إبراهيم العريض

الشاعر المطبوع هو وحده في نظرنا الجدير بصفة «الشاعرية»، ولكنه مع ذلك ليس بالقادر في كل وقت — وربما في أغلب الأوقات — على التجاوب مع دوافع الوجدان وعوامل الحياة تجاوبًا يستثير كوامن نفسه وتضطرم له وتثور فتنبثق عنها تلك الفورة التي نسميها «الشعر»، وإن لم يكن من الحتم أن يفيض صاخبًا فوَّارًا، بعد أن جاشت به نفس صاحبه؛ فقد يسيل هينًا منبسطًا حلوًا رقراقًا تنام على همسه الخواطر الكليلة، وتنعم بأنسه القلوب المعذبة والأذهان المكدودة، والنفوس المحرومة التي تشهد فيه، وتتذوقُ فِرْدَوْسَها المفقود، وقد يكون على العكس ثورة جامحة صاخبة، أمواجها شواظ من نار تصهر الأرواح الشاربة منها، وتخلصها من أدرانها وتزجيها في تيار الحرية، وقد يكون إلهامًا ينير بآيات سماويةٍ عجيبة؛ كأنه صاحب رسالة دينية فيعرضها عليك غير عامدٍ في رفقٍ وعطفٍ، وقد يكون الشاعر معلمًا أو خطيبًا مرشدًا أو مؤرخًا أو مصورًا أو متعبدًا؛ كما قد يثرثر بأنغام بدائية عذبة تحمل أخيلة الطفولة أو أحلام الإنسان الأول، وقد يكون الشعر والشاعر غير ذلك ولا يُطَالَبُ الشاعر عَدْلًا بأن يكون غير مَنْ هو، أي غير ما هيَّأته الطبيعة لأن يكون، والعبرة في كل هذا بالتناول الفني، وهذا أيضًا يتنوع تنوعًا شديدًا، ومنه ما يغالي في السريالية؛ كما نرى في قصيدة «نهر النسيان» مثلًا «لمحمود حسن إسماعيل»، وما يتبسط في البيان المباشر والإفصاح الناصع؛ كما نرى في شعر «حافظ إبراهيم» و«معروف الرصافي»، ومنها ما يتوارى خلف الرمزية ما بين بسيطة ومركبة؛ كما نرى في شعر «صلاح الدين الأسير» و«نزار القباني» و«بشر فارس»، وثروتنا الأدبية تجمع كل هذا، والحذف منه لا يغنينا.

وخلْق الأبطال في شعرنا أو توهُّمُهُم، وعبادة الأصنام لا تنفع أدبنا مثقال ذرةٍ، وإنما الذي يجديه المجموع الفني الضخم المنوع الذي تجود به مواهبُ شتى، ولذلك يهمنا أن نحرص على هذا المجموع الفني الذي يجب أن يعتز به الأدب العربي، وألا ننساق في تيار التشيع لشاعر دون سواه، مهما تبلغ منزلته من السمو والرياد. ومهما نتمنَّ ونؤثر ضروبًا وألوانًا من الشعر، فلا يسوغ لنا أن نملي على أي فنان ما نشتهي، وحسبنا أن يكون مجيدًا مبدعًا يعطينا خير ما عنده، ففي التنويع غنيمة الأدب، وفي الحصر غُرْمُ الأدب، وربما ضياع الفن.

تبقى بعد ذلك، بل تجيء قبل كل ذلك، مسألة الطاقة الشعرية والأصالة الفنية؛ إذ لا جدوى للأدب من الكلام المعاد في صور شتى، وإن انتفع الشعر مثلًا أحيانًا بآثار مَنْ نسميهم الشعراء «الموكِّدين» متى تناولوا نَزَعات تجديدية جميلة، ووكدوها بتكرارهم الموسيقي الخاص بهم، أو أفرغوها في قوالبَ من صياغتهم، ولكن من الغَبْنِ الكبير في مثل هذه الحالات الإسراف في تقديرهم على حساب الشعراء الأصليين، الذين كانوا مبعث إلهامهم والنور الذي استوحوه!

من أجل هذا كله، وفي مقام الحديث عن شاعر البحرين اللامع، نرحب أولًا بكتابه القيم «الأساليب الشعرية»، الذي نَظَر فيه مثلَ هذه النظرة الشاملة بروح صافية مستقلة مشغوفة بخدمة الشعر والشعراء الذين أهدى إليهم كتابه، وكان الأولى في نظرنا بهذا الإهداء نُقَّاد الشعر الذين يَجْمَحُ أغلبهم ويتعصَّب تعصبًا أعمى، دونه التعصب السياسي الغاشم، وقد أحسنت «دار مجلة الأديب» البيروتية أيما إحسان، بإصدار هذا الكتاب المرشد المثقف، الذي يعد بحق بين أثمن الدرر التي أخرجتها، في وقت لا يزال معظم النقد الأدبي فيه متعثرًا بين الأهواء الشخصية التي لا تحترم المنهاج العلمي والقواعد الفنية السليمة، وليس من الضروري أن نتفقَ والمؤلفَ في جميع نظراته، وفي الشواهد الكثيرة التي أتحفنا بها قديمة وحديثة؛ لنقدر جهده الصالح في تنوير الأذهان وفي هداية النقاد، ولنستمتع بخواطره المليحة وآرائه النافذة، التي هي في الوقت ذاته مرآة شاعريته المتغلغلة وذوقِه الفني المرهف.

إن «إبراهيم العريض» يستطيع أن يَحْمِلَ مَزْهُوًّا بيمينه هذا الكتاب التحليلي البديع، الذي يحبب الشعر الجيد إلى قارئه ويبصره به، ويستطيع أن يَحْمِلَ مَزْهُوًّا بيساره دواوينه، وأمامنا منها «العرائس» و«قبلتان»، والأول ديوان شعر لم يخل من الأقصوصة الفنية، والثاني قصة شعرية. وقد صدرتا عن دار العلم للملايين.

وشاعرنا يجيد القصص ويجيد التصوير، وله أسلوب موسيقي عذب يتفنن فيه، ونزعته ابتداعية غالبًا، رمزية أحيانًا، وطاقته الشعرية قوية، وأصالته غالية، ومع ما له من شعر حسي فإن له كذلك من شعر الحب ما عداه، وله جاذبية خاصة هي من نفسه السمحة.

وإذا كان لنا أن نختار قصيدة واحدة من ديوانه «العرائس» فحسبنا قصته «التمثال الحي» التي مهد لها بهذه التوطئة:

دِنْتُ بالفنِّ صغيرًا منذ شَبَّ الطّفْلُ فيَّهْ
لُعبةٌ تَرْعَى مَجاليها العيونُ النَّرجسيَّهْ
مَنْ رأى الخالق كالشَاعرِ يختار رَوِيَّهْ
كلَّما وَقَّعَ لَحْنًا مَثَّلَتْه البشريَّهْ
فإذا المأساةُ والمهزلةُ اسمٌ لقضيَّهْ
هي أُسطورة «حواءَ» جَرَتْ في إِثْرِ حَيَّهْ
إنْ تُرَجِّعْها طُيورُ الخُلدِ أنغامًا شَجِيَّهْ
فهي في كوكبنا الأرضيِّ أوراقٌ نَدِيّهْ
طالما خضَّلها دَمْعُ ضحايا المدنيَّهْ
غير أنَّ الدمعَ هذا قطراتٌ لؤلؤيَّهْ
عطَّرَ الفَنَّ بما نَدَّتْه مِنْ زَهْر نديَّهْ!

وتستهوينا هذه الحلاوة والسلاسة الجميلة المطبوعة، فتُزْجِينا إلى رواية هذه المقطوعة من مستهل قصته؛ تدليلًا على عذوبته وشاعريته:

سكنتْ في الطابقِ المُظْلِمِ من دارٍ سويَّهْ
غادةٌ لا تَملِكُ القوتَ وبالحسنِ غَنِيَّهْ
هي في الأسمالِ، لكنَّ لها رُوحًا زكيَّهْ
سَلَبَتْها كلَّ شيءٍ ثورة إلَّا التَّقيَّهْ
تَتَلوَّى كلَّما أَبْصَرَت الدارَ خَليَّهْ
أينَ عنها أَبَوَاها في ظَلامِ الأَبَدِيَّهْ؟
وأخوها جدَّلَتْه في الوَغَى كَفٌّ شقيَّهْ
فَثَوَى والعلمُ الخافقُ يَلوي بالتَّحيَّهْ
كيف لا تبكي؟ وهل أبقى لها الدهر بقيَّهْ؟

هذه موهبة في الأداء، يُغْبَطُ عليها شاعرنا؛ موهبة هي أصلح ما يُرْجَى لخدمة القصص، ولخدمة التمثيل.

ولو اقترنت بالشعر الفلسفي لجاءت بالمُعْجِب المطرب، بل لحببت الفلسفة إلى جمهرة الناس ولجعلتهم يعشقون الحكمة ويرتفعون فوق السطحيات!

إن «إبراهيم العريض» لا يزال في عنفوان شبابه، ولكنه زكَّى عن أدبه بأكثرَ مما زكى به كثيرون من الشيوخ!

ولا بد لنا أن نلاحظ أنه توجد الآن إجمالًا ثلاث مدارس شعرية رئيسية، في العالم العربي باعتبار نزعاتها وأساليبها:
  • (١)

    أولاها «المدرسة الكلاسيكية المجددة» تحت الراية الابتداعية، وهي التي كان يتزعمها «مطران»، ومن أقطابها الأحياء «الأخطل الصغير» و«بدوي الجبل» و«الشاعر القروي» و«شفيق المعلوف» و«إيليا أبو ماضي» و«ميخائيل نعيمة» و«عبد الرحمن شكري» و«إبراهيم ناجي».

  • (٢)

    وثانيتها «المدرسة التجديدية المتطرفة»، وهي ألوان مختلفة، ومن أشهر أعيانها وروادها في الوقت الحاضر شعراء الشباب الناضجون في «العراق» و«سورية» و«لبنان» و«مصر»، الذين يهيمون بالسريالية والرمزية، ومنهم من يُغْرِقُ في نظم الشعر الجنسي وأغلبيتهم تنفر من الشعر الإنساني العالمي، وكثيرون منهم يميلون إلى الانطواء على أنفسهم، ويصفون هذا الانطواء الذاتي، بأنه هو وحده الحياة، وكذلك يصفون الموضوعات المؤلمة القبيحة المنفرة، بأنها كنوز الجمال الفني لا أن هذا الجمال الفني يخلقه الفنان من ذاته ويتوهمه في موضوعاته؛ أي لا يقدِّرون أنها بمنزلة مَرَاءٍ لأخيلته وأحاسيسه وتفلسفه، وإذا تجاوزنا المدرسة الأولى «مدرسة اليمين» فهذه هي المدرسة اليسارية، وقد تحدثنا من قبل عن أحد روادها الحاضرين «نزار القباني»، الذي يعتمد في صياغته الموسيقية على تنوع مجزوءات البحور وينبض جميع شعره بالطلاقة الفنية الساخرة من القيود، وبروح الابتداع البعيد عن أي تكلف، وإن كانت عنايته لا تزال محصورة في نواح قليلة من الحياة، لا يزال كزملائه المتطرقين يحسبها أيها ولا غيرها الحياة.

    ومن كواكب هذه المدرسة: الشاعرة العراقية الموهوبة «نازك الملائكة» التي يفيض جميع شعرها باللوعة والتشاؤم؛ كما ينم على المغالاة في الانطواء على نفسها.

  • (٣)

    وأما المدرسة الثالثة الرئيسية أو المدرسة الوسط، فهي التي تَحْفِلُ، أشدَّ ما تَحْفِلُ، بالموسيقى الاتباعية، وبجزالة الألفاظ، وبالصيغ العريقة المأثورة، التي تصفها بالإيناق والإشراق العامر والترقرق، وتعرض غالبًا المعاني المصطلحَ عليها مع الأخذ بطرف من اجتهاد المدرستين السابقتي الذكر، واحتذاءِ حذوهما في مواضعَ، سواءٌ في الشعر الوجداني والوصفي المقصَّد أو في الشعر القصصي أو في الشعر التمثيلي، وأعظم ما تتيه به في صميم زهوها ما تنعته بإشراق الديباجة، وجزالة الأسر، وعذوبة الجرس.

    وهذه المدرسة كان يمثلها الشاعر المصري «علي محمود طه» أقوى تمثيل، والآن يتزعمها الشاعر الخلاق المبدع «عزيز أباظة» ولها أشياعها في أقطار شتى.

فأين محل شاعرنا إبراهيم العريض؟ وما هي مكانته بين هذه المدارس الرئيسية؟ إنه شاعر ابتداعي غالبًا في روحه، لا يَعبد الألفاظ، ولكنه لا يحتقر الموسيقى الشعرية، وله عذوبة الشاعر المطبوع وتفنُّن الذي يستوحي بكل حواسه وعواطفه العصرَ الذي يعيش فيه، وفي نفسه الاعتزاز بتراث قومه، إنه يُنْصِفُ العربية وطاقتها الحضارية؛ كما ينصف عصره ونفسه، وهو واحد من كثيرين يكاد كل منهم بتنوُّعه واستقلاله يكوِّن «مدرسة خاصة» به!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤