محمد حافظ إبراهيم١

إلى هُنَا أيَّتُها المدينَهْ
الحُرَّةُ الفاجرةُ المجنونَهْ
تَملأ عَيْنَيَّ الرُّؤى السَّجينهْ
والأدمعُ الوالهةُ السَّخينَهْ
إنِّي هنا أُغربِلُ السَّكينهْ
وأزرعُ الخواطرَ الحزينَهْ
مِلْءَ ضِفَافِ الوَحْدةِ المِسكينَهْ
وفي يدي فَجْرٌ ستعبدينَهْ
يومَ نُزولِ المِحنةِ الملعونَهْ

لم يقل هذا الشعر «محمد حافظ إبراهيم» وإن كان هو القائل منذ نصف قرن:

سَعَيْتُ إلى أن كِدْتُ أَنتعلُ الدَّما
وعُدْتُ وما أَعْقَبْتُ إلا التَّنَدُّما
سَلامٌ على الدُّنيا سَلامَ مَوَدِّعٍ
رَأى في ظَلامِ القَبْر أُنْسًا ومَغْنمَا
أضَرَّتْ به الأُولى فَهامَ بأختِها
وإنْ ساءَتِ الأُخْرَى فويلاهُ مِنهما!
فَهُبِّي رياحَ الموتِ نكباءَ واطفئي
سراجَ حَياتي قبلَ أن يَتحطَّمَا
فما عَصَمتني من زماني فضائلي
ولكنْ رأيتُ الموتَ للحُرِّ أَعْصَمَا!

وإنما قال ذلك الشعر في منتصف القرن العشرين شاعر آخر موهوب، اضطرته الحاجة إلى ترك القاهرة والالتجاء إلى سفح «المقطم»، يلتحف السماء ويبيت لياليه على الطَّوى، ساخرًا من المترفين الكسالى، حتى مات ضحية الجوع والحرمان، وكان قبلًا يُنْشِدُ:

إنَّ أشْقَى الأحياءِ والأمواتِ
آدميٌّ يَعيشُ بالفلسفاتِ
يَتمنَّى الخلودَ بعدَ الممات
وهو حَيٌّ معذبٌ في الحياةِ!

كما كان يقول بإنسانيته:

وطني الدُّنيا، ودِيني خالقي
وأَخي كُلُّ شَقِيٍّ في البَشَرْ!

ويقول متسامحًا كريمًا:

ربَّما فوَّقوا السِّهامَ لقتلي
فرأوني أُباركُ القاتلينا!

وجميع هذا الشعر هو من روح «حافظ إبراهيم»، وكان من الجائز أن يقوله، كما كان من الجائز أن تكون نهايته نهاية ذلك الشاعر البائس «صالح علي الشرنوبي»، لولا أن العناية أنقذت حافظًا على يديْ ناظر المعارف المصرية «أحمد حشمت باشا» والأستاذ «الإمام محمد عبده».

كان والد «حافظ» أحد المهندسين المشرفين على بناء قناطر «أسيوط»، ولكنه توفي فقيرًا ولم يتجاوز «حافظ» السنتين، فانتقلت به والدته من مسقط رأسه في «ديروط» إلى القاهرة؛ حيث كفله خاله وعُنِيَ بتعليمه الابتدائي والثانوي، ثم انتقل خاله إلى طنطا فانتقل «حافظ» معه حيث لبث بها بضع سنوات مساعدًا في أعمال المحاماة،٢ وكان يترافع في قضايا المحاكم الجزئية القريبة من طنطا ويكسبها، ويحدثنا خَدِينُ صباه وصديقه الحميم «الشيخ عبد الوهاب النجار» أستاذ التاريخ الإسلامي بالجامعة الأزهرية سابقًا، فينوه بأدب «حافظ»، وما يشتمل عليه من ظرف ولطف محاضرة، وبديهة مطاوعة، وسرعة خاطرٍ وحضورٍ نادرة.

وضرب مثلًا لذلك ما حصل «لحافظ» في عهده الأول؛ إذ أغلظ خالُه القولَ له مرة في شأن من الشئون وزجره، فكتب إلى خاله:

ثَقُلَتْ عليكَ مئونتي
وأنا أراها واهيَهْ
فافرحْ، فإني ذاهبٌ
متوجِّهٌ في داهيَهْ!
ولكنه لم ينس خاله فيما بعد حينما سجن، فنظم «حافظ» قصيدة للخديوي «محمد توفيق باشا» يستعطفه بها على خاله، فوقعت قصيدته من نفس الخديوي موقعًا حسنًا، فأصدر عفوه عن خاله وعينه مدرسًا للأمراء «أحمد سيف الدين» و«محمد إبراهيم» و«شويكار هانم»، وبقي بعد مفارقتهما عهد الدراسة يستولي على مرتبه إلى وفاته.٣
وذكر الأستاذ «النجار» من آيات ذكاء «حافظ» أنه كان يَسمعُ الفقيهَ في بيت خاله يقرأ سورة «الكهف» أو سورة «مريم» أو سورة «طه» فيحفظ ما يقول، ويؤديه كما سمعه بالرواية التي قرأ بها الفقيه! وكان إذا وقف على بيت نادرٍ، أو شعر بارع، يبادر إلى الأستاذ «النجار» قبل أن يُسْمِعَهُ إنسانًا آخر، ويُسْمِعُهُ ما أعجبه، وكان لا يعجبه إلا كل مرقص مطرب،٤ وقد لازمت هذه الخلال حافظًا إلى أواخر أيامه.

ولقد كانت أمنيته الكبرى أن يدخل المدرسة الحربية، فتمكن من ذلك بعد انتقاله إلى مصر، ولكن وطنيته كانت أكبر من مظهر الجندية، فعزله الإنجليز منها في السودان، ثم ازداد تَشَرُّبُهُ للمبادئ الوطنية ولفلسفة الحياة العملية بصحبة الإمام محمد عبده، فهيأه كل ذلك لأن يكون شاعر الوطنية المصرية المطبوع المجلى، لا يعرف الذبذبة في عقيدته، ولا يُزعزع إيمانَه بمبادئه أيُّ ظرف أو حادث، ولذلك بقيت لشعره القومي حرمة لا تعدلها حرمة أي شعر آخر في زمنه، أوْحتْهُ شجون مصر وشئونها وعواطف أبنائها، وتقدست بإخلاصه العميق لوطنه وترفُّعه عن الدنايا.

إن شعر «حافظ» الوجداني يمثل إنسانيته البَرِمة بالمفاسد والصغائر؛ كما يمثل مرحَه وظرفه، ومنه ما يمثل تعاطفه البشري في النكبات والأحداث العالمية، ولكن أعظم ما يمثله «حافظ» هو «مصر» التي أحبها ودللها، وزجرها وأرشدها، ودافع عنها وسخر مِنْ كُلِّ مَنْ حاولَ أن يثنيَه عن إيمانه وجهاده، وأن يستحوذ على قيثارته.

«حافظ إبراهيم» هو «مصر» العانية الحاضرة، لا مصر القديمة التي احتفى بها «شوقي» أجملَ احتفاءٍ، ولا مصر الإسلامية التركية التي نافح عنها «أحمد محرم» منافحة أجلَّ، فشاعرنا بِسماته وروحه هو هو «مصر» البائسة الوجلة المتيقظة المترددة المتقدمة، فإذا عاتبها أو لامها أو عنَّفها؛ فكأنه يوجه كل هذا إلى نفسه، فلن تسخط عليه «مصر»؛ لأنه توءمها، ولأنه بإخلاصه الناصع فوق كل لوم أو شك، ولو أن بعض النقاد الأفاضل آخَذَهُ على حملته على «المدعي العمومي» في «مأساة دنشواي» باعتباره مصريًّا؛ وإذا كان اللومُ القاسي لا يُوَجَّهُ إلى المصري الضالع مع خصوم مصر؛ فإلى من يُوَجَّهُ؟! ومثل هذا الخطأ في الحكم وُجِّهَ قبلًا إلى الرائد المصلح «جمال الدين الأفغاني»، الذي ألجأه الظلم إلى المهاجرة من وطنه الأول «إيران» والانتساب إلى أفغانستان، التي بَرَّتْ بعلمه وأدبه وحَنَتْ عليه، فقد شاء بعض النقاد أن يتستر على الظلم؛ لأن مرتكبيه هم أبناء وطنه، ولا تزال هذه التعاليم المعوجة تدرس لطلبة؛ العلم حتى الآن! إذن لا أسمي «حافظ إبراهيم» إلا «مصر الشاعرة»، لا ما دون ذلك بأية صورة٥ فهو الشاعر الشعبي، وهو الشعب عاطفة وأغنية.
لم تكن لحافظ ثقافة «شوقي» التاريخية أو الأدبية الفرنجية؛ فلم تكن له آفاق «شوقي»، بل ولا آفاق غيره من شعراء الشباب المتضلعين من الآداب العالمية، أو أولئك الذين جمعوا بين المعارف الأدبية والعلمية، ولكنَّ طبع حافظ الشعري كان أصلًا جذابًا، وعلى الأخص في شعره المرتجل الذي كان يرسل فيه نفسه على سجيتها ويتفنن؛ وللأسف ضاع معظم هذا الشعر؛ لأنه لم يكن يدوِّنه؛ معتمدًا في حفظه على ذاكرته القوية وحدها، وكثير منه مداعبات وإخوانيات، تكاد تكون عديمة النظير في الشعر العصري، وبعض هذه المداعبات التي جرت بينه وبين الدكتور الشاعر «إبراهيم الشدودي» تمكنت «مجلة سركيس» من نشره، وحتى هجاؤه اللاذع لم يكن إلا مداعبة. لقد كان لحافظ عبقريته كما كانت لشوقي، بعكس ما زعم أحمد حسن الزيات٦ الذي قال إن «شوقي» شاعر العبقرية «وحافظًا» شاعر القريحة؛ لأننا نعرف أن لكلٍّ منهما إبداعَه وأصالتَه؛ كما أن لكل منهما إسفافَه.

والفارق بين الرجلين هو الفارق بين طبعين، وثقافتين، وقريحتين، وغيرُ صحيح أن حافظًا كان يتحمَّل من بناء القصيدة إرهاقًا شديدًا؛ فقد كان ارتجالُه للشعر أطوعَ من ارتجال «شوقي» في مجالس سمره، وكان يَسُحُّ بالشعر سَحًّا، وإنما كان يتأنق في التنقيح فحسب، بحكم تأثره المديد بالأدب العربي القديم، فجاءت صياغته ممتازة لا غاية بعدها، في منحاها العربي الصافي.

واعتلَّت صحة «حافظ» في أواخر عمره فَصَمَتَ؛ لا عن عيٍّ؛ بل عن اعتلالٍ فحسب، ولكن بعد أن كان قد زود أمته بأصداء جميلة من روحها، وبصفوة نقية من اختباراته.

وكان «حافظ» يعشق الحرية إلى أبعد حد، ويحتقر متاع الدنيا؛ فكان محسنًا بماله، إلى حد التبذير، ولكنه كان دائمًا ضنينًا بأخلاقه ومبادئه، وهذا ما أكسبه تجلَّة خالدة، فإن بوهيميَّتَه لم تمس أخلاقه الفاضلة. لقد كان «حافظ» مُسْهِمًا بشعره في ثورات فكرية، نهضت بالوطنية المصرية جيلًا بعد جيل، كما كان صادق التجاوب معها، وقصائده السياسة القومية أشهر من أن تَعُرَّفَ.

وهو يُعَدُّ أولَ شاعر مصري نَوَّهَ بعظمة أمريكا الحَرِيَّةِ بالاقتباس منها، وكأنه كان يخاطب أبناء مصر حينما وجه هذا الشعر البسيط الصياغة العميق المغزى إلى الرئيس الأسبق تيودور روزفلت، على أثر خطبة سياسية في «القاهرة» في أوائل هذا القرن:

يا خطيبَ «الدُّنيا الجديدةِ» شَنِّفْ
سَمْعَ «مصر» بقولِك المأثورِ
واخبرِ الناسَ كيف سُدْتُم على النَّا
سِ وجئتمْ بمعجزاتِ الدهورِ
وملكتمْ أعنَّةَ الرِّيح والما
ءِ، ودُسْتُم على رقابِ العصورِ
قِفْ وعَدِّدْ مآثرَ العلم واذكرْ
نِعمَ اللهِ ذِكْرَ عبدٍ شَكور
وإذا ما ذكَرتَ أنْعُمَهُ الكُبـْ
ـرى فلا تَنْسَ نِعمةَ الدستورِ!

إن «شاعرية حافظ» الثائرة الناقمة التي جاءت بقصائده الخالدة في «دنشواي» و«مصر» ورثاء «محمد عبده» ورثاء «مصطفى كامل» و«حطمتُ يراعى» و«رعاية الطفل» و«المناجاة» و«مظاهرة السيدات» وكثيرات سواها؛ لم تعرف المحاكاة التي لجأ إليها «شوقي» في تقليد «المتنبي»، ولجأ إليها «عبد المطلب» في تقليد شعراء البدو، ولجأ إليها «الجارم» في محاكاة الشعراء العباسيين، وإنما جاءت فيض عاطفته وخاطره وإيمانه. و«لحافظ» مفاتن وصفية كما له حكم سائرة، جمع بعضَها «أحمد عبيد» في كتابه «مشاهير شعراء العصر»، وكلها تشع بروح تقدمية جذابة، وإن اتبع غالبًا «المذهب الواقعي» في عرضه، ونادرًا «المذهب الرومانطيقي» القصصي؛ كما في قصيدته «بنت مصر وبنت الشام» وقصيدته «المناجاة».

ولئن أُصْغِرَتْ طاقته الشعرية في نماذجَ؛ كما أُصْغِرَتْ طاقة شوقي الشعرية في نماذجَ أيضًا؛ فإنها مع ذلك محتفظة بروح قوية؛ لأنها مستمدة من روح الشعب، ومن روح التقدم الذي هو دين الوجود الغَلَّاب؛ ولأنه بسيرته خلق في تاريخ الشعب المصري خاصة سيرة «المصلح» في صورة شاعر، ولأنه عاش في جميع شعره لا في بعضه، وفي آذاننا رنين من حِكَمِه وأمثاله:

إذا اللهُ أَحيا أمةً لن يردَّها
إلى الموتِ قهَّارٌ، ولا مُتَجَبِّرُ

•••

إنَّ القويَّ بكلِّ أرضٍ يُتَّقَى

•••

إنَّ المنَاصِبَ في عزلٍ وتوليةٍ
غيرُ المواهبِ في ذِكْرٍ وتخليدِ

•••

أبريءٌ عنهُ يَعْفُو مُذنبٌ
كيف تُسْدِي العَفْوَ كَفُّ المذْنِبِ؟!

•••

فما ضاعَ حَقٌّ لم يَنَمْ عنه أهله
ولا نَالَهُ في العَالَمِينَ مُقَصِّرُ

•••

قد اتُّهِمْنَا ولَمَّا نَطلِبْ جَلَلَا
إنَّ الضَّعيفَ على الحاليْنِ متَّهَمُ!

•••

مَنْ رَامَ وصْلَ الشَّمْسِ حَاكَ خُيوطها
سَببًا إلى آمالِه وتَعَلقَا!

•••

مَرْحَبًا بالخطبِ يَبْلُوني إذا
كانتِ العلْيَاءُ فيهِ السَّبَبَا!

•••

هَلَاكُ الفَرْدِ مَنْشؤهُ تَوَانٍ
ومَوْتُ الشَّعْبِ مَنْشَؤهُ انقسامُ

لقد عاش «حافظ» عيشةَ الفقير المحسن، وأما ثروته الأدبية وآثارها فلم تُقَدَّرْ بَعْدُ التقديرَ الكافي، وكان أحق الناس بالكتابة الضافية عنه صديقه الأستاذ «عبد الوهاب النجار» أو صديقه «خليل مَطران»، ولكن المنية عاجلتهما، فلم يبق إلا أن نرتقب تحقيق ذلك على أيدي الجامعيين المستنيرين؛ أمثال الأديب الفاضل «روفائيل مسيحة» في مصر، وغيره في بقية العالم العربي، الذي احتضنته شاعرية «حافظ» وإنسانيته!

١  جريدة «المقطم» بتاريخ ٢٥ سبتمبر سنة ١٩٥١: مقال بعنوان «نهاية شاعر» للأديب «سيف نديم زمر».
٢  مجلة «أبوللو»، المجلد الأول، ص١٣٢٤، من مقال للأستاذ عبد الوهاب النجار بعنوان «صفحة مجهولة من حياة حافظ».
٣  المصدر ذاته ص١٣٢٧.
٤  المصدر ذاته، ص١٣٢٤.
٥  «حافظ إبراهيم» الشاعر السياسي بقلم «روفائيل مسيحة».
٦  مجلة الرسالة العدد الأول سنة ١٩٣٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤