الفصل الرابع

كل شيء في العالم مبني على قاعدة الأخذ والعطاء أو التبادل، وهذا هو التوازن السلبي والإيجابي.

***

تفارق صاحبانا وسار كلٌّ طريقه، فسار الشيخ إلى إحدى القرى المجاورة للأهرام يستضيف الأجاويد، وسار نجيب إلى بيته مفكرًا متأملًا بما سمع، واجتاز جسر قصر النيل، ولم تكن تلك الضوضاء وحركة السيارات والعربات وجلبة الناس لتلهيه عما كان يتأمل فيه، وتنبهه من سباته العميق؛ لولا أنه أحس بيد أمسكته بكتفه وهزته، وسمع صوتًا يناديه باسمه، فالتفت إلى ورائه فرأى أحد أصحابه يبتسم له محييًا؛ فرَدَّ التحية بأحسن منها، فقال له صاحبه: ما لي أراك يا نجيب دائمًا مفكرًا؟ لقد أضنيت جسمك، ألعلك تريد أن تغير نظام الكون؟ دع عنك هذه الأفكار وكن كبقية الإخوان فرحًا جزلًا طروبًا. إني مدعو الليلة إلى حفلة عند أحد المعارف فتعالَ معي، فسيغنِّينا أحد كبار المغنين المشهورين على تخت مشهور أيضًا، فهي ليلة أنس وطرب وسمع، فهيا بنا وسوف تدعو لي بالخير.

وما زال به حتى قبل وسار معه، وكان هذا الصديق كاتبًا أدبيًّا حلو الحديث لطيف المعشر واسمه فريد. فأخذ الاثنان يتحادثان في أمور شتى، وقد نسي نجيب ما كان يفكر فيه؛ فأخذ يضحك مع فريد مما كان هذا يلقيه على مسامعه من مستملح النكت. وكان فريد في حالة سرور عظيم يطفح البِشر على وجهه ويقهقه طويلًا لكل نكتة يلقيها، وقال لنجيب: والله إنني يا صاح لم أذكر أني يومًا من الأيام قد ضحكت مثل اليوم، فربنا يعطينا خير هذا الضحك.

ولما كان في الوقت متسع، أخذ الاثنان يتمشيان على هذه الحالة على ضفاف النيل، وكانت المراكب من شراعية وبخارية متلألئة الأنوار تخترق الماء ذهابًا وإيابًا، وحواليها عدد كبير من الزوارق مكتظة بالناس؛ طالبي النزهة، تروح وتجيء بمن عليها، وكانت سطوح الذهبيات الرأسية على شاطئ النهر غاصة أيضًا بسكانها وبزوارهم. وكانت أنوار جميع هذه المراكب وأنوار الجسر والمنازل والفنادق القريبة مع أنوار تلك السماء الصافية تنعكس على مياه النهر العظيم الهادئة؛ فتزيد المنظر بهجة تأخذ بمجامع القلوب.

فأثر هذا المنظر في صاحبينا جدًّا، فقال فريد لنجيب: هلم يا أخي نجاري القوم في عملهم وننتقل من الأرض إلى الماء، فنأخذ نحن أيضًا ساعة زمن زورقًا، فلذَّة العيش في التنقل، فحقًّا إن هذه الليلة لهي من الليالي النادرة. فوافق نجيب على هذه الفكرة بكل ارتياح وناديا بأحد الزوارق، فجاءهما وركبا وجعلا يقذفان، والرئيس محمد ماسك الدفة بيديه الاثنتين، وكانا يتسابقان مع بقية الزوارق ضاحكين فرحين.

وفيما هما كذلك إذ سمع فريد ضحكًا خيل له أنه يعرف الضاحك، فامتقع لونه قليلًا كأنه شعر بحلول العاصفة. فقال لنجيب: رويدك يا أخي، اسمع! أليست هذه ضحكة فريدة؟

«وكانت فريدة هذه فتاة في مقتبل العمر بارعة الجمال أديبة متعلمة، هام فريد في حبها من بضع سنوات حبًّا عذريًّا كاد يذهب بلبِّه لولا طبيعته الميالة إلى اللهو والطرب، وما كان يختلقه لنفسه من الأسباب ليموه عن فكره التفكير بمن كان يهوى.» هيا بنا نقترب من الزورق حيث الصوت لنتحقق من الأمر، فأنصت نجيب قليلًا؛ فعلم أن الضحك هو ضحك فريدة، ولعلمه بما سيكون لهذا المشهد من التأثير على فريد، خصوصًا إذا كانت فريدة مع شخص آخر — كما يدل الواقع — بدا له أن يغالطه ويحوله عن عزمه على اللحاق بها والاقتراب منها. فقال له: أظن أنك أخطأت التقدير؛ لأني لا أرى أقل مشابهة بين الصوتين، ثم ما الذي يأتي بفريدة الآن إلى هنا في هذه الساعة؟! وإذا فرضنا المستحيل وكانت هي، فإنها إنما تكون مع عائلتها أو أحد أخوتها، واقترابنا منها ليس من اللياقة والأدب بشيء، فدع عنك الآن فريدة واترك التفكير بها، ولنعد إلى ما نحن فيه فما قلته من قبل لي بخصوص التفكير بالكون والطبيعة أقوله لك الآن بخصوص فريدة، كما قال الشاعر:

لا تنهَ عن خُلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم

فلم يستمع فريد لهذا القول، بل أخذ يقذف بسرعة طلبًا للحاق بهذا الزورق، وسايره نجيب في عمله؛ لأنه رأى أن الحالة مع صاحبه لا تجدي فيها المعاكسة نفعًا. وبعد بضع دقائق كانا قد اقتربا جدًّا من الزورق فسارا بمحاذاته قليلًا، ولم يكد فريد يلقي نظره على من فيه حتى اصفر لونه، وتثلج جسمه، وارتخت مفاصله؛ فسقط المقذاف من يده، وارتمى على نجيب كأنه صُعق من هول ما رأى، وأخذ يتنهد وينتحب كالأطفال. فحوَّل نجيب سير زورقهما بأقل من لمح البصر؛ لئلا ينتبه أحد إليهما، وأعطى المقاذيف إلى الرئيس محمد، وأمره بالرجوع إلى الشاطئ، وأخذ هو يعالج حالة صاحبه محاولًا تعزيته على قدر الإمكان، وهكذا تحولت الحال من فرح عظيم إلى كدر وحزن أليم، فقد انقلب المعزى معزيًا والمعزي معزًّا. ولما بلغا الشاطئ، نقد نجيب صاحب الزورق أجرته، وأخذ بفريد إلى منزله ولم يتركه طول تلك الليلة. وفي الصباح لم يشأ نجيب أيضًا أن يدع فريدًا وحده، فدعاه لمرافقته وأخذ يقص عليه ما حضره من الأخبار والعبر محاولًا تخفيف آلامه وتحويل أفكاره عن صدمة الأمس، وكان من جملة الأخبار الحديث عن الشيخ، فسُّري عن فريد بعض الشيء وطلب إلى نجيب أن يذهبا سويًّا لمقابلته حسب المتفق.

وعندما أزف الوقت جاء الاثنان إلى الجزيرة فوجدا الشيخ قد سبقهما، فسلَّما عليه، واستأذنه نجيب بتقديم صديقه إليه فقبل، ولكن على ما بدا عليه كان قبوله عن غير ارتياح كلي، ثم نظر إليهما مليًّا مستفحصًا مستقرئًا، وقال موجهًا الكلام إلى نجيب: مالي أراك يا صاح وصاحبك وقد بدت على محياكما آثار السهر والانهماك والحزن، فهل حدث أمر مكروه لا سمح الله حتى أثر عليكما هكذا؟ فإن حالتكما على ما تبين لي ليست بالعادية المألوفة، فأخبره نجيب بكل ما حصل من حين ما فارقه بالأمس إلى ساعة ملاقاته الآن، قاصًّا عليه جميع ذلك حرفًا حرفًا، فتعجب الشيخ! ولكن عجبه لم يكن لوقوع الأمر بل لمصادفته للموضوع الذي سيكون حديث اليوم. فقال: لقد سألتني بالأمس عن رأيي فيما لو كان يمكن للإنسان، بعد رقيِّه الحالي، أن يجد لنفسه طريقة بها يتوصل إلى أن يكيف حاله على شكل أعدل من حالته الراهنة تفيده ولا تضر بغيره من موجودات الطبيعة؛ لتكون حياته أهدأ وأهنأ منها الآن، وقد شاءت الأقدار والصدف أن تساعدني على إفهامك ذلك؛ لتكون على اقتناع تام من نظريتي، ففي حادثتكما بالأمس الدليل القاطع والبرهان الساطع، فاعلما أن كل شيء في العالم؛ حيث إنه جزء من الينبوع العظيم، وقد تحول كل إلى مظاهر وقوى مختلفة تحت ناموس التوازن انبنى على قاعدة التبادل، أو الأخذ والعطاء؛ لهذا فإنه ليستحيل على الإنسان إذا كان يريد المحافظة على درجته في الرقي وتدرجه فيها، وعلى كيانه الحالي أن يتملص من هذه القاعدة، ولكنه يمكنه أن يلطف منها بعض الشيء؛ لذا فكل شيء يفعله المرء أو يشعر به له مقابل أو ثمن أو ضد، فلا فرح بلا حزن، ولا سعادة بلا شقاء، ولا تعب بلا راحة، ولا لذة بلا مرارة؛ ليبقى ناموس التوازن السلبي والإيجابي دائمًا متسلطًا. إذ لو اختل ولو ذرة واحدة لانعدم كل شيء.

لقد تركتني وأنت منقبض الصدر، فلم تلبث حتى لقيت فريدًا فشرح صدرك فسررتما هنيهة، ولما كان فرح فريد شديدًا؛ كذلك كان حزنه شديدًا. وكما كان لك معزيًا هكذا كنت له أنت أيضًا، فقد قيل:إن الجزاء من صنف العمل، واعلم أن سرور تلك المرأة سيعقبه مرارة وكدر يوازيان شقاء فريد. وما يقال عن فريدة يقال عن صاحبها، فيوم لك ويوم عليك، يأكل الإنسان الحيوان والنبات وهما في دورهما يتغذيان به، ثم إن التراب الذي منه تغذوا يتغذى هو أيضًا منهم ويسمد بهم.

يتلذذ الإنسان بالمأكولات الشهية من لحوم وخلافها، ولكن تلك اللذة تكلفه ثمنًا غاليًا يدفعه من تعبه ومن صحته ومن حياته. يتلذذ بالملاهي والشهوات، ولكنه يضني جسمه ويقصر عمره. تلبس الملابس لتقيك البرد والحر فتتنعم بها، ولكنك في الحقيقة تدفع ثمن هذا النعيم من جني تعبك ومن إضناء جسمك؛ لأنك بسترك له تقلل نمو قوته ومناعته. تأكل الحلو فتتلذذ به، وتأكل المر فتتمرر، فلولا مرارة المر لما عرفت طعم الحلو، ولولا التعب لما عرفت لذة الراحة، ولقد قال الشاعر:

ضدان ما استجمعا حسنا
والضد يظهر حسنه الضد

لقد قلت لي إن الإنسان ترقَّى كثيرًا، وأنا أجاريك وأقول: رقي، ولكن في الحقيقة ليس هذا سوى تحول أو تغيير مظاهر دون أقل إفادة حقيقية، أعني دون أن يزيد له شيء عن شيء، تأنق في مأكله وملبسه وسكنه، فعلى قدر ملذته هذه دفع لها ثمنًا من قصر حياته ومضايقته لحريته ومن أمراضه وتعبه وشقائه. ترقى في نفسه وفي تصوره، فعلى قدر الزيادة زاد في ضعف جسمه وفي آلامه الروحانية.

يضربك زيد فيوجعك فتتألم في جسمك وفي نفسك؛ لأن ما يتألم منه الجسم تشعر به النفس، وما تتألم منه النفس يؤثر على الجسم وبعد ذلك يسكن الألم فتشعر بلذة، ثم يجازى زيد فترتاح نفسك، وقد تكون مجازاة زيد — إن رأسًا أو بواسطة — لأنه على كلٍّ يجب أن يدفع ثمن عمله، إما بعذابه الجسمي مضاعفًا أو بعذابه الروحي مضاعفًا، إذا لم يشترك الجسم والروح في الثمن لسبب ما لأنه إذا تألم الجسم فقط يجب أن يكون على قدر التألم الجسمي والروحي، وإذا تألمت الروح فقط يجب أيضًا أن تكون آلامها كآلام المعتدى عليه جسمًا وروحًا.

يتفنن الإنسان بتحضير المأكولات اللذيذة فيتلذذ بها، فتقوى به حاسة اللذة ويصير على قدر اللذة من اللذيذ يشعر بالكره من الكريه،. لقد أصبح الإنسان الآن يطير في الهواء وينتقل بسرعة من مكان إلى مكان؛ فعلى قدر فرحه بالسرعة صار يتأفف من البطء، ولربما ما يعده الآن بطئًا كان يعده من قبل سرعة يفرح بها. والأمثلة على هذا هي في كل شيء؛ لذا ترى أن النسبة مهما تغيرت المظاهر هي دائمًا بين التبادل محفوظة وتراها أيضًا واضحة فيما سُن له من اللوائح والشرائع وما استنبطه من القواعد، قصد ذلك أو لم يقصد، عرف هذه الحقيقة أو لم يعرف؛ لأنه لا يمكنه أن يخرج عن الطبيعة، فهو منها، لا، بل هو مجتمع الممالك الثلاث وهيأة للعالمين المادي والروحي.

لقد قال الكتاب: أحبب قريبك كنفسك، وافعل بغيرك ما تريد أن يفعله غيرك بك؛ لأن الأنانية الإنسانية تُلزم الإنسان أن لا يرضى لنفسه إلا كل خير وراحة، فمن أحب قريبه كنفسه أراد له طبعًا ما يريده لنفسه، وعامله كما يعامل نفسه. ولما كان التبادل بين الناس عظيمًا بالنسبة لجمعيتهم الإنسانية ولحالتهم المعيشية ولاشتباك مصالحهم بعضهم مع بعض، كُتبت هذه الحكمة استنادًا على هذه القاعدة تخفيفًا لآلامهم بعضهم من بعض وتقوية لجمعيتهم ضد الكائنات الأخرى؛ لأنهم بما يدخرون من القوى الإيجابية في ذواتهم بعدم إضاعتها في تكافحهم مع بعض؛ يقاومون سلبية تلك الكائنات الأخرى. هذا ما قيل فيما مضى وكان دينًا، وهو لا يختلف كثيرًا معنًى عما يقال اليوم قانونًا: إن حرية المرء يجب أن تنتهي حيث يبتدئ واجبه نحو الغير، فمن هنا يتضح أيضًا أنه لم يخرج عن هذه القاعدة لا في دينه ولا معاملته الاجتماعية إلا تراه في صلاته لخالقه يعطي ليأخذ، يقرب القرابين لينال الجزاء، ينذر النذور ليحصل على ما يرجو، يسبح ويمجد لينال المغفرة، وهلم جرا مما هو ظاهر جلي في كل أعماله وأحواله وأفكاره إن روحيًّا أو جسديًّا، فعلى هذا التوازن السلبي والإيجابي انبنت سُنة التبادل والأخذ والعطاء، وهي أيضًا الأس الذي منه ظهر العدل، وما العدل سوى التوازن، فعلى قدر الأخذ يجب العطاء، وعلى قدر الأذية يجب التعويض، وعلى قدر التعب تجب الراحة. واعلم أن ما قيل بهذا المبحث عن الإنسان يقال أيضًا عن الحيوان، وينطبق على كل شيء آخر بمظاهر وأشكال وطرق شتى؛ لأن قانون التوازن يسري على كل ما في الأكوان والعوالم.

فقال نجيب: ولكن إذا صح هذا — ولا أراه إلا صحيحًا — فبماذا تعلل أسباب الانحلال والانقلاب والتغير؛ إذا كانت دائمًا نواميس التوازن محفوظة، والتبادل بالقسط العادل حقيقيًّا؟ فتبسم الشيخ، وقال: بورك فيك يا نجيب! إن سؤالك هذا لم يفاجئني على غرة، بل كنت متوقعًا إياه منك وسأجيبك عليه في الغد إن كان في العمر بقية.

وكان الاثنان — نجيب وفريد — ينصتان بكل انتباه إلى كل كلمة كان الشيخ يلقيها، غير أن فريد — وكان لم يعتد على ترويض فكره على مثل هذه المباحث — قد استفزه الفرح وأخذ يقبِّل نجيبًا شاكرًا له استصحابه معه وتقديمه إلى الشيخ، ثم قام إلى الشيخ يصافحه مُظهرًا له اغتباطه بما سمع منه راجيًا أن يسمح له بالعودة إليه ثانيًا، فأجابه الشيخ إذا كانت هذه المسائل مما ترتاح إليها وتعرف من نفسك القدرة على فهمها فعلى الرحب والسعة. والآن فإلى الملتقى بالغد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤