلك المجموعة من الأفراد، أو على واحد منها على الأقل، ونخترع له اسمًا من عندنا وليكن الرمز «س»، ثم نقول: إن «س» هذه التي يمكن أن أراها أو أسمعها أو ألمسها، هي من مجموعة الأفراد التي أطلق عليها كلمة «نفس»، ولكني حين ألتمس هذا الفرد بين أفراد العالم الخارجي فلن أجد، وإذن فالوصف بكلمة «النفس» لا ينصرف إلى شيء، هذا فضلًا عن أن عناصر الوصف نفسها الدالة عليها كلمة «نفس» لن تكون من بين عناصر التجربة الحسية، وبهذا تخلو تجربتنا الممكنة من الموصوف وصفته على السواء، ففيمَ الحديث؟

سيُقال هنا بالطبع إنك تطالب بالعثور على فرد جزئي بين الأشياء المادية المحسوسة، وتطالب كذلك بأن يكون وصفه بكلمة (النفس) مشتملًا على عناصر مما تدركه الحواس، لكننا نحدثك عن أشياء، لا تُحَس، فلا هي ولا صفاتها مما يمكن أن تراه بعينك أو تسمعه بأذنك. ولا بد أن يكون القارئ قد عرف الآن في وضوح بماذا نجيب على مثل هذا الاعتراض، سنجيب قائلين: إذا كان الأمر كذلك، فأنت تخدعني بالرموز اللغوية التي تستخدمها؛ لأن الرمز لا كيان له إلا أن يرمز لشيء، وارتباط الرمز بمرموزه هو الذي يجعل للرمز معناه، فإذا لم يكن هنالك الشيء الذي يرمز إليه الرمز الذي تستعمله في حديثك، فعلامَ تتحدث؟ ماذا تصف لي وماذا تُصوِّر؟ ماذا أرجع إليه إذا أردت أن أصدقك فيما تزعمه؟ أم تظنه لزامًا عليَّ أن أُنصِت لما تقوله إنصات الذي يجب أن يصدِّق بغير مراجعة ولا تحقيق؟

وددتُ لو استطعت أن أكرِّر القول ألف مرة حتى يثبت في الأذهان، أعني القول بأن الكلمة ليست هي مُسمَّاها، «الكلمة» شيء من الأشياء، و«مُسمَّاها» شيء آخر، والاصطلاح هو الذي يجعل اتفاقًا بين الناس على أن «الكلمة» تحل محل «المُسمَّى» تسهيلًا للتفاهم، فإذا وُجِد الطرف الأول دون الطرف الثاني، كان حديثك في غير موضوع، أي إنه كان حديثًا لا يشير إلى شيء ولا يعني شيئًا.

٧

وإذا كانت العبارات الميتافيزيقية رموزًا فارغة خالية من الدلالة والمعنى، إذا كانت العبارات الميتافيزيقية كلامًا لا ينفع السامع شيئًا؛ لأنه لا يدل على شيء، فكيف وقع هذا الوهم العجيب؟ كيف تمت هذه الأسطورة الكبرى، فامتلأت الكتب بها واشتد الجدل بين أصحابها؟

نشأت الميتافيزيقا من غلطة أساسية، هي التي أشرنا إليها في ختام الفقرة السابقة، وهي الظن بأنه ما دامت هناك كلمة في اللغة، فلا بد أن يكون لها مدلول ومعنًى، وكثرة تداول اللفظة ووجودها في القواميس يزيد الناس إيمانًا بأنها يستحيل أن تكون مجرد ترقيم أو مجرد صوت بغير دلالة، لكن التحليل يبيِّن لك أن مئات من الألفاظ المتداولة والمسجَّلة في القواميس هي ألفاظ زائفة، أو هي «أشباه ألفاظ» كما يُسمِّيها رجال الوضعية المنطقية، وما أشبه الأمر هنا بظرف يتداوله الناس في الأسواق مدة طويلة على أنه يحتوي على ورقة من ذوات الجنيه، حتى يكتسب الظرف قيمة الجنيه في المعاملات، وبعدئذٍ يجيء مُتشكِّك ويفض الظرف ليستوثق من مكنونه ومحتواه، وإذا هو فارغ وكان ينبغي أن يبطل البيع به والشراء، لو تنبَّه الناس إلى زيفه من أول الأمر.

وسأسوِّق لك فيما يلي أمثلة من المسائل الميتافيزيقية، تُبيِّن كيف نشأت كل مشكلة منها من وجود «كلمة»، ثم من الظن بأنه ما دامت «الكلمة» قائمة، فلا بد كذلك أن يكون لها مدلول قائم، فإذا لم يكن مدلولها ذاك مما يقع في مجال الخبرة الحسية، قيل إنه لا بد أن يكون في عالم آخر غير عالم الحس.

وأول مسألة أسوقها للتوضيح، مسألة «العنصر» أو «الجوهر» أو «الشيء في ذاته»، فنحن في حديثنا إذ نتحدث عن البرتقالة مثلًا، نقول عبارات كهذه: «البرتقالة صفراء» «البرتقالة مستديرة» «البرتقالة حلوة» … إلخ.

ولمَّا كانت كل كلمة من الكلمات التي استخدمناها هنا لتدل على صفات البرتقالة، وهي كلمات «صفراء» و«مستديرة» و«حلوة»، أقول: لمَّا كانت كل كلمة من هذه الكلمات دالة على شيء خارجي في البرتقالة، فهنالك البقعة الضوئية التي أُسمِّيها «أصفر»، وهنالك الشكل الذي أُسمِّيه «استدارة»، وهنالك الطعم الذي أُسمِّيه «حلاوة»، فقد بقي أن أعرف أين مدلول كلمة «البرتقالة» إذا أبعدت عنها العناصر التي فُرِّغت من تسميتها بأسماء الصفات السالفة الذِّكْر، بعبارة أخرى: هَبْني طرحت منها اللون والشكل والطعم وسائر هذه الصفات، وهبني كلما أبعدت عنها صفة حذفت من كلامي اللفظة الدالة على تلك الصفة، أفلا تبقى لي بعد كل هذا الطرح والحذف كلمة «برتقالة»؟ فأين مدلولها بعيدًا عن مجموعة هذه الصفات؟ ها هنا بين أيدينا كلمة «برتقالة» فلا بد أن يكون لها مُسمًّى، غير أني حين أخرج إلى عالم الحس، لن أجد إلا الصفات المُحسَّة المتمثِّلة في الكلمات: «أصفر» و«مستدير» و«حلو» … إلخ، وإذن فالنتيجة الحتمية لذلك هي أن يكون هنالك «عنصر» يخفى عن الحواس جميعًا، هو «جوهر» البرتقالة، أو هو «البرتقالة في ذاتها» التي توصف بالاصفرار والاستدارة والحلاوة.

وهكذا تنشأ مشكلة ميتافيزيقية من النظر الخاطئ إلى تكوين العبارة اللغوية، فما دامت العبارة اللغوية موضوعها كلمة «برتقالة» ومحمولها كلمة «صفراء»، ثم ما دمت قد عثرت على مدلول «صفراء»، فلا بد أيضًا أن أبحث عن مدلول الكلمة الموضوع، وإذا لم أجده في هذه الدنيا فلأفرض له عالمًا آخر وراء السحاب! المبتدأ النحوي في الجملة كفيل وحده عند الفلاسفة الميتافيزيقيين أن يكون دليلًا على وجود كائن في العالم الخارجي، ولو اعتمدنا على التحليل المنطقي في فهم العبارة لتبيَّن أن حديثنا عن الشيء وظواهره لا يدل على أن الشيء يمكن قيامه مستقلًّا عن ظواهره، إنما الذي جعله يستقل في كلمة وحده — غير الكلمات الدالة على الظواهر — هو طريقة اللغة في التعبير لا أكثر ولا أقل، ليس حتمًا أن أبحث للظواهر عن «عنصر» محوري ترتبط به لتكون «شيئًا»، فيكفي أن ترتبط هذه الظواهر بعضها ببعض، ولا حاجة بنا إلى افتراض شيء وراءها يجمعها معًا على نحو ما، وإذا لم يستطع الميتافيزيقي أن يرى كيف يمكن للاصفرار والاستدارة والحلاوة وغيرها من صفات البرتقالة أن ترتبط بغير محور يربطها، فما ذاك إلا لأنه لم يستطع أن يحلل اللغة وطرائق بنائها.

وخُذْ مشكلة ميتافيزيقية أخرى، هي مشكلة «الوجود»، فلأننا نقول عبارات كهذه: «البرتقالة موجودة على المنضدة» و«الكتاب موجود في المكتبة» و«القلم موجود في المحفظة» … إلخ، إذن فكلمة «الوجود» هذه لا بد أن يكون لها دلالتها مستقلة عن الأشياء المختلفة المُتَّصفة بها، أعني أنه حتى لو لم يكن هنالك برتقالة وكتاب وقلم … إلخ، فسيظل هنالك «وجود»، ثم يمضي الميتافيزيقي في البحث عن خصائص هذا «الوجود» الذي يتصوَّر قيامه بغير «الموجودات».

والخلط هنا كذلك ناشئ من عجز عن فهم اللغة وطرائق تركيبها، فالميتافيزيقي يحسب عبارتَين كهاتَين: «البرتقالة صفراء» و«البرتقالة موجودة» من قالب واحد ومن نمط واحد، وما دام يمكن في العبارة الأولى أن أُجرِّد «الاصفرار» عن البرتقالة لأبحث فيه على حدة، فكذلك يمكن في العبارة الثانية أن أُجرِّد «الوجود» عن البرتقالة لأبحث فيه على حدة، ولئن كان البحث في اللون من شأن عالم الطبيعة، فالبحث في «الوجود» هو من شأن عالم الميتافيزيقا.

لكن حلِّل العبارتَين تجدهما متشابهتَين في الصورة النحوية، مختلفتَين أشدَّ اختلاف في النمط المنطقي، فالاصفرار في العبارة الأولى محمول أو صفة تصف موضوعها، أما «الوجود» في العبارة الثانية فليس صفة،٢٢ إنك تستطيع أن تشير إلى البرتقالة أو تومئ إليها بغير حاجة منك إلى النطق بكلمة «موجودة»، فهذه الكلمة لا تضيف معنًى جديدًا، ولا تزيد البرتقالة صفة على صفاتها، إذ يكفي أن تُسمِّيَ شيئًا ما بأنه «برتقالة» ليكون ذلك وحده كافيًا للاعتراف بوجود ذلك الشيء، فمن تحصيل الحاصل أن تضيف كلمة «موجود» إلى الشيء الذي تُسمِّيه.
وجود «الكلمة» ليس دليلًا على وجود المُسمَّى وجودًا عَينيًّا في عالم الأشياء، هذا هو المبدأ الرئيسي الذي نستخدمه في رفض كثير جدًّا من العبارات الميتافيزيقية، ولو تابعت الفلاسفة الميتافيزيقيين في ظنهم بأن «الكلمة» لا بد لها من «مُسمًّى» لرأيت عندهم عجبًا، إذ تراهم إزاء عبارات كهذه: «الغول حيوان مخيف» و«العنقاء طائر طويل العمر» … إلخ يُحتِّمون أن يكون هناك غيلان وعنقاوات، وإلا فلو لم تكن الغيلان والعنقاوات موجودة، فماذا تدل عليه هذه الكلمات وأمثالها؟! لكنهم يعلمون أن عالَمنا هذا ليس فيه غيلان وعنقاوات، فتراهم يفرضون عالمًا آخر غير هذا العالم التجريبي ليكون مسكنًا لكل هذه الكائنات التي تعجز الحواس عن إدراكها.٢٣
وهذا بعينه هو الخطأ الذي وقع فيه أمثال «هيدجر» الذي يبني فلسفته على أن «العدم» شيء يحيط به إلغاز وغموض، ويختار «كارناب» فقرات من «هيدجر» ليوضِّح بها كيف ينشأ الكلام الفارغ عند الميتافيزيقيين، ومن أهم هذه الفقرات المختارة للتوضيح، الفقرة الآتية: «لا يجوز لنا أن ندرس إلا ما هو موجود، وبعد ذلك لا شيء، الموجود وحده، ثم لا شيء، الموجود في تفرُّد ذاته، ووراء ذلك لا شيء، لكن ماذا نقول في هذا «اللاشيء»؟ هل هناك «لا شيء» لمجرد انعدام الوجود، أعني لمجرد السَّلْب؟ أم أن الأمر على عكس ذلك تمامًا، بمعنى أن اللاشيء موجود ثم يتبع وجودَه وجودُ «السَّلْب» و«ليس»؟ إني أُقرِّر أن وجود «اللاشيء» أسْبَق من وجود «ليس» ومن وجود «السلب»، فأين نبحث عن «اللاشيء»؟ كيف نلتمسه وكيف نجده؟ …»٢٤

فانظر إلى هذه العبارة، لتعلم كيف استعمل الفيلسوف كلمة «لا شيء»، فلما نشأت الكلمة، راح من فوره يسأل: أين نبحث عن اللاشيء؟ كيف نلتمسه وكيف نجده؟ وهكذا تنشأ المشكلات الميتافيزيقية من «لا شيء»!

١  يلاحَظ أن «ميتافيزيقا» اسم لم يطلقه أرسطو على أي كتاب من كتبه، وواضع هذه الكلمة هو أندرونيقوس (حوالي سنة ٦٠ق.م) الذي قام بنشر مؤلَّفات أرسطو، إذ اتخذه عنوانًا لمجموعة من الأبحاث وضعها — وهو يرتب مؤلفات أرسطو — بعد كتاب الفيزيقا (أي كتاب الطبيعة)، ومن ثم أصبح يُشار إلى محتويات هذه المجموعة من الأبحاث بالكلمة الدالة على وضعها في الترتيب، وهي كلمة «ميتافيزيقا»، أي الفصول الواردة في مجموعة مؤلفات أرسطو بعد الفيزيقا، وإذن فلم يكن هذا الاسم عند أول وضعه دالًّا على مادة علم، بل هو اسم أُطْلِقَ على كتاب دون الإشارة إلى مادته، كما قد نسمي اليوم كتابًا بهذا العنوان: «مقالات» أو «فصول» أو ما شابه ذلك، فهذه تسميات لا تدل على نوع المادة الواردة في الكتاب المُسمَّى بها، بخلاف أسماء مثل «علم النبات» أو «علم الحساب».
لكن لم تعد كلمة «ميتافيزيقا» مجرد اسم يُطْلَق على فصول معينة كتبها «أرسطو»، دون أن يدل على مادة تلك الفصول، بل أصبحت الكلمة دالة على موضوع بذاته، فإذا أردنا أن نحدِّد مادة الموضوع، كان أضمن طريق هو أن نرجع إلى المادة التي تناولها أرسطو في تلك الفصول.
٢  Collingwood, R. G., Essay on Metaphysics، ص٥.
٣  الشرح مأخوذ من: Collingwood, R. G., Essay on Metaphysics، الفصل الأول.
٤  Wisdom, John Oulton, The Metamorphosis of Philosophy، ص١٠.
٥  راجع ص١٦ من المقدمة التي كتبها «سير ديفدرس» لكتاب «ميتافيزيقا أرسطو» الذي قام على نشره.
٦  تسمى بالإنجليزية: object word.
٧  تُسمَّى بالإنجليزية Structural word أو Syntax word، راجع في الألفاظ الشيئية والألفاظ البنائية: Russell, B., Human Knowledge، ص٥١٩.
٨  Carnap, Rudolf, Logical Syntax، ص٢٩٣.
٩  نكرر القول بأننا في هذا نوجز ما فصَّلناه في كتاب «المنطق الوضعي»، فإن جاء الكلام مقتضبًا؛ فلأننا نعتمد على ما قلناه هناك في هذا الموضوع قولًا مفصلًا.
١٠  Ayer, A. J., Language, Truth and Logic، ص٤١ من الطبعة الثانية.
١١  Ayer, A. J., Language, Truth and Logic، ص٣٥ من الطبعة الثانية.
١٢  Barnes, W., The Philosophical Predicament، ص٩٣.
١٣  Carnap, Rudolf, The Logical Syntax of Language، ص١٣-١٤.
١٤  Pap, Arthur Elements of Analytic Philosophy، ص١٠.
١٥  Ayer, A. J., Language, Truth and Logic، ص٣٧ من الطبعة الثانية.
١٦  Ayer, A. J., Language, Truth and Logic، ص۳۹ من الطبعة الثانية.
١٧  Ayer, A. J., Language, Truth and Logic، ص١٣-١٤ من الطبعة الثانية.
١٨  Ayer, A. J., Language, Truth and Logic، ص١٤ من مقدمة الطبعة الثانية.
١٩  Weinberg, J. R., An Exam. of Logical Positivism، ص١٧٦.
٢٠  الصفحة نفسها من المصدر السابق.
٢١  King, A., and Ketley, M., The Control of Language، راجع الفصل الأول «كيف تعمل اللغة؟»
٢٢  راجع في ذلك كتاب «كَانْت»: «نقد العقل الخالص» الترجمة الإنجليزية للأستاذ Kemp Smith، ص٥٠٠–٥٠٧.
٢٣  راجع طريقة برتراند رسل في تحليل أمثال هذه العبارات في الفصل السادس.
٢٤  Weinberg, J. R., An Examination of Logical Positivism، ص١٨٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤