إشعاع بلا زيت

ليس بدعة في «الاقتصاد الوطني» ما زعمته في تلك الحفلة.

تذكَّرت بؤس عمر فاخوري قبل أن يلفَّه ليل الأبد، فلُمْت سادات «وطن الإشعاع» لتركهم سراجًا نيِّرًا ينطفئ في قرنة بيته، وهو لم يَعف وظيفته إلا لتأييد حق بلاده.

فما الداعي لغضبة مضرية هتكت حجاب الشمس؟

لماذا احرنجم الصديق الشاعر يوسف غصوب؟

ألأنَّنا سألنا مَن يعنيهم الأمر أن يرحموا الأديب حيًّا، لا أن يترحَّموا عليه ميتًا، فرحمتهم تلك لا تفكُّ الريق؟ …

لماذا أغضب الأستاذ؟

ألأننا رأينا شمع الدولة يوقَد للعميان، وقلنا لهم أنيروا أولي الألباب والبصائر؟

نرى في الميزانية عشرات الألوف تُرصَد لتنشيط كذا وكذا … أفلا يصِحُّ أن يكون للأدب الرفيع «مثل أدب غصوب مثلًا» حصة من ذلك الجزور الذي يَضرب فيه كفُّ مغامرٍ بسهامه، فيأخذ أعشاره كفاطمة امرئ القيس.

عندما كانت ميزانية لبنان تُحسب بالأكياس — أي على عهد المتصرفيَّة — لم يخطر ببال أحدٍ منَّا — نحن المخضرمين — أن يغنم غرشًا واحدًا من ميزانيةٍ لكلِّ قرشٍ فيها فراغ يسده … أما اليوم، يا سيدي الأستاذ، فالمال مثل الكشك، والراكضون وراءه أكثر من النمل، فلماذا لا يكون للأديب نصيب؟ ألأنه أديب؟

عفوًا يا عزيزي، نسيت أن أقول: لم يكن لبنان … صار بلد إشعاع. لنطالب بزيت للقناديل.

سِرْ بنا إلى أوروبا، وأنت سيِّد العارفين بالأدب الفرنسي، لماذا يحق لبوالو ما لا يحق لمارون عبود؟

ألم يلفت بوالو نظر كولبير إلى أُعطية كورني الفقير المتروك؟

هل كان الملك الشمس١ أمْيَل إلى الأدب من فخامة الشيخ؟

لا وربِّي.

أليست ميزانية لبنان اليوم — نسبيًّا — كميزانية فرنسا في ذلك الزمان؟

نعم يا أستاذ.

أمَا طالب الدكتور طه حسين، قبل أن اسْتُوزِر، بحق أولاد المازني على الدولة؛ فانفتحت بوجههم المدارس؟

أجل يا صديقي.

وبعدُ، فبماذا طالبت أنا وماذا شكوت حتَّى لعب البرغوث في عبِّك؟

كان من الحق أن أشكوَ شيئًا واحدًا؛ ألا وهو تنابز الأدباء وتحاسدهم وطول ألسنتهم …

أنا ماذا قلت: قلت يموت رجل غني أو ذو نفوذ أو موظف، فتهتزُّ الأرضُ بالطولِ والعرض (كذا)، وغدًا، وبعد العمر الطويل، يا يوسف، أموت أنا؛ فلا يشعر بموتي أحد، ثمَّ تموت أنت يا طويل العمر، فلا يشعر بموتك إلا أم «العيون الخضر»، إن لم يكن وجهها ازرورق واخضوضر. اسمحوا لي باستعارة هذا العيار منكم ولو لمرَّة.

عجيب أمرك يا صاحبي، كيف لم تفهم من كلامي إلا المال، مع أنَّك من طُغمة الأدباء لا من طُغْمة «مرحبًا يا خال»؟

ثمَّ رحت توصل وتفصل حتَّى قلت: على الأديب أن يكون كالكاهن. أحقًّا ما تقول؟

أمجَّانًا أخذ الكهنة ومجانًا أعطوا؟

ما لنا ولهؤلاء، فلنبقَ معك.

رأيتك تُقسِّم الأدباء فئات، فخِلتُ أنَّ لديك مليونًا تريد أن توزِّعه عليهم بحسب استحقاقهم، ثمَّ رأيتك بعد أن أبقيت منهم ربعًا عُدتَ فأخرجت ذلك الربع من بابٍ شرقيٍّ، فكان أليكون: لا شيء!

رُوَيْدك يا صاحبي، فإذا أردت أن تجعل فنَّك وأدبك الرفيعين مقياسًا، فلن تجد في الشرق أديبًا من عيارك الثقيل وعلى عقلك …

إنِّي أودِّعك الآن على رجاء أن أُسمعك «في قابل» حكاية تسرُّك.

لا تُرَع، فالحكاية لا تمسُّك بسوء.

لا عاش من يرشقك بوردة، يا مكحول العينين.

عالية، ٢١ / ٦ / ١٩٥٠م
١  لويس الرابع عشر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤