زكي مبارك الشاعر

لما أنشد «نعمة الحاج» منذ بضع سنوات قصيدته الطريفة «أوراق الخريف المتناثرة»١ هلل لها وكبر كثيرون، وبينهم أدباء ليسوا على مذهبه الشعري من الواقعية والوصف المباشر، فما السر في ذلك؟ استمع أولًا إلى هذه المناجاة الوصفية:
أَرِي العالمينَ جمالَ الرَّدَى
وأنَّ انتهاءً لكلِّ ابتدَا
كسَاكِ الخريفُ رَدًى مُعْلَمًا
فما كانَ أجملَ ذاك الرَّدَى!
فمن أحمرٍ دَبَّ فيه اسمرارٌ
إلى أَخْضَرٍ مازجَ العَسْجَدَا
وذا الوَشْيُ يُشْبِهُ وَخْطَ المَشِيبِ
بنا لِكلينا نذيرُ الرَّدَى
كأنَّ الغُصونَ جُفونٌ إذا
تهاوَيْتِ منها هَمَتْ بالنَّدَى!

•••

غَدًا إِذْ تَهُبُّ عليكِ الرِّياحُ
سَيُمسي الحضيضُ لك المَقْعَدَا
فتَنْتَثِرِينَ انتثارَ الدَّنانيـ
ـرِ مِنْ كَفِّ ذِي شُهرةٍ بالجَدَا
ونمعنُ في الرَّوْضِ بعدَ الكِساءِ
فنُبصرهُ عاريًا أَجْرَدَا
كأنَّ شُجيراتهِ العارياتِ
شَماعدُ قد مَلأتْ مَعْبَدَا!

•••

تُنادي الحياةُ وَحتْمٌ على
مَجالي الحياةِ تلَبِّي النِّدَا
فما أَصْدرَتْنا سُدًى للوجودِ
وما أَوْرَدتْنَا إليها سُدًى
نِظامٌ تَسَاوَى به ما خَفى
عن العَيْنِ في الكونِ أو ما بَدَا
تَوَحَّدَ في مَوْرِدٍ — مَصْدَرًا
يَعُودُ — وفي مَصْدَرٍ مَوْرِدَا
تَباركَ في خالقِ الكائناتِ
يَظَلُّ بها خالدًا سَرْمَدَا
غَدٌ فيه أمسِ، وما يَنْطَوِي
به أَمْس يُنْشَرُ فيهِ غدَا!

•••

وقولي لمن دَأْبُهُ أن يَرَى
مِنَ العَيشِ جانِبَهُ الأسْوَدَا
إذا نَعَبَ البُومُ في رَوْضَةٍ
فكم بُلْبُلٍ فوقَها غَرَّدا!
وما العُمْرُ إلا بما فيهِ مِنْ
مُفيد، وليس بِطولِ المدَى
أَحِبَّ الجميلَ وصُنْعَ الجميلِ
لِتُحْمَدَ في العيْشِ أو تَخْلُدَا

ففي هذه القصيدة روح التصوف الفلسفي، الذي يفيض من قلب هذا الشاعر الحساس، المتعبد في محراب الطبيعة، والذي يتأمل الروض المتجرد في الخريف فيحس:

كأنَّ شُجيراتهِ العارياتِ
شَمَاعِدُ قد مَلأَتْ مَعْبَدَا!

ويحس بوحدة كل ما حوله خافيًا كان أم باديًا، قائمًا أم فانيًا:

نظَامٌ تَسَاوى به ما خَفى
عن العَيْنِ في الكَوْنِ أو ما بَدَا
غَدٌ فيه أَمْسِ، وما يَنْطَوِي
به أَمْسِ ينْشَر فيه غَدَا!

وفيها أوصاف جميلة أصيلة، وفيها إيمان مشرق بما في الوجود من خير وسعادة، وربما رأينا فنيًّا الاستغناء عن بعض أبياتها — اكتفاءً وتركيزًا، وتغليبًا لروح الشاعر على المعلم الواعظ — كالبيتين الثالث والرابع، وكالبيتين الأخيرين منها، وقد يلاحَظ أن طائفة من معانيها مسبوق إليها، كما سبقت صلوات عديدة لكثيرين، ولكنها مع ذلك تتسم في جملتها بالأصالة وبأنها فيض قلب الشاعر الحر، وهذه الحرية الفطرية والبعد عن الافتعال — علمنا أم لم نعلم — ذات تأثير وجداني ساحر.

ومثل هذه الوقفة نقفها أمام شاعر آخر، بل أمام جملة من الشعراء في العالم العربي، بعصرنا الحاضر، حيثما للشعر الوجداني التصوفي القدْح المعلَّى.

أما هذا الشاعر الذي نعنيه في هذه المناسبة فهو الدكتور «زكي مبارك» صاحب ديوان «ألحان الخلود» هو — كما نعته — «أقباس وجدانية في الحب والجمال»؛ فقد نقد شعره كثيرون، على رأسهم الناقد اللبناني المعروف «مارون عبُّود»، ومع ذلك لا يزال شعر «زكي مبارك» يُتَغَنَّى به في المحافل المستنيرة، وأصبحت أسرته تطالَب بإصدار شعره كاملًا، بعد أن خسر عالم الأدب صاحبه الموهوب، الذي شق طريقه في الحياة وسط صعوبات جمة، وأتحف المكتبة العربية بسلسلة من المؤلفات القيمة الحية، في النقد الأدبي والتاريخ الأدبي خاصة، وأشهرها كتابه الجليل «النثر الفني في القرن الرابع»، وقد تعددت تواليفه وبحوثه تَعُدُّدَ درجاته الجامعية الرفيعة، واشتهرت مصاولاته الأدبية اشتهار جَلَدِه وعزمه وإقدامه، واشتهار محنته في بيئاتٍ ضيَّعتْه!

إن شعر الدكتور زكي مبارك — كنثره الفني — يتميز بالكلاسيكية الوجدانية الرفيعة التي يشع منها الذكاء الخارق والعاطفة المشبوبة، ومن حسن حظ الأدب أنه مهد لديوانه في طبعة سنة ألف وتسعمائة وسبع وأربعين بمقدمة مسهبة، ترجم فيها لنفسه ترجمة وافية بديعة تساعد القارئ بلا ريب على تفهم شعره وتقدير مراميه الفنية وخصائصه التي ذكر منها خمسًا رئيسية:
  • الأولى: أن أشعاره تكاد تكون مقصورةً على فن واحد هو فن الغزل والتشبيب.
  • والثانية: الاهتمام بتشريح المعاني، بحيث قد ينظم في المعنى الواحد عشراتٍ من الأبيات، وهذا راجع إلى فطرته الفلسفية.
  • والثالثة: هي النزعة الصوفية؛ إذ إن أكثر القصائد في التشبيب لم تكن لها موحيات من الجمال الإنساني، وإنما كانت موحياتها من الجمال الرباني.
  • والرابعة: هي تدوينُ عواطفَ عزيزةٍ عليه، وهي عواطفُ سجَّل بها وفاءه لأصدقائه.
  • والخامسة: هي دقة الأسلوب المدرسي.

أما نماذج هذا الشعر الوجداني الفحل، الذي لم يُخْفِ صاحبُه اعتزازَه به، فعديدة تجابه القارئ من أول صفحة في الديوان في قصيدته «مصر الجديدة»:

تناسيتكم عمدًا كأنِّي سلوتكُم
وَبَعْضُ التناسي العَمْدِ مِنْ صُور الودِّ
إذا اشتدَّ إظلامُ العقوق تبلَّجَتْ
مآثِرُ تُذْكي نارَ معروفكم عِنْدِي
أمثليَ يَنْسَى؟! آه ممَّا اجترحتمو
على الهائم الحيرانِ في حَوْمَةِ الوِرْدِ
أَإنْ خِفْتُ عُذَّالِي فأخفيتُ لوْعَتي
تظنُّونني صبًّا أفاقَ مِن الوجدِ؟
غرامي بكُمْ لم يُبْقِ قلبًا بلا جَوًى
وحُبي بكم لم يُبْقِ عَيْنًا بلا سُهْدِ
خَلَعْتُ عليكم مِنْ هُيامِي وصبْوتي
غلائلَ لم تُخْلَعْ على ساكني الخُلْدِ!

ومع اعتداد شاعرنا بهذه القصيدة الفريدة، كاعتداده بأخواتٍ كثيراتٍ لها، فإنه يقول: «إن هذا الزَّهْوَ لم يخطر في البال وأنا أنظم هذا القصيد؛ فقد أوحته روحانية لا تسيطر على النفس إلا في أندر الأحايين، فجاء أقباسًا من الأشواق العواصف بالقلب والوجدان!»

وعلى الرغم من اعتداده وزهوه، أبت طبيعة الوفاء التي تحلى بها شاعرنا إلا أن ينوِّه تنويهًا خاصًّا في مقدمة الديوان بمن نبهه إلى مزايا شاعريته وشجعه على استغلال مواهبه ونشْر نفحاتها، بعد أن كان حاصرًا عبقريته في دائرة النثر الفني والبحث الأدبي، وهذه صفة نادرة في بيئاتٍ تَغَلَّبَ فيها مُركَّب النقص، وتَفَشَّى الجحود والعقوق، وبات يُفتخر بهما!

إن شعر «زكي مبارك» ليتسم بالحيوية والقوة والموسيقى الكلاسيكية؛ فهو طراز مستقل بذاته، وإن كانت عليه ملامح الشعر المدرسي في أحسن عصوره، وهو بحق ثروة لأدبنا الحديث، وإن فيه لشواهدَ لا تحصى على براعة التصرف البياني، والطلاقة الجميلة، الناطقة بطواعية اللغة في يد محبها، المتمكن منها، إذا ما كان مبدعًا موهوبًا.

والقارئ لألحان الخلود لينعم بموسيقى وخيال وعاطفة وتصوف وجمال في صور شتى؛ وقد يسكب عبراته في مواقفَ شجيةٍ مؤثرةٍ، وسيذكر في لوعة «زكي مبارك»؛ كما ذكر هو ملتاعًا راثيًا في نهاية الديوان راويته الأديب «أحمد رشدي»:

أخبروني أنَّ رشدي لَن يَعود
جثمَ الصخرُ عليه والحديدْ
كلُّ ما لم تره العينُ جديدْ
يا غريبَ الرُّوحِ في دارِ الخلُودْ
ما شَجا أهلَك صُبْحًا ما شجاني
حين صار النوحُ بابًا من بياني
إنَّ رُزئي فيك يا حُلْوَ المداني
هو كَأس الغدْرِ من خمر زماني!
١  جريدة «السائح» النيويوركية في ١٢ سبتمبر سنة ١٩٤٩م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤