الطغاة وحُرية القَلم

في عصور الظلمة التي تمر بالأمم آنًا بعد آنٍ يعمد الباطشون البغاة إلى تقييد حرية القول والكتابة، وفي سبيل هذا التقييد يُصلون أرباب الأقلام حربًا لا رحمة فيها ولا هوادة: فمن إرهاق، إلى سجن، إلى نفي وتشريد، وهم في حربهم هذه يندفعون ضد الكتاب كاشرة أنيابهم، محمارّة عيونهم، مفتحة خياشيمهم، أشبه الأشياء بالكواسر المفترسة حين يغريها منظر الدم فيهيج فيها كل غرائزها الوحشية، ولا يهدأ لهم من بعد ذلك بالٌ، ولا يطمئن لهم خاطر إلا إذا اطمأنوا إلى أنهم حطموا تلك الأقلام إلى غير عودة إلى الكتابة، وأذلوا نفوسَ حملتها إذلالًا لا قومة لهم من بعده.

هذه الغرائز المفترسة التي تهيج في نفوس البغاة لحرب القلم وحملته، لا تهيج فيهم لمحاربة أية قوة أخرى من القوى بالغًا ما بلغ أصحابها من العز والمكانة، والقلم ليس إلا تلك القصبة الضئيلة يسطر بها صاحبها ما يجول بخاطره وما يمليه خياله أو يتسق لمنطقه، وكل ما يسطره القلم إنما يسطره على ورقة رقيقة يتناولها من الناس من شاء، فيتلو ما فيها، وله بعد ذلك أن يحتفظ بها إن شاء أو يلقيها إلى حيث شاء، والأمر كذلك سواء أكانت هذه الورقة صحيفة أم مجلة أم كتابًا من أي صنف من الكتب. فما عسى أن تنشر هذه الورقة حولها من القوة التي يخافها الظالم حتى يحشد لمقاومتها كل هذا الجند الذي يحشد، ويسخر في سبيل محاربتها كل نظم الجمعية بأسمائها من قانون وعدالة وشرطة وسجون ومشانق، وما هو أكبر من ذلك من ألوان الإرهاب والإرهاق؟ وهل انتصر الظالمون يومًا على القلم وأربابه؟ أم كان للقلم النصر دائمًا آخر الأمر، وباء مطاردوه بالخيبة والخذلان، وخلفوا من ورائهم أسوأ الذكرى وأتعس الأثر؟

أما أن يحارب البغاة القلم وحرية أربابه فلهم في ذلك كل العذر؛ فحرية القلم هي المظهر الأسمى لحرية الإنسان في أسمى صورها ومظاهرها، وحرية القلم إنما تكون حيث يمسك بالقلم رب من أربابه لا عامل من عماله. رب تؤتيه الطبيعة من قوة الخلق والإنشاء ما لا سبيل إليه إلا في جو من الحرية المطلقة، وتدفعه ليخلق هذه الحرية حوله خلقًا ولو ألقى به هو في غيابات السجون، بل تدفع ذكراه لخلق هذه الحرية إذا هو غيب بين صفائح القبور، ونحن ما نزال نرى ثمرات الأقلام منذ آلاف السنين الماضية هي التي تهز العالم حتى اليوم هزًّا، وتنشئ فيه إلى اليوم وإلى الأبد ألوانًا من الخلق جديدة؛ ذلك بأن القلم هو الأداة لتصوير النفس الإنسانية في التماسها الحق والحرية والجمال والخير، والنفس الإنسانية التي تلتمس هذه النواحي المضيئة من حياة الكون هي دائمًا نفس قوية لا تقف في وجهها حوائل القانون ولا العادة ولا الطبيعة نفسها، نفس تخلق فوق الاعتبارات الكونية جميعًا؛ لترى مكان الحق الذي تريد إيضاحه، أو الحرية التي تريد نشرها، أو الجمال الذي تعالج تصويره، أو الخير الذي تعمل لبثه وإذاعته. فإذا اهتدت إلى ما ابتغت نفثت منه على القلم ما يسطره على الورق، وإذا الذين يقرءونه يرون فيه جانبًا من جوانب أنفسهم كان محجوبًا عنهم ضياؤه، ويرون أن هذا الضياء هو الذي يبعث لهم في الحياة نورًا يجعل الحياة أجمل وأسمى وأقوم، وإذا هم ينصرون صاحب القلم إذ يتبعونه، فإن لم يتبعوه حيًّا اتبعوه ميتًا.

هذه القوة التي تنبعث من القلم على صحف الورق لتنقلها إلى الإنسان هي أقوى وأبقى ما على الحياة من سلطان. هي قوة الإيمان القائم بالنفس القوية التي متى امتلأت إيمانًا فقالت للجبل انتقل من مكانك ينتقل. هي هذه القوة الإنسانية التي تصل بين الإنسان وقوى الكون العليا، وتسمو به فوق مستوى الحيوانية حيث تكمن القوى المادية المضطربة التي يستند إليها الباطشون ويعتمد عليها البغاة، وما عسى أن تكون هذه القوة المادية، وإن آزرتها الرماح والسيوف والبنادق وكل ما في الحديد والنار من بأس وهول إلى جانب تلك القوة الكبيرة المستمدة من روح الكون كله، والباقية على الكون متصلة غير منفصلة منذ أزل الكون إلى أبده، هذه القوة الروحية الكبيرة التي يصدر القلم عنها وتوحي إليه، هي مصدر الخلق والحياة، ومصدر كل شيء في الوجود؛ بل هي التي تشكل تلك القوة المادية التي تناوئ الروح وسلطانها لكي لا يحترق الوجود من فرط ضياء الروح وحرارتها، وأي ضياء وأية حرارة أقوى من الحق والحرية والجمال والخير جميعًا إذا تجردت مما يحول دون انبعاثها في العالم، ولم يقف عائق في سبيلها فلم تبطئ في سيرها!

وكما أن حرية القلم هي وحي هذه القوى العليا، فإن الطغيان منشؤه أخس غرائز الإنسان وأكثرها أنانية وانحطاطًا. فتش عن الطغاة في التاريخ، واستمع إلى كل ما يتشدقون به من الأقاويل والدعاوى، وما يزعمونه من حبهم الخير لبني الإنسان، ومن سعيهم لذلك جهدهم، تجدهم دائمًا ينتهون إلى هذه النتيجة: إنما نطغى ببني الإنسان؛ لأنهم من غير طغياننا يضلون. هذه النتيجة الكاذبة الحقيرة هي الكمينة دائمًا وراء دعاوى الطاغية وأباطيله وزوره، وهي عبارة مزوقة تستر وراءها أفظع الجرائم التي يرتكبها الطغيان. فالطاغية يقضي على حرية الناس ولو لم يقض عليها لضلوا، والطاغية يستنزف دماء الناس ولو لم يستنزف دماءهم لضلوا، والطاغية يرى المزيد من انتشار العلم ضارًّا بالناس فليحجب العلم عن سوادهم. أو يضلوا، والطاغية يعلِّم الناس كيف يفكرون؟ وكيف يتكلمون؟ فإن هم خالفوا تعاليمه ضلوا، والطاغية يصادر أموال الناس لبذخه وسرفه، فإن لم يصادرها ضلوا، والطاغية يستمد الوحي في هذا كله من أحقر شهوات الأنانية التي يفرضها على الناس، ويريدهم على أن يؤمنوا بها ويصدقوها، فإن لم يؤمنوا ولم يصدقوا حقت عليهم كلمة العذاب ولهم سوء الدار.

هذا الضلال الذي يزعم الطاغية أنه يريد إنقاذ الإنسانية منه — وهو إنما يرديها فيه لشهواته وأنانيته — قد تنوء به الإنسانية زمنًا يجثم خلاله على صدرها الجهل والباطل والظلام، فيمد للباغي في أسباب بغيه، وهو ناشب في قلب الإنسانية أظافره ما كثّف الظلام حوله وما جاهد هو ليحول دون أن يخرق هذا الظلام شعاع من نور الحق، وللطغاة في تكثيف الظلام الذي ينشرونه حولهم أساليب عجب؛ فهم يخلقون الطوائف يطلقون عليها أسماء أضدادها؛ ليسخروا من الناس، وليزيدوهم ظلمًا. يطلقون على طائفة اسم العلماء والعلم منهم براء، وكل الغاية التي تكلَّف هاته الطائفة بها إنما هي نشر الترهات وترويج الأباطيل ومحاربة العلم الصحيح، بدعوى أنه السحر أو الكفر أو ما شاء لهم خيالهم المجرم، ويطلقون على طائفة الكتاب، وما هم بكتاب، وإنما هم منافقون متملقون لا يعرفون غير المدح يكيلونه جزافًا لسادتهم، وغير الطعن الجارح يواجهون به من يعرف سادتهم منهم نزعة إلى الحق وإلى الحرية. هؤلاء ليسوا كتابًا وإنما هم كالكلاب تبصبص بأذنابها لمن يلقي إليها بطعام أو بعظمة من العظام، وتنبح من يطلقها عليه صاحبها لنبحه، وهؤلاء لن يكونوا كتابًا ولن يطلق عليهم هذا الاسم أو أي اسم يتصل به؛ لأن الكاتب تصدر عباراته عن قلبه وعن إيمانه، أما المنافقون فتصدر كتاباتهم عن بطونهم وعن شهواتهم الخسيسة السافلة.

وكما يخلق الطغاة من يسمونهم علماء ومن يسمونهم كتابًا يخلقون ما شاءوا من طوائف أخرى يُطلقون عليها أسماء أضدادها، وكل غرضهم من ذلك أن يزيدوا الظلام الذي يعيشون، ويكرهون الناس على العيش فيه كثافة وصلابة فإذا حاول أحد أن يسلط على هذا الظلام طبقات بعضها فوق بعض شعاعًا من النور يبدد منه، فله الويل، وله النكال، وله عذاب السعير.

والحجة القاطعة على صدق هذا التصوير للبيئة التي يخلقها الطاغية ليعيش فيها، أنّك ترى كل ألوان التكريم والإعزاز في عهده تذهب إلى هؤلاء الذين يخلقهم لمحاربة العلم والنور، ويسميهم باطلًا العلماء والكتاب ومن إليهم من خلائقه، وعهد الناس بمن ينالهم إكرام الجماعة في حياتهم أن تمتد كرامتهم إلى ما بعد موتهم. أما هؤلاء فآخر كرامة تنالهم يوم يحتفل الطاغية وأنصاره بدفنهم. في ذلك اليوم ينهال التراب على صحيفتهم، ثم يكون أكبر رجاء لذويهم من بعدهم ألا يذكرهم بالخير أو بالشر أحد، وأعتقد أن ليس ثمة ما ينقض من هذه الحجة حرفًا.

وإذا كنا بسبيل الكتّاب ورجال العلم فإن المنافقين والمتملقين منهم ممن يظهرون في عصور الطغيان هم على الإنسانية بلاء دائم وشر مستطير، يفسدون الآداب والأخلاق، ويعلمون الناس الكذب والنفاق، وينزلون بأدب الكتابة إلى أحط درجاته، وهم مع ذلك من الطاغية موضع إعزازه، وإن شاب الإعزاز احتقار، ثم هم لن ينزل بهم حيف أو ينالهم بسبب إفسادهم الخلق والأدب واللغة أي أذًى. بل إنك لتراهم وهم حثالة السفالة المجسمة موضع الإكبار من بطانة الطاغية؛ لأنهم يعتقدون أن في الزلفى إليهم والقربى منهم وسيلة لاستفادة الجاه الكاذب والمال المسروق.

على أن الظُّلم وإن تكاثفت، والمظالم وإن اشتدت، والطاغية وإن استبد، كل ذلك كان من أثره دائمًا أن أثار شرارة الحرية والحق فهتكت ظلمته وبددت غياهبه، وكما تتراكم السحب حتى تحت الشمس وتبعث على الأرض من الظلمة ما تنقبض له النفس، ثم إذا بالمطر يستنفد السُّحب، ويجعل للنور من جديد منافذه، كذلك ما تلبث هذه الظلم المتكاثفة في جو الطغيان أن تبعث إلى نفس ملهمةٍ كلمة الحق ترتفع في صيحة قوية خالصة، فإذا الظلم تضطرب قوائمه، وإذا الطاغية يكفهر وجهه، وإذا المظلومون تأخذهم رعدة الخوف إشفاقًا على صاحب الصوت وعلى أنفسهم، ثم إذا الصوت يعلو ويعلو ويرتفع ويرتفع، وإذا القلوب التي وجلت من قبل رعبًا وخشية تتفتح لهذا الصوت تستقبله فرحة مستبشرة، ثم إذا هي تتبعه مؤمنة مقدسة، ثم إذا النور نور الحرية والحق يعم الأرجاء، وإذا الظلم والظالمون والطغيان والطغاة قد انقلبوا صاغرين عانية وجوههم للحي القيوم.

في العصور المختلفة جميعًا علت هذه الصيحة أول أمرها من جانب رب من أرباب القلم، ليكن نصير الحرية والحق خطيبًا أو كاتبًا أو محدثًا، وليكن عالمًا أو أديبًا أو داعيًا دينيًّا، فهو يرسل بصيحته الضياء إلى النفوس المشتاقة إلى الضياء، وما تكاد هذه الصيحة تنبعث حتى ينتبه الطغاة إلى مصدرها ويقدرون خطرها، وهم قد يجدون الوسيلة لمحاربة صاحبها كي يخمد صوته، ولا يمتد إلى ظلماتهم التي خلقوا ضياؤه، لكنهم لم يستطيعوا في حقب التاريخ جميعًا أن يخفتوا هذا الصوت، وأن يقضوا على هذا الضياء ما كان مصدره قوة ملهمة من قوى الحق السامية، ولقد عاش تولستوي في روسيا القيصرية يحارب بكتبه وبقصصه أفانين الظلم والإرهاب التي كان ينشرها حكام ذلك العصر، ويعلي في الخافقين علم الحرية وينشر لواء الحق، وكان الحكم في روسيا قائمًا على الاستبداد المطلق، مع ذلك لم تستطع يد أن تمتد إلى تولستوي، ولا اجترأت على أن تغض منه؛ لأن ضياء الحق والحرية والجمال والخير أقوى من سلطان كل سلطان، ولأن الظلم الذي يحل بأرباب القلم ممن ينصرون هذه المعاني يزيدها في النفوس قوة، وللظالمين مقتًا واحتقارًا.

وليس مثل تولستوي إلا واحدًا من مئات من الأمثال، وأرباب الأقلام الذين اضطهدوا في عصور ماضية كان اضطهادهم من أقوى الأسباب في ارتفاع كلمتهم، وذيوع صوتهم ومحبتهم، وحسن استماع الناس لهم، وشديد إيمانهم بآرائهم، وما تزال أسماء الذين اضطهدوا والذين عُذِّبُوا في سبيل نشر الحق والحرية خالدة على الزمان، وإن درست أسماء الذين اضهدوهم وعذبوهم؛ فإذا جاءت إلى الأذهان أسماء الآخرين يومًا جاءت مقرونة بالازدراء والمهانة؛ ذلك بأن الذين جاهدوا لخير الإنسانية قد نسوا أنفسهم في الإنسانية فأحلتهم الإنسانية مكان الكرامة والإعزاز من قلبها، فأما الطغاة والمستبدُّون فلا يذكرون إلا أنفسهم، ولا يفكرون إلا في أشخاصهم، ويريدون من الإنسانية جميعًا أن تكون مجيبة إياهم لما تمليه أنانيتهم، فإن هي لم تفعل أكرهت على ذلك إكراهًا، واضطرت إلى أن تخضع له ذليلة صاغرة، وقد تصغر الإنسانية أحيانًا أمام إنسان ينزل بها كما ينزل الوباء أو كما يدمرها الزلزال. لكن هذا الوباء والزلزال عارض لا بقاء له. فأما الإنسانية فباقية خالدة.

وهي في خلودها تتمثل خير تمثيل في رب القلم؛ لذلك يمقت الطغاة هذا الذي يمثل الإنسانية، ويدعو لحريتها وخيرها، ويفتح أمامها باب الحق والجمال، ولذلك تكرم الإنسانية هؤلاء الذين ينسون أنفسهم في سبيل سعادتها وهدايتها، وتنصرهم في حياتهم وبعد موتهم على الأنانيين الذين يحسبون أنفسهم فوق الإنسانية وفوق الحياة، فتزدريهم الإنسانية وتلفظهم الحياة.

ولعل الأدب في مختلف صوره خير ما تتجلَّى فيه مواهب أرباب القلم، حقًّا إن الفلسفة والعلم والتشريع وسائر ميادين الحياة في حاجة إلى ربِّ قلم قدير يدفع تفكيره وتدفع ملاحظاته إليها قوة تكفل دوام تقدمها، لدوام حياتها. لكن الأدب بمعناه الواسع هو رحيق هذه جميعًا. هو رحيق الفلسفة والعلم والتشريع وسائر ميادين المعرفة الإنسانية، والأديب الجدير حقًّا باسم الأديب هو الذي يستصفي هذا الرحيق بسمو عبقريته وقوة نبوغه. هو الذي ينبت من حقول العلم والفلسفة وما إليهما أزهار الأدب، والذي يستخلص من مناجم التشريع، ويستلهم من سماوات الفلك هذا النور الإنساني الذي سارت الإنسانية وما تزال ولن تزال تسير على هداه متوجهة نحو كمال الحق وكمال الخير وكمال الجمال، وهذا التوجه نحو الكمال هو الذي يرجّ قلوب العتاة والطغاة، وهو الذي يجعلهم يحاربون حرية القلم ما استطاعوا. فهم يؤمنون بأنه لا نور ولا زهر ولا نبوغ ولا عبقرية إذا لم تكن هذه الحرية. لكن حربهم لها كانت دائمًا حافزة إياها على القيام برسالتهم العليا، وإن لقي أصحابها في سبيل إقرار هذه الرسالة ما لقوا من ظلم سائغ وعسف مستطاب؛ ولذلك كان النصر دائمًا لرسالة الأدب، وكان الفوز الأخير دائمًا لحرية القلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤