الفصل التاسع

هل توجد حقيقة؟ وما هي بالحقيقة الحقيقة؟

***

في اليوم الثاني دعا نجيب فريدًا وفريدة لتناول الغذاء في الفندق قرب الأهرام معه، فلبَّيا الدعوة وركبوا إحدى السيارات، فقلتهم إلى هناك.

وبعد تناول الطعام قام أصحابنا الثلاثة يتمشون في حديقة الفندق، ينتظرون بفروغ صبر حلول الميعاد؛ ليذهبوا أمام أبي الهول لمقابلة الشيخ، وكانوا يتحدثون بأمور شتى في مواضيع مختلفة، وإنما الحديث شجون. فقال نجيب: قل لي يا فريد أين أمضيت السهرة أمس؟ فأجابه فريد: لما تفارقنا مررت على القهوة فوجدت هناك سليمًا ومعه بعض الأصحاب يلعبون الشطرنج فدعوني للجلوس معهم، ولما كانت هذه اللعبة تسرني لما تستدعيه من التفكير والحساب؛ قبلت الدعوة وجلست معهم. وكانت اللعبة على رهان كسبه سليم، فسُر سرورًا عظيمًا، ومن شدة سروره بالمكسب دعانا جميعًا لشرب كأس خمرة معه، فلم نشأ أن نعكر عليه صفوه فقبلنا ذلك ثم انصرفنا كل إلى منزله، فقالت فريدة: إنه مما لا يعجبني في أخي سروره من أقل شيء وتكدره من أقل شيء، فبينما نراه يغضب لكلمة نراه أيضًا يرضى لكلمة، ويتحول كدره إلى سرور مثل الأطفال. فما سر الفرح والكدر في الإنسان يا ترى؟ وما هو سر الشعور بالألم واللذة؟ فإن هذه الأبحاث كثيرًا ما شغلت فكري، فلماذا سُر سليم بمكسبه هذا يا ترى؟ ويا ليتني كنت فطنت إلى هذا قبلًا فسألت الشيخ عنه؛ لأني اليوم لا أرى وجهًا لمثل هذا السؤال لاختلافه عن موضوع الحديث. فقال نجيب: إن هذه المسألة لهي بسيطة حسب رأيي، وأعللها بزيادة أو نقصان أحد العنصرين عن الآخر، فإن الإنسان إذا خسر شيئًا مثلًا قَل سلبيه الذي اعتاده فينقبض ويغتم، أما إذا كسب شيئًا زاد إيجابيه فينشرح؛ لأن الكدر والفرح والألم واللذة ما هو إلا الشعور بزيادة أو نقصان أحد هذين العنصرين بدخول قوة على أحدهما أو خروج قوة عن أحدهما، ويبقى هذا الشعور إلى أن يتعادلا بما يأخذه الناقص من مختلف القوى أو إلى أن يتساوى الزائد به بما يذهب عنه من الزيادة، أما إذا تعذرت المعادلة جرى الانفصال؛ لأن الفرح يميت والحزن يميت، وهذه مسألة أصبحت لدينا طبيعية بما سبق لنا سماعه من الشروح.

وفيما هم كذلك إذ هبت عاصفة شديدة مما يندر حدوثه، فأبرقت السماء ودوى صوت الرعد بشدة وابتدأ المطر يهطل، فهرولوا مسرعين إلى الفندق ومكثوا فيه يراقبون هذا المنظر حتى هدأت الزوبعة، وعاد أديم السماء فصفا ثانية.

حل ميعاد المقابلة فخرج الثلاثة وساروا مشيًا ناحية أبي الهول، ولما وصلوا وجدوا الشيخ قد سبقهم إلى هناك، ولما رآهم قادمين تقدم للقائهم بضع خطوات؛ ففرحوا به وحيُّوه بكل احترام.

ثم جاءوا إلى بعض الأحجار الكبيرة فجلسوا عليها، ولما استقر بهم المقام قالت فريدة: لعلنا لم نبطئ على الشيخ، فقد كنا قادمين قبل الآن لنكفيه مؤنة انتظارنا، ولكن المطر داهمنا فرجعنا من حيث أتينا، فإن هذه العاصفة لم تكن بالحسبان، فمسكين هو الإنسان كم هو ضعيف أمام قوى الطبيعة، فقد كنت طول هذا الوقت عندما كانت الأرياح تعصف والبرق يلمع والرعد يقصف والأمطار تهطل أفكر بهذا، وأنظر إلى حقارتي بالنسبة إلى ذلك، ولكن كنت في الوقت ذاته أشعر أيضًا بعظمة نفسي أمام كل هذا، فأقيس ضعفي بهذه القوى فلا أفهم لعظمة نفسي من سبب. فأجاب الشيخ وقال: اسمعي يا ابنتي، إن شعورك بالحقارة هو بالنسبة لجسمك المادي أمام عظمة تلك القوة التي تفوقه؛ لأن المادة التي به هي جزء حقير بالنسبة للوحدات الأخرى، فالمادة ولو أنها في أصلها عظيمة إلا أن ما طرأ عليها من التغييرات والتجزيئات، وما تكوَّن منها من الوحدات بَعدَها عن الأصل, ووضعها تحت الحس والمقارنة، أما شعورك رغم ذلك بالعظمة النفسية فهو بالنسبة لروحك؛ لأن الروح هي رأسًا من الأصل الفرد العظيم المثلث المظاهر المالئ للفضاء، والذي منه كل الكائنات؛ فهي رأسًا من مظهره الثالث.

لقد سألني نجيب أمس كما سألني فريد من قبل عن هذا، ولقد تكلمت مرارًا عنه في سياق الحديث، والآن أقول لكم بأن الروح هي تلك القوة التي تصدر منبثقة من اجتماع السلبي والإيجابي، وهي في الأحياء كاملة؛ لأنها شاعرة مدركة محركة بذاتها، أما في الكائنات الأخرى فهي كامنة ناقصة لا قدرة لها بذاتها، بل تظهر عند اجتماع العنصرين: فالسلبي فيه روح، ولكن لا قدرة له على إظهارها بغير الإيجابي، والإيجابي فيه روح ولكن لا قدرة له على إظهارها بغير السلبي، ولا قدرة لأحد العنصرين على التكوين بدون الآخر، ولا اجتماع لهما بدون انبثاق الروح منهما، ونرى لهذه الحقيقة مظهرًا يؤيدها في كل شيء، فمثلًا لو لم يتلاقَ السلبي والإيجابي لما كنتم رأيتم نور البرق ولا سمعتم قصف الرعد الآن؛ لذا كانت الأحياء وسيدها الإنسان بالنسبة لرقي روحه أشبه الأشياء بالله — عز وجل؛ ولهذا دُعي الناس أبناء الله وما الله — عز وجل — سوى تلك القوة الفائقة الخالقة العاقلة، وذلك العنصر الأصيل الفرد المثلث المظاهر الأصل الوحيد والمرجع الوحيد؛ لذا أيضًا فإن كل قوة هي من الله؛ لأنه هو المصدر الوحيد لجميع القوى.

فهذه هي الحقيقة التي بدت لي أقولها لكم يا أولادي، وهذا هو السر الذي ائتمنت الأجيال أبا الهول عليه يبوح به الآن، وما بقية الأشكال والمظاهر سوى خيالات لا حقيقة بالحقيقة لها سوى ما بها من العنصر الأصيل الفرد فقط.

قال هذا وذهب عنهم تاركًا عصاه وجرابه لنجيب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤