الفصل الثالث والعشرون

ميزانية محدودة

لم يكن في استطاعتي تحمُّل تكاليف الإفطار هذا الصباح. في ذلك اليوم كنتُ أتناول الطعام وفقًا لميزانية محدودة؛ لا أقصد ميزانيتي وإنما ميزانية ديوان وتشو تشون؛ فبعد أن كانا يدفعان إيجارهما ويرسلان مبلغًا إلى جوانج ولي سين، كان يَتبقى لهما ٣ دولارات يوميًّا لتناول الطعام وشراء الضروريات ودفع ديونهما؛ ومن ثم كان هدفي في ذلك اليوم أن أنفق على الأكل مبلغًا أقل من ٣ دولارات.

لم تكن جزيرة شاميان الموجودة بمدينة جوانزو مكانًا جيدًا لخوض هذه التجربة؛ فهي جزيرة بها وسائل ترفيه ورفاهية ذات طرازٍ غربيٍّ حيث يُقدم فيها أطعمة للأزواج القادمين من الولايات المتحدة المُتبنِّين لأطفال صينيين. وهناك يتناولون الطعام في أماكن، مثل مطعم لوسيز ديانر، تُقدم شطائر هامبورجر بالجبن وفطيرة التفاح ومكرونة سباجتي، وعددًا كبيرًا من الأطباق الغربية الأخرى؛ حيث تتكلف الوجبة نحو ١٠ دولارات. أما الجادَّات فهي محاطة بأشجار مورقة ويُخيِّم عليها الهدوء على العكس تمامًا من باقي مناطق مدينة جوانزو.

ومن ثمَّ توجهتُ إلى الجزيرة بحثًا عن طعام أرخص. مررتُ على الأسواق الصغيرة التي تبيع أفراس البحر المجفَّفة حيث يجلس بائعوها على أرضية الرصيف أمام المتاجر واللحوم المعلَّقة بخطاطيف والفواكه غير المألوفة.

خرجتُ إلى مركز تسوُّق مفتوح في الهواء الطلق. وأحصيت ثماني نسخ مختلفة شبيهة بمتجر إيجل الأمريكي. وقَف شباب الهيبيز وشباب في سن التعليم الجامعي يُصفِّقون ويُحاولون اجتذابي. كانوا يُشغلون موسيقى صاخبة للغاية أو يَصيحون في ميكروفون. ولم يسفر أسلوبهم في التسويق والترويج عن شيء سوى تنفيري.

لا توجد أماكن كثيرة في العالم يُمكنك فيها شراء رأس خنزير أو أرجل دجاج والتجول في الممرات لشراء سراويل جينز وأحذية ذات ماركات شهيرة، إلا أن مدينة جوانزو واحدة من هذه الأماكن القليلة.

مررت من أمام مطعم ماكدونالدز وكنتاكي وبيتزا هات ومطعم ماكدونالدز آخر. لا أمانع التجول، ولكنْ ثمة شيء مريح في هذه الأماكن؛ فأنا أعرف ما يَنتظرني هناك، ولكن في ذلك اليوم، كانت هذه الأماكن مُكلِّفة للغاية.

مررتُ على مطعم يبيع البيتزا بالقطعة، وتكون مصنوعة على طريقة نيويورك. لم أكن قد تناولتُ البيتزا منذ شهور. فكَّرتُ في التخلي عن العيش بميزانية محدودة، لكنني تماسكتُ وثبتُّ على موقفي، وقررتُ أن أذهب إلى هذا المطعم في وقت لاحق.

أنهيت صف المتاجر والمطاعم لأصِل إلى زقاق ضيق حيث لمحتُ رجلًا يحمل عددًا من علب الفوم الأبيض، ما يدل على وجود طعام الشارع رخيص الثمن على مقربة من المكان.

مقابل ٥٠ سنتًا، حصلت على سلطانية أرز وطبقين آخرين من اختياري. دفعت المبلغ لسيدة تجلس على طاولة مدرسية، وناولتني إيصالًا. انضمَّت سيدة الطلبات إلى سيدة أخرى في غرفة زجاجية ثم طلبت مني الإيصال الذي كانت أعطتني إياه لتوها. أشرت إلى البيض المخفوق مع الطماطم ثم إلى الفاصوليا الخضراء ومعها لحم من نوعٍ ما، أظن أنه سمك، ولكن قد يكون لحم خنزير. بصرف النظر عن الأطباق التي أختارها في أماكن كهذه، كان مذاق جميع الأطباق واحدًا بالنسبة إليَّ. حاولت أن أختار أطعمة لا تحتوي على عظام وأن أتجنَّب الأطعمة التي صُنعت من حيوانات أليفة كانت «جميلة» فيما مضى. قدَّمَت السيدة لي الطعام وناولتْني علبة طعام من الفوم الأبيض من خلال فتحة صغيرة في الجدار الزجاجي كتلك التي يجلس وراءها موظفو البنوك. وجدت مقعدًا فارغًا على كرسي بسلم بلاستيك.

لستُ أول شخص يُحاول العيش وفقًا لميزانية العُمال. فمُحاولتي مثيرة للشفقة مقارنةً بمحاولة جيم كيدي، ولا سيما حين تضع في الاعتبار أنني كدتُ أنهار أمام شريحة البيتزا.

ففي عام ١٩٩٧، كان جيم، مساعد مدرِّب كرة قدم بجامعة سانت جونز، يدرس علم اللاهوت بالجامعة. وفي إحدى المواد، طلب منه أستاذ المادة أن يقدم مشروعًا عن علم اللاهوت والرياضة. واختار جيم التحقُّق من ممارسات العمل التي تتبعها شركة نايكي في الدول النامية. وفي الوقت الذي بدأ فيه بحثه، كانت جامعة سانت جونز — وهي أكبر جامعة كاثوليكية في الولايات المتحدة — بصدد توقيع عقدٍ بملايين الدولارات يُلزم مُدرِّبيها ولاعبيها بعدم ارتداء شيء سوى أحذية نايكي وملابسها ومعداتها الرياضية. وتلقى جيم الذي رفض أن يرتدي أيًّا من منتجات نايكي تحذيرًا مفاده: «ارْتَدِ نايكي وإلا فُصلت من العمل.» وبالفعل انتهت الحياة المِهنية لجيم كمدرب كرة قدم، وبدأت حياته كناشط في مجال حقوق العُمال.

سافر جيم مع ليزا كريتزو — وهي الأخرى ناشطة في مجال حقوق العُمال أيضًا — إلى إندونيسيا حيث عاشا على الميزانية اليومية المحدودة لعُمال نايكي المحليِّين؛ بواقع ١٫٢٥ دولار لليوم مدة شهر كامل. وقد فقَدا معًا نحو ١٨ كيلوجرامًا كما ذكر جيم في مقالٍ كتبه لمنظمة أطباء من أجل الصحة العالمية. وصف جيم كيف عاشا «في مقصورة خرسانية ٩ أقدام × ٩ أقدام (٧٫٥ أمتار مربَّعة) بها حصيرتان غير سميكتَين للنوم … في حيٍّ مُحاط ببالوعات مفتوحة نَتِنة الرائحة مليئة بأكوام من النفايات المُحترقة والملوثات التي يُمكنك أن تشقَّ طريقك خلالها.» وقد تركتْهما التجربة أكثر تحمُّسًا لزيادة الوعي بأحوال العمال، وعن هذا كتب جيم قائلًا: «إنهم إخواننا من بني البشر؛ إخواننا وأخواتنا. سنُجاهد لنمنحهم صوتًا، لندع العالم يعرف أنهم يُعانون ويحتاجون إلى العدالة والإنصاف.»

أطلق جيم على التجربة عملًا من أعمال التضامن.

هل تجربتي تسير على المنوال نفسه؟

كنت أفكر في ذلك الأمر بينما تصبَّبتْ قطرات العرق من حاجبي لتسقط على علبة الفوم المكدسة بالأرز والبيض والطماطم والفاصوليا ولحم الخنزير المشكوك في مصدره أو ربما السمك المريب في مظهره (ما زلت مُتشكِّكًا في مصدر هذا اللحم). كان من المستحيل أن آكل كل هذا.

لا تترد كلمة «التضامن» بصفة يومية سوى بين نشطاء مجال حقوق العمال؛ ففي مؤتمر مينيسوتا لمناهضة المصانع المستغلة، سُمع تصفيق حادٌّ من الحاضرين في إشارة للتضامن، وعلَتْ هتافات التضامن ضد شركة كوكاكولا واحتدمت النقاشات التي تحوَّلت غالبًا إلى الحاجة إلى التضامن بين العُمال والمستهلكين.

كتب إميل دوركايم، عالم الاجتماع الفرنسي، عن ضرورة وجود تضامن عضوي داخل المجتمعات المتقدمة. وزعم دوركايم أنه حين تزداد درجة تخصُّص العمالة، تزداد درجة اعتماد شرائح المجتمع بعضهم على بعض مثل أعضاء الجسد الواحد، ومن ثمَّ ينشأ عن ذلك روابط اجتماعية أكثر قوة بين شرائح ذلك المجتمع. على سبيل المثال، قبل ١٠ آلاف سنة من ميلاد السيد المسيح، كان بإمكان الإنسان في مجتمع الصيد/جمع الثمار أن يَصنع أدواته وملابسه ومسكنه وأي شيء آخر يحتاجه للمعيشة. ولكن أنا لا أستطيع ذلك؛ فأنا آكل لحمًا ذبحه شخصٌ آخر، وأقود شاحنة صمَّمها شخص آخر، وأرتدي ملابس صنعها شخص آخر. ولو كنت مسئولًا عن تصنيع ملابسي، لكنتُ ارتديتُ — على الأرجح — خِرَقًا مُثبتة معًا بدبابيس أو أكياس قمامة مُلصقَة معًا. لكن شخصًا آخر يصنع الخِرَق والدبابيس والشريط اللاصق أيضًا.

فأنا لا حيلة لي.

وإذا ما اعتبرنا العالم بسُكانه هو مجتمعنا الخاص، فما الدور الذي ألعبه فيه؟

من السهل أن تلاحظ الدور الذي يُؤديه العُمال الذين التقيتُ بهم في رحلة بحثي. إنهم يصنعون المنتجات. إنهم يُسهمون حقًّا بشيء ملموس في عالمنا، أما أنا فأكتب حكايات قصيرة غير مألوفة عن سفريات بعيدة تُنشَر على صفحات الجرائد يومًا وفي اليوم التالي تُفرش هذه الجرائد في قفص الطيور. وإذا سلَّمنا بتشبيه أننا أعضاء في جسم المجتمع، فأنا أَشبه بالزائدة الدودية الموجودة لتُخزِّن ما يتبقى من هضم النباتات، ولن تلاحظ غيابها إلا إذا انفجَرت.

حقق جيم كايدي نجاحًا مدويًا، ولعلَّك لاحظتَ استضافته في برامج على شبكة تليفزيون إي إس بي إن وشبكة إتش بي أوه وعلى صفحات صحيفة نيويورك تايمز، وغيرها من البرامج والإصدارات الصحفية الأخرى من هنا وصولًا إلى أستراليا.

ربما أقول إنَّ بعض الحاضرين في مؤتمر مناهضة المصانع المستغلة كانوا أشبه بالزائدة الدودية المُنفجِرة أو على الأقل التي في مرحلة توشك على الانفجار.

ولكن ماذا عني أنا؟ لستُ زائدة دودية اجتماعية مُنفجرة.

وتجربتي لتناول الغداء بميزانية ديوان وتشو تشون لم تكن عملًا من أعمال التضامن، بل كانت من مُنطلَق إشباع فضولي بخصوص مدى كفاية مبلغ اﻟ ٣ دولارات للعيش في الصين.

هل التضامن مُمكن؟ كان العالم مكانًا مختلفًا جدًّا حين بدأتْ فكرة دوركايم عن التضامن تترسَّخ في مطلع القرن العشرين. كانت الحركة العُمالية في الولايات المتحدة تُناضل من أجل الحد الأدنى للأجور والعمل لمدة ٤٠ ساعة فقط في الأسبوع. تظاهَر العُمال في ميدان هايماركت بشيكاجو. وأصبح يُحتفل بعيد العمال. وعمَّت البلاد حالة من الفزع إثر حريق مصنع تراينجل شيرتويست. كان العُمال الذين ناضلوا من أجل حقوقهم مواطنين من بني جلدتنا يجمعنا بهم العَلَم واللغة والثقافة والولع بلعبة البيسبول. كانت حياة العُمال لا تختلف كثيرًا عن حياة غيرهم من المواطنين الأمريكيين. ولم يكن من الصعب تخيُّل كيف تبدو حياة الأشخاص الذين يصنعون ملابسنا. كنَّا — نحن وهم — كيانًا واحدًا بطريقة أو بأخرى. كان المُنتِجون يعيشون مع المُستهلِكين على أرض واحدة.

أما في الوقت الحالي، فإننا نتقاسم القليل مع العُمال المُصنِّعين لملابسنا؛ حيث يفصلنا المحيطات والسياسات واللغة والثقافة وشبكة معقَّدة من العلاقات الاقتصادية. لن تتأثَّر حياتنا اليومية إذا ما تحمَّلوا أعباء عمل تفوق طاقتهم وتقاضَوا أجورًا متدنية مثلما حدث في مطلع القرن العشرين. هكذا نحن لا نفكر في أحوالهم كثيرًا، وهم لا يُفكِّرون في أحوالنا كثيرًا. يبدو أننا لا ننتمي للجسد نفسه.

حدَّقتُ في قاع العلبة الفوم ولم يتبقَّ فيها إلا بضع حبات أرز مُتفرِّقة. لم يكن بإمكاني تصديق أنني أكلت كل هذا. ثم خطرت ببالي فكرة: ربما وظيفتي الوحيدة في العالم هي الاستهلاك.

وربما بامتناعي عن أكل أو شراء ما أريد في الوقت الذي أريد، لا أحافظ بذلك على الوظيفة الوحيدة التي أؤديها، إنني أُسهم في تمزيق تضامننا الاجتماعي.

ليست هذه نهاية سعيدة، ولكن لا يبدو أنني بصدد التوصُّل إلى نهايةٍ أخرى وأنا أُحدِّق في قاع علبة الأرز. فأنا مُستهلِك غافل لا صوت له، يرتدي ملابس تُصنع بأيدي مُصنِّعين غافلين لا صوت لهم. ولكن لا يبدو من العدل أن يُضطر ديوان وتشو تشون إلى العمل بجهد جهيد مقابل مبلغ زهيد بينما أنا — الذي يؤدِّي وظيفة محدودة — أعمل قليلًا مقابل الكثير جدًّا.

لا يبدو مطعم صغير في شارع جانبي— حيث تكلفة طبق مكدَّس بطعام الغداء أقل من تكلفة تذكرة ألعاب فيديو في مركز تشَكي تشيز الترفيهي — مكانًا مناسبًا للتفكير بعمق في حالتي كمستهلك.

ولكن أظن أنني أعرف مكانًا أفضل لهذا الغرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤