أبو القاسم الشابي

١

ألَا أيُّهَا الظالمُ المُسْتَبِّدُّ
حبيبَ الفَناءِ، عدوَ الحياهْ
سَخِرْتَ بأنَّاتِ شَعْبٍ ضعيفٍ
وكفكَ مخضوبةٌ من دِماهْ
وعِشْتَ تدنِّسُ سِحْرَ الوُجودِ
وتَبذرُ شوك الأسَى في رُباهْ

•••

رُوَيْدَكَ، لا يَخْدَعَنْكَ الربيعُ
وَصَحْوُ الفَضَاءِ وَضَوْءُ الصَّباحْ
ففي الأفُقِ الرَّحْبِ هولُ الظَّلام
وقَصْفُ الرُّعُودِ، وعَصْفُ الرِّيَاحْ
ولا تَهْزَأَنَّ بِنَوْحِ الضَّعيفِ
فمن يَبْذُر الشوكَ يَجْنِ الْجرَاحْ

•••

تَأَمَّلْ! هُنَالِكَ، أنى حَصَدْتَ
رُءُوسَ الوَرَى، وزُهُورَ الأمَلْ
وَرَوَّيْتَ بالدَّمِ قَلْبَ التُّرَابِ
وأشربتَه الدمعَ حَتَّى ثَمِلْ
سَيَجْرفُكَ السَّيْلُ سَيْلُ الدِّماءِ
ويأكُلكَ العاصِفُ المشتعِلْ!
كنت أتلو من جديد هذه الأبيات لصديقي العبقري، فقيد الأدب، الشاعر التونسي «أبي القاسم الشابي»، فوجدت لها مذاقًا في جو الحرية الأمريكية، يفوق في أثره ما أحسسته عند تلاوتها، منذ قرابة عشرين عامًا،١ عند اطلاعي الأول عليها، قبل نشرِها في مجلة «أبوللو»، وقد عنونها «إلى طغاة العالم»!
وساقني تداعي الخواطر إلى ترديدها في إعجاب، وأنا أستمع إلى «صوت أمريكا» يردد في السادس من «نيسان» سنة ألفٍ وتسعمائةٍ واثنين وخمسين:

صرح أمس أحد كبار موظفي وزارة الخارجية الأمريكية — وهو الدكتور «هاري هوارد»، المستشار في شئون الأمم المتحدة، بمكتب الوزارة المختص بالشرق الأدنى وجنوبي آسيا وأفريقيا — صرح بأن سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ترمي إلى مساعدة شعوبه على الاحتفاظ باستقلالها، وسلامة أراضيها، وبحياتها آمنة ضمن أسرة الأمم الحرة …

إن «لأبي القاسم الشابي» روائع كثيرة ظفرت «جمعية أبوللو» ومجلتها التي عنيت قبل سواها بإبراز فنه، ظفرت بالقسط الأوفر منها، وإنه لتصعب المفاضلة بين قصائده هذه؛ فجميعها يتسم بالجمال الفني الأنيق بكامل عناصره … أنؤثر قصيدته «صلوات في هيكل الحب»٢ التي يقول في مطلعها:
عَذْبَةٌ أنتِ، كالطُّفولةِ، كالأحلام، كاللحنِ، كالصَّباحِ الجديدِ
كالسَّماءِ الضحوكِ، كالليلةِ القمراءِ، كالوردِ، كابتسامِ الوليدِ
يَا لها مِنْ وداعةٍ وجمالٍ وشبابٍ منعمٍ أُملود!
يا لها مِنْ طهارةٍ تبعث التقديسَ في مُهْجةِ الشَّقِيِّ العَنيدِ!

وكلها على هذا النسق من الاندماج في الطبيعة، ومن الارتفاع بالحسيات إلى المعنويات القريبة والبعيدة.

أم نؤثر قصيدته الفلسفية الواقعية «السعادة»٣ التي يقول منها:
ترجو السعادةَ يا قلبي، ولو وُجِدَتْ
في الكونِ لم يَشْتَعِلْ حُزْنٌ ولا أَلَمُ
ولا استحالتْ حياةُ الناسِ أَجمعُها
وزُلْزِلَتْ هاتهِ الأكوانُ والنُّظُمُ
خُذِ الحياةَ كما جاءتكَ مبتسمًا
فِي كَفِّها الغارُ أو في كفها العَدَمُ
وارقُصْ على الوردِ والأشواكِ متَّئدًا
غَنَّتْ لك الطيرُ أو غَنَّتْ لك الرُّجُمُ!
أم نؤثر قصيدته «الأشواق التائهة»،٤ وقد جمعت بين ألوان من اليأس واحتقار الوجود والتصوف؛ إذ يقول:
يا صميمَ الحياةِ! كما أنا في الدُّنيا غريبٌ! أشْقَى بِغُرْبَةِ نَفْسِي
بين قومٍ لا يَفهمونَ أناشيدَ فؤادي، ولا مَعانيَ بؤسي
في وُجودٍ مكبَّلٍ بقيودٍ تائهٍ في ظلامِ شكٍّ ونَحْسِ
فاحتضنِّي، وضُمَّني لكَ بالماضي، فهذا الوجُودُ عِلَّةُ يأسي!
أم نؤثر قصيدته «الجنة الضائعة»،٥ التي يذكر فيها عهد الطفولة، ويعرضه عرضًا فنيًّا بديعًا بصوره الفاتنة المنوَّعة، ثم يختمها بهذه الحُرقة:
قد كنتُ في زَمَنِ الطُّفُولَةِ والسذَاجَةِ والطَّهُورْ
أحيا كما تحيا البلابلُ والجداولُ والزُهورْ
لا تَحْفِلُ الدُّنيا، تَدورُ بأهلِها أو لا تَدُورْ
واليومَ أحيا مُرْهَقَ الأعصابِ مشبوبَ الشُّعُورْ
مُتأجِّجَ الإحساسِ، أَحْفِلُ بالعظيم وبالحقيرْ
تَمْشي على قلبي الحياةُ، ويَزْحَفُ الكونُ الكبيرْ
هذا مَصيري، يا بَني الدنيا، فما أشْقَى المَصيرْ!
أم نؤثر قصيدته «الأبد الصغير»٦ المفعمة بالتأملات الفلسفية الوجدانية، وبها يخاطب دنيا قلبه:
يا قلبُ كم فيكَ مِنْ دُنْيا محجَّبةٍ
كأنها حينَ يبدو فَجْرُها (إرَمُ)!
يا قلبُ كم فيكَ مِنْ كونٍ، قد اتَّقَدَتْ
فيه الشُّموسُ وعاشتْ فوقهُ الأمَمُ!
يا قلبُ كم فيك مِنْ أُفْق تُنَمقهُ
كواكبٌ تَتَجلَّى، ثم تَنْعَدِمُ!
يا قلبُ كم فيكَ مِنْ قبر، قد انطفأتْ
فيه الحياةُ، وضجَّت تحته الرِّممُ!
يا قلبُ كم فيكَ مِنْ غاب ومِنْ جَبَلٍ
تَدْوِي به الريحُ أو تَسمُو به القِمَمُ!
يا قلبُ كم فيكَ مِنْ كَهْفٍ قد انبجسَتْ
منه الجداولُ تجْرِي ما لها لُجُمُ!
تَمْشِي، فتحملُ غصنًا مُزْهِرًا نَضِرًا
أو وردةً لم تشَوِّهْ حُسْنَها قَدَمُ
أو نحلةً جَرَّها التيارُ مُنْدَفِعًا
إلى البحارِ تغنِّي فوقَها الدِّيَمُ
أو طائرًا ساحرًا مَيْتًا قد انفجرتْ
في مُقلتيْهِ جِراحٌ جَمَّةٌ ودَمُ
يا قلبُ إنك كونٌ مُدهِشٌ عجَبٌ!
إنْ تسأَل الناس عن آفاقهِ يَجِمُوا
كأنك الأَبَدُ المجهولُ قد عَجَزَتْ
عنك النُّهَى، واكفهرَّتْ حولك الظُّلمُ!
أم نؤثر قصيدته «المستسلم»٧ التي يسخط فيها على دنايا الناس، ويترفع عن محاربتهم:
قد تركت الناسَ غرقى في جِلادٍ وكِفاحْ
سئمتْ نفسي دناياهم وألقيتُ السِّلاحْ!

أم نؤثر قصيدته الفلسفية المتشككة الحائرة «في ظل وادي الموت»، التي يتشوق في ختامها إلى تجربة العدم:

ثمَّ ماذا؟ هذا أنا: صِرْتُ في الدُّنيا بعيدًا عن لهوها وغِناهَا
في ظَلام الفناءِ أَدْفِنُ أيَّامي، ولا أستطيعُ حتّى بُكاها
وزهُورُ الحياةِ تَهوى بِصَمْتٍ مُحْزِن مُضْجرٍ على قَدَميَّا
جَفَّ سِحْرُ الحياةِ يا قلبيَ الباكي فَهَيَّا نُجَرِّبِ الموتَ، هيَّا!
أم نؤثر قصيدته الوجدانية الغِرِّيدة «الصباح الجديد»،٨ التي تغنت بها مواكبُ عديدةٌ ولا تزالُ:
اسكتي يا جراحْ
واسكني يا شُجونْ
ماتَ عهْدُ النواحْ
وزمانُ الجنونْ
وأَطَلَّ الصَّبَاحْ
من وراء القُرونْ
أم نؤثر «ألحانه السكرى»٩ العذبة العَبِقَةَ التي يقول في ختامها:
أيُّها الدهرُ! أيُّها الزمنُ الجاري إلى غيرِ وُجْهَةٍ وقرارِ!
أيُّها الكونُ! أيُّها الفلكُ الدوَّار
بالفجْرِ والدُّجَى والنَّهَارِ!
أيُّها الموتُ! أيها القَدَرُ الأعْمَى! قِفُوا حيث أنتمو أو فَسِيروا
ودَعُونا هُنا: تُغنِّي لنا الأحلامُ والحُبُّ والوجودُ الكبيرُ
وإذا ما أَبَيْتُمو فاحمِلُونَا ولهيبُ الغرامِ في شَفَتَينَا
وزُهورُ الحياةِ تَعْبَقُ بالعِطْرِ، وبالسِّحرِ، والصِّبَا في يَدَيْنَا!
أم نؤثر قصيدته الواقعية المريرة «الناس»١٠ التي تُشْجِي منها زفرته:
ما قَدَّسَ المَثَلَ الأعْلَى وجَمَّلهُ
في أَعْيُنِ النَّاسِ إلَّا أنَّه حُلُم!
ولو مَشَى فيهمو حَيًّا لحطَّمه
قومٌ، وقالوا بخُبْثٍ إنَّه صَمَمُ
لا يَعبدُ الناسُ إِلا كلَّ منعدمٍ
ممنَّع، ولمن حاباهُمو العَدَمُ
حتَّى العباقرةُ الأفذاذُ حَيُّهمو
يَلْقَى الشقاءَ، وتَلْقَى مَجْدَها الرِّمَمُ
الناسُ لا ينصفون الحيَّ بينهمو
حتى إذا ما توارَى عنهمو نَدِمُوا
الويلُ للناس مِنْ أهوائِهم أبدًا
يَمْشِي الزمانْ وريح الشرِّ تَحتدمُ
أم نؤثر قصيدته «من أغاني الرعاة»١١ التي جاءت من وحي استشفائه، وكل بيت من أبياتها صور شعرية متألقة بجمال الطبيعة، التي كانت تحضنه وترعاه في مرضه، بين جبال وأودية وغابات، وفيها يخاطب خِرافَه وشِياهَه بأعذب الألحان.
أم نؤثر قصيدته المتفائلة «الإيمان بالحياة»١٢ وإن كانت عليها مسحة الرثاء لوالده.

أم نؤثر قصيدته الشامخة «نشيد الجبَّار أو هكذا غنى بروميثيوس» التي يرد فيها على حساده الشانئين، ويقول عن نفسه بعد مماته:

فأنا السعيدُ بأنني متحولٌ
عن عالم الآثام والبغضاءِ
لأذوبَ في فجرِ الجمالِ السَّرْمَدِ
يِّ وأرتوي مِنْ مَنهل الأضواء
أم نؤثر قصائده التأملية العاطفية أمثال «الرواية الغربية» و«أيتها الحالمة بين العواصف» و«صوت من السماء»١٣ وكلها آيات من الرقة الحساسة، والرومانطيقية الجميلة الساحرة؟!

إن ما نؤثره هو إنسانيات هذا الشاعر المحلق، الذي لم تعقه أحلامه عن النزول إلى ميدان المجتمع، والسير في موكب البشرية، عازفًا مشجعًا هاديًا مهيبًا بالصاغرين:

إذا الشعبُ يومًا أراد الحياةَ
فلا بدَّ أن يستجيبَ القَدَرْ
ولا بُدَّ لِلَّيْلِ أن يَنجلي
ولا بُدَّ للقيدِ أن يَنكسِرْ

•••

إذا ما طمحتُ إلى غايةٍ
رَكبْتُ المُنَى ونسيتُ الحَذَرْ
ولم أتَجنَّبْ وُعُورَ الشبابِ
ولا هَبَّةَ اللَّهَبِ المُسْتَعِرْ
ومَنْ لم يُحِبَّ صعودَ الجبال
يَعِشْ أَبدَ الدهر بين الحُفَرْ!

ولم تزل قصائدُه الموجهة إلى الشعب ترانيمَ سماويةً خالدةً، وإن سكن جثمانُه القبرَ!

٢

و«الأشواق التائهة» أحلام عُلوية مجنحة، لا تعرف القرار، يحدوها ألَقٌ ساحر، ثم تستوعبه، وتفتِّش عن عوالمَ تُرضيها، حتى إذا ما بلغتها لم تقنع بها، وراحت تبدع عوالمَ جديدةً لها، ثم لم تكتف بما أبدعته، بل أخذت روحُها الخلاقة تواصل الإبداع متممة أو ناسخة. تلك هي «الأشواق التائهة» للشاعر الخالد «أبي القاسم الشابي» الذي ولد من النور، ورضع منه، وتغنى به في هيكل الحب، صلواتٍ روحانيةً تفيض بالجمال الإلهيِّ.

ولئن لم يُعَمَّرْ في هذا الوجود فكذلك عُمرُ النور؛ لمحة من الأبد، وهو هو الأبد الذي لا أول له ولا آخر. يصفه المولعون العابدون ولا ينتهون، ولا يشبعون، وصفًا وتعريفًا. فلا عجب إذا تعددت الدراسات الشعرية لعبقرية «الشابي»، ومنها مجموعة الأديب التونسي الأستاذ «أبي القاسم محمد كِرُّو»، ومجموعة الأديب الحجازي الأستاذ «محمد العامر الرُّميح».

إنها لعبقرية فذة توحي بتأملات لا حصر لها، فتتولد من هذه التأملات أطياف وألوان جميلة لا يغني أحدها عن الآخر. كذلك شأننا نحن، فكلما درسنا شعر «الشابي» ودوَّنا خواطرنا فيه؛ ساقنا التأمل إلى الجديد من الخواطر والشواعر، وتفرعت عن نشوتنا نشوةٌ أخرى!

إن شعر «الشابي» هو شعر العبقرية والتفوق؛ فله قُدسية نورانية يصعب تعريفها، وسواء لدينا فجرها أو شروقها؛ لأنها على اختلاف منازلها تتألق بالجمال وتنم عن رسالة سامية، لو لم يقلها شعرًا لتألقت في وجهه نورًا كما تألق النور في وجه «عيسى بن مريم»!

هذا الصبي الصغير الذي لم يبلغ العشرين، يحس في باكورة عمره إحساس النبي فيقول:

شعري نفاثةُ قلبي
إنْ جاشَ فيه شُعوري
لولاهُ ما انجابَ عنِّي
غيمُ الحياةِ الخطيرِ
لا أنظمُ الشعرَ أرجو
به رضاءَ الأميرِ
بِمدحةٍ أو رثاءٍ
تُهْدَى لِرَبِّ السريرِ
حَسْبي إذا قلتُ شعرًا
أن يَرتضيهِ ضميري

•••

لا أقرضُ الشِّعْرَ أَبْغِي
به اقتناصَ نَوَالِ
الشِّعْرُ إنْ لم يكن في
جَمَالِهِ ذا جَلال
فإنما هو طيفٌ
يَسْعَى بوادي الضَّلالِ
يَقضِي الحياةَ طريدًا
في ذِلَّةٍ، واعتزال!

لسنا ممن يسوغ بأي حال وضع النقد الموضوعي موضعًا ثانويًّا بحيث نُرضخ الحكم على الطاقة الشعرية، إلى ما عداها من الاعتبارات، في تقدير القيمة الفنية للشعر، ولسنا ممن يذهبون مذهب التشريح والتفلية، الذي يتناسى وحدة القصيد، ولسنا ممن يبخسون أي فنان قدره؛ لمجرد أنه ذو شخصية طالحة، لا تستحق الاحترام، ولسنا ممن يتعصب لشاعر ما؛ لأنه يعبر عن فلسفتنا وعواطفنا تعبيرًا أكمل، متغافلين عن قيمة الجوهر الذي يُهديه وعن كفايته الفنية الخالصة، ولسنا من عباد التعابير البراقة، والبيان المزخرف الأخاذ، ومع ذلك لا ننكر أن الفن إذا امتزج بالتسامي في سبيكة واحدة، وأن الطاقة الشعرية المحلقة إذا تشربت الإيمان الرفيع تَشَرُّبًا لا يفصم منها، وأن الفن إذا صار لسان النبوة وترجمان التسامي أو توءمه، فإن مثل هذا الفن المركب الرفيع؛ يكون في اعتبارنا جديرًا باعتبار أسمى، وهذه نظرة تختلف جد الاختلاف عن إرضاخ كرامة الفن أو تقديره للأهواء الذاتية، والتعصبات الشخصية، والمسائل والاعتبارات العرضية.

وأبو القاسم الشابي هو أحد أولئك الأفذاذ العالميِّي الروح، الذين لم يبهروا النقد الموضوعي فحسب، من ناحية الطاقة الفنية القوية الغنية، بل بهروا كذلك مقاييس المثالية الرفيعة من خلقية ووطنية وإنسانية، وكانت معجزتهم في الازدواج بين هذه المزايا، وفي الانسجام التام بينها، وهذا قلما يكون إلا للصفوة الموهوبين.

فهذا «أبو القاسم الشابي» الشاعر الوطني، الثائر الرائد في «تونس الجميلة» و«زئير العاصفة» منذ صباه، هو ذاته الشاعر الإنساني في «لعلعة الحق» و«الحرب»، والشاعر الوجداني في «فن الظلام» و«الزنبقة الذابلة» و«الدموع» و«أغنية الأحزان» والشاعر المتفلسف في «نظرة الحياة» و«مأتم القلب» و«الأمل والقنوط»، والمصلح الاجتماعي أيضًا، وهو كذلك الشاعر المتصوف، والعاشق المتبتل في «شكوى اليتيم» و«أيها الليل» و«أيها الحب» و«حيرة» و«جدول الحب» و«يا شعر!» وكل هذا التراث الثمين، من شعر فتى لم يبلغ العشرين.

أما بعد هذه السن فإننا نواجه «الشابي» ذاته، ولكن في نَفَسٍ أطولَ، ونضوجٍ أبلغَ، وتحليلٍ أعمقَ، وتفاعلٍ أكملَ، وتصويرٍ أشملَ، استمع مثلًا إلى قوله من قصيدته «مناجاة»:

أنتَ يا شعرُ فلذةٌ مِنْ فؤادي
تَتَغَنَّى، وقطعةٌ من وجودي
فيكَ ما في جوانحي مِن حنينٍ
أبَديٍّ إلى صميم الوُجودِ
فيكَ ما في خواطري مِنْ بلاءٍ
فيكَ ما في عواطفي من نشيدِ
فيكَ ما في عوالمي مِنْ ظلامٍ
سرمديٍّ ومن صباح وليدِ
فيكَ ما في عوالمي مِنْ نُجومٍ
ضاحكاتٍ خَلفَ الغمامِ الشَّرُودِ
فيكَ ما في عوالمي مِنْ ضبابٍ
وسرابٍ ويَقْظَةٍ وَهُجُودِ

إلى آخر هذه الأبيات التي تبلغ الستة والثلاثين عدًّا، والتي تتلاحق فيها الصور تلاحقًا فنيًّا سريعًا؛ لا نعرف شاعرًا آخر أغرم به، ووفق إليه بهذه الدرجة المدهشة.

لقد اكتنفتْ حياةَ «الشابي» همومٌ عديدة، ولاقى من عنت الناس وجحودهم — حيًّا وميتًا — الشيء الكثير، ومات والأدب أحوج ما يكون لألمعيته، وصاح والداء يُنْشِبُ أظفارَه فيه:

سأعيشُ رغمَ الدَّاءِ والأعداءِ
كالنَّسرِ فوقَ القمةِ الشَّماءِ
أرنو إلى الشمس المضيئةِ هازئًا
بالسُّحْب والأمطارِ والأنواءِ
لا ألمحُ الظِّلَّ الكئيبَ ولا أَرى
ما في قرارِ الهوَّةِ السَّوداءِ
وأسيرُ في دُنيا المشاعرِ حالمًا
غَرِدًا، وتلك طبيعةُ الشُّعراءِ
أَشْدُو بموسيقى الحياةِ ووحيها
وأُذيبُ رُوحَ الكونِ في إنشائي
وأُصيخُ للصوتِ الإلهيِّ الذي
يُحْيي بقلبي مَيِّتَ الأصداءِ
وأقولُ للقدرِ الذي لا يَنثني
عن حربِ آمالي بكلِّ بلاءِ
«لا يُطفىءُ اللهَبَ المؤجَّجَ في دمي
مَوْجُ الأسى وعواصفُ الأرزاءِ
فاهدمْ فؤادي ما استطعتَ، فإنَّه
سيكون مثلَ الصَّخرةِ الصَّمَّاءِ
لا يَعرفُ الشكوى الذَّليلةَ والبُكا
وضراعةَ الأطفالِ والضُّعفاءِ
ويعيش كالجبَّار يرنو دائمًا
للفجر، للفجرِ الجميلِ النَّائي
واملأْ طريقي بالمخاوف والدُّجَى
وزوابع الأشواك والحصباءِ
وانشرْ عليه الرُّعْبَ وانثرْ فوقَه
رُجُمَ الرَّدَى وصواعِقَ البأساءِ
سأظلُّ أمشِي رغمَ ذلك، عازفًا
قيثارتي، مترنمًا بغنائي
أَمْشِي بِرُوحٍ حالمٍ، متوهِّجٍ
في ظُلمةِ الآلامِ والأدواءِ
النُّورُ في قلبي وبينَ جوانحي
فعلامَ أخشَى السَّيْرَ في الظَّلْماءِ؟
إني أنا النايُ الذي لا تنتهي
أنغامُه ما دام في الأحياء
وأنا الخِضَمُّ الرَّحبُ، ليس تزيدُه
إلَّا حياةً سَطْوةُ الأنْواء»

إلى آخر هذه القصيدة العجيبة، ولكنها ليست بأعجبَ من بقية شعره، الذي يتجلى فيه جميعًا حبُّ الاستغراق في المعاني، والتحليق بالأخيلة، والمثاليات النبيلة، والتأنق الموسيقي في الألفاظ؛ وكل ذلك عن طبيعة سمحة مصقولة، رضعت من أفاويق اللغة، ومن البيان العربي المصفى؛ منذ طفولتها، وفي طليعتها القرآن الشريف بكامله.

إن كل قصيدة من قصائد الشابي — طالت أم قصرت — صورة مكبرة أو مصغرة لهذه المزايا الفنية. وهو، قبل هذا وبعده، المؤمن بالحياة إيمانَه بالجمال والحرية، والساخط على طغاة العالم، والمصلي في هيكل الحب، والمناجي الطبيعةَ دون ملل، والمتفائل دائمًا، واللهفان على وطنه أو جنته الضائعة، وأخيرًا المعانقُ الموتَ، في غير وجل، عناقَ الفيلسوف الفنان، الذي ينشد التجربة والعلم؛ حتى تجربة الموت!

لقد كانت حياة «الشابي» سلسلة متلاحقة من النكبات والمآسي، في حبه وفي أسرته، وفي وطنه؛ كما كان حساسًا إزاء نكبات الإنسانية عامة، فرثى لسقطاتها، وبكى لها؛ كأنما كان يبكي قومه، وأهاب لتنهض وتقوى وتنقى، وعشرات القصائد، التي أتحفنا بها في فترة من حياته، لم تتجاوزْ ست سنوات، هي تَرْجُمَان صادق لأحاسيسه الشريفة، وذخيرة متميزة في التراث الأدبي المعاصر، ومبعث قوة خارقة لأدب الانبعاث القومي، في العالم العربي لا في «تونس» فحسب؛ فثورته على الطغيان والمتجبرين، وعلى الرجعية المقيتة، وعلى جميع القيود التي ترسف فيها البشرية هي شعلة متأججة هادية، ولو لم يكن فن «الشابي» قويًّا بجميع عناصره، أصيلًا محلقًا؛ لما اكتسبت رسالته القوة التي خلعتها عليها مواهبه النادرة، فالتعبير الغث قد يكون عبئًا على الفكرة، فيهوى بها بدل أن ينهض ولو كانت طبيعتها السمو، وهذا ما لا يفوت الناقد الموضوعي، المستوعب، أي الذي لا يحصر أفق تأمله ونقده.

لم يغرد «الشابي» سوى ست سنواتٍ، قيل بعدها إنه مات. وأما هو فقد قال سلفًا:

سأعيشُ رغمَ الداءِ والأعداءِ
كالنَّسْرِ فوقَ القمةِ الشمَّاءِ

قيل إن النقد الفني يجب أن يحصر همه في الطاقة الشعرية وحدها، وكثيرًا ما دافعنا نحن عن حقها في التقدير، ومع ذلك فقد لا تتجاوز الطاقة الشعرية الضائعة طيش النيازك أو عبث الصواريخ! أما «الشابي» فقد أبى أن تحمل طاقته الشعرية الخارقة، سوى الحقائق الأزلية الخالدة، أبى ذلك بطبعه، وبتزاوج الوعي مع اللاوعي في نفسه، تزاوجًا غير مفتعل، فخلدت رسالتُه في فنه وخلد فنه في رسالته، ولم يستطع أحد من آلاف المنتشين برحيقه أن يفرق بين الطعم والجوهر؛ فهو وحدة شاملة، تأبى على الناقد التحليل، وتهبُ النشوة والإلهام لصائدي النغم والخيال، ولصائدي المثالية الحية على السواء:

أيُّها الشعبُ! ليتني كنتُ حَطَّا
بًا، فأَهوي على الجُذوع بفأسي
ليتني كنتُ كالسُّيولِ إذا سا
لتْ تهدُّ القبور رمسًا برمْسِ
ليتني كنتُ كالرياح فأطوي
كل ما يخنق الزهور بنحس
ليتني كنتُ كالشِّتَاءِ أغَشِّي
كلَّ ما أذبلَ الخريفَ بِقَرْسِ
ليت لي قوةَ العواصف يا شَعـْ
ـبي فأُلقي إليكَ ثورةَ نَفْسي
ليت لي قوةَ الأعاصير إنْ ضَجـَّ
ـتْ فأدعوكَ للحياةِ بِنَبْسي
ليت لي قوةَ الأعاصير، لكنْ
أنتَ حَيٌّ يقْضِي الحياةَ بِرَمْسِ!

ويقسو على شعبه، ولكنها قسوة المحب المبصِّر، وما كان يأسه أو استسلامه إلا عارضًا زائلًا، يحفزه إلى همةٍ جديدةٍ:

ها أنا ذاهبٌ إلى الغابِ يا شَعْبـ
ـبي لِأقْضِي الحياةَ وحدي بيأسِ
ها أنا ذاهبٌ إلى الغابِ عَلِّي
في صميمِ الغاباتِ أَدفنُ نفسي
ثم أنساكَ ما استطعتُ فَما أنـْ
ـتَ بأهلٍ لِخَمْرَتِي ولِكَأْسِي
سوفَ أتْلُو على الطُّيور أناشيـ
ـدِي وأُفْضِي لَهَا بأَحْزَانِ نفْسِي
فهي تدري معنى الحياة، وتَدْري
أنَّ مجدَ النفوسِ يقظةُ حِسِّ!

خدم الشابي الأدب والعرب والإنسانية بحياته وموته على السواء، ودفع وحده الثمن غاليًا لذلك، وبعد أن كانت مهمتنا جد شاقة في الربع الأول من هذا القرن؛ سعيًا للتنويه بأدب الشباب؛ صار المثل الأعلى الذي ضربه «الشابي» بشعره يحفز النقاد والمجلات الآن إلى الاهتمام بأشعار شعراء الشباب — وما أكثرهم — في هذه الفترة، وإذا كان الشباب كالربيع رمز الحياة المتجددة، فهو أول من يطالب بإذاعة أدب «الشابي» في هذا الشعر المتجدد الحي.

٣

وأبو القاسم الشابي: «حياته وشعره»، كتاب ممتاز لأديب ممتاز عن شاعر ممتاز. ألفه أحد نوابغ الأدباء التونسيين السيد «أبو القاسم محمد كِرُّو» من خريجي دار المعلمين العالية ببغداد، ومن الشباب الناهض الواعي الوطني الغيور الذي درس وساح وفكر، ثم بدأ يزكي عن معرفته لأبناء الضاد جميعًا، فأتحفنا بنخب من شعره المنثور، في كتابه «كفاح وحب»، ثم نفح العربية بدراسة ممتعة لحياة «أبو القاسم الشابي» وشعره، سيُتبعها بدراسةٍ أضخمَ.

وتقع هذه الدراسةُ التي نحن بصددها، في كتاب ينتظم ثماني وثلاثين ومائتي صفحة، من القَطْع المتوسط مطبوعة طبعًا أنيقًا، ومزدانة بصور ملونة جميلة، للقصائد البديعة التي أثبتها أو على الأصح لأهمها بريشة الفنان «ع. شهال»، وقد عُنِيَتْ بإخراجها في صورة جذابة «المكتبة العلمية» ومطبعتها، في «بيروت».

وما كان الأستاذ «كرو» ولا شاعرنا العبقري «أبو القاسم الشابي»، بحاجة إلى شيء من البهرج والتزويق، ومع ذلك فإنه يبهجنا أن نرى الطبع الأنيق، والشعر الأنيق، والرسم الأنيق؛ في مثل هذه الوحدة الجميلة الخلابة.

وبروح المعلم، وأسلوب الأديب الشاعر المعلم يُحْسِنُ الأستاذ «كرو» في تقسيمه الكتابَ وفي عرضه مواده، فيتحدث بعد مقدمته البليغة، عن الحياة الثقافية في «تونس» القديمة، ثم عن النهضة الحاضرة، فعن حياة الشاعر وبيئته الاجتماعية، وعن تأثُّره بالأدب المهجري، وعن طاقته التصويرية والتعبيرية، ثم عن زواجه وحبه وعن مؤلفاته، ثم يأتينا بمختارات شائقة من شعره فيقسمها قسمين:
  • أولهما: ما يرجع إلى ما قبل العشرين.
  • وثانيهما: ما يرجع إلى ما بعد العشرين من سني الشاعر حتى وفاته، ثم يختم كتابه بنماذجَ رائعةٍ من نثر الفقيد ومعظمه بمنزلة شعر منثور.

وليس بوسعنا في هذه الإلمامة أن نتناولَ تفاصيلَ ما عرضه المؤلف الفاضل؛ تمهيدًا للكلام عن ألمعية «الشابي»، ولكن بحسبنا أن نشير إلى أن هذا النابغة ظهر — ككثير من النوابغ — في وسط متأخر بحكم الظروف السياسية والاجتماعية المعروفة، فلم يتجاوب ذلك الوسط معه، ولكنه ارتفع فوق الوسط كما ترتفع المنارة، فلا تحس بها الأرض التي تحتها، ولكنها تشع إلى مسافات بعيدة.

وفي بداية الكتاب اهتم المؤلف بالتنبيه إلى أن صحة اسم شاعرنا هي «الشَّابِّيُّ» لا «الشَّابِي»؛ نسبة إلى الشابِّيَّة إحدى ضواحي مدينة «توزر» كبرى بلاد «الجريد» بالجنوب التونسي، وهذا غير مجهول في الشرق العربي الذي يميل أهله عادة إلى تخفيف النطق بالأسماء — ولا سيما في مصر — ومن ثمة نطقوا اسم شاعرنا المحلق بالباء المخففة والياء الممدودة، وجاراهم الخاصة في هذا النطق، وإن لم يجهلوا الوضع الأصليَّ لاسمه.

وقد أُعجبنا بتحليله للعناصر التي أسهمت في تكييف حياة الشاعر، وأغلبها مزيج من الأحزان والحرمان، ويا لها من عناصرَ أثيمةٍ تألَّبَتْ على كثيرين من الموهوبين فصهرتهم صهرًا، وضحَّتْ بهم؛ لتغنم نورَهم الوهَّاجَ المنبعثَ من احتراقهم!

وبين الخيوط التي حاكها الأستاذ «كرو» في نسج سيرة «الشابي» بيئة الطبيعة الجميلة التي حفت بالشاعر، ودراسته الواسعة، التي انتهت بتخرجه في كلية الحقوق التونسية في سنة ١٩٣٠م، وهو في الحادية والعشرين، ونكبته بوفاة والده عائل الأسرة، وفشله في زواجه، ومرضه الطويل المؤلم إلى أن توفي في الثامن من شهر سبتمبر سنة ١٩٣٤م غيرَ متجاوزٍ خمسةً وعشرين عامًا؛ إذ ولد مع الربيع في آذار من سنة ١٩٠٩م.

يقول المؤلف الكريم في رسالةٍ أدبيةٍ إلينا بتاريخ الخامس من مايو سنة ١٩٥٣، جاءتنا إثرَ تسلُّمنا كتابه الممتع:

يسرني أن تتفضلوا بإبداء رأيكم … خصوصًا أن لكم صداقة شخصية قديمة بالفقيد «الشابي»، ويعود لكم الفضل الأول في تعريف القراء بأدبه منذ عشرين سنة مضت، وحتى اليوم، وأنتم تكتبون عنه في مناسبات مختلفة دراساتٍ عميقةً قويةً، ومع ذلك فإن أدب «الشابي» لا يزال بحاجةٍ كبيرةٍ إلى البحث والكتابة والدرس، وكم كان مؤسفًا حقًّا موقف أهله بعد موته، ورغم مرور ثمانية عشر عامًا على وفاته فإنهم لا يزالون مصرِّينَ — في عناد الحمقى والجهلة — على عدم نشره! لا لسبب سوى عقلية محنَّطة وأفهام متحجرة، وهكذا لم أجد مناصًا من العمل، بكل ما لدي من جهود وإمكانيات، على خدمة هذا الفقيد المنكوب في حياته وبعد موته …

لقد كان أهلُه سببَ موتِه المادي، وها هم أولاء اليوم يتآمرون على قتله المعنوي، فيرفضون في عناد نشر مؤلفاته وديوانه المعد للطبع رغمَ كل العروض المغرية التي عُرِضَتْ عليهم، وقد كان الفقيد أعده للطبع واتفق معكم — حسبما أظن — على طبعه في مصر، ثم عاجله الموت قبل أن يرسل إليكم الديوان بيوم واحد. هذه حقائق لست أدري إذا كان لكم علم سابق بها أم لا.

وقد رأيت — كأحد مواطني «الشابي» — أن أنشر عنه كل ما هو عندي من أدبه ومعلومات حياته؛ خدمة له وللأدب العربي الذي يعتز بالشابي، فكان أول عمل قمت به هو نشر كتابٍ يشمل دراسة طويلةٍ لحياة الفقيد وبيئته ومؤلفاته، ثم عرْض نماذج مختارةٍ من شعره ونثره؛ لتكون لدى القراء صورة كاملة عنه، ولست أدري مدى نجاحي في عملي هذا، ولكني أعلم مدى إخلاصي فيه وحبي للشابي. على أنني سوف لا أقف عند هذا، بل إنني سأواصل العمل على إنجاز كتاب ضخم عن «الشابي» يكون أكبر مرجع لحياته وأدبه، وأنا الآن بصدد إعداد هذا الكتاب الذي يحتاج إلى زمن طويل؛ كي ينجز على أكمل وجه مستطاع، وإنني أُرَحِّبُ سلفًا بكل ملاحظاتكم واقتراحاتكم وتوجيهاتكم، ويسرُّني كلَّ السرورِ أن ألقى منكم كلَّ اهتمامٍ وعناية ومعونة! …

وإننا لنبادر فنقول: إن العمل المجيد الذي قام به الأستاذ «كرو» هو في حد ذاته خدمة جليلة لذكرى «الشابي» وأدبه، ونحن على علم بما ذكره، وقد كانت رغبة الفقيد العزيز أن نكتب مقدمة دراسية تحليلية لديوانه، وأن تتولى إصداره في مصر «جمعية أبوللو» التي كان في طليعة أعضائها المراسلين، وأن وصيته لم تُنَفَّذْ! … لقد تَجَمَّعَتْ لدينا رسائلُ كثيرةٌ من الفقيد العزيز، تُعَدُّ بأسلوبها العالي وبصراحتها الوجدانية من عيون الأدب الفكري والعاطفي معًا، ولكنها، مع مئات الرسائل الأدبية من أدباءَ وشعراءَ أعلامٍ شرقًا وغربًا — وبينهم شعراء وأدباء بارزون في المهاجر — قد ضاعت تحت وطأة العهد البائد في مصر قبل هجرتنا وبعدها، وكنا نؤثر ضياع بقية مكتبتنا المخزونة على أن تنال الأيدي المتطاولة المتجسسة ذلك الأدب الحي والتاريخ الأدبي المعاصر الذي سُلِبَ منا، وقد جاء ضياعُ تلك الرسائل القيمة التي تجمعت لدينا منذ سنة ١٩٢٣ إلى سنة ١٩٤٦م، من أقسى المآسي الأدبية المتعددة التي نُكبنا بها في حياتنا المضطربة.

أمَّا وهذا المصدر الهام لدراسة نفسية «الشابي» ليس تحت أيدينا فليس لنا إلا أن نشاطر الأستاذ «كرو» الأمل في أن أصدقاء الفقيد العزيز، وفي مقدمتهم الأديب الموهوب الأستاذ «محمد الحليوي»، وشقيق الفقيد الأستاذ «محمد الأمين الشابي»؛ سيتمكنون أخيرًا من إنقاذ الآثار الباقية للشاعر الفقيد، من أيدي أسرته، ونشرها للعالم العربي، ولعالم المستشرقين، ودارسي الأدب المقارن، ففي ذلك تشريف للأسرة بالذات وتشريف لأبناء الضاد جميعًا.

وبعد؛ فقد رأينا الأستاذ «كرو» يتحدث عن تأثر «الشابي» بالأدب المهجري، وعندنا أنه لم يتأثر به أي تأثرٍ خاص، ولو جاء شطر أو بيت له في صياغته الكلاسيكية — مع اختلاف المعاني — مماثلًا لصياغة «جبران» أو سواه، مثلما تقع الحافر على الحافر؛ كما يقال.

لقد كانت للشابي ذاكرة «فوتوغرافية»، وهو الذي أتم حفظ القرآن الشريف في التاسعة من عمره حِفظًا كاملًا، كما كان له اطِّلاع واسع — عن طريق اللغة العربية التي لم يكن يعرف سواها — على آداب شتى مترجمة، لا على الأدب العربي وحده، وكانت له قبل كل هذا وبعده لوذعية أصيلة حلَّقت فوق كل تقليد وتأثُّر حتى منذ نعومة أظفاره، وعلى ذلك لنا أن نعتقدَ أن أيَّة مشابهة بين شعره، وبين بعض الشعراء المهجريين، هي من باب المصادفة لا أكثر. ولعل أعظم تجاوب للشابي كان مع زملائه شعراء «أبوللو» حتى قبل ظهور مدرستها! ونحن شخصيًّا أُولعنا بالشابي لا لعبقريته الفنية فحسب، بل لإنسانيته الرفيعة ولوطنيته السامية أيضًا. وكان التجاوب بيننا تامًّا مع تميُّزه هو بأناقةٍ لا نعرف لها نظيرًا إلا في قصائد الشاعر الفحل العظيم «بشارة الخوري»، مثال ذلك موسيقى «الشابي» في قصيدته الخالدة «صلوات في هيكل الحب» التي يقول في مطلعها:

عذبة أنت كالطفولة، كالأحلام، كاللحن، كالصباح الجديد!

فهي متجاوبة مع قصيدة «عُرْس المأتم» التي كان يعجب بها «الشابي» ديوان «زينب»، وقد جاء في مطلعها غير المسبوق إلى طرازه:

عَذْبَةٌ أنت في الخفاءِ وفي الجَهْر وفي الهَجْرِ، يا أغاني الظلام!
بلِّغي العاشقَ الأمينَ مَدَى العمرِ شقاءً لقلبهِ المستهامِ!
وارقئي أَدْمُعي؛ فحسبي عزاءً أن يُسَرَّ الحبيبُ من إيلامي!

ومثال آخر قصيدته العظيمة «إرادة الحياة»، فإنه متجاوب في مغزاها مع الشطر الأخير من قصيدة «النهضة إرادة» ديوان «الشفق الباكي»، وقصيدته الجميلة «الصباح الجديد» التي يقول في مطلعها:

اسكتي يا جراحْ
واسكني يا شجونْ!

فهو متجاوب فيها بطراز موسيقاها مع قصيدتين رائدتين هما «قصيدة الوداع»، «قطرة من يراع، الجزء الثاني» وقد جاء في مطلعها:

انْتَهِبْ يا شُعاعْ
نَبْضَ قَلْبي الحزينْ
حان وقتُ الوداعْ
ليتَه لا يَحينْ
انتهبْ يا شعاعْ
أنا ذاك القريبْ
إن روحي مُشاع
في مداك العجيب!

وقصيدة «بعد الصيف» ديوان «أشعة وظلال» التي جاء في مطلعها:

اضحكي يا رِمَالْ
مِنْ هَديرِ المِياهْ
غابَ مُلْكُ الخَيالْ
وتَجَلَّى سِوَاهْ
ذاك بَحْرُ الدُّموعْ
مِنْ بكاءِ الزَّمانْ
فهْو دَوْمًا مَرُوعْ
مِنْ مَآلِ الهوانْ
كلُّ حُسْنٍ بَناهْ
بيديْهِ يَزولْ
ومِرارًا رَثَاهْ
وأطالَ العويلْ
اضحكي يا رِمَالْ
مِنْ فُتوني العظيمْ
أنا عبدُ الجَمالْ
الضَّريرُ الحكيمْ!

وكان «الشابي» كما كان «ناجي» — رحمة الله عليهما — معجبًا بكلتا القصيدتين، وكلاهما نَسَجَ على منوالهما، فإذا أراد الأستاذ «كرو» التوسع في مبلغ تجاوب «الشابي» مع شعراء عصره، فليتجه إلى الشرق قبل اتجاهه إلى الغرب.

ومهما يكن من شيء فإننا نؤمن بأن «الشابي» كان ذا عبقرية فنية أصيلة في منتهى الأناقة، كما كان وطنيًّا عظيم الإخلاص متأهبًا للزعامة في بيئته، وفي هذا يختلف عن «ناجي» الذي اقتصر جلُّ شعرِه على وجدانياته الذاتية، وغنائياته العاطفية، ولم يسهم في الحركة الوطنية.

وكان هذا من أسباب ولوعنا بالشابي الذي يوصف إجمالًا بأنه الفنان المبدع المحلِّق، والإنساني النبيل والوطني الغيور المضحي، وقد حقق بمثاليته الشريفة تأميلنا في أن يكون الشاعرُ زعيمًا هاديًا بين بني قومه، إن لم يكن أيضًا زعيمًا إنسانيًّا، وفي هذه النزعة والتعبير عنها كان تجاوب «الشابي» معنا كاملًا، وكنا نعمل كجنود في فرقة واحدة.

أما ما نقترحه إلى جانب استقصاء التفاصيل للدراسة، فهو شرح شعر «الشابي» ونقده نقدًا فنيًّا مقارنًا قصيدة فقصيدة، فتنتج عن ذلك دائرة معارف أدبية لغوية فنية واسعة يخدم بها الأدب الحديث؛ كما تنصف به مواهب شاعرنا الخالد الذكر.

إننا لمشغوفون فخورون بتدريس شعر الشابي وأدبه وبالتحدث عن سيرته الزكية ولن نمل ذلك، ونعتقد أن قراء العربية لن يملوا من قراءة ما كتب وما سيكتب عنه، ولو تعددت التراجم والدراسات. ونعتقد أن كتاب الأستاذ «كرو» هو من خيرة الدراسات التي قرأناها عن أي شاعر أو أديب، فإليه نكرر التهنئة كما نُزْجِيها إلى الناشرين المحسنين.

١  مجلة «أبوللو»، المجلد الثاني، مايو سنة ١٩٣٤، ص٨١٠.
٢  مجلة «أبوللو»، المجلد الأول، أبريل سنة ١٩٣٣، ص٨٤٨.
٣  مجلة «أبوللو»، المجلد الأول أبريل سنة ١٩٣٣، ص٨٦٨.
٤  مجلة «أبوللو»، المجلد الأول، مايو سنة ١٩٣٣، ص١٠٢١.
٥  مجلة «أبوللو»، المجلد الأول، مايو سنة ١٩٣٣، ص١٠٢٢.
٦  مجلة «أبوللو»، المجلد الأول، يونيو سنة ١٩٣٣، ص١١٤٦.
٧  مجلة «أبوللو»، المجلد الثاني، سبتمبر سنة ١٩٣٣، ص١٨.
٨  مجلة «أبوللو»، المجلد الثاني، يناير سنة ١٩٣٤، ص٣٨٨.
٩  مجلة «أبوللو»، المجلد الثاني، يناير سنة ١٩٣٤، ص٣٩٠.
١٠  مجلة «أبوللو»، المجلد الثاني، فبراير سنة ١٩٣٤، ص٤٨١.
١١  مجلة «أبوللو»، المجلد الثاني، مارس سنة ١٩٣٤، ص٦٠٨.
١٢  مجلة «أبوللو»، المجلد الثاني، مايو سنة ١٩٣٤، ص٨٤٧.
١٣  مجلة «أبوللو»، المجلد الثاني، فبراير سنة ١٩٣٤، ٤٨١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤