حُكم الهَوى

كان لنا في قرية … من قرى مديرية الغربية صديق ذو كرم وشهامة تكتظ داره بمشايخ الفلاحين ومن سواهم من أصحابه وغير أصحابه ومن العظماء وذوي الحاجات، وكنت وجماعة من أصحابي نمضي عنده كل عام أسابيع نطمئن فيها إلى نفوسنا، وننسى فيها متاعب الحياة. فإذا ذهبنا إليه استقبلنا بالبشر والترحاب، ونزلنا منه في رحب وسعة، وقضينا وقتًا بين التنزه في رياض حدائقه ومشاهدة ملاعب الخيل التي تقام لمسرتنا، وبين المزارع الواسعة نقطع شاسع مسافاتها سعيًا على الأقدام أو ممتطين متون الجياد، ولقد غرس صاحبنا في مزارعه كثيرًا من الشجر أعان خصب الأرض على نموها وكثرتها، فكانت للسائرين تحتها ظلًا ظليلًا يبعث إلى النفس أنسًا ومسرة، ويقيها حر الشمس أيام القيظ.

وكان لصديقنا ثلاثة أبناء لا يزالون، على تقدم سنِّ أبيهم، يتمتعون بلذائذ الطفولة ويرتعون في نعمة حريتها، وكان أبوهم يحبهم حب العبادة. فإذا وقعت عينه على أحدهم رأيت نظرات ملؤها الحنان والعطف، ورأيت على ثغره ابتسامة الغبطة والنعيم، وإذا اقترب أحدهم منه أخذه إليه في تلطف وقبل جبينه النقي وحدق إليه طويلًا، ثم أجلسه على ركبته ومسح شعره، وشمله من حنانه بما لا يبدو من أم لابنها الوحيد، وكذلك كان غلوه في محبة أولاده موضع دهشة الكثيرين ممن يحلون فناءه.

وقد انتقلنا يومًا ونحن عنده من غرف الضيافة إلى فناء رحب؛ لنشهد ملعب خيل اجتمع إليه شبان البلاد المجاورة على أثر عودتهم من فرح كانوا يتسابقون فيه، وجاء أوسط أبناء صديقنا ووقف بجوار أبيه، فرفعه إليه وقبله وأجلسه إلى جانبه، وسرعان ما انتظمت الحلقة فدق الطبل وتقدم إلى الميدان فارس جواد أدهم محجل ضامر البطن والساق طويل شعر الذنب ضليع، وراض الفارس جواده، حتى إذا تمكن من تتبع إيقاع الطبل رأيته كأنه الراقصة على المسرح، يترنح ويميل ويدل ويعجب، يرفع رأسه تارة فتمسح أصداغه «كراريت» رأس لجامه، ويتقدم إلى الأمام مسرعًا تارة أخرى فيضيف إلى نغمة المزمار نغمة صريف الأهلة الفضية التي تزين واسع صدره، ثم إذا به كأنه ثمل انتشى فتثنت أسؤقه حتى كاد بطنه الضامر يمسح الأرض، وما هي إلا لحظة حتى تراه انتفض على سوقه فنظر يمنة ويسرة في كبر وخيلاء، وإنا لكذلك مأخوذون برقص الجواد؛ إذ أقبل أحد وجوه أهل البلد فوقف القوم يحيونه، وأجلسه رب الدار إلى جانبه، وقام الابن فوقف مع الأطفال الواقفين، وعاد الجواد يدهش الناس بتمايله وتثنيه، وبدلّه وكبره، وبلعب أبدى فيه من جمال قوامه ما تحرص كل راقصة على إبدائه حين تفتن في لين الحركات، وتثني القد، وحديث الجسم كله بما يستكن فيه من أنغام الجمال. فلما أتم دوره خرج يتبعه الإعجاب والعطف، ودخل الحلقة جواد أشهب ليس به شامة إلا ما سال من محاجره، وما كان أكبر الفرق بينه وبين سلفه! احتاج فارسه إلى أن يعمل فيه السوط والركاب لينال منه بعض حركات تعجبه، وساد وسط الجمع هرج بدل صمتهم الأول، وليت هذا الأشهب ما خرج. فإنه لمَّا أمضه السوط ومزق جنبيه الركاب أجفل فتدافع الناس من حوله وتفرقوا، ونال ابن صديقنا المحبوب من الذعر ما وقع معه مغشيًّا عليه؛ فقام أبوه كالمجنون يجري إليه ليرى ما حل به، وجعل يحدق إليه، فإذا عيون مغمضة وخدود مصفرة ولون ذاهب، فصاح: «يا بني!» صيحة سمعها الناس، وما زالوا يتدافعون مولين لا يفكر أحد منهم في كلمة عزاء لهذا الأب الذاهل يشاركه بها في ألمه بعد إذ دعا هو الناس ليشاركوه في غبطته ومسرته، وأحطنا نحن بصديقنا، ومن بيننا طبيب أراد أن يستخلص الطفل من يد أبيه، فإذا الأب ممسك بابنه حريص عليه تختلج قلبه الزفرات، وتجول في عينه العبرات، حتى كأنما بدا له اليأس منه، فهو يريد أن يعانقه عناقًا أخيرًا طويلًا. ثم ذهبنا إلى دار الضيافة واقتدناه معنا إليها. فلما احتوتنا الدار أدناها أمسك الطبيب يد الطفل ونظر إلى وجهه، وأخرج من جيبه زجاجة صغيرة أدناها من أنفه، فإذا الطفل يفتح عينيه ويجيلهما في الغرفة، وما يزال به أثر الذهول. فلما رآه أبوه رجع إلى الحياة أخذ يده وقبلها، وجعل يلاطفه ويداعبه حتى زايل الولد ذهوله، وعاد إلى الحياة، وعاوده تورده الجميل.

بعد أيام وقد انصرف أصدقائي لبعض رياضتهم، ولزمت البيت لبعض شأني، وبقي صديقنا معي يحادثني، أقبل علينا هذا الابن وجلس معنا. فقلت لأبيه في ابتسامة: لقد أحدث عندك حادث ذلك اليوم من الشجن ما كدت تذهل معه، ولا أنكر عليك أن أبًا يحب أبناءه حبك لأبنائك جدير أن يصيبه من الهم مثل ما أصابك.

فتنهد طويلًا وقال: أي هم وأي شجن رأيت! لقد قضيت طوال السنين وحياتي في شجن وهمّ حتى ابيض شعري وشاب مفرقي. ثم انقضى الهم والشجن بعد أن بلغت ما أردت، وكانت ثمرة ذلك هؤلاء الأبناء الذين ترى. أفتراني بعد ذلك مغاليًا إذا بلغ حبي لهم حد الجنون؟!

لم أفهم كل ما أراد أن يقول. لكنني أدركت أن له في الحب حديثًا طويلًا، وأنه قاسى في سبيله أكثر ما يقاسي الرجل، ثم حصل على من أحب وبنى بها، فأنجبت له هؤلاء الأبناء، فشاقني أن أقف على همه الأول وشجنه الماضي، فقلت: أي هم تريد؟ لعل لك حديثًا لا تضن عليَّ بذكره! قال: إنه يا صاح حديث حياتي، وما ذكرته مرة وذكرت كيف توّج القدر جهادي بالظفر إلا أحسست جمال الحياة وجمال الجهاد فيها، وإنك لصديق وفيّ لا يضن عليه بشيء، فاستمع إليَّ:

كان لنا جار من أعز أصدقاء أبي، وكان لهذا الجار ابنة أصغر مني بنحو ست سنوات، جمعت الطفولة بيني وبينها برابطة المودة. فلما كساها الشباب بديع حلته أخذت قلبي محاسنها، وفتنني جمالها، وجعلت أختلس اللحظات لأخلو بها أحدثها متعارف القول ومألوف الحديث، وأشعر بكل ما في ذلك من نعمة ومتاع وحياة. ثم أحسست أن لي في نفسها مثل ما لها في نفسي، ففاتحتها حديث الحب، وتعاهدنا على الوفاء.

ومضت سنون وهذا الحب ينمو في نفسينا، ونزداد نحن إحساسًا بعظيم ما له من سلطان علينا، حتى بلغنا من ذلك أن كنا لا نتفارق إلا على موعد للقاء، وأن كنا نقضي ما بين اللقيين في شوق ولهف ما أشدهما! فلما عرف أهلنا ما بيننا كان أول ما صنع جارنا أن حجز ابنته عن الخروج من الدار. فهالني الأمر، وأزعجني، وأدخل الهم على نفسي، وكدت أجن من فرط ما بي. ثم عولت على أن أستعيد وإياها عهدنا الجميل الطاهر. ففتقت لي الحيلة أن أستعين بعجوز تتردد على بيتنا لأستطلع رأي محبوبتي فيما اعتزمت، وجعلت أحابي العجوز بالإحسان، وأمنحها أشياء ضئيلة القيمة ولكنها ذات شأن في نفوس أولئك الريفيات. فلما استوثقت منها سألتها أن تكلم صاحبتي في أمري لترى أهي ما تزال مقيمة على عهدي. فلما اطمأننت إلى حرصها على لقياي فكرت مع العجوز في وسائل هذه اللقيا وطرق الخفية فيها، ولم يكن ذلك عسيرًا على امرأة قضت السنين بريد المحبين، ومستودع سر المشوقين، وكانت لقيانا كل ليلة في فترة ما بين المغرب والعشاء حين يكون أبوانا في الجامع يصليان الفرضين، ويقومان لله بواجب الحمد على عظيم نعمته. في هاته الساعة كنا نلتقي فنجدد عهدنا، ونتذاكر حبنا ونتمتع باللحظات التي تمر بنا ونزيد عليها المتاع بذكر الماضي. فإذا أذن المؤذن بالعشاء جاءت العجوز فنبهتنا مخافة أن يسرقنا الوقت السريع الذهاب، وما كان أمر ساعة الفراق على نفسينا لولا الأمل في اللقاء!

ثم تحادثنا في أمر الزواج كيما ينتهي ما يوجب الفراق. لكن الشعور بأن الحياة الزوجية، وإن أسعدها الإخلاص، تخمد سعير نار الحب الذاكية، جعلنا لا نتعجل هذا الزواج ولا نفاتح أحدًا من أهلنا في أمره، وبقينا قانعين بتلك السويعة بين الفرضين كل يوم مستمتعين منها بكل ما تحويه من سعادة.

وانقضى الصيف وتولت أوليات الخريف ونحن نرتشف كأس النعيم، وإنا لجلوس ذات ليلة نتناجى، إذ أقبلت العجوز قبل موعدها مذعورة تنادي بصوت مختنق، مخافة أن يسمع، منذرة بالويل والثبور، قائلة: إن أبا محبوبتي عاد قبل عادته، كأنما كان على علم بما بيننا. فإنه ما لبث بعد أن تخطى عتبة الدار أن سأل عن ابنته وألح في المسألة غير مستمع لاعتذارات أمها أنها تستحم ولا منتظر مجيئها من حيث تكون.

أحسست هذه اللحظة بالقشعريرة وتولاني الجمود أترانا سنفتضح؟ وهل يمكن أن يطعن شرف محبوبتي بسببي؟ لا. لا! إني لن أحتمل هذا، ولا بد من درء الخطر بأية وسيلة.، ولم تمر لحظة حتى ملكتني فكرة اللحاق بأبي ومصاحبته طوعًا أو كرهًا إلى أبيها وخطبتها إليه زوجًا لي، وملازمته حتى يذعن لما أريد، وأخبرت صاحبتي بعزمي، وطلبت إليها أن تبقى حيث هي حتى تجيئها العجوز بخبر دخولنا إلى أبيها فتدخل هي إلى الدار خفية حين يكون أبوها مشغولًا بنا عما هو فيه من الهياج.

وهرولت مسرعا إلى أبي وناديته وكان لا يزال في المسجد، فخرج إليَّ، وتبعني من غير تفكير، ومن غير أن يسألني عن سبب مناداته مكتفية عواطفه بما رآني عليه من اضطراب؛ لتسوقه كي يتبعني ويقضي طلبتي وغرضي، ولم أجد كبير عناء في إقناعه بالذهاب من فورنا إلى جارنا نخطب إليه ابنته، ودخلنا منظرة الرجل، وبعثنا له بالخبر بقدوم أبي إليه. فما لبث أن جاء متكلفًا البشاشة مطرحًا ما استطاع مظهر الهياج والغضب، وطلب القهوة ورحب بأبي، وإن لم تخف علي نظرات منه كانت تتجه أحيانًا إلي وبها شيء من الحنق، بل من حب الانتقام.

وحضرت القهوة فقمت من حضرتهما تأدبًا، وتلفت ساعة خروجي من المنظرة، فرأيت العجوز تومئ إليّ أن أطمئن، وأزالت حركة العجوز مخاوفي، فجعلت أفكر في أمر ما سيتم هذه الليلة، وأنا مضطرب بين السرور به والوجل منه. ثم رجعت إلى المنظرة فوجدت أبي وحده، فسألته عن جلية الأمر، فأخبرني أن صديقنا دهش لهذه الخطبة غير المنتظرة، وطلب إليه أن يمهله حتى يدخل إلى أهله فيشاورهم في الأمر لعل لهم فيه رأيًا، وقد علمت من بعد أنه أول ما دخل سأل زوجه: هل جاءت البنت؟

– نعم إنها فرغت من استحمامها وخرجت. أفأنادي بها إليك؟

– إن جارنا يخطبها لابنه. فما رأيك؟ وهل لك علم برأيها في ذلك؟

– ومن لي بأن أعلم، وما سمعت الخبر إلا منك هذه اللحظة، ودعني أسألها.

فصاح الرجل بغتة: يا فاجرة! من لك بأن تعلمي! أوما عرفت ما بينهما وكيف يلتقيان؟

– كيف يلتقيان! هدئ من رعك يا صاح! إن ابنتك من يوم احتجبت لا تعرف ما وراء بابنا، فأنى لك بتصيد أخبار كالتي ترميها بها؟!

– كفى كذبًا يا خبيثة، وأدخلي البنت عليَّ لتوها وإلا فإني قاتلها. لن أرضى الخنا تحت سقف يظله الشرف! أين هي؟

فظهرت على الأم سيماء الجد، وقالت بلهجة الحازم القدير: إن لم تهدئ من حدتك فلن تراها، اقتلني إن شئت لكني لن أدعها تدخل على أب طائش الحلم يرمي فتاة طاهرة بأقبح سبة من غير سبب. فأما إن راجعك صوابك، وأعطيت على نفسك موثقًا أن تقابلها ببشر الأب الرزين، فستراها بين يديك قبل أن يرتد إليك طرفك.

فأطرق الرجل ثم خرجت الأم، ولم تك إلا برهة حتى عادت تصحبها البنت وشعرها مبلل مرسل على أكتافها وعيناها براقتان وخدها محمر. فلما رآها أبوها كذلك وجم هنيهة احتقن أثناءها الدم في رأسه ثم سألها: إن جارنا يخطبك لابنه فماذا تقولين؟

خفضت الفتاة طرفها حياء، وتولت الأم الجواب: الأمر لك وما كان لبنت أن تراجع أباها أو ترد عليه قولًا …

ثم أشارت لابنتها أن تخرج. فلما قاربت الباب ناداها أبوها مغضبًا: لعلك مرتاحة لهذا الخبر! ألا فاعلمي أن الطلاق يلزمني ثلاثًا إن أتممت هذا الزواج! وأنت أيتها الفاجرة! قومي من وجهي. اخرجا، اخرجا، واعلما أني رقيب عتيد.

ورجع الرجل من حرمه إلينا وهو في هياجه، ولبث زمنًا سكت عنه الغضب فيه، ثم قال لأبي: اسمع يا أخي. ما كنت لأعز عليك شيئًا وإن جل، ولا كنت لأمنع عنك ما طلبت. لكنك تعلم أني حجزت ابنتي بسبب ابنك الذي لا أسميه كي لا أغضبك، ولقد حلفت اليوم بالطلاق ثلاثًا ألا أزوجها منه، ولن أحنث في يميني، وما لك عندي من الحب والاحترام لن يؤثر فيهما أمر تافه كهذا، لكن بحق هذا الحب الذي بيننا إلا عقلت ابنك عما قد يمس بيتي وما يقيم بيننا ثأرًا لا تمحوه يد الزمان، وفتيات بلدنا كثيرات، وبينهن من يفضلن ابنتي. فما عليك إلا تزويجه من إحداهن، وفي ذلك …

لم أعرف ما قاله بعد ذلك فقد أصابتني حمى صحت معها: ألا لعنني الله إن لم أتزوجها! وتعسًا لك أيها الشيخ وللزمان! وخرجت هائمًا على وجهي، وقد تولاني اليأس فأضل صوابي، وضيق العيش أمامي، وجعلني أرى كل ما في الحياة عدوًّا لي، وخُيل إليّ لحظئتذ أن لا بد لي من التغلب على كل قوة والذهاب إلى محبوبتي وانتزاعها من بين أهلها والفرار بها لنقيم معًا دائمًا وإلى الأبد.

وكانت ليلة قرّة، لكن السماء كانت صفوًا، وكان البدر المتألق يبعث في لجة الليل خيوطًا من فضة تنير دجاه بضياء رقيق مطمئن؛ لذلك خشيت، بعد كل ما سكن هواء تلك الساعة روعي إن أنا هممت بتنفيذ عزمي أول الليل، أن يحس الناس بي، وأن يكون الإخفاق نصيبي. فعرجت إلى المسجد، ومكثت فيه ردحًا من الزمن أفكر فيما أنا فيه شارع، وإني لكذلك إذ مر بخاطري أن مباغتة الفتاة على غرة ومن دون علمها بالذي أنوي، ربما أدخل الجزع إلى نفسها، وجعلها تعترض ما أريد؛ لذلك رأيت أن ألجأ إلى العجوز المدبرة أستعين بها، وأتدبر الأمر معها، وألفيتها عند مجاز الدار مكتئبة بائسة. فسألتها عما أصابها وفاتحتها فيما اعتزمته، ومنيتها كبار الأماني. فما زادت جوابًا على ذلك كله أن قالت: قضي الأمر يا مولاي؛ فقد أقفل بابهم في وجهي، فلا أستطيع أن أدخله بعد اليوم.

قلت: واليوم، الآن، هل في طاقتك الوصول إليها، ولو عن طريق الشياطين؟

فأطرقت طويلًا، ثم رفعت رأسها، وقالت: لا سبيل! فلعنتها وخرجت قاصدًا بيت محبوبتي لأتم فعلتي ولو كلفني ذلك ما كلفني. فلما كنت إزاء بيتنا بصر بي أبي فناداني إليه، فأفقت حين سمعت صوته وتوجهت نحوه، فجعل يطمئنني بكلمات رقاق، وصحبني حتى أمسى الليل وغلقت دوني الأبواب، لكن ذلك لم يزدني إلا عزمًا. فخرجت بعد هجعة الناس، وتسلقت جدار جارنا، ووقفت إلى جانب الغرف أتسمع فلما أيقنت أن لا حسيس دلفت إلى غرفة نومها ونوم أمها، وطرقت الباب، فانتبهت الأم وفتحت، وإذ تبينت وجهي في ضوء القمر رجعت فزعة مذعورة، ثم أقبلت إليّ ثانية، وأدخلتني إلى الغرفة وأوصدتها، وقالت بصوت تخنقه العبرات: بربك يا بني، ارحم أسرة إن أنت أتممت ما قدمت له قذفت بها إلى حضيض العار. بربك يا بني! بحق هاته النائمة المهدودة التي نهكها التعب. بحقي أنا وبحق الجوار لا تجن عليها، لا تقتل أباها المسكين. ابنتي تحبك ولكن نفذ القضاء. ارجع وأنت واجد من النسيان خير تعلة، وفي غيرها من تعدلها مرات. ارجع يا بني.

أما أنا فلم أتحرك بل بقيت صامتًا صلدًا منتظرًا أن تفرغ من خرافتها كي أحتمل فريستي وأذهب بها، وفيما أنا في انتظارها استيقظت الفتاة وحدقت إليّ. فلما تبينتني على ضوء المصباح الضئيل انتقلت من مرقدها، وأقبلت إلي وتعلقت بعنقي وجعلت تبكي، ثم قالت: الوداع …

– كلا! اذهبي معي الآن إلى حيث أريد.

فارتجفت الفتاة ثم تمتمت: رحماك حبيبي بأمي وأبي، ورحمة بي أنا أيضًا. الوداع الآن، ولكنا سنلتقي في المستقبل. بالله إلا ما رجعت أدراجك، وبحق هذه الزيارة لن يكون لغيرك في قلبي مكان ما حييت.

وأغلظت في الأيمان وألحت وبكت، فأخمدت عبراتها عزيمتي، وقبلتها قبلة الوداع، ورجعت أدراجي.

•••

بعد هذا الحادث بأشهر زوَّجها أبوها من أحد أعيان القرى المجاورة، وكانت ليلة عرسها ليلة مأتم عندي. لزمت البيت، وانفردت في غرفة من الغرف، وذرفت الدمع، وتولاني القنوط، وفي الصباح رأيتها خارجة من القرية في هودج، وقد أحاط بها رجالها ورجال العروس، وساروا جميعًا وفي يد كل منهم نبوته، ومع البعض طبنجات سمعت طلقات منها تذهب في الهواء. فلما ابتعدوا رجعت إلى نفسي أفكر والحزن يفيض عني، وإني لكذلك إذ جاء أبي وصديق له. فلما رأيا ما أنا فيه من الهم أخذا يرفهان عني، وأكد لي أبي أنه سيزوجني من فتاة متى عرفتها نسيت صاحبتي، ونسيت ما كان بيننا من ماضٍ طويل سعيد.

وصدق أبي وعده. فعقد لي بعد أسابيع على ابنة عمدة أكبر البلاد المحيطة بقريتنا، وأقيم لي ولها عرس نادر المثال. فلما حضرت زوجي عندي رأيت فتاة خفيفة الروح جذابة المحاسن، فرأيت أن أنسى فيها نفسي، وأجعل منها موضع حبي، وأسدل على ما قبل يومها عندي حجابًا كثيفًا يحول بيننا وبين ماض كان لذيذًا، وكان لي فيه سعادة وهناءة؛ فما مضى انقضى، وليس لي إحيائه أو استعادته سبيل، وعملت لذلك بإخلاص وجد، ووجدت من زوجي نعم المعين، وكان أكبر ما وجهت إليه عنايتي أن أخلق بيننا في وقت قصير ماضيًا طويلًا فأكثرنا من التروض والأسفار، ووصلنا ليلنا بنهارنا؛ لنظفر بأكبر قسط من السعادة يجب أن نناله، وكانت الفتاة نادرة الذكاء واسعة الحيلة؛ فسرعان ما فهمت مواضع الضعف مني، فاستفادت من فهمها هذا، ونالت بذلك كثيرًا من عطفي وميلي، وجعلتني أعتقد أني سأجد فيها ما ينسيني كل هم وشجن، وبقينا كذلك شهورًا اطمأنت هي فيها، واطمأن كثير من أهلي إلى اندثار كل أثر لمحبوبتي الأولى من نفسي، وشفاء كل جرح كلم به فراقها قلبي، والحق أنه اشتمل نفسي هدوء صادق، وذهب ذلك اليأس القاتل الذي كان آخذًا بتلابيبي إلى ما بعد زواجي، وسكنت كلوم طالما استثارت مني صيحات الحزن والأسى.

وإنا لكذلك ناعمين بعيشنا إذ أزمع أبي وجارنا الخروج معًا إلى الحجاز. فلما انتهينا من التجهيز وآن موعد السفر، أقبل جمع غفير من أهل بلدنا وأهل القرى المجاورة مودعين، وكان فيمن أتى مبحبوتي وزوجها، وبقي الناس في هرج الوداع ومرجه أيامًا. فلما جاءت ليلة البرزة خرج المسافران ومعهما جمع غير قليل، فنصبوا الخيام خارج القرية وأقاموا بها ليلتهم. ألا سقيًا لك يا ليلة بروز أبي للحج! لقد جررت عليَّ مصاعب ومتاعب كاد ينوء بها كاهلي، لكنك توجتها جميعًا بالفوز وختمتها بالسعادة.

كان فيمن خرج إلى خيمة النساء محبوبتي، وفيما أنا أطوف والناس في زحمة العشاء لمحتها خارج الخيمة، فوقفت مبهوتًا أحدق إليها، ورأتني هي أيضًا فبهتت. ثم إذا قوة قاهرة دفعت كل واحد منا نحو صاحبه، فتقاربنا حتى وضعت يدها في يدي من غير أن ينبس أحد منا ببنت شفة. في تلك اللحظة الرهيبة الرغيبة، لحظة اللقيا بعد طول الفراق، في تلك اللحظة الجميلة المهوبة خيم علينا الصمت، وتولانا الذهول … وبعد زمن خيل إليَّ فيه أن وجودي تلاشى فلم يبق لي من الحياة إلا هذه اليد الممسكة بيدي، سمعت ملكي تتمتم وكأنما خنقتها العبرة: هكذا تنسانا!

لولا أن الأرض انشقت، والسماء هدت، والجبال دكت، لكان ذلك أهون وقعًا عليَّ من هذه الكلمة. نعم نسيتها أنا الشقي. فيم عساي أكفر عن ذنبي؟ وأي جواب أردُّ به عليها؟ وبعد لأي قلت: غفرانك صاحبتي! لقد أحييت من نفسي لوعة لا بد لي بعدها من الظفر بك أو الموت في سبيلك، وموعدنا غدًا بعد عودتي من السفر حيث كنا نلتقي في رعاية العجوز.

وتتاركنا …

تتاركنا وقد نفر من كلومي ما كان قد سكن، وجشأت نفسي وجاشت، وثار وجودي كله، وصرت لا أعي شيئًا مما يدور حولي ولا أبصر إلا موعد الغد، وقضيت ليلة نابغية ملؤها الهم، وقابلت زوجي لبعض شأني، فما وقع نظري عليها حتى رأيت الثعبان الذي نفث سمه في حياتي، ودفعني إلى ارتكاب جريمتي.

ولم يتسع الوقت لأصب عليها جام غضبي، فاختطفت من يدها ما قدمت وأسرعت إلى الباب، فتبعتني تريد أن تعرف ما بي، فزجرتها بكلمة شديدة قابلتها بصبر وردت عليها بكلمة رقيقة كان جوابها مني: ارجعي يا لعينة أو أنت طالق!

رجعت هي، وسافرت أنا إلى السويس، وأنزلت أبي الباخرة، وعدت قبل أن يفكر أحد من الذين كانوا معي في العودة، ومن غير أن يعلم أحد بعودتي: وقطعت الطريق بين المحطة وقريتنا واجلًا سالكًا أقرب الطرق رغم ورعورتها ويممت موعدي، فإذا حبيبتي تنتظرني. فلما رأتني بادرت بالسؤال: كيف وجدت عودتك؟ ولعلك كما أحب وتحب!

– نعم يا صديقتي، ولعل مقدمي يسرك، وكيف أنت الآن؟

– كيف أنا؟ … أواه يا صاحبي لو تعلم! لقد قضيت أيامي منذ تزوجت وأنا أقطع نفسي حسرات من أجلك … ولكن! … ما لك أنت وهذا! … متعك الله بزوجك ومد في أيام سعادتك … ولله أيام تقضت في هذا المكان حين كان البدر يغمرنا في سابغ لجته، وحين كان يحدونا الميل والعطف إلى أسباب الهناء والنعيم. أتذكر يا صاح تلك الأيام؟ أتذكر عهودنا ومواثيقنا؟ أتذكر مجيء العجوز تنبهنا إلى الوقت وقد نسينا الوقت ونسينا الوجود، أتذكر مجيئك إلى أبي تخطبني؟ وهل تذكر تسوّرك دارنا وتعريضك نفسك وإياي للخطر؟ ثم هل تذكر وعدي إياك أن لن يكون لغيرك في قلبي مكان ما حييت؟ أقسم بهذه اللقيا على غير انتظار! أقسم بحب ما زاده البعد إلا استعارًا. أقسم بحياتك أنت ما حنثت في الوعد، ولن أستطيع أن أحنث فيه … لكن … كل شيء يا صاح مضى وانقضى. رحم الله ذلك العهد ويرحمني أنا أيضًا. إنه غفور رحيم.

… وانهدت يهزها البكاء. أما نا فقد صغرت أمام نفسي، وتضاءل في عيني قدري، ورأيتني مجرمًا بائسًا شقيًّا. هذه السيدة أمامي تبلغ من علو النفس هذا المبلغ، ويكون جهادي أنا أن أسدل على ما تذكره الساعة حجابًا كثيفًا، وأنسى مواثيقي وعهدي، وأنسى قلبي وروحي، وأنسى كل ما في الحياة من جميل وعظيم، وأرضى ذلك العيش السخيف الذي ألبسوني! كلا كلا! لا بد من استعادة هذا الماضي ولو ضحيت بالحياة في هذا السبيل.

وصح ذلك العزم مني، فهدأت جأش صاحبتي، وقلت لها: ما نسيانًا لعهد سلف، ولا فتورًا في حب يملأ وجودي، حصل ما تقولين. لكني خشيت أن أنغص عليك عيشًا ربما وجدت فيه الطمأنينة، والآن أفتعدينني إن أنا طلقتك من زوجك أن تكوني لي زوجًا؟

قالت وما تزال العبرة تخنقها وعيناها مغرورقتان بالدمع: وهل رأيتني يا صديقي رجوت في الحياة غير هذا؟

وقضينا ما بقي من الليل في حديث طويل تخللته الذكرى والعتاب والاستغفار. فلما أذن مؤذن القرية انسحبت هي إلى المخدع الذي أُعد لها، وقمت أنا إلى المسجد فنلت فيه إغفاءة ما كان أحوجني إليها بعد ليلتين مملوءتين بأقوى الإحساسات وأقساها، وبعد سفر يوم طويل. فلما خلوت إلى نفسي ساعة الضحى أخذت أفكر في الوسيلة لتنفيذ ما اعتزمت.

عملت جهدي، وأفنيت كل وسائل السلم لإقناع زوجها بتسريحها؛ فكنت كلما ازددت إصرارًا ازداد هو ضنًّا بها وإمساكًا عليها. ثم أصبح الأمر بيننا عنادًا، وصار هو يرى عملي هذا جريمة أنغص بها عيشه، وأفسد عليه حياته، وأجني بها على الفضيلة والمرءوة، وشاركه في رأيه كثيرون بلغ من حنق بعضهم علي أن خاطبني مواجهة بأن ما أجترحه أكبر الكبائر.

لم يكن ذلك ليغير من رأيي ولا ليثنيني عن عزمي، بل جاءت محبوبتي إلى بيت أهلها بإشارة مني، وتبدلت وسائل السلم مع زوجها وسائل وعيد وتهديد، ولقد سوَّلت لي يومًا نفسي أن أدس إليه من يقضي عليه، وكنت مقدمًا على هذا لولا أن وقفت هي دونه مخافة ما فيه من خطر ربما جر علينا فراق الأبد.

وإنا لفي شغل بتدبير أمرنا إذ جاءنا نبأ بغرق الباخرة التي تقل أبوينا عائدة من الحجاز، فانقلب الفرح مأتمًا، وارتدت النساء ثياب الحداد، وأصابت الفاجعة موضع الألم من نفسي ونفس صاحبتي، وصارت تجمعني وإياها مع رابطة الحب رابطة الأسى المشترك.

وانتهى المأتم ومضت شهور بعده فتر فيها وعيدي لزوج صاحبتي، وذهبت أفكر في وسيلة أخرى لبلوغ غرضي، وانتهيت إلى وجوب رفع الدعوى الشرعية عليه بأنه طلقها، وكم تهللت هي حين عرضت عليها هذا الرأي من غير أن تفكر فيما تحتاج إليه مثل هذه الدعوى من المجهودات لتكون نتيجتها على ما تريد.

على أن هذه المجهودات لم تكن شيئًا أمامي، ودُعي الزوج للمحكمة الشرعية كي يسمع حكمها بأنه طلق زوجته، واستمرت هذه الدعوى أكثر من سنة استنفدت مني من العناية واليقظة والجهد ما لا يحيط به خيال إنسان. فلم أترك شاهد زور إلا أتيت به، ولا كاتبًا في المحكمة إلا رشوته، ولا قاضيًا إلا وصلت إليه، ولقد كاد الملال من هذه الجهود يصل بي إلى اليأس مرات. فلكم تأجلت الدعوى لغير سبب إلا لأن الكاتب رأى أن ما وصله غير كافٍ فأراد المزيد! ولكم طلب مني باسم حضرة القاضي فلم أجد حيلة إلى رد طلبه! وكم مرة رأينا تحوير المحضر وتغيير ما ثبت على لسان بعض الشهود … ولولا دافع من الحب والكرامة كان يدفعني إلى الانتصار لهان عليّ أن أترك كل شيء.

ثم صدر حكم المحكمة بالتفريق؛ فطرت وحملت الخبر إلى صاحبتي وعانقتها عناقًا طويلًا، ولبثنا يومين ثملين بلذة النصر في هذه المعركة الطويلة متهللين للمستقبل الذي يتم فيه زواجنا. لكن تعاقب الأيام دس إلى نفوسنا ما شغل بالنا؛ ذلك أن المحكمة حكمت بالتفريق من غير حق، فهل يكون زواجنا مع ذلك حلالًا عند الله؟

هنالك ذهبت إلى زوجها وعرضت عليه جلية الأمر، وقلت له: يا شيخ! لقد أرهقناك من أمرك عسرًا. لكنك رجل خير لا ترضى أن تحملنا وزرًا، وأنت تعلم أنا لم يدفعنا إلى ما عملنا الوقيعة بك أو المس بشرفك، وإنما دفعنا إليه مالًا قبل لنا بدفعه. فهل لك في مثوبة من الله فتنطق بطلاقها فتريح نفسك وتريح ضمائرنا؟

فأطرق الرجل طويلًا يفكر، ثم قال: لقد والله حملتماني همًّا طويلًا. أما وقد رجعتما تريدان الله فليرض الله عنكما، وهي طالق. طالق. طالق …

فشكرت له منته، ورجعت إلى أهلي، وبلغت صاحبتي الخبر، ثم ناديت زوجي، وذكرت لها ما تعلم مما كان وما سيكون، وقلت: وإني لأخشى بعد زواجي ألا أعدل بينكما، فإن شئت راضية سرحتك سراحًا جميلًا.

وانقضت أشهر وتزوجنا، وكان يوم زواجنا حافلًا جاء فيه الذين كانوا يعيبون عملي يهنئونني، وأصبحت بينهم نصير الفضل والحق.

ورزقت من زوجتي أبناء ثلاثة: بنتًا وولدين، وهؤلاء الأبناء هم عندي زينة الحياة بل الحياة. هم تاج ذلك الجهاد الطويل الذي أنفقه أبوهم السعيد بهم. أفتعجب بعد ذلك مما رأيت من ذهولي حين أغمى على الغلام لما جفل الجواد؟!

•••

إلى هنا انتهت قصة صاحبي، وهي قصة ألقت للهوى بزمام الحكم حتى في دور القضاء، وقد غادرت صاحبي بعدها، فغادرت رجلًا من السعداء القليلين الذين رأيت في حياتي. غادرته وأنا أغبطه على ما متعه الله به من نعمة سابغة وهناء مقيم …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤