تحديث النسخة المنقحة

التعطُّش للاختيارات

ساعد الرجل شابة لتقف على حافة النافذة، ثم دفعها بعيدًا عن المبنى، ربما مثلما يفعل راقص … تركها.

كانت [السيدة] الرابعة على ما يَبدو حبيبته. شعر شهود العيان بالدهشة لما رأوهما يَتعانقان ويُقبِّل كلٌّ منهما الآخر. ثم دفعها نحو الخارج وأسقطها.

مشاهد من حريق مصنع تراينجل شيرتويست عام ١٩١١، من كتاب بعنوان «تراينجل: الحريق الذي غيَّر وجه أمريكا»، تأليف ديفيد فون درهل (نيويورك: مطبعة جروف، ٢٠٠٣)

وقفوا على نوافذ البناية، على ارتفاع نحو ١٠٠ قدم من الأرض، الجلود تغلي، والنيران من ورائهم ولا شيء أمامهم.

لم يكن هناك خيار.

هل كان من الأشجع أن تَبقى داخل البناية أم تقفز منها؟ فوقوع شخص على الأرض من ارتفاع نحو ١٠٠ قدم يَستغرق ثانيتين ونصف الثانية. هذه الفترة الوجيزة تُبرِّد الجلد الملتهب بفعل الهواء. ثانيتان ونصف الثانية يستريح خلالها مَنْ يسقط قبل أن يلقى حتفه.

إحدى مزايا القفز — وهي قليلة جدًّا — أن بإمكان أسرتك أن تتعرَّف على جثتك. قفز ثمانية عمال. ظنَّ العمال الذين يقفون على الأرض أن هؤلاء لفافات من القماش أُلقيَ بها من النوافذ؛ كما لو أن هذا منطقي، كما لو أن الملابس بحاجة إلى إنقاذ.

لم يكن هذا عام ١٩١١، وإنما كان شبيهًا له. لم يكن هذا مصنع تراينجل شيرتويست الذي قتل ١٤٦ عاملة احتُجزَت بداخله في مدينة نيويورك، مما أثار غضب الرأي العام وعزَّز حقوق العمال فيما بعد. لم يكن هذا من زمن سابق، وإنما يحدث الآن. هذا بعد ١٠٠ عام من الحريق الشهير؛ عام لكلِّ قدم قفزتها العاملات أثناء حريق مصنع تراينجل شيرتويست. هذه المرة لم يحدث هذا في أمريكا، وإنما في بنجلاديش.

احترق تسعة وعشرون عاملَ ملابس بنجلاديشي أحياء، أو اختنقوا بفعل الدخان، أو قفزوا ليَلقوا حتفهم أثناء حريق مصنع الملابس الواقع بالقُرب من ملاهي فانتازي كينجدوم في ١٤ ديسمبر ٢٠١٠.

في حديثٍ مع برنامج «ديموقراسي ناو!» قال تشارلز كيرنيجان، مدير معهد العمالة العالمية وحقوق الإنسان، في معرض حديثه عن الحريق:

حدَث هذا وقت الغداء؛ حيث كان العمال داخل المقصف في الطابق الحادي عشر، وبدءوا يَشمُّون رائحة دخان. لم يشعروا بالفزع، وإنما فعلوا ما فعله العمال في مصنع تراينجل؛ توجَّهوا ناحية المخرج. حاول العمال الخروج. كانت ألسنة اللهب كبيرة جدًّا والدخان كثيفًا للغاية؛ ولذا اضطُروا إلى التراجع. ركضوا عبر المقصف إلى الجانب الآخر من البناية وحاوَلوا أن يخرجوا من مخارج طوارئ الحريق، ولكنها كانت مغلقة. احتُجزوا بالداخل … أتعلم ما الذي أخبرنا به العمال؟ قالوا إن الإدارة تغلق، عادةً، مخارج الطوارئ أثناء الحرائق حتى لا يَتمكَّن أحد من سرقة الملابس.

أُصيب أكثر من ١٠٠ شخص، والتهمت ألسنة اللهب ٤٠٠ ألف سروال للأطفال كان من المُقرَّر إرسالها لأحد فروع متجر «جاب» القريبة منك.

تلقَّت أسر القتلى ٢٠٨٠ دولارًا تعويضًا عن خسارتهم. وكانت شركة جاب من أول من حرصوا على التأكُّد من تعويض المتضررين من الحريق وتحسين معايير السلامة ضد الحرائق داخل المصنع.

هذا ليس بجديد؛ ففي الفترة ما بين عامي ٢٠٠٦ و٢٠٠٩، فقد ٤١٤ عاملًا حياتهم في ٢١٣ حريقًا داخل المصانع. وصناعة الملابس في بنجلاديش تنمو بمعدل جنوني؛ ولذا تُشيَّد المباني سريعًا وتَجري التجديدات على عجل. وبسبب هذه العجلة انهار مصنع مثلما ينهار بيت العنكبوت؛ مما تسبَّب في قتل ٦٤ عاملًا عام ٢٠٠٥.

لقد تضاعفت هذه الصناعة تقريبًا منذ زيارتي عام ٢٠٠٧، وهي تُمثِّل الآن ١٥ مليار دولار من حجم الصادرات ويعمل بها ٣٫٥ ملايين شخص.

لم تعد عريفة منهم؛ لأنَّها تركت عملها بالمصنع في ٢٠٠٩ لتبقى بالمنزل مع ابنتها، سعدية، التي بلغَت من العمر آنذاك ٨ سنوات.

قالت عريفة لروما، الصحفية التي رافقتْني في مدينة الملاهي فانتازي كينجدوم في يناير ٢٠١٢: «من الخطورة أن تتركَ فتاة وحدها بأي مكان في هذا البلد. لن أترك ابنتي وحدها حتى مرحلة معيَّنة. وإذا اضطُررت لأن أبقى بلا عمل بسبب ذلك فسأفعل.»

إنهما تعيشان في نفس البناية الآيلة للسقوط التي تُديرها عريفة وتعيش فيها مجانًا بدون إيجار.

الآن يَتقاضى عمال الملابس أجورًا أعلى، لكن المعركة لم تكن سهلة؛ فقد خرَج العمال إلى الشوارع وقطعوا الطرق السريعة وقُبِضَ على زعماء العمال. لقد خُرِّبَت مصانع، وتوقَّفت الصناعة فجأة، وفي النهاية زاد أدنى أجر للعمال من ٢٤ دولارًا إلى ٤٣ دولارًا في الشهر، ولا يزال هذا أقل أجر على وجه الكرة الأرضية. وعلى الرغم من أن هذه الزيادة في الأجر قد تُغير وجه الحياة على ما يبدو، فإن ذلك لم يحدث نظرًا لأن تكاليف المعيشة في بنجلاديش تضاعَفت خلال السنوات الخمس الماضية.

تواصلتُ مع عريفة في عام ٢٠٠٩ حين كانت لا تزال تعمل في المصنع. كانت تتقاضى ٢٤ دولارًا في الشهر وتَشتري أرزًا ﺑ ١٥ دولارًا في الشهر.

لم يكن العمال الذين خرَجوا إلى الشوارع يتوقون إلى مزيد من الحقوق أو زيادة في الأجور، بل كانوا جياعًا فعلًا. وزيادة الأجور لم تجعل مستوى معيشتهم قريبًا لما كان عليه حين زرتُ بنجلاديش عام ٢٠٠٧، إلا أنها كانت كافية لإعادتهم إلى المصانع على أيِّ حال.

قالت عريفة لروما: «صحيح أن قطاع الملابس بوجه عام في بنجلاديش شهد تحسُّنًا فيما يتعلق بالأجور، ولكن في الوقت نفسه صار مستوى المعيشة مرتفعًا جدًّا. لم تُضف زيادة الأجور لحياتنا أي شيء. المرتبات تزداد، ولكن أسعار كل السلع المنزلية والطعام والشراب تزداد يومًا بعد يوم. وهكذا أصبح من الصعب لأناس مثلنا أن يعيشوا الحدود الدنيا لمستويات المعيشة.»

عاد أرمان، ابن عريفة الأكبر، من المملكة العربية السعودية وهو يعمل الآن بمرأب في دكا؛ حيث يتقاضى أجرًا شهريًّا قدره ٤٩ دولارًا، ويَدعم الأسرة بدخله بالإضافة إلى دخل ديدر، زوج أخت عريفة الذي لا يَزال يعيش معهم.

أكمل ابنها، عابر، ذو الستة عشرة ربيعًا الذي كانت تخشى إرساله للعمل بالخارج، عامه الثامن بالمدرسة. كانت عريفة تودُّ أن يُكمل دراسته، إلا أن أزمتهم المادية أجبرتها على مساعدته في أن يجد عملًا.

عريفة لا تُريد أن يصبح عابر عامل ملابس، فهي تعزو الآلام التي تشعر بها في رقبتها وذراعيها إلى سنوات عملها بمصنع الملابس. إنها لا تريد عابر أن يعاني مثلها، ولكنه قد لا يملك خيارًا مثل الكثير من الناس في بنجلاديش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤