الفصل الثالث عشر

العام صفر

«قبل يومين، نُسِفَت بقرة هناك.» هذا ما قاله تيم ريم الذي لم يكن يعيش مع زوجته سواي بالقُرب من حقل ألغام حقيقي، وإنما كان يعيش «وسط» هذا الحقل. وعلى أعمدة من البامبو مخطَّطة بالأحمر والأبيض عُلِّقت لافتات مرسوم عليها جمجمة وعظمتان متقاطعتان. وفوق الجمجمة كُتبت حروف اللغة الخميرية وتحتها الترجمة: «خطر! ألغام!» جلَس تيم ريم وسواي في الظل أسفل منزلهما الخشبي القائم على ركائز خشبية طويلة. كان تيم ريم يجلس على صندوق خشبي، وسواي تتأرجَح على أرجوحة شبكية.

قال تيم ريم: «أمس، داس أحدهم على لغم أرضي ونُقل إلى المدينة لتلقِّي العلاج.»

تيم ريم وسواي كبيران في السن ونَحيفان في الجسم؛ حيث بدا رأساهما كبيرين جدًّا مقارنة بجسديهما الهزيلين. كان لا يملك كلٌّ منهما سوى سنٍّ واحدة، وهذه السِّنُّ كانت موجودة على لثة الفك السفليِّ لتيم ريم وكأنها شاهد قبر أعوج ذو لون أبيض باهت، حتى تجاعيدهما كان لها تجاعيد. بدءًا من وهنهما وحتى رأسَيهما الحليقين اللذين كُسيا باللون الرمادي، تقدم بهما العمر حتى صارا يُشبه كلٌّ منهما الآخر. لقد أُصيب تيم ريم بسكتة دماغية تَظهر آثارها حين يسير وفي طريقة حمله لذراعه اليمنى. ولم تكن سواي نفسها في حالة أفضل كثيرًا.

كنت في غرب ثاني أكبر مدينة بكمبوديا، باتامبانج، وقد وافق صديقي الكمبودي، كيم، على مرافقتي إلى الريف. كان كيم يعمل لدى المجموعة الاستشارية لإزالة الألغام (إم إيه جي)، وهي منظمة غير حكومية تعمل على إزالة الألغام والذخائر القابلة للانفجار في كمبوديا. وتعمل المجموعة بكد منذ عام ١٩٩٢، ويبدو أن عملها ليس له نهاية أبدًا.

في مقال بعنوان «قنابل في مختلف أنحاء كمبوديا» نُشر في عدد مجلة «ذا والروس» الكندية بتاريخ أكتوبر ٢٠٠٦، ادعى تايلور أوين وبن كيرنان أن كمبوديا ربما تكون أكثر دولة تعرَّضت لقصف في التاريخ. وأشارا إلى أنه بالرغم من أن الحرب العالمية الثانية شهدت إلقاء قوات التحالف مليونيَ طنٍّ من المتفجرات والقنابل — من بينها ما أُلقي على هيروشيما وناجازاكي — فإنه في الفترة من ١٩٦٥ وحتى ١٩٧٣، ألقت الولايات المتحدة ٢٫٧ مليون طن من المتفجرات والقنابل على كمبوديا، وهي دولة أصغر قليلًا من ولاية أوكلاهوما. بدأ القصف سرًّا عام ١٩٦٥ تحت قيادة إدارة جونسون، وكان يحدث على الأرجح لدعم تحركات وكالات المخابرات المركزية (سي آي إيه) والعمليات البرية للقوات الأمريكية الخاصة. وفي عام ١٩٦٩، وتحت قيادة إدارة نيكسون، تم تصعيد القصف لتدمير المقار المُتحرِّكة الخاصة بحركة المقاومة المسلحة فيت كونج وجيش فيتنام الشمالي ولتوفير استراتيجية للخروج من حرب فيتنام. وأبلغ هنري كسنجر أوامر نيكسون إلى الجنرال ألكسندر هيج قائلًا: «إنه يريد قصفًا شاملًا في كمبوديا. ولا يريد سماع أي شيء. إنه أمر ويجب تنفيذه؛ استخدم أي شيء يَطير لاستهداف أي شيء يتحرَّك. هل فهمتَ ذلك؟»

وزعم أوين وكيرنان أن حزب الخمير الحمر — وهو حزب شيوعي مُتمرِّد في كمبوديا — استخدم عمليات القصف لتجنيد القرويِّين وزيادة عددهم من بضعة آلاف لأكثر من ٢٠٠ ألف. وفي النهاية، وصل حزب الخمير الحمر إلى سدة الحكم، فارضًا بذلك شكلًا مُتطرِّفًا من أشكال الشيوعية الزراعية. وأعدم الحزب أي شخص اعتبروه عدوًّا لهم، كما نفذ الحزب عملية إبادة جماعية قُتل فيها ١٫٧ مليون شخص. وعلى الرغم من الإطاحة بحزب الخمير الحمر من السلطة عام ١٩٧٩، فإنه أحكم قبضته بقوة على مقاطعة بايلين في أواخر تسعينيات القرن العشرين. ووفقًا للمجموعة الاستشارية لإزالة الألغام (إم إيه جي)، زرع الحزب ملايين الألغام الأرضية لحماية منطقته.

قال لنا تيم ريم: «أعرف أين توجد الألغام. لقد زرعتُها بنفسي.» كان تيم ريم جنديًّا سابقًا في حزب الخمير الحمر. سمعتُ أن الكثير من القادة والجنود ما زالوا يعيشون في هذه الأجزاء من البلاد، ولكنَّني لم أتوقع أبدًا أن ألتقي بأحدهم.

واصل تيم ريم قائلًا: «لقد بنيتُ هذا المكان عام ١٩٩٠. أزلتُ أنا وأخي بعض الألغام، ولكنني لست متأكدًا من أننا قد أزلناها جميعًا. ونظرًا لأن ثمة احتمالًا بوجود بعضٍ منها بالجوار، فإننا نضع حفنة من التراب والقاذورات أولًا. لقد أخلينا بعض الأراضي.» ابتسم ثم أردف قائلًا: «وأُخلي البقر عن بعض الأراضي.»

إن الألغام التي زرعها تيم ريم انفجَرت في بقر جيرانه وانفجرت في جيرانه أنفسهم.

لقد قتلت القنابل الأمريكية عشرات الآلاف، إن لم يكن مئات الآلاف من الكمبوديين بين عامي ١٩٦٥ و١٩٧٣. ومنذ ذلك الحين قتَلت القنابل الأمريكية — بالإضافة إلى الألغام التي زرَعها حزب الخمير الحمر — وجرحت الكمبوديِّين بمعدل شخصين يوميًّا.

قالت سواي، التي كانت راضية بالجلوس والاستماع حتى ذلك الوقت: «إنه يبلغ من العمر ٧٢ عامًا، لم يعد في مقدوره إزالة الألغام. هو لا يَستطيع تذكُّر مكانها جميعًا.»

وبينما كنتُ أودع — أنا وكيم — تيم ريم وسواي، طفق كلباهما ينبحان على شيء من بعيد. فاستدار الزوج والزوجة في آنٍ واحد وصاحا فيهما ليَسكُتا.

•••

كنتُ أتتبع سوكبيسيث (سوك) خطوة بخطوة في حقل أسرته.

إذا كان آخر شيء تريد سماعه في حقل الألغام هو «بووم»، فإن الشيء قبل الأخير هو …

«كيلسي! كيلسي! انتبه إلى موضع قدمك!» هذا ما قاله كيم وهو يُشير إلى الأرض من تحتي. تجمَّدت مكاني وقدمي اليمنى تتأرجح فوق ما ظننتُه نوعًا من المتفجرات البغيضة.

انفجر كيم في الضحك، وانضمَّ إليه سوك وعمدة القرية القريبة. الضحك «هو» الصوت الذي تريد أن تسمعه في حقل الألغام.

أشار كيم إلى لافتة ذات لون أبيض وأحمر في وسط الحقل قائلًا: «لا داعي للقلق.» ثم ترجم كيم المكتوب على اللافتة قائلًا: «لقد طهَّرت المجموعة الاستشارية لإزالة الألغام (إم إيه جي) هذه الأرض.» وأردف قائلًا: «بدأت المجموعة الاستشارية لإزالة الألغام تطهير هذه الأرض في أغسطس ٢٠٠٦ وانتهت من العمل في ٢٣ فبراير. وقد أزالت ١٧٤ لغمًا يستهدف الأفراد و٢٢ ذخيرة غير مُنفجِرة.»

قال سوك: «سنَنتقل إلى هذه الأرض في أسرع وقت مُمكن، ولكنني مزارع، والوقت الحالي هو وقت مزدحم بالعمل.»

يعيش سوك وأبناؤه الثلاثة وزوجته في الوقت الحالي مع والدَيه في القرية بمنزلٍ أشبه بمنزل تيم ريم وسواي، ولكنه أكبر قليلًا وأشبه بمتجرٍ عام يَبيع أشياء مُتفرِّقة ويتسكع فيه أشخاص كُثر أكثر من كونه مكانًا يستطيعون العيش فيه.

كانت مساحة الأرض التي أشار إليها من بعيد تبلغ نحو ستة أو سبعة أفدنة. وشرَع يصف خططه. كان يرى بِركة مياه بحاجة إلى حفرها بالقُرب من صخرة وكومة شجيرات. ومن فوق منصة مصنوعة من الخَيْزُرَان، رأى حقلًا بحاجة إلى تطهير ومجموعة صغيرة من أشجار المانجو والموز تحتاج إلى زرعتها.

قال سوك: «في الماضي، كان يَنتابني شعور سيِّئ، ولهذا لم أكن أستغلُّ هذه الأرض. أما الآن، وقد جرى تطهيرها، فأشعر بسعادة بالغة.»

ضبَط سوك قبعة البيسبول المُمزَّقة خاصته وخلَّل أسنانه بظفره الطويل غريب الشكل. وأخبرنا بأنه بدأ بالفعل تطهير هذه الأرض المزروعة بالخَيْزُرَان قبل أن تُطهرها المجموعة الاستشارية من الألغام الأرضية.

سألته قائلًا: «أليس هذا أمرًا خطيرًا بعض الشيء؟»

لم يَنتظر سوك ترجمة كيم، وإنما شمَّر سرواله ليكشف عن ندوب في حجم الهامبرجر على الجزء السفلي من ساقه. حسنًا، كانت هذه إجابة عن سؤالي. ثم أومأ إلى عمدة القرية، الذي كان يَرتدي تي-شيرتًا عليه رسومات أطفال وأبقار تطير في الهواء بسبب وقوع انفجار في أحد الحقول. ومثل هذه الرسومات كانت على لوحات إعلانية مُصطفَّة على طول الطرق في جميع أنحاء كمبوديا. شمَّر العمدة عن ساقه اليمنى وكشف عن ساقٍ بلاستيكية صناعية باهتة اللون ومُتكسِّر منها أجزاء مُلتصق بها شبشب مطاطي خفيف أزرق.

لقد قضينا الساعة الأخيرة معًا، ولم ألاحظ ذلك.

قال سوك، وهو يُحدِّق في ساق العمدة: «هذه الأرض هي حياتي الآن، وهذا هو مستقبل أبنائي؛ أتمنى أن يزرعوا هذه الأرض يومًا ما.»

هذا، بالطبع، إحساس مألوف؛ فالوطن هو المكان الذي نريد فيه أن يصير آباؤنا أجدادًا وأن يصير أجدادنا أجدادًا لأولاد أولادنا وأن يصير أشقاؤنا أعمامًا وعمات؛ هو المكان الذي نريد أن نُكوِّن فيه أسرة.

الوطن هو الوطن حتى وإن كان مكانه حقل ألغام.

•••

كنا ثلاثة رجال نستقل درَّاجة بخارية صغيرة عائدين إلى مقاطعة بايلين؛ وهو مشهد ليس مستجدًّا على كمبوديا. مرَّت بجوارنا أسر كاملة تستقل درَّاجة بخارية صغيرة، أطفال نائمون واضعين رءوسهم على ظهور آبائهم. إحدى الدرَّاجات البخارية — التي كانت تسير ببطء بالغ عبر الطريق — كان مُثْبتًا عليها سلة ضخمة مصنوعة من الخوص، ومنها كان يُطلُّ رأس خنزير.

كان ممتص الصدمات الخاص بدرَّاجتنا البخارية يصدر صوتًا عاليًا مع كل مطب نمر عليه في الطريق الترابي. كنتُ أجلس في المنتصف بين السائق وكيم الذي كان يَجلس خلفي. نزلنا إلى وادي به بحيرة صغيرة في المُنتصف؛ كانت زهور اللوتس وردية اللون تَفترش سطح البحيرة وتَتمايل مع النسيم العليل. كان يوجد ثلاثة أعلام كمبودية تحمل اللونين الأحمر والأزرق وفي المُنتصف صورة ظلِّية للمعبد الكمبودي الشهير أنجكور وات، تُرفرف على أعمدة خيزران رفيعة جدًّا بارزة من البحيرة.

كانت السماء زرقاء صافية والتلال خضراء زاهية. كان يومًا مثاليًّا ينبغي أن يقضيه الأطفال في الوثْب باستخدام الحبال أو التدحرُج على التلال، ولكن كما تشير لافتات التحذير من الألغام الأرضية، كانت أغلب الأراضي في هذه الأجزاء مسروقة.

استكملتُ أنا وكيم حوارنا عن تأثير الألغام الأرضية على السكان المحليِّين وكيف أن منظمات مثل المجموعة الاستشارية لإزالة الألغام تُحاول توعية الأطفال بشأن الألغام والقنابل.

قال كيم: «إننا نحاول أن نُعلمهم أنهم إذا رأوا عظامًا على الأرض، يجب أن يُغادروا فورًا لأن المكان يكون على الأرجح حقل ألغام.»

سألته قائلًا: «ثمة عظام مُنتشرة في أنحاء المكان؟»

أجاب قائلًا: «أجل.»

تَمتلك كمبوديا أكبر عدد لضحايا بتر الأطراف في العالم؛ فشخص واحد من ٣٥٠ شخصًا فقد جزءًا أو آخَر من جسده.

يَنجذب الأطفال الغافلون للقنابل اللامعة التي يَجدونها في الغابة أثناء جمع الحطب. ويَجمع المُزارعون القنابل ويبيعونها للاستفادة من الخردة المعدنية بها. القنابل مُنتشرة جدًّا لدرجة أن السكان المحليِّين يَستخدمونها في صيد الأسماك. فالألغام تُشوِّه وتَقتل في حالة تامة من اللامبالاة. لقد انتهت الحرب منذ فترة طويلة، إلا أن الألغام بقيَت متربِّصة. ربما كان من الآمن أن تسير في ذلك المكان اليوم أثناء موسم الأمطار، ولكن غدًا ليس آمنًا؛ بسبب عوامل التعرية التي تنقل أو تَكشف حقل ألغام أو ذخيرة غير منفجرة.

وعلى الجانب الآخر من الوادي، مرَرْنا على بيتٍ مختلف كثيرًا عن جميع البيوت الأخرى. كان مبنيًّا من الخرسانة والقرميد.

ألقى كيم نظرة من فوق كتفي وهو يُمسك بقبعته ذات الطابع العسكري قائلًا: «هذا هو منزل أحد قادة حزب الخمير الحمر. لقد صار الآن عجوزًا، إلا أنه يعيش حياة كريمة.»

لقد أفلت قادة حزب الخمير الحمر من العقاب على مدار ثلاثين عامًا؛ ففي أغسطس ٢٠٠٦، بدأ تحقيق رسمي، أجرته الأمم المتحدة، على أمل محاكمة القادة السابقين للحزب. كان الكثير منهم قد وافتْه المنية أو يعاني من الأمراض، بمن فيهم بول بوت، قائد الحزب الذي تُوفيَ عام ١٩٩٨. ولم تُوجَّه الاتهامات إلى أحد من القادة حتى صيف عام ٢٠٠٧ حين اتُّهم قائد مسئول عن أحد حقول القتل الكثيرة؛ ساحات الإعدام الخاصة بحزب الخمير الحمر.

وبينما كنا نَقطع الطريق الترابي في سرعة بالغة، حاجبين وجوهنا حين تقترب منَّا عربة أو دراجة بخارية صغيرة، أخبرني كيم بتجربته مع حزب الخمير الحمر.

قال كيم: «كنتُ أرعى الأبقار في الغابة حين سمعت بعض الأصوات، ذهبت لأتحرى الأمر ورأيت أسرة قد قُضي عليها على هذا النحو.» وتظاهر بالإمساك بمسدَّس ووجهه نحو قفاي، ثم أردف قائلًا: «ثم دُسُّوا جميعًا في حفرة. ركضتُ بسرعة. قالت لي أمي إنه لا يجب أن يعلم أحدٌ بما رأيته. وبعد ذلك بفترة وجيزة، أرسلتني — هي ووالدي — إلى تايلاند للبحث عن أحد أصدقائهما، وأقمتُ هناك باعتباري أحد لاجئي الحرب. كنتُ في الثامنة من عمري.»

كان تيم ريم جنديًّا سابقًا في حزب الخمير الحمر، وتحدَّث إليه كيم كما يتحدث إلى أي شخص آخر. أشار إلى المنزل الخاص بزعيمٍ سابق ولم يبدُ عليه الشعور بالمرارة. كيف يكون هذا ممكنًا؟

لقد درس عالم الإنسانيات ألكسندر لابان هينتون الإبادة الجماعية في كمبوديا وتحدث مع أشخاص عن مشاعرهم حيال جيرانهم الذين تورَّطوا في قتل أصدقائهم وأُسرهم. وفي كتابه بعنوان: «لماذا قَتلوا؟ كمبوديا في ظل الإبادة الجماعية» (بيركلي، مطابع جامعة كاليفورنيا، ٢٠٠٥)، كتب عن امرأة تُدعى تشلات حكت له قائلة:

ما زلتُ أفكر في الانتقام. فكرة الانتقام هذه لا أعرف كيف أمنعها. لا ينبغي لنا أن نترك هذه الفكرة أو هذا الأمر ينمو ويَستمر لفترة طويلة من الوقت. يجب أن نُفكِّر ونتصرف بما يتوافق مع تعاليم الدارما. [والشخص الذي يسعى للانتقام] لا يَخلق إلا البؤس والتعاسة لمُجتمعنا. إنه جرثومة في المجتمع … الأشخاص الذين قتلوا أخي … جميعهم على قيد الحياة، يَعيشون في قريتي. وحتى هذا اليوم، ما زلت راغبة في الانتقام … ولكن لا أعرف ماذا أفعل … الحكومة تحظر ذلك.

سواء كان ذلك بسب الدين أو القوانين، لا خيار أمام شعب كمبوديا إلا تَحمُّل العيش مع ذكريات ماضيهم. ولكن كيف يَتسنى لهم أن ينسوا؟

كنت أود أن أسأل كيم عن هذه المشاعر نحو حزب الخمير الحمر السابق. هل كان يريد تحقيق العدالة التي فشلت حكومته والمجتمع الدولي في تحقيقها؟ هل أراد الانتقام من الأشخاص الذين تسبَّبوا في انفصاله عن أسرته؟ لكنني لم أفعل. لقد عمل كيم لدى منظمة كير حيث ساعد في مكافحة الاتجار بالجنس، والآن يعمل لدى المجموعة الاستشارية لإزالة الألغام (إم إيه جي) حيث يشتغل بتوعية السكان المحليِّين بمخاطر الألغام. وأظن أن الخير الذي يفعله مع الأشخاص الذين تجرعوا الكثير من الشر هو في حد ذاته انتقام، بطريقة أو أخرى.

كان حزب الخمير الحمر يُشير إلى عام ١٩٧٥، العام الذي وصلوا فيه إلى سدة الحكم، بالعام صفر. كان «العام صفر» يُمثِّل فكرة أن الثقافة والتقاليد والتاريخ السائد قبل عام ١٩٧٥ كان غير ذي صلة ومن ثم مُحي؛ وبذلك صارت كمبوديا أشبه بالصفحة البيضاء التي من شأنهم أن يَرسموا عليها تعاليم الزعيم ماو. في الحقيقة ضغط حزب الخمير الحمر على زرِّ إعادة ضبط الأوضاع إن جاز التعبير.

لقد أخلوا المدن وملئوا المَزارع. كانت الأولوية رقم واحد بالنسبة إليهم هي إنتاج الأزر؛ ثلاثة أضعاف ما كان يُنتج في السابق. صرَّح حزب الخمير الحمر بأن الحاجة تدعو إلى «رفع مستوى المعيشة». كانت كمبوديا بمنزلة صفحة بيضاء فارغة: لقد ذهبت المؤسَّسات الحكومية بلا رجعة، ومُنعت ممارسة الشعائر الدينية، وقُتل الأطباء والمحامون وغيرهم من المتعلمين، في الواقع ٢٠ بالمائة من السكان جرى إبادتهم، وانهار الاقتصاد.

عندما أُزيح حزب الخمير الحمر عن السلطة، كان قد حان الوقت لإعادة البناء. وجاء المجتمع الدولي ليُقدِّم المساعدة. جاءوا بالأموال، وجاءوا بالعمال، وجاءوا بالسياحة، وجاءوا بفرص العمل، وجاءوا بالاستثمار، وجاءوا بالصالحين، وجاءوا بالطالحين، وجاءوا بالأمل.

وجاءوا بالسراويل الجينز الزرقاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤