الفصل السابع

إن سنن الطبيعة هي واحدة في الممالك الثلاث.

***

تناول الشيخ عصاه وقام متوكئًا عليها وولَّى وجهه هذه الليلة شطر المدينة، ولما ابتعد قليلًا قال نجيب لفريدة: عسى أن لا تكوني حاقدة علي وعلى فريد لدخولك مدرستنا، فإذا كان ثمة حقد فيجب أن يكون علي فقط؛ لأن فريدًا لم يفعل إلا ما أوحيت به. فنظرت إليه فريدة فرأته باسمًا، فعلمت أنه إنما أراد المداعبة والمزاح، ولا غرو؛ فإنه كان يعرف عن فريدة رغبتها بالبحث وشغفها بمثل هذه المواضيع وتفضيلها لها على أي شيء آخر. فأجابته قائلة: قبل أن أجيبك قل لي كم الساعة الآن؟ فنظر الاثنان إلى ساعتيهما وكانت الساعة التاسعة، فقالت: هيا بنا؛ ولنسرع لأن وقت العشاء قد حان والجميع في البيت ينتظرون قدومنا، فلنذهب إذا شئتما ولا داعٍ للإلحاح، فنأكل عندنا سويًّا وهكذا يمكننا تمضية بقية السهرة في متابعة دروسنا، أليس كذلك؟

قالت هذا ونظرت إلى نجيب، ثم قالت: ومن هنا تعلم إذا كنت حاقدة أو مسرورة، أما إذا كنت لا تريد إلا أن تسمع كلمة الشكر مني، فإني أهديكها، لا بل أهديكهما إياها بكل اغتباط وسرور. ضحك الثلاثة لهذا وقبِلا صاحبانا الدعوة، فركبوا إحدى العربات تقلهم إلى منزل فريدة، فجلست فريدة في الوسط على يمين فريد، وجلس نجيب بجانبها يرقبها بكل اهتمام ليرى ما يبدو على وجهها ووجه فريد، وهما بقرب بعضهما، من التأثيرات بدون أن ينتبها إليه؛ لأنهما كانا غارقين كل منهما في ما كان يفكر فيه.

سارت العربة مسرعة وهم على هذه الحال حتى وصلت إلى أول الجسر، فتنبه فريد حينئذ ونظر إلى الماء، وكانت الحالة كما كانت يوم النزهة من بضعة أيام، فتذكرها ونظر إلى فريدة ونظر إلى نجيب وتبسم وقال: سبحان من يغير ولا يتغير، فأجابته فريدة لفورها — وكانت كأنها أفاقت من سباتها: صدقت، سبحانه على كل حال، ثم صمتت قليلًا واحمرت وجنتاها؛ لأنها ذكرت وجودها مع ذلك الرجل يوم رآها فريد ولم ترَه، ولكنها لم تلبث حتى عبست وبانت عليها ملامح الجد والعزم، وقالت: قل لي يا فريد أين كنت يوم الخميس في مثل هذه الساعة؟ قالت هذا بلهجة الآمر المستعلم، فحار فريد في أمره لهذا السؤال ونظر إلى نجيب مستفهمًا مستنجدًا وسكت، فلحظت فريدة عليه حيرته وارتباكه، فقالت: لماذا لا تجيب على سؤالي؟ فإن الأمر له علاقة بما سمعنا الآن من الإيضاح، فقل لي ولا تتردد حتى ولو كان هناك ما يدعو إلى الكتمان والمجاملة أو الخجل، فنظر فريد إلى نجيب ثانية وقال: ما رأيك يا نجيب في سؤال فريدة؟ فأجابه نجيب وقال: تكلم يا أخي، فالحقيقة يجب أن تقال ولو جرحت، وفريدة أعقل من أن تجرحها الحقيقة، ونحن الآن هنا نتكلم بالروح، والروح ليس لها جنس، فهي لا ذكر ولا أنثى، فقال فريد: إذن فلنترك المجاملة والخجل: لقد كنا هنا يا فريدة، لا بل كنا في أحد القوارب نتنزه في النيل نروح ونجيء أمام هذا المكان. فاحمر وجه فريدة أولًا ولكنها تملكت نفسها وتبسمت وقالت: أنت ومن؟ قال: نحن الاثنان: نجيب وأنا. فقالت: إذن لقد رأيتماني؟ فقال: نعم، لقد رأيناك، لا بل رأيناكما. فقالت: كفى، لقد فهمت الآن سر انزعاجي تلك الليلة وهذا ما كنت أريد معرفته لقد صدق الشيخ فيما قال؛ فإن تلك الليلة قد التقطت جميع ما وجهت إلي من التأثير؛ لأن انزعاجي كان لدرجة قصوى حتى غيرني من حال إلى حال، فثق بأن جميع حبي الماضي لك قد تحول إلى صداقة خالصة لقد خنقت الصداقة الحب فنمت به وتقوَّت بما تغذت من أشلائه كما يتقوى الإنسان الضعيف بما يأكل من لحم حمامة أو حمل. فقال نجيب: وهذا دليل على تجانسكما مادةً وروحًا، ولولا ذلك لانقلب الحب إلى بغض شديد قتال؛ لأن الضعيف إذا أكل لحم الأفعى بدل الحمامة والحمل مات بدلًا من أن يتقوى.

وصلت العربة إلى منزل فريدة فنزل الثلاثة ودخلوا البيت فوجدوا الجميع على وشك تناول الطعام فسار الكل إلى قاعة الأكل، فتعشوا وتسامروا قليلًا، ثم خرجوا إلى الجنينة طلبًا للنزهة يتمشون بين زهورها وأشجارها كل مع من طابت له مسامرته من الحاضرين، أما فريدة ونجيب وفريد فقد انفردوا لوحدهم يتابعون حديثهم. وفيما هم كذلك ابتعدت فريدة قليلًا وأسرعت إلى مكان مخصوص في الحديقة حيث كانت منذ مدة زرعت زهرة نادرة كان أحد أصدقائها أهداها إليها ثم عادت كئيبة؛ لأن تلك الزهرة كانت قد ذبلت وتلاشت بما نبت حولها من الأعشاب الأخرى، شعرت فريدة بعد ذلك بألم في رأسها فاستأذنت من صاحبيها ودخلت حجرة نومها بعد أن اتفقت معهما على المقابلة لميعاد الغد، كان دخول فريدة حجرتها كمنبه للقوم للذهاب فانفرط عقد الحاضرين وذهب نجيب وفريد مع من ذهب كل منهما إلى منزله، حيث إن الليل كان قد انتصف.

في اليوم التالي اجتمع أصحابنا الثلاثة وساروا للقاء الشيخ فمروا في طريقهم وسط الحديقة الكبيرة، وكان الناس ذرافات يروحون ويجيئون في مماشيها، وقد جلس بعضهم على الخضرة تحت ظل الأشجار وبعضهم نام في الشمس، وكانت الطيور تحوم هنا وهناك فوق الناس، تحط تارة على الأرض وطورًا على الأشجار، فتلتقط شيئًا ثم ترتفع، وكان بعضها يتنقل من جهة إلى أخرى ومنقاره بالأرض يبحث عن الديدان ليقتات بها، وكان البستانيون منهمكين كلٌّ في عمله في خدمة الحديقة؛ فمنهم من كان يقتلع الأعشاب من بين الزهور، ومنهم من كان يروي الأرض، ومنهم من كان يحرثها، وكان البعض يسمد بعض القطع لإعدادها للزرع، وبعضهم يلقي البذور أو ينقل النبت من مكان إلى آخر.

مشى أصحابنا وسط هذا كله وهم صامتون يفكرون فيما يرون، ولكنهم لم يلبثوا حتى استوقف أنظارهم بعض المشاهد، إذ كان أحد البستانيين قد تسلق نخلة شامخة وكان بيده شيء أخذ ينفضه على ما كان عليها من الحمل. فقال فريد لنجيب: انظر يا أخي إلى جشع الإنسان فإنه يريد أن يحصر كل شيء فيه ويحرم غيره حتى من قوته، فها إننا نراه وقد ركب الأخطار وتسلق هذه النخلة العالية يرمي على حملها من المواد ما تعافه بقية الطيور والحيوانات؛ ليحفظه بجملته لنفسه ويجنيه كاملًا حين نضجه. فأجابه نجيب وقال: إني وإن كنت أوافقك تمام الموافقة على ما يختص بالجشع الإنساني، إلا أن ما يفعله هذا الرجل الآن فوق النخلة ليس هو ما توهمت، بل إنه إنما يقوم بعملية التلقيح، فإن ما تراه في يده ينفضه عليها ما هو إلا جنبي نخلة ذَكَر، جاء به هذه النخلة الأنثى؛ ليثبت وينمي وينضج به ما عليها من الحمل. فتعجب فريد من هذا، وقالت فريدة: هل يوجد أيضًا بين النبات ذكر وأنثى! سبحان الله، إن هذا لعجيب غريب! فأجابها صوت من ورائها وقال: نعم، ولكن ليس في الطبيعة شيء غريب، بل إن الغرابة تظهر لمن لا ينظر إلا للظواهر فقط، فالتفت الجميع إلى الوراء فرأوا الشيخ واقفًا خلفهم وقد كان في الحديقة حينما دخلوها، فرآهم ذاهبين إلى المقعد المعلوم فتبعهم دون أن يروه، ولم يشأ بادئ بدء أن ينبههم إلى وجوده؛ لئلا يعكر عليهم صفوهم ويضايقهم بوجوده معهم فسار وراءهم كظلهم حتى وقفوا تجاه النخلة، وكان من حديثهم ما كان ففرحوا بهذه المباغتة، وحيوه بكل احترام فرد عليهم التحية بأحسن منها، واعتذر لهم عن مقاطعتهم الحديث. ثم تابعوا السير جميعًا وتابع هو الكلام قائلًا: اعلموا يا أولادي أن سنن الطبيعة هي واحدة في جميع أجزاء الكون، كما هي واحدة في الممالك الثلاث، وهي تسير على نظام أثبت من الثبات، وتنفذ بدقة تامة، ولو اختلف شكل التنفيذ؛ لأن الأصل واحد. فالسلبي والإيجابي هما في كل شيء يتجاذبان بما تفرع عنهما من الوحدات التي لا تُعد ولا تحصى فيتأثران بفروعهما دون أن يختلا بالمجموع، وعلى قدر التأثير تتغير الظواهر فيأخذ هذا من ذاك وذاك من هذا، فيتغير الآخذ والمأخوذ منه ويتحول هذا من شكل إلى أشكال أو من وحدة إلى وحدات وذاك من أشكال إلى شكل أو من وحدات إلى وحدة للناظر، ولكن الأصل باقٍ لا يتغير مثل الماء سائلًا ومتجمدًا وسحابًا.

يجامع الحيوان أنثاه فيتولد منهما حيوان فيعطيان ويأخذان، ويتغير الكل مظهرًا رويدًا رويدًا حسب التأثيرات الكلية والجزئية الأرضية والجوية التي تؤثرها أرضنا على موجوداتها وأجزائها، أو حسب التأثيرات والعوامل التي تتأثر بها أرضنا من العوالم والأفلاك والكائنات الأخرى، كما نراه ونشعر به من تأثير الشمس والقمر مثلًا علينا وعلى أرضنا وعلى ما فيها وما عليها. وما الجاذبية سوى تأثير تجانس العناصر بعضها على بعض ليلتحق كل عنصر بعنصره والغلبة للأقوى. ترمي قطعة خشب من علو وهي بشكلها هذا عنصرها الترابي الغالب، فتقع مجذوبة على الأرض، ولكن إذا حُللت بالحرق فالهواء الذي فيها يذهب مع الهواء وماؤها يتبخر والنار التي فيها تلتحق بعنصرها، حتى إن ترابها الذي هو الرماد يضيع من مناعته النسبية أمام بقية العناصر، فيتغلب الريح عليه فيجذبه إليه ويطير معه، وعلى هذا أقول لكم: إن لا شيء يخلق نفسه ولا شيء يفنى، بل إن الكون موجود والكل باقٍ غير أن المظاهر تتحول وتختلف وتتغير.

لقد قال الكتاب: لا شيء جديد تحت الشمس؛ لأن التحول عام شامل، قصرت مدته أو طالت. قالوا: إن التاريخ يعيد نفسه بما يختص بالحوادث، وأنا أقول لكم أيضًا: إن الطبيعة أصل الحوادث، تعيد أيضًا نفسها؛ لأن سننها واحدة في الممالك الثلاث، كما أن أصلها واحد، فما هو حاصل الآن على كرتنا الأرضية حصل قبل ذلك ما يشابهه في القمر، أو في الأجرام التي سبقت الأرض في تكوينها وصلاحيتها للحياة النباتية والحيوانية، كما أن حالتها الآن سوف تتبدل وبما فيها وبما عليها إلى شكل أو أشكال أخرى، بما سيطرأ عليها من عوامل التأثير. نعم، هذا لا بد له من زمن، ولكن الزمن ليس موجودًا في الطبيعة؛ أي في الأصل؛ لأن الأصل أبدي أزلي سرمدي، والزمن هو فقط للزائل المحدود يختلف قلة أو كثرة حسب قلة أو كثرة الشيء ومناعته الوحدانية، وسوف يأتي زمن تكون فيه أرضنا في حالتها، كما هي الحال الآن فيما سبقها من الأجرام نسبيًّا.

وصل الجميع إلى حيث المقعد الخشبي موضع الاجتماع، فصمت الشيخ وجلس الجميع بجانبه وبقي هنيهة صامتًا ناظرًا أمامه كأنه يستوحي الوجود، ثم عاود الكلام قائلًا: إنكم لو نظرتم بإنعام وتفكر إلى ما شاهدتموه الآن يجري في الجنينة حيث مررتم والتقينا؛ تجلت لكم أسرار وسنن الطبيعة بأجمعها، فيمكنكم تطبيقه على ما سبق فشرحته لكم، وعلى ما سوف تسمعون:

لقد رأيتم الطيور تنقد الديدان من الأرض لتقتات بها، والناس تنظر إليها، فكأنها عرفت أن الإنسان يحميها ويعاونها على عملها هذا، وإذا تساءلنا عن سبب سكوت الإنسان؟ أجابنا: الواقع بأن الديدان التي تلتقطها هذه الطيور هي مما يزاحمه على زرعه، فرأى في هذه الطيور عونًا له على التخلص من مزاحم حال كونه في ظروف أخرى نراه ينقض على تلك الطيور فيقتنصها ويقتات بلحمها، ويدثر بريشها ويتزين به فهذا المظهر يمثل الحياة الحيوانية، وهو يعم جميع أجناسها من الميكروب الصغير الذي لا يُرى إلا بالمنظار إلى الفيل العظيم، ومن الدودة التي ليس فيها من الروح سوى الروح المحركة إلى الإنسان ذي الروح الراقية المخترعة. فما هو الفرق يا تُرى بين هذه الطيور تحط فتلتقط تلك الديدان فتقتات بها، وبين الإنسان يصطاد الأسماك ويقتنص الغزال ويرمي الطير بنباله ورصاصه، ويذبح الغنم والبقر والماعز ليأكل لحمها، ويستعمل بقيتها في منافعه؟ ما الفرق يا ترى بين هذه الديدان وهذه الطيور وبين الطيور بعضها مع بعض؛ فينقض الباشق فيأكل العصفور، وبين الحيوانات أيضًا بعضها مع بعض فيهجم الذئب على الغنم والأسد على البقر، والثعلب على الفرخة فيقتات هذا من ذاك وذاك من هذا؟ ما الفرق يا ترى بين الإنسان يطارد الوحش فيقتله ويظفر الوحش به فيأكله؟ لا بل ما الفرق بين الحيوانات تأكل بعضها بعضًا وبين الإنسان في قبائله المتوحشة يأكل أيضًا بعضه بعضًا؟ ما الفرق أيضًا بين الإنسان يأكل لحم بعضه كما كان قديمًا، وكما هو الآن باقيًا ليومنا هذا في بعض القبائل المدعاة غير المتمدينة وبين الإنسان الحالي الراقي المتمدين يفتك بعضه ببعض بما يسعره بينه من الحروب الطاحنة، ويستعبد قويه ضعيفه منمقًا لذلك ما يحلو له من الألفاظ من استعمار أو حماية أو رقابة وانتداب؟ أليس أصل هذه الأعمال واحد؟ إن الطبيعة واحدة في الإنسان والحيوان في جميع أجناسهما، وما التمدن سوى طلاء يغطي مظاهرها، ويختلف كثافة باختلاف درجة الفرد أو المجموع في التعليم أو التقليد أو الأخلاق المكتسبة، والرقي يدوم هذا الطلاء طالما لا يمس الأصل حتى إذا ما مس هذا ثار ثائر ونفض عنه ذلك الغبار المغشى وتجلى بحقيقة طبيعته. فلا تغتروا يا أولادي بالمظاهر فإن الطبع غالب والتطبع مغلوب. فتبسم فريد وقال: لقد صدق شيخنا، وقد ذكرني هذا البيان بقصة قرأتها أخيرًا: قيل إن ملكين من الملوك كان له وزير حازم مجرب، فكان يصدر عن رأيه، ويتعرف اليمن في مشورته، ثم إنه هلك ذلك الملك وقام بعده ابنه، فعجب بنفسه واستبد برأيه، فقيل له: إن أباك كان لا يقطع أمرًا دونه، فقال: كان أبي يغلط في ذلك، ولكن سأمتحنه بنفسي. فأرسل إليه وقال: أيهما أغلب على الرجل الطبع أو التطبع؟ فقال له الوزير: الطبيعة أغلب، لأنها أصل، والتطبع فرع. فدعا بسفرته، فلما وُضعت أقبلت سنانير بأيديها الشمع فوقفت حول السفرة، فقال الملك للوزير: اعتبر خطأك وضعف مذهبك متى كان أبو هذه السنانير شماعًا، فسكت عنه الوزير وقال: أمهلني في الجواب إلى الليلة المقبلة فقال: ذلك لك. فخرج الوزير فدعا بغلام له فقال: التمس لي فأرة واربطها بخيط وجئني بها، فأتاه بها الغلام، فعقد الخيط في زر ثوبه وطرح الفأرة في كمه، ثم راح من الغد إلى الملك فلما حضرت سفرته أقبلت السنانير بالشمع كالعادة، فأخرج الوزير الفأرة من كمه ثم ألقاها إليها، فتسابقت السنانير إليها ورمت بالشمع حتى كاد البيت يضطرم نارًا، فقال الوزير: كيف رأيت غلبة الطبع على التطبع، ورجوع الفرع إلى أصله؟ فقال الملك: صدقت. فقال له الشيخ: بارك الله فيك يا فريد.

هذه أيضًا حكاية تفهمكم أن لا فرق بين هذه السنانير حملة الشموع على مائدة الطعام، وبين الشعوب الإنسانية في مقرراتها على مائدة السياسة، فكم أُبرمت من مواثيق وقفت حينًا بموجبها وقفة زينت بها المظهر الإنساني الراقي، ولكنها تحولت عنها حالما ظهرت لها فأرة المنافع؛ فأحرقت وخربت وقتلت وشنعت، ولم تبالِ بما سنته من الشرائع، وبما وضعته من القوانين وبما حللته وبما حرمته وبما ادعت نزوله وحيًا، بل سارت في طريقها لا تبقي ولا تذر ولم تقف إلا عندما صدمها حائل تقوى عليها فلم تستطع اقتحامه، فسكن ثائرها مغلوبة من القوة المصادمة الطبيعية ولم تكن من قبل لتوقفها العوائق التطبعية. فإني قد قلت لكم وأعيد القول بأن الغلبة فقط للقوة ولو اختلفت مظاهر القوة؛ لأن القوة هي الطبيعة وهي أصل التأثير؛ ولهذا فقد جاء بالكتاب الكريم؛ من له يعطَى ويُزاد ومن ليس له يؤخذ منه ماله؛ لأن الضعيف من الكائنات يجذبه الأقوى إليه، فيضمه بطرق شتى ويحوله إلى مظهره تبعًا لسنة التأثير، ويبقي المظهر الجديد شاملًا إلى أن يتحول إلى مظهر آخر؛ لأن العوامل المكونة بقوة حركتها الدائمة هي نفسها المحولة، وهكذا إلى ما لا نهاية له.

انظروا يا أولادي إلى هذه العناكيب وإلى شباكها التي تخيطها على هذه الشجرة فوقنا من نسيجها لتصيد بها الذباب قوتها، أليست هي مثل هذه الشِّبَاك التي بيد هذا الصياد أمامنا يلقيها في الماء يصيد بها الأسماك؟ أوَليست هي أيضًا مثل تلك الشباك الشائكة التي يصنعها الإنسان في حروبه الآن؛ ليمنع بها أعداءه من الدنو إليه؟

ترك الناس تلك الطيور تنقد تلك الديدان؛ لأن الديدان تضر بزرعهم، ولكن لو كانت سقطت تفاحة أو ثمرة مما يطيب لهم أكلها، فهل كانوا يتركونها لتلك الطيور أو يتركون الطيور تقربها؟ كلا، ثم كلا، ولكن تلك الديدان نفسها سوف تقتات بدورها من تلك الطيور ومن الإنسان أيضًا الذي لم يدافع عنها طبقًا لسنة التبادل، فالسلبي يثأر لنفسه من الإيجابي، والإيجابي يثأر لنفسه من السلبي.

يتوالد الحيوان بمجامعة ذكره لأنثاه، لا فرق في ذلك بين طير السماء وسمك البحار ووحش البر وكل ذي نسمة حية، كما يجري بين الرجل والمرأة لا فرق في الأصل البتة بين هذا وذاك، فالذكر الزارع والأنثى الأرض المنبتة، وهو بالنسبة إليها يمثل العنصر السلبي، وهي بالنسبة إليه تمثل العنصر الإيجابي، وباجتماعهما يظهر في الوجود آخر بشكله المعلوم، وهو في الوجود من قبل ومن بعد، فيسير سيره تتجاذبه العوامل الأخرى من بقية الكائنات تحت نظام التأثير والأخذ والعطاء، فيأخذ منها ويعطيها ويتأثر بها وتتأثر به إلى أن يتبدل ذلك الشكل ليأتي شكل آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية له.

هذا فيما يختص بالمملكة الحيوانية وهو عين النظام الذي يتمشى عليه النبات والجماد. لقد شاهدتم البستانيين يقتلع بعضهم الأعشاب من بين الزهور؛ ليبعد عنها مزاحمًا يمتص من خواص الأرض؛ ما لو بقي لها وحدها لامتصته هي؛ فنمت وتقوت وأتت بمحصول كثير، أخليت الأرض لتلك الزهور؛ فنمت وأزهرت كثيرًا، ولكنها في سيرها هذا لم تخرج عن سنة التأثير والتبادل. خلصها الإنسان من مزاحم فامتصت قوته فازدادت نموًّا، وأخذ الإنسان من زهورها مقابل تعبه لها، تأثرت قوتها بما امتصته من المواد المنمية، فنمت بزيادة ستدفعها من ضعفها في السنين المقبلة إذا لم يتداركها عامل غير اعتيادي يمنع ذلك الضعف ليثبت توازن ذلك النمو؛ لأن من قاوم الطبيعة صرعته الطبيعة؛ لأنها هي الأصل وهي المتبوع وكل شيء لها ولأحكامها تابع، فمن خالف سننها ولم يماشها لا يطول أمده، وهذا سر ما رأيتموه من فعل البعض الآخر من البستانيين، إذ كان بعضهم منهمكًا في تسميد الأرض وبعضهم في نقل النبات من مكان إلى آخر، وفي حرث بعض قطع من الأرض وري بعضها، فعملهم هذا هو ذلك العامل الغير الاعتيادي الذي لولاه لوقف ذلك النمو وتحولت قوته إلى ضعف، وهو عمل تساوى فيه النبات والجماد فلو لم ينقل النبات من مكانه إلى مكان أصلح به من الخواص المنمية ما ليس يوجد في مكانه حيث كان لما نما وترعرع، ولو لم تسمد الأرض وتحرث وتروى لإعطائها من الخواص عوض التي فقدتها بإجهادها بالزرع لما كانت أخصبت، وهكذا فهي أعطت وأخذت، وأخذ النبات فأعطى، وأعطى الإنسان فأخذ. وبهذا عمت هذه السنة الممالك الثلاث.

أجابت فريدة وقالت: ولكن لو لم تسمد الأرض وتروَى وتحرث لكانت أيضًا أنمت تلك النباتات فأزهرت زهورها فجناها الإنسان دون تعب؟ أجابها الشيخ وقال: اعلمي يا بنيتي أن ذلك الإنماء كان يكون في هذه الحالة نسبيًّا على قدر ما كان بقي في الأرض من المواد المخصبة، وما تكون أخذته في تلك الفترة طبيعيًّا عاديًّا؛ لأن ذلك العامل الغير العادي الذي به استغلت الأرض فأنمت النباتات يجب حتى يبقى ذلك الخصب وذلك النمو محفوظًا؛ أن يقابل بعامل غير عادي أيضًا، وفي هذا يتساوى أيضًا الحيوان بجميع أجناسه، فالإنسان أو الطير أو الوحش أو السمك الذي ينمو نموًّا مفتعلًا لا بد أن يعقب نموه هذا رد فعل يظهر بتوقف ذلك النمو أو بانحطاطه إذا لم يدعم بعامل مفتعل آخر. خذي يا بنيتي نفسك مثلًا ولنقل أن قواك تمكنك من الذهاب مشيًا من البيت إلى الأهرام مرة في اليوم، ولكنك إذا أجهدت نفسك وذهبت مرتين، فهل يمكنك في اليوم الثاني أن تذهبي كما كنت تذهبين من قبل دون أن تعوضي ذلك الإجهاد إما براحة أزيد من قبل أو بأكل أكثر تغذية من قبل، أو بتناول أي مقوٍّ يعيد لك قواك التي فقدتها بذلك الإجهاد؟ أقول لك: كلا، فإنك إن لم تستعيضي عن المرة الزائدة بأي عامل آخر فإنك لا يمكنك الذهاب في ذلك اليوم كما كنت تذهبين من قبل، كما هي الحال مع تلك الأرض وتلك الزهور؛ لأن السنة واحدة، فكما أن الجَمل إذا حمَّلته فوق طاقته رزح تحت الحمل، كذلك قطعة الحديد أو الخشب تنكسر أو تلتوي إذا لم تدعم وتتقوَّ.

تشاهدون بين الحيوان أن هذا الصنف الذي يعيش في تلك البقعة أو في تلك القارة هو أقوى أو أضعف من ذاك الذي يعيش في غيرها، كما أنكم ترون هذا أيضًا بعينه بين النبات وبين الجماد، فكم نسمع البائع يقول: بسوسي يا شمام، بلدي يا برتقال؛ حتى يظهر أفضيلة ما معه على غيره، وكم نلاحظ أن سكان الجبال هم أقوى بنية من سكان السهول مثلًا، وسكان الأرياف هم أقوى وأصح جسمًا من سكان المدن، وأن هذا الصنف من الحديد أو الفولاذ أو الفضة أو الذهب أو أي معدن آخر يختلف باختلاف البقعة التي استخرج منها، أفليس هذا كله منشأه سنة التأثير التي تعم الممالك الثلاث؟

فقال نجيب: لقد حل لي الشيخ بما أبانه الآن عقدة طالما حاولت حلها، فلم أتوفق لما كان يعترضني من المتناقضات، إذ كنت عندما أتعب من البحث فيها بلا جدوى مقنعة أنسبها إلى عمل سماوي لغاية مجهولة.

لقد قال الكتاب الكريم: إن الإسرائيليين عند خروجهم من مصر وعلى رأسهم موسى الكليم، ذاك الرجل العظيم الذي أخذ العلم والحكمة على كهنة مصر، ففاقهم جميعًا، وأتى بمعجرات أذرت بجميع ما عملوا قد تاهوا في برية سيناء أربعين سنة، وفي موضع آخر يقول الكتاب: «إن موسى هرب بعد قتله المصري إلى تلك البقعة نفسها، فعاش فيها العشرين سنة، ومنها تزوج فعرفها طبعًا وعرف كل مجاهلها.» فهل يعقل يا ترى، أن رجلًا مثل هذا، وقد تصدى لخلاص قومه من رق العبودية، وقاد ذلك الشعب بأكمله رجالًا ونساءً شيوخًا وأطفالًا؛ يأتي إلى ذلك المكان فيتيه فيه ولا يعود يعرف منه له مخرجًا طول هذه السنين؟ أمام هذا كنت أقف حائرًا لا أجد لهذه العقدة حلًّا موفقًا معقولًا، فكان فكري أمامها يصبح تيهًا يتيه فيه عقلي، أما الآن فأرى أن موسى وقد كان توفق لتنفيذ الشطر الأول من خطته وعرف كيف يجتاز بقومه في ساعة جزر في بحر القلزم في مكان يعرفه حق المعرفة، ثم يغري عدوه باللحاق به فيدركه المد فيسد عليه السبل فيغرق بخيله ورجله، عرف أيضًا أن ذلك الشعب الذي خرج به من مصر، حيث كان مستعبدًا قرونًا طويلة؛ سيم فيها الذل والمسكنة فأفقده الاضطهاد والاحتقار مناعته وذاته المعنوية، وكل مزية طيبة؛ فتأثرت قواه بذلك تأثيرًا توارثه أبًا عن جد فتأصل في جسمه ونفسه، وضاعت معه كل همة وعزة نفس، وإقدام لا يصلح في حالته الراهنة لمصادمة وقتال شعوب قوية، شديدة المراس، منيعة الجانب، رُبيت في الحرية؛ فاضطر إلى تأخير تنفيذ الشطر الثاني من تلك الخطة المدبرة بأحكام عظيم يليق بذلك العقل الذي أبرز أمتن وأحق شريعة عُرفت؛ حتى قال عن ناموسه السيد المسيح: «إن السماء والأرض تزولان، وحرف من الناموس لا يزول»، فعمد إلى حيلته هذه؛ فأضاعهم حيث قادهم وأبقاهم تلك السنين؛ ليعوض عليهم في حياة البرية الحرة ما أضاعوه في عيشة الذل والهوان والاستعباد؛ ليقوم مقام هذا الجيل الخامل الضعيف جيل جديد همام قوي يصلح للقتال والمقاومة والغزو، يستولى به على ما كان يُطلب من البلاد، فيخضع به شعوبها ويطردها منها؛ فيحل محلها فيها كما حدث وتحقق، فنظر إليه الشيخ وقال: صدقت يا بني باستنتاجك هذا؛ لأن ذلك الشعب كان في حالته مثل تلك الأرض المجهرة التي لا تصلح للزرع قبل أن تستعيض ما فقدته من الخواص، ومثل ذلك الضعيف الذي أناخه التعب فلم يعد قادرًا على متابعة السير قبل استرجاع قواه. ولا غرو، إذا كان موسى عرف ذلك؛ لأن بعض الحقيقة كان معروفًا لديه ولدى أساطين ذلك العصر.

فمما تقدم يظهر لكم أن السنتين الأصليتين الجامعتين الخاضع لهما جميع ما في الكون؛ هما سنة التبادل أو التوازن، وسنة التأثير، ومنهما تفرعت جميع بقية السنن وعليهما بنيت جميع الشرائع والتحليلات والتحريمات، ولا غرو فهما في الأصل مظهر الينبوع العظيم الأصيل الفرد، فهما السلبي والإيجابي يبدوان بفروعهما التي لا عد لها ولا حصر بأشكال ومظاهر مختلفة، حتى يتعذر على الناظر إليها معرفة حقيقتها، فيظنها أنها متعددة الأصول كما هي متعددة المظاهر والفروع، ولكن المتعمق في البحث تقل لديه الأصول على قدر ما يقترب من الحقيقة، ويزداد التجانس على قدر التقارب حتى ينحصر في اثنين فقط فيما يختص بالمادة.

أفليس مظهر الذكر والأنثى، الكبير والصغير، الحلو والمر، الرَّخْص والصلب، السائل والجامد، البرد والحر، الظلام والنور، الأسود والأبيض؛ يمثل السلبي والإيجابي؟

انظروا إلى تنوع النبات واختلاف أجناس الحيوان، وتنوع أصناف الجماد وكثرة معادنه، وكيف أن كل نوع أو جنس يقاوم الآخر أو يتحد معه أو ينفصل عنه على قدر كثرة أو قلة التجانس بين الاثنين، فإن الفضة تتحد مع الذهب حتى كأن الاثنين جسم واحد، ولكنها لا يمكنها الاتحاد بهذه الصورة مع الخشب مثلًا، وإذا صُب الرصاص مع النحاس لا يتحد معه كما لو صُب الرصاص مع الفضة، وهكذا، أيضًا في النبات، فإذا تطعم النخيل بالبرتقال مثلًا لا يعيش ويثمر، أما إذا تطعم البرتقال بشجر آخر أكثر تجانسًا معه اتحد وعاش وأثمر. وما نراه في الجماد والنبات نراه أيضًا في الحيوان، فإن الحمار إذا جامع البقرة فهذه لا تحمل ولا تلد، أما إذا جامع الحصان الأتان حملت وولدت، وإذا جامع الإنسان ناقة أو شاة لا تحبل، ولكن القرد إذا جامع امرأة لربما حملت وولدت، وإذا جامع الحيوان الطير فإن هذه لا تبيض فتفرخ أما إذا جامع ذكر الحمام أنثى طير من فصيلته باضت وفرخت.

لقد قلت لكم فيما سبق إن العوامل المكونة أو المساعدة على التكوين هي نفسها المحولة أو المساعدة على التحويل، يتساوى أمام ذلك الحيوان والنبات والجماد فيسير الكل سيره حسب سنتي التأثير والتبادل. يولد الحيوان من بطن أمه صغيرًا ضعيفًا فيقوى بالغذاء والهواء والنور والحرارة والماء حتى يصل إلى درجة معلومة من القوى، ثم يرجع القهقري حتى يضعف ويشيخ ويحل به العجز، فيموت، هذا إذا لم يصادمه طارئ لم يقوَ على مكافحته والتغلب عليه، فيموت ويتحلل قبل أوانه، وينبت النبات فيسير على الطريقة نفسها فيزهو وينمو ويثمر ثم يضعف فيذبل وييبس ويضمحل، ويتكون الجماد بجميع معادنه ويسير خاضعًا لذلك الناموس، فيتغير ويتبدل ويتحول حسب ما ينضم إليه أو ينفصل عنه من المواد والعناصر الأخرى، وهكذا دواليك في جميع الكائنات؛ لأن العناصر الأربعة المتولدة من العنصر الأصيل الفرد المكونة هي نفسها المحولة حسب تأثيراتها بعضها على بعض؛ إن رأسًا أو بما تفرع عنها. ألا ترون أنه إذا زادت الحرارة في جسم حيوان عن المعتاد أو قلَّت عنه مات ذلك الحيوان أو مرض، وإذا عرِّض جسم آخر لأي من العناصر أكثر مما يلزم أضر به هذا التعريض، وأثر به إن قليلًا أو كثيرًا على نسبة مناعته؛ لأن الأشكال جميعها في مظاهر الممالك الثلاث تكونت على نسبة معلومة من كميات معلومة فيما بينها، فإذا زادت كمية عن نسبتها أو نقصت ابتدأ التحول والتغير بالشكل.

فأي فرق في الحقيقة بين الصدأ الذي يغشى الحديد إذا لحقت هذا الرطوبة، وبين الزكام الذي تسببه الرطوبة لكم؟ فإن الأول لا يزول إلا إذا جُلي الحديد والثاني لا يزول إلا إذا قاومتموه بالمسخنات. أفلا ترون أيضًا أن النبات إذا رُوي بكثرة عما يلزمه، أو إذا عطش أضر به ذلك الري وذلك الظمأ؟ وأن الحيوان إذا شرب أكثر مما يلزمه، أو إذا ظمئ ظمأ شديدًا أضر به ذلك الشرب وذلك الظمأ، كل على قدر نسبته؟

قال هذا وهمَّ بالقيام، غير أن فريدًا استوقفه بقوله له: ليسمح لنا شيخنا بسؤال عن أمر يشغل بال بعض علماء هذا العصر ويثير اهتمام الناس؛ وهو إمكان وجود الحياة في بعض العوالم الأخرى مثل المريخ مثلًا؟ وهل في الإمكان إذا وجدت التوصل للتخابر معها، أو التوصل إلى الوصول منا إليها أو منها إلينا؟ فأجابه الشيخ قائلًا: إني الآن تعب، تلزمني بعض الراحة، وأرى أن الوقت قد حان؛ فموعد الإجابة على سؤالك هذا غدًا إن كان في العمر بقية، فأنعموا إذن مساءً يا أولادي.

قال هذا وقام وصافحهم، فتقدمت منه فريدة وبيدها صندوق صغير به بعض المآكل، وشيء من الحلوى وصُرة بها قليل من الدراهم وقدمته له راجية قبوله، فتناول تقدمتها شاكرًا ممتنًّا، وصافحها ثانية وابتعد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤