صورة من الشعر القديم

في طليعة الشخصيات الشامخة في الشعر العربي شخصية «الشريف الرضي»، وإنها لبرهان آخر على أن الأدب الأصيل الصادق العظيم، لا يمكن فصله عن الشخصية العظيمة اللامعة فهما شيء واحد، يترجم عن كِيانه بتعابيرَ شتى ما بين أعمالٍ وأفكارٍ وعواطفَ.

كان «الشريف الرضي» في سلوكه مثالًا لعزة النفس وشرفها، وكان جد حريصٍ على العدل، واشتهر كذلك برجاحة عقله وبتأملاته في فلسفة الأخلاق، وبنظراته الاجتماعية الدقيقة، كما نبغ في الشعر منذ طفولته وجاء هذا الشعر صادقًا مطبوعًا، كامل التصوير لنفسيته؛ كأنه لوحات فنية عظيمة، ثم جاء نثره البليغ الجزل آية في الفخامة، حتى نُسب إليه تأليفًا — لا جمعًا فحسب — كتاب «نهج البلاغة» المحتوي كلام «علي بن أبي طالب» أو معظمه، وتميزت له تصانيف جليلة في مجازات القرآن ومعانيه، تمت عن تضلعه في علوم اللغة، وفوق هذا وذاك كانت له — كما جاء في «عمدة الطالب» — «هيبة وجلالة، وفيه ورع وعفة وتقشف، ومراعاة للأهل والعشيرة … كان أحد علماء عصره، قرأ على أجلَّاء أفاضل»؛ كما كان معلِّمًا جليلًا أحبه طلبته وأعزوه، والتفوا حوله في مدرسته التي أسماها «دار العلم»، وكان يتبرع لهم بعلمه وبحاجاتهم. كل هذه الشمائل الأدبية والخلقية التي انصهرت في سبيكة واحدة هي التي ترتكز عليها شهرة «الشريف الرضي»!

يصف «الثعالبي» «الشريف الرضي» بأنه «أشعر الطالبِيِّين؛ مَنْ مضى منهم ومن غَبر، على كثرة شعرائهم المفلقين»، ثم لا يتردد في أن يذكر: «ولو قلت: إنه أشعر قريش، لم أبعد عن الصدق.» كما يذكر: «ولست أدري في شعراء العصر أحسن تصرفًا في المراثي منه.»

وكما كان مترسلًا في النثر يصح أن يعد نظمه من الطراز ذاته، حتى إنه ليقارن بنظم «البحتري» في الصياغة المطبوعة السمحة، ولكن شعر «الشريف الرضي» يمتاز بتعبيره الفخم النبيل عن نفسٍ نبيلةٍ، وبالترفع عن كل ما يَشين، وأبت نفسه الشامخة إلا أن يخاطب الخليفة القادر بالله، بقوله:

عطفًا أميرَ المؤمنينَ! فإنَّنا
في دَوْحَةِ العَلْيَاءِ لا نتفرَّقُ
ما بيننا يومَ الفخار تَفَاوتٌ
أبدًا، كِلانا في المعالي مُعْرِقُ
إلَّا الخلافةَ مَيَّزَتْكَ، فإنَّني
أنا عاطِلٌ منها، وأنتَ مُطَوَّقُ!

قد يشتهر شاعر بقصيدةٍ واحدةٍ سكب فيها عصارة قلبه، فليس من الضروري إذن أن يكون الشاعر المجيد مكثرًا، كما أنه ليس من الواقع أن كل شاعر مقلٍّ مجيد، ولكن بين فحول الشعراء مَنْ جمع بين الإكثار والإجادة في آنٍ واحد؛ لأن ذلك طابع عبقريته، وهؤلاء قلة نذكر منهم في العربية على سبيل المثال «مهيار الديلمي» و«ابن الرومي» و«ابن حمديس» و«الشريف الرضي».

وإذ نحن بصدد «الشريف الرضي»، فلنا أن نقول إنه برع في جميع فنون الشعر العربي التي كانت معروفةً في زمنه، ولو كان أدب الملاحم الإغريقية وسواها معروفًا عند العرب حينئذ لكان «للشريف الرضي» — لا ريب — جولات موفقة فيها، ولكن غلته تقاليد بيئة المحافظة وجهلها بالشعر الإغريقي أو صدوفها عنه؛ لتوهمها إياه خطرًا على التوحيد.

ونقرأ عن شاعرنا وأديبنا الجهير أنه «لم يقبل من أحد صلة ولا جائزةً، حتى بلغ من تشدده في العفة أن رد ما كان جاريًا على أبيه من صلات الملوك والأمراء! واجتهد «بنو بويه» أن يحملوه على قبول صلاتهم فما استطاعوا … وقد أكبر الناس رثاءه «لأبي إسحق الصابي»؛١ لأن المرثيَّ كان «صابئيًّا»، ونقرأ أنه «في أواخر عمره تغير عليه الخليفة القادر بالله؛ لاتهامه عنده بالميل إلى العلويين الفاطميين، فصرفه عن الأعمال التي اعتادها، فعاش «الشريف الرضي» عيشَ القانع العفيف حتى وافته منيته». وكل هذا خلق هالة نورانية حول اسمه وسيرته.

علينا بعد هذا أن نأتي ببعض الشواهد الدالة على فخامة شعره وعبقريته، وإننا بالفعل لنجد أنفسنا في حيرةٍ حول ما نختار منها وما نترك. ولأمرٍ ما — ولعله طابع الوفاء المؤثِّر — تجتذبنا مراثيه، وإنها لفي الذروة من حرارة العاطفة، ومن ذا الذي يمكن أن ينسى مرثيته «لأبي إسحق الصابي» التي يقول فيها:

أعلمتَ من حَمَلُوا على الأعوادِ؟
أرأيتَ كيف خَبَا ضِياءُ النَّادي؟
جَبَلٌ هَوَى، لو خَرَّ في البحر اغتدَى
مِنْ وقْعِه مُتتابعَ الإزبادِ
ما كنتُ أَعْلَمُ قبلَ حَطِّكَ في الثَّرى
أنَّ الثَّرى يَعلُو على الأَطوادِ!
بُعْدًا ليومِكَ في الزَّمانِ فإنَّه
أقْذَى العيونَ وفَتَّ في الأعضادِ
لا يَنفدُ الدمعُ الذي يُبْكَى بِه
إنَّ القلوبَ له من الإمدادِ

ومنها:

إنَّ الدموعَ عليكَ غيرُ بخيلةٍ
والقلبُ بالسلوانِ غيرُ جوادِ
سوَّدتَ ما بين الفَضاء وناظري
وغَسَلْتَ مِنْ عينيَّ كلَّ سوادِ
يا ليتَ أنِّي ما اقتنيتُكَ صاحبًا
كم قنْيَةٍ جلبتْ أسى لفؤادي!
ليس الفجائعُ بالذخائر مِثْلَها
بأماجدِ الأعيانِ والأفرادِ
ضاقتْ عليَّ الأرضُ بَعْدَكَ كُلُّها
وتركْتَ أضيقَها عليَّ بلادي!

ولا تَقِلُّ روعةً عن هذه القصيدة مراثيه الأخرى؛ مثال ذلك رثاؤه لوالدته الذي يقول في مستهله:

أبكيكِ لو نقعَ الغليلَ بُكائي
وأقولُ لو ذهبَ المقالُ بدائي
وأعوذُ بالصَّبر الجميل تَعزِّيًا
لو كان بالصبرِ الجميلِ عزائي
طورًا تُكاثِرني الدُّموعُ، وتارةً
آوِي إلى أكرومتي وحيائي!

ومنه:

كيف السُّلُوُّ، وكلُّ مَوقع لحظةٍ
أَثَرٌ لِفضلِك خالدٌ بإزائي؟!
رُزآن يزدادانِ طُولَ تَجَدُّدٍ
أَبَدَ الزَّمانِ: فَناؤُها وبقائي
ذَخَرَتْ لنا الذكرَ الجميلَ إذا انقضى
ما يَذْخَرُ الآباءُ للأَبْناء
كم آمرٍ لي بالتَّصَبُّر هاج لي
داءً، وقدَّر أنَّ ذاكِ دوائي
آوي إلى بَرْدِ الظلالِ كَأنَّني
لِتَحَرُّقي آوِي إلى الرَّمضاءِ
وأَهبُّ مِنْ طِيبِ المنامِ تَفَزُّعًا
فَزَعَ اللَّديغ نَبَا عن الإِغفاءِ
لو كان يُبلغكِ الصَّفيحُ رسائلي
أو كان يُسْمِعُكِ التُّرابُ ندائي
لسمعتِ طولَ تأوُّهي وتَفَجُّعي
وعلمتِ حُسْنَ رعايتي ووفائي!

ومثله رثاؤه المؤثر لوالده الذي يقول فيه:

قد كنتُ أَعْذُلُ قبلَ موتِكَ مَنْ بَكَى
فاليومَ لي عَجَبٌ من المتبسِّمِ
وأذودُ دمعي أن يَبُلَّ مَحاجري
فاليومَ أُعلمهُ بما لم يَعلمِ
لا قُلتُ بعدكَ للمدامعِ كفكفي
مِنْ عَبرةٍ ولوَ انَّ دَمعي مِنْ دَمي
هَتفَ الحِمامُ به فكان وَصَاتَه
بَذْلُ الرغائبِ واحتمالُ المغرمِ
هل يُورثُ الرجلُ الكريمُ إذا مَضَى
إلَّا بَوَاقِيَ مِنْ عُلًا وتكرُّمِ
يَأْبَى النَّدَى تركَ الثراءِ على الفَتَى
ويَقلُّ ميراثُ الجوادِ المُنْعِمِ
مَلَأَتْ فضائلكَ البلادَ ونَقبتْ
في الأرضِ يَقْذِفُها الخبيرُ إلى العَمِي
فكأنَّ مَجْدَكَ بارقٌ في مُزْنَةٍ
قِبَلَ العُيونِ وغرَّةٌ في أَدْهَمِ
أَنعاكَ للخيل المُغيرةِ شُزَّبًا
خَبطَ المَغَارُ بهنَّ مَنْ لم يُجْرِمِ
كالسِّرْبِ أَوْجَسَ نَبأَةٍ من قانصِ
فمضَى يَلُفُّ مُؤخَّرًا بِمُقدَّمِ!

ومثله رثاؤه البليغ «للصاحب بن عباد»، وفيه يقول:

يا آمرَ الأقدار كيف أطَعْتَها؟!
أوَمَا وَقاكَ جلالُكَ الآجالا؟!
ألَّا أقالَتْكَ الليالي عَثْرَةً
يا مَنْ إذا عَثَرَ الزمانُ أقالَا؟!
واهًا على الأقلامِ بعدكَ، إنَّها
لم تَرْضَ غَيرَ بَنَاتِ كَفِّكَ آلَا
دَفعَ الزمانُ لكَ النوائبَ دَفْعَةً
وتَصَوَّبَ الوادي إليكَ فسالَا!

ومثله رثاؤه الوفي للخليفة «الطائع بالله»، وقد توفي في مجلسه وهو مخلوع، وكان في خلافته شديد الميل إليه؛ وفي هذا الرثاء يقول:

وكذا الأيامُ مَنْ قارعَها
تركتْ فيه علاماتِ النِّزالِ
نَتَجُوا في المجدِ ما أَلْقَحْتَهُ
رُبَّما أوقدَ نارًا غيرُ صَالي
وإذا أَغْلَى الوَرَى أكرومة
وَجَدُوا عندكَ أثمانَ الغوالي
كلُّ مأسورٍ يُرَجَّى فكُّه
غَيْرَ مَنْ أصبحَ في قَيْدِ الليالي!

وأقرب إلى الرثاء تفجعه لخلع ذلك الخليفة في قصيدتين من عيون شعره!

فإذا انتقلنا من الرثاء وجدنا أبوابًا أخرى عديدة تستهوينا دواعيها وفرائدها؛ سواء في الشعر الوصفي التصويري، أو في الزهد، أو في النسيب، أو في الإخوانيات، أو في الفخر، أو في شكوى الزمان، أو في غير ذلك من أبواب الشعر الكلاسيكية، دع عنك حجازياته المشهورة.

ومن أوصافه الرائعة: وصف «إيوان كسرى»، ووصف «بيوت النار بيوم الشعانين»، و«وصف الليل»، و«وصف الحيرة»، و«وصف الأسد»، و«وصف القلم». وديوانه الضخم الواقع في نيفٍ وتسعمائة صفحةٍ من القطع المتوسط، والحاوي آلافَ الأبيات السِّرِّيَّةِ؛ هو ثروة كلاسيكية للأدب العربي لا تقدَّر بثمن؛ وإذ كنا نزور حديثًا مجموعة لوحات «رامبرانت» في متحف «المتروبوليتان» للفن بنيويورك، اتفق أن كان بصحبتنا ديوان «الشريف الرضي»، فكان إحساسنا قويًّا بالشبه بين ما بيدنا وبين ما رأينا، ومهما يكن التطور في الأذواق والأساليب في الشعر أو التصوير أو في غيرهما من الفنون الجميلة؛ فما تزال للشعر الكلاسيكي عظمته، وما تزال لشعر «الشريف الرضي» عظمة خاصة.

ولم يقل ناقد منصف إن خصوبة فنه أو سرعة إنتاجه انتقصته بأي حال؛ فإنتاج «المعري» الهائل لم يكن مظهر إفلاسه، كذلك لم تكن آثار «شيكسبير» العديدة ولا آثار «هومير»، كذلك لم تكن سرعة «روسِّيني» مثلًا الذي وضع «حلاق إشبيلية» في أقلَّ من ثلاثة أسابيع، أو سرعة خاطر «أبي نواس» المتألق في شعره الصافي.

ولكن الناس عادة عبيد الحسد، قلما يعرفون قيمة الرجل العبقري إلا بعد وفاته، وهم على خير تقدير عبيد المألوف، وخصوم المتميز:

لا يعرف القومُ الفتى إلا متى
ولَّى فيعطَى حقه تحت الثرى!

وهذا كان حال «الشريف الرضي» على ما أوضحه فقيد الأدب الدكتور «زكي مبارك» في كتابه الممتاز «عبقرية الشريف الرضي».

ولسوء حظ الأدب لم يعمَّر «الشريف الرضي» أكثر من سبع وأربعين سنة هجرية؛ فقد ولد في «بغداد» سنة ٣٥٩ﻫ، وتوفي «بالكرخ» سنة ٤٠٦ﻫ؛ حيث دفن بداره أولًا؛ ثم نقل إلى مشهد «الحسين» «بكربلا»، فدفن عند أبيه. ومع ذلك أعطى الأدب العربي في هذا العمر المحدود كنزًا عظيمًا من الشعر والحكمة والنقد الاجتماعي والمثاليات الأخلاقية العليا.

ويقول لنا المؤرخون إنه نشأ في حجر والده ودرس العلم في طفولته، فبرع في الفقه والأدب واللغة والنحو، وبدأ يقرض الشعر في سن العاشرة، وألَّف وعلَّم، وضرب المثل للشعراء والأدباء في الترفع بآثارهم، وفي ابتداع مثاليات لهم، متنزهًا عن العبث والمجون، كما تنزه عن قبول صلةٍ أو جائزةٍ من أحدٍ، وكان آية الصدق والحزم والأمانة في عمله، وكل هذا نراه متجليًا في مرآة أدبه. كان يقيم في مدينة «سُرَّ مَنْ رَأَى» معظم حياته العملية، وبعد ما تولى نقابة الأشراف الطالبيين أخذ يتولى أيضًا النظر في المظالم والحج بالناس كما كان يفعل والده، إلى أن انصرف عنه الخليفة «القادر بالله». وآثار كل هذه الحياة الشريفة نحسها في ديوانه بلغة الفكر والعاطفة والفن، يحسها ويفْتَن من يُعنى بنشدانها؛ لأنها أرفع من مستوى الدهماء، على حد قوله:

أنا النُّضَار الذي يُضَنُّ به
لو قلبتني يمين منتقد!

يصف الدكتور «زكي مبارك» الشريف الرضي بأنه «الجندي المجهول»؛ وذلك لأن جلَّ شعره غيرُ مدروس، ويكاد لا يردد إلا شعره السياسي؛ لأن شاعرنا كان ضالعًا — فيما يقال — مع الفاطميين ضد العباسيين، ومن أجل ذلك اشتهرت قصيدته اليائية التي يُعرض فيها بحكومة الخليفة «القادر بالله»؛ كما اشتهرت قافيته التي يقول فيها:

عَطْفًا أميرَ المؤمنينَ فإننا
في دَوْحَةِ العَلْيَاءِ لا نتفرَّقُ!

ولولا ذلك الاعتبار السياسي لما تحدث عنهما أحد. كذلك لولا الثورة على كتاب «نهج البلاغة» والشك في صحة نسبته إلى «الإمام علي»؛ لما تردد اسم «الشريف الرضي» مرة أخرى؛ ذلك لأن شعره الخالد العظيم هو شعر فكرٍ ومثالية وعاطفة في آن واحد، فهو شعر من النسق العالي الفذ؛ وذلك لأنه لم يتكسَّبْ بشعره، ولم ينزل به إلى مصاف الدهماء وإلى منزلة المجون والعبث والتسلية الجوفاء؛ وذلك لأنه شعر المثقفين الواعين، وليس شعر الجهلاء وأنصاف الجهلاء السطحيين، وقد أدت النهضة الفكرية العربية أخيرًا إلى الحفاوة الكاملة بشعر «الشريف الرضي»، فأعزَّته جميعَه، ولم تهمل منه شيئًا، كما أهملت نظمًا كثيرًا للشعراء الوصوليين المذبذبين المتصنعين، ولو كانوا من المشهورين.

وخير ما نختم به هذا الحديثَ العامَّ عن أدب «الشريف الرضي» هذه اللآلئ من شعره، نقدمها دون تعمُّد الاختيار، وإنها لمرآة لشاعريته ولحكمته ولعاطفته مجتمعةً.

يَغُرُّ الفَتَى ما طال منْ حبْلِ عُمْرِهِ
وترْخي المنايا بُرهَةً ثم تَجْذِبُ

•••

كلُّ حَبْسٍ يَهُونُ عند الليالي
بَعْدَ حَبْسِ الأرواح فِي الأجسادِ

•••

يَنالُ الفَتَى مِنْ دَهْرِهِ قدرَ نفسهِ
وتَأْتِي على قَدْر الرجالِ المكايدُ

•••

يُعَرِّفكَ الإِخوانُ كلٌّ بنفسهِ
وخيرُ أخٍ مَنْ عَرَّفَتكَ الشدائدُ

•••

ليس الغريبُ الذي تنْأَى الدِّيارُ بهِ
إنَّ الغريبَ قريبٌ غيرُ مودَودِ!

•••

ما الفقرُ عارٌ وإن كَشَّفْتَ عَوْرتَهُ
وإنَّما العارُ مالٌ غيرُ محمودِ

•••

إذا الشَّمْس غاضَتْ كلَّ عينٍ صحيحةٍ
فكيف بها في هذه المُقَلِ الرُّمْدِ؟

•••

قالوا على قَدْرِ الرَّجاء وإنما
يُرْوَى على قَدْرِ الأوامِ الصَّادِي

•••

إذَا قَيَّدَ الليْلُ خَطْوَ المُنَى
مَشَى النَّوْمُ في مُقْلَةِ السَّاهِر

•••

لَحَا اللهُ دَهْرًا كثيرَ العَدُ
وِّ حتى الظَلامُ يُعادِي النَّهارَا

•••

ما كلُّ نَسْلِ الفَتَى تزْكُو مَغَارِسُهُ
قد يفجَعُ العود بالأوراقِ والثَّمَرِ

•••

إذا تَناءَتْ بنا قلوبٌ
فلا تَدَانَتْ بنا ديار

•••

وليسَ كلُّ ظَلامٍ دامَ غَيْهَبهُ
يَسرُّ خابطَهَ أن يَطْلعَ القَمَر

•••

بالجدِّ لا بالمساعي يُبْلَغ الشرفُ
تمْشي الجدود بأقوامٍ وإنْ وَقَفُوا

•••

وضَيوفُ الهُمومِ مُذْ كُنَّ لا يَنـْ
ـزِلْنَ إلَّا على العظيمِ الشريفِ!

•••

أراكَ تَجْزَعُ للقومِ الذين مَضَوْا
فهل أَمِنْتَ على القَوْمِ الذين بَقُوا؟!

•••

وإذا الحليمُ رَمَى بِسِرِّ صديقهِ
عَمْدًا فأَوْلَى بالوِدَادِ الأَحمقُ!

•••

ولا تَزْرَعُوا شَوْكَ القَتَادِ فإنكم
جديرون أن تُدْمَوْا به وتشَاكوا

•••

وليسَ يَأْتَلِفُ الإحسانُ في مَلِكٍ
حتى يؤلِّفَ بينَ القولِ والعمَلِ

•••

وأَوَّلُ لُؤْمِ المرء لؤمُ أصولِه
وأولُ غَدْرِ المرءِ غَدْرُ خليلِ

•••

النَّفسُ أدْنَى عَدُوٍّ أنتَ حاذرُهُ
والقلبُ أعظمُ ما يُبْلَى به الرَّجُلُ

•••

ومَوْتُ الفَتَى خَيْرٌ له مِنْ حياتهِ
إذا جاورَ الأيامَ وهو ذليلُ

•••

ومَنْ مات لَم يعْلَم وقد عانقَ الثَّرى
بَكاهُ خليلٌ أم سَلاهُ خليلُ

•••

وما شَرَرٌ تَطاوحَ عن زِنادٍ
بمُنْتَقَدٍ إذا بَقَيَ الضِّرامُ

•••

كالغيثِ يَخلفه الربيعُ وبعضهم
كالنارِ يَخْلُفهَا الرَّمادُ المُظْلِم!

•••

هُبُّوا فقد تَيَقَّظُ الـ
أجْدَادُ لِلقَوْمِ النِّيامِ!

•••

لا يَذْخَرُ الضَّيْغَمُ من قُوتِهِ
ما يَذْخَرُ النَّملُ مِن المَطْعَمِ!

•••

قد يَبْلُغُ الرجلُ الجبانُ بمالهِ
ما ليس يَبلغُه الشُّجاعُ المُعْدِمُ

•••

تَشِفُّ خِلالُ المرء لي قبلَ نُطْقِهِ
وقبلَ سُؤالي عنه في القَوْمِ: ما اسْمُهُ؟!

•••

يَمْضِي الزَّمانُ ولا نُحِسُّ كأنَّه
ريحٌ تمُرُّ ولا يُشَمُّ نسيمُها

•••

فليتَ كريمَ قومٍ نال عِرْضِي
ولم يَدْنَسْ بذمٍّ مِنْ لئيمِ

•••

تُمْلي المقاديرُ أعمارًا وتَنْسَخُها
ويَضْرِبُ الدَّهْرُ أيامًا بأيامِ

•••

ومَنْظَرٍ كان بالسَّراءِ يُضحكني
يا قُرْبَ ما عاد بالضَّرَّاء يُبكيني
هيهات أغترُّ بالسُّلطانِ ثانيةً
قد ضَلَّ وَلَّاجُ أبوابِ السَّلاطينِ!

•••

لا تَخْلدَنَّ إلى أَرْضٍ تَهُوُن بها
بالدَّارِ دارٌ وبالجيرانِ جيرانُ

•••

يا قومُ إنَّ طويلَ الحِلْمِ مفسدةٌ
وربما ضرَّ إبقاءٌ وإحسانُ

•••

وما خَيْرُ عَيْنٍ خَبَا نورُها
ويُمْنَى يدٍ جُذَّ منها البَنانُ

•••

إذا المرءُ لم يَحْفَظْ ذِمامًا لقومِهِ
فأَحْج به أنْ لا يَفي بضَمانِ

•••

وَسِعْتُ أيامي ولم تَسَعْني
أفْضَلُ عنها وتَضِيقُ عنِّي!

•••

لا تَجْعَلَنَّ دليلَ المرء صُورَتَه
كم مَخْبَرٍ سَمِجٍ عن مَنْظَرٍ حَسَن!

•••

ومن عَجَبٍ صُدُودُ الحَظِّ عنَّا
إلى المُتَعَمِّمينَ على الخَزَايَا
أَسَفَّ بِمَنْ يَطيرُ إلى المَعالي
وطارَ بمن يَسفُّ إلى الدَّنايا!

وقد تساءل الدكتور «زكي مبارك»: ليت شعري متى يجيء العهد الذهبي الذي تسمو فيه الآراء بفضل ما فيها من قوة الصدق، لا بفضل من يحرسها من الجنود؟! وقد تساءل الشاعر «الناعوري» في «الثقافة»: لماذا هذا يروج وذاك لا يروج؟ والجواب عن ذلك أدلى به الدكتور «زكي مبارك» في فاتحة كتابه القيم ص٤٥، ولعلنا الآن على عتبات العصر الذهبي الذي كان يحلم به، رحمه الله ورحم «الشريف الرضي» رحمة واسعة، ورحم «الإمام عليًّا» الذي قال: «السبب الذي أدرك به العاجز بغيته، هو الذي أعجز القادرَ عن طِلْبَتِهِ.»

١  حينما لامه بعض المتطرفين في الدين لرثائه من عدوه كافرًا، قال: «إنما رثيت فضله!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤