اذهبوا وبشِّروا

إلى الصديق الوزير مُحيي الدين النصولي

يا سيِّد، قد تعبنا الليل كله ولم نصطد شيئًا، ولكن لأجل كلمتك نُلقِي الشبكة.

هذا ما قاله الحواريُّ الأول بطرس لمعلِّمه، بعدما ألقى شبكته في بُحيرةِ طبريا، وقعد ينتظر طول الليل، وعالَج الصيد بالصنَّارة أيضًا، فأكل السمك الطُّعْمَ و…

أشهد أنَّني عندما ساهمت في تحرير جريدة «كل شيء» جعلت العنوان: «مناوشات»، فناوشتُ ما استطعتُ، وفزتُ بإبقاء مياه «نبع قطرة» لبلادي.

ثمَّ اتخذت عنوانًا آخر: «أوراق خريف»، فذهبتْ تلك هباءً منثورًا، وكانت كاسمِها حقًّا. ثمَّ كتبتُ طويلًا في جريدة «الأحد» تحت عنوان: «من الجراب»، فكنت أمدُّ يدي إلى ذاك الجِراب في كل مناسبة، فيأتي الكلام تارةً مناسبًا، وطورًا غير مناسب، أي حينًا يُسخِط، وآونة يُغضِب، ولكنِّي مضيتُ في طريقي ساعيًا إلى غايتي ولا يعنيني ما يقول الناس.

وفي «المجالس المصوَّرة» كان العنوان: «حبر على ورق»، وأنا أحارب فيه على كل الجبهات. ومن يخشى المعارك وشعارُها: حبر على ورق؟!

عندما كان الانتداب في أوَّلِ عهده جاء أحد المفتشين لزيارة مستودعات أوراق سراي «بعبدا» القديمة، فدخلها وفي صحبته رئيس القلم العتيق في خدمة الحكومة. كان هذا يطمع بالترقية الكبرى؛ لأنَّه شقيق مطران، فقال للمفتِّش حين أراه المستودع وما فيه من ذخائر فعلتْ فيها الجرذان والفيران فِعْلها: أتعرف يا مسيو … كم قضيت من العمر في هذا المركز؟

فقال الفرنجي: لا، قُلْ إذا شئت.

فأجاب رئيس القلم: ثلاثين سنة وأكثر.

– هوه، هوه، الحمد لله على السلامة، اشْكُر ربك على أنَّ الجرذان لم تأكلك.

وأنا أشكر ربي على العافية، ولا أرجو سواها، وسأظلُّ أكتب إلى أن يُطلَّ القدر المكتوب، فلا أقلَّ من أن أخدم بلادي بهذا الحبر والورق، ولا سلاح لي سواه. ولن أقولَ لمن يعنيهم الأمر ما قاله الحُطيئةُ للزبرقان:

أدركت يأسًا مريحًا من نوالكم
ولا ترى طاردًا للحرِّ كاليَاسِ

العوامُّ وغيرهم يطردون الشيطان باسم الصليب، أمَّا شيطاني فلا يطرده شيء؛ رأسه يابس، وعينه جامدة؛ فهو لا يتوارى أبدًا.

قال الأستاذ محيي الدين النصولي في جريدته «بيروت» في حديثه عن «مال الاحتياط»:

المال المتكدِّس يجوز أن يكدِّسه الأفراد لا الحكومات، فالفرد نتسامح معه إذا درج على سياسة الادِّخار، أمَّا الحكومة فلا نتسامح معها قط، ومن واجبها، بل من واجبها الأول أن تنفق دائمًا؛ ليطمئنَّ الشعب إلى أنَّ أمواله لا تنام في صناديق الخزينة، بل تدور بين المواطنين؛ لترفع مستوى معيشتهم، وتشيع الرفاء بين صفوفهم، ويجدوا فيها منافع لهم.

ذكَّرتني كلمته هذه بما فعله نابليون، جبَّار الأقزام والعمالقة، بعدما تُوِّج إمبراطورًا.

دخل كاتدرائية «نوتردام» في باريس فرأى فيها ثلاثة عشر تمثالًا مسبوكة من الذهب الخالص، وكانت الدولة في حاجة إلى المال، فحضرته النُّكتة — والنكتة في اعتقادي وحيٌ ما — فقال نابليون: «أبقوا السيد المسيح وحده هنا، أمَّا تلاميذه فلا محلَّ لهم معه؛ لأنَّه هو أمرهم بقوله: «اذهبوا وبشِّروا باسمي جميع الأمم».»

وفي الحال أُنزلت تماثيلُ الرسل الاثني عشر، وأرسلت إلى دار الضرب، فصارت دنانير نابليونية تداولها الشعب الفرنسي الذي أحبَّ نابليون، فنفَّست عنه بعض الشيء.

إنِّي أتمنى، يا أخي محيي الدين، أنْ يُقال لمال الاحتياط ما قيل لتماثيل الرسل: «اذهب وحوِّط لبنان باليسر.» فيزول كابوس الضائقة عن النفوس.

«الشبعان يفتُّ للجوعان فتًّا بطيئًا.» هكذا قال المثل العربي القديم، ونحن يا سيدي بطوننا خاوية، وإذا كان لا بدَّ من موتة فقبل رمضان …

إنَّني أكتب رغم اعتقادي أنَّ كلامي حبر على ورق، أو صرخة في وادٍ، لا تُزعزع جبلًا، ولا تخيف أسدًا.

إنَّ صياح الديك لا يُطلع الفجر، ولكن لا بُدَّ للديك من أن يصيح.

قرَّب الله الصبح الذي نسمع بتباشيره.

فمتى تُحقِّق الأعمال الأقوال، ولا نظل نسقي الكمون بالوعد؟

عالية، ٥ / ٥ / ١٩٥٤م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤