الفصل الخامس

العوامل المساعدة على التكوين هي نفسها المساعدة على التحويل في ظروف أخرى.

***

ذهب الشيخ في حال سبيله كالمعتاد وقفل صاحبانا نجيب وفريد راجعين إلى المدينة يتحادثان بما سمعاه ويضربان الأمثال ويقيمان الشواهد ويطبقانها على الواقع، وقد انفتح أمامهما باب واسع من هذا المبحث، ولا غرو، فحياة كل واحد منهما في جميع مظاهرها ودقائقها وما عايناه وعانياه لهي مصداق لقول الشيخ.

وفي اليوم التالي حضر الجميع في الميعاد وبعد التحية والسلام ومبادلة بعض الحديث، قال نجيب للشيخ: عسى شيخنا أن يمنَّ عليَّ بما طلبت إيضاحه البارحة، فإني قضيت ثلاثة أرباع الليلة قلقًا أفكر في هذا؛ لعلي أجد له حلًّا ترتاح إليه نفسي، ولكن فهمي عجز عن إرشادي إلى ما يقنعني لما بدا لي من بعض المتناقضات. فأجابه الشيخ: لبيك يا صاح، فها أنا مبدٍ لك على سؤالك من البيان ما أرجو أن يبرهن لك على حقيقة الواقع ويقنعك كل الإقناع، وهَم باستطراد الكلام، فقاطعه فريد قائلًا: عفوًا يا شيخ إذا قطعت عليك الحديث بسرد واقعة لها علاقة بمسألة الأمس، كما أني أرجو من صديقي نجيب أن لا يؤاخذني على هذا، فالحادثة لها علاقة بفريدة وأنتما تعلمان الآن ما كان لهذا الاسم علي.

لما تركت نجيبًا بالأمس راجعًا إلى منزلي فطنت لحاجة كنت نسيتها عند بعض المعارف فقصدته لأخذها، وبينما أنا سائر إذا بصرت بفريدة مع الشاب الذي رأيتها معه بالزورق سائرين الهوينا يتهاديان في مشيتهما كما كنت أنا أسير معها من قبل، فشعرت أولًا بانفعال شديد لم يلبث أن تحول إلى غضب وحقد، ثم إلى ازدراء واحتقار، ثم إلى عدم مبالاة كأن تلك العاطفة التي ثارت في أول أمس قد ماتت أو كأنها لم تكن البتة. فاقتربت منها وحييتها بكل هدوء وسكون وعاودت المسير، ولكنها لم تكَد تسمع صوتي ويتقابل النظران حتى رأيتها وقد امتقع لونها وترنحت كالسكران ونفرت من صاحبها، ونادت بسائق إحدى العربات فصعدت إليها، ولم تسمح لصاحبها بالاقتراب منها، ووضعت وجهها بين كفيها وأخذت تبكي، وسارت العربة بها. فبُهت صاحبها من هذا المنظر كمن لم يعلم له سببًا، أما أنا فقد وقفت بعيدًا أراقب ما جرى دون أن أشعر بتأثير يُذكر؛ كأن فريدة لم تكن لديَّ سوى أية امرأة أو أي إنسان آخر.

وتابعت المسير كأن لم يكن شيء مما كان، وها أنا الآن أسرد عليكما هذه الحادثة وكأنها ليست لي مع فريدة بل كأنها قصة قرأتها في بعض الكتب أو سمعتها من بعض الرواة، وقلت: لقد صدق شيخنا فيما قال لقد دفعت فريدة ثمن سرورها مرارة وبكاء، وكما كانت حالتي عندما رأيتها في الزورق هكذا حالتها كانت في العربة. ففكر الشيخ هنيهة محدقًا بفريد ثم تبسم كعادته، وقال: لقد صدقت في استنتاجك هذا، ولكن لهذه الحادثة عندي الآن استنتاجان، لا بل لهي برهانان ساطعان على ما قلته لكما بالأمس وعلى ما سأقوله الآن، فكأن الصدف قد أرادت ثانية أن تساعدني على إقناعكما بما تطلبان من الإيضاحات. لقد سألتني بالأمس يا نجيب بما تعلل أسباب الانقلاب والانحلال والتغيير إذا كانت دائمًا نواميس التوازن محفوظة، والتبادل بالقسط العادل حقيقيًّا، فأجيب بأن القوى والعوامل المكنونة أو المساعدة على التكوين هي نفسها المحلة أو المساعدة على التحويل، وذلك باختلاف الظروف. ولك في حادثة صديقك فريد بالأمس برهان جلي على ذلك: أحب فريد فريدة حبًّا تزايد لأسباب شتى، وفي ظروف مختلفة لم تصادمه حين نموه موانع التغلب الكافي، ولم يكن حب فريدة له شديدًا كحبه لها، فكانت قوتها السلبية والحالة هذه متغلبة على قوته الإيجابية، ولم يزل حتى تكامل أول أمس حينما شاهد فريدة في الزورق، ولكن عندما رأيت يا فريد بالأمس ما رأيت طفح الكيل وانقلبت الآية، وأصبح ما كان يزكي قبلًا فيك نار الحب يطفئها الآن، وقد قيل:

لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يُغر بطيب العيش إنسان

إن العناصر الأربعة الثانوية المكونة المتولدة عن العنصر الأصيل الفرد، هي نفسها المحولة إذا تحولت كفة الميزان في إحداها، فالهواء والماء والنار والتراب التي تنبت النبات وتحيي موات الشجر فيورق ويعطي ثمرة، وتقوي الأجسام وتنعش القلوب وتفرح الصدور في الربيع، هي نفسها التي تيبس النبات وتسقط الورق، وتضعف الأجسام وتقبض الصدور.

وكما أن الغذاء يغذي الإنسان والحيوان وينميه، كذلك هو الغذاء الذي يفنيه ويميته، والهواء والحرارة اللذان يبخران الماء ويصعدانه في الجو ضبابًا، هما ذاتهما اللذان يرميان به على الأرض، والتراب الذي بواسطته تتكون الأجسام وتتغذى هو الذي بواسطته تنحل وتتحول. انظرا إلى هذه المدينة وما فيها من المباني الحديثة الجميلة المزخرفة، وقارناها بتلك المباني القديمة الآيلة إلى السقوط تريَا أن القوى والعناصر التي ساعدت على تشييد وتكوين الجديد هي نفسها التي ساعدت على سقوط وتخريب واضمحلال هذا القديم، وقد كانت القديمة في حينها جديدة جميلة، وسوف تتحول جديدتنا الآن في حينها أيضًا إلى قديمة مخربة، وهكذا إلى أن تندثر تمامًا معالم الجميع.

انظرا إلى السماء فوقكما وما فيها من الغيوم المختلفة الأشكال وعايناها بعد ذلك وقد صفا أديمها، ولم يبقَ لتلك من أثر ظاهر، وانظرا إلى ما حواليكما من البقاع والسهول والجبال تريَا أن القوى التي أعطتها شكلها الحاضر هي نفسها الكفيلة بتغييرها إلى شكل آخر. انظرا إلى هذه الرياض والجنائن المخضرة المثمرة وكيف كان حالها بالأمس، وكيف يكون حالها غدًا، أنبتها التراب وسقاها الغيث وأنمتها حرارة الشمس وأزهاها النسيم ولونها النور بألوان تبهر الأبصار بجمالها، وسوف تحرقها الشمس فتيبس ويذريها الريح ويفسدها الماء ويسلبها النور ما أعطاها من زاهي الألوان، ويحولها التراب إليه ويمحي منها الأثر والعين. بل انظرا إلى نفسكما وما طرأ عليكما حتى الآن من الانقلابات والتحولات من الطفولية إلى سن الشباب، من صحة ومرض وسِمن ونحول، وما سيطرأ أيضًا في السنين المقبلة إن نفسيًّا أو جسديًّا، تريَا أن العوامل هي نفسها واحدة في كل الحالات، فقط تغلب عامل على عامل فحصل التغيير والانقلاب. فقال نجيب: ليسمح لي شيخنا أن ألقي سؤالًا أستوضحه به بعض ما أُبهم عليَّ وعلى صديقي فهمه؛ فقد قلت لنا يا شيخ بمناسبة حادثة فريدة وفريد: إن الانقلاب حدث بقوة التحويل السلبي والإيجابي وهي حادثة نفسية روحية، واستطردت الكلام إلى العناصر الأربعة، وتكلمت عن التحويل فيها مستندًا كما ظهر لنا على المبدأ الأول؛ مع أن الكلام عنها هو عن الماديات المحضة. فما دخل الروح في المادة؟ ثم عدت فقلت: إن ما طرأ وما سيطرأ علينا من التحولات إن نفسيًّا أو جسديًّا هو ناتج عن نفس العوامل دون أن تميز بين العوامل المؤثرة على النفس والمؤثرة على المادة أو الجسد، مع أن لا شبه بين المادة والروح.

فتنبه الشيخ كمن فطن إلى شيء، وتبسم وأجاب: نعم، لقد صدقت في ملاحظتك يا صاح؛ لأنه كان يجب علي زيادة الإيضاح في حديثي، ولكنك لو ذكرت كلمتي عند استطراد الكلام حيث قلت: إن العناصر الأربعة الثانوية المكونة المتولدة عن العنصر الأصيل الفرد، لعلمت أن هناك صلة أصلية بين المادة والروح، وعليه، أقول لكما: إن المادة نفسها التي يدعونها مادة لوقوعها تحت الحواس بسبب التقلبات والتحولات، هي من العنصر الأصيل الفرد المتولد منه الروح أيضًا، ففي الجماد والنبات مظهران من العنصر الأصيل الفرد، أما في الأحياء فثلاثة المظاهر كما سأبين ذلك لكما فيما بعد؛ لذا فإن ما تتأثر منه الروح يشعر به الجسم، وما يتأثر منه الجسم يعم تأثيره الروح.

فقال فريد: والله يا شيخ إن هذا البحث لهو مما يعجز عنه فهمي الآن، ولعل ما وعدت به من البيان في المستقبل يزيل عن عيني بعض الغشاوة، ولقد قال شيخنا فيما قال بمناسبة حادثتي مع فريدة، وكيف أن حبي لها تحول إلى بغض وحقد واحتقار تلاه عدم مبالاة واهتمام؛ مما فهمت منه حسب قولك أن قوتها السلبية كانت في الأول متغلبة على قوتي الإيجابية، ثم بفعل الحوادث والظروف وما شاكل انقلبت الآية وأصبحت أنا المتغلب، ثم إن صديقي سأل عن حقيقة التوازن السلبي والإيجابي فأجبته بما يؤكد حقيقة التوازن، ثم قلت: حفظك الله، إن التحول يجري إذا تحولت كفة الميزان من جهة لأخرى، فبناء على ما تقدم فلا بد للتحول من تغلب السلبي على الإيجابي، أو الإيجابي على السلبي، فإذا تغلب عامل على عامل كان ثم طبعًا زيادة في هذا ونقص في ذاك، فأين التوازن مع هذا؟

فنظر الشيخ إلى فريد مليًّا متأملًا، ثم بدت على وجهه علامات البشر، وقال: يسرني جدًّا منك يا فريد أن أسمع منك مثل هذه الأسئلة مما يدلني على تتبعك للحديث بكل اهتمام وتبصر واستيعاب؛ لذا أقول لكما ولو خالف ظاهر قولي المعقول إنه رغم تغلب عامل على عامل، ورغم النقص في هذا والزيادة في ذاك ورجحان كفة هذا على ذاك، يبقى التوازن بين السلبي والإيجابي محفوظًا متساويًا كما سأشرح لكما هذا غدًا، وتريان مما تقدم أن التحول والانقلاب هو سنة طبيعية تشمل جميع أجزاء الكون سيان في ذلك الأرض والنجوم والممالك الثلاث، وهي ظاهرة أيضًا في الإنسان بأجلى مظاهرها إن كان بجسمه أو بروحه، بأعماله أو أفكاره؛ لذا فهو لا يطيب له العيش إلا بالتحول والانتقال والتغير على قدر ما به من الحياة. ولله در من قال:

يطلب الإنسان في الصيف الشتا
فإذا جاء الشتا أنكره
ليس يرضي المرء شيء واحد
قاتل الإنسان ما أكفره

والآن، فإني أستودعكما المولى وهو نعم الوكيل، فإلى الملتقى يا صاحبي. قال هذا وهَمَّ بالابتعاد، فقام إليه نجيب ووضع في يده بعض الشيء ثم حياهما وشكر وسار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤