الأدب العربي في المهجر

أتحفنا الأستاذُ الأديب «عبد الحميد الأنشاصي» من «نابلس» بكتابه «عطفُ أمٍّ وقصصٌ أخرى»، الذي أصدرته «دار سعد مصر» بالقاهرة، وسألنا أن نسعى في ترجمته، وردًّا عليه نذكر أنه لا أحب لدينا من ترجمة أدبنا العربي قديمه وحديثه بشرط أن يكون أدبًا إنسانيًّا رفيعًا، فإن ثقافتنا هي عِرْضُنا؛ وهذه الثقافة تشمل ضروب الأدب والفن والعلم والدين؛ ولهذا نجد بين الأدباء المسيحيين مثلًا مَنْ يَغَارُ على الثقافة الإسلامية ومن يغار على سمعة نبي الإسلام ويعده قبل كل اعتبار بطلًا عربيًّا ومصلحًا فذًّا، ويحسب كل هذا ذا صلة وثيقة بكرامته القومية.

ومثل هذا الشعور نجده متجلِّيًا في «أمريكا» بين جميع الجاليات الأجنبية الأرومات، ومن بينها الجالية العربية، ولكن الجالية العربية — والقسم الإسلامي منها خاصة — بحاجة ماسة إلى المعونة المالية المنتظمة السخية من الحكومات العربية والإسلامية عامة؛ لتقوم بواجب التنويه بالثقافة العربية أو الإسلامية؛ ولتعمل على تدريسها في المعاهد والجامعات، كما تصنع جميع الجاليات الحية في هذه الربوع، بل في المهاجر كافة، وإزاء هذا العجز المادي الذي لا مسوغ له، ليس من الميسور القيام ببرنامج واسع جدير بالذكر لخدمة الثقافة العربية الإسلامية، فضلًا عن ترجمة الآثار العربية. وهذا هو العلَّامة الدكتور «محمود حُب الله»، مدير «المركز الإسلامي» بوشنطن، لم يقصر في رسم موازنة معقولة لتحقيق هذا الواجب المحُتَّم على كل عربي وكل مسلم مستنير أن يُسْهِمَ فيه بالمال أو بالسعي، كما هو محتم على الحكومات العربية والإسلامية، وحتى الآن لا يزال مشروعه الجليل معطلًا بسبب التهاون، وبسبب اهتمام تلك الحكومات والأفراد — إلى حَدِّ المبالغة — المعيبة بالسياسة وحدها، في حين أن منافسيهم يُعْنَوْنَ بالثقافة عنايتهم بالسياسة ويبرزون شخصيتهم القومية كاملة، لإيمانهم بأنها وحدة لا تتجزأ، فما يُصْغِرُ ثقافتَهم يُصغر وضعهم السياسي ويسيء إلى قضاياهم.

وهذا ما أدركته حتى روسيا الشيوعية التي تُنْفِقُ الآلاف المؤلفة من الدولارات، بل قُل الملايين العديدة، للتنويه في الخارج بثقافتها وأعلامها في الأدب والفن والعلم، محاولةً إقناع العالم بأنها أمة عريقة في المعرفة والحضارة، فما أحرى الشعوب العربية والإسلامية بأن تنهج هذا النهج، بدل أن تتوهم أن ما يكيف الأمم ويصونها هي الماديات وحدها!

وبعد، فالأدب العربي في المهجر يغنيه بلا ريب النقلُ إليه والنقل عنه، ولكن بدون هذه اليقظة التي ندعو إليها لا يمكن أن يتحقق هذا الأمل. ونعتقد أن سفراء الدول العربية والإسلامية في العواصم المختلفة مسئولون عن تحقيق هذه الخطة، ومسئوليتُهم عنها في «وشنطن» عاصمة أقوى أمة في العالم وأبعد الأمم حضارة مسئوليةٌ لا يستهان بها، والتهاون إزاءها بعيد الخطر.

وإننا لنعد مشروع العلامة الأستاذ الدكتور «حب الله» بعيد الخطر؛ لأنه يدافع عن عرضنا بأكرم صورة في بلاد عظيمة النفوذ، تؤمن بالعدل وتطبقه، ويهمها الوقوف على حقائق الشعوب، والارتشاف من ينابيع مدنيَّاتها، والدفاع عن حسناتها؛ كأنها تنتسب إليها، وكل هذا له أثره في الجو السياسي الذي يُشغل به وحده أقطاب العروبة والإسلام أو يكادون مع الأسف، فيسيئون إلى قضاياهم من حيث لا يدرون!

والأدب المهجري في أمريكا متأثر إلى درجة محسوسة بالبيئة الأمريكية الحرة، ولا مفر من اهتمام «المركز الإسلامي» بتدريسه متى تحقق نظامه التعليمي، وقد حان له أن يتحقق بعد طول الانتظار. إنه مزيج من الواقعية والرومانسية والرمزية والسريالية وغيرها، ولكن للواقعية نصيب وافر منه، وإذا كانت الواقعية لا تزال منبوذة في العالم العربي تحت تأثير الأدب الفرنسي، أو على الأصح تحت تأثير الرومانسية الفرنسية المتمكنة من الشرق الأوسط وعلى الأخص من لبنان ومصر، فإن لها محلًّا محترمًا في الأدب الأمريكي — أدب الحياة الشاملة.

ولهذا كان تدريس الأدب العربي المهجري، بل وعرض الفن العربي المهجري، من خير المهام التي يمكن أن تُناط «بالمركز الإسلامي» في وشنطن إلى جانب الثقافة الإسلامية، وقد يدخل في مهمته نقلُ كثيرٍ من الآثار العربية بين قديمة ومعاصرة إلى الإنجليزية، ومن بينها مختارات من الأدب المهجري الذي يمثل شعوبًا شتى ما بين لبنانية وسورية ومصرية وعراقية وأردنية وتونسية ومُراكشيَّة وحجازية وسودانية وغيرها وغيرها، وهكذا تصبح مهمةُ المركز الإسلامي الثقافية مهمة ثلاثية ومهمة لا تعلو عليها مهمة، وواجبٌ تسابقُ الدُّول والشعوب العربية والإسلامية وأعيان العرب والمسلمين في العالم الجديد بأسره إلى تحقيقها؛ حرصًا على المنفعة العامة وحرصًا على كرامتهم.

نشأ الأدب المهجري أولَ ما نشأ متأثرًا بحركتين: حركة التجديد الجبارة التي تزعَّمها «خليل مطران»، وحركة البعث الأدبي الأمريكي المتجاوبة مع خير ما في أوربا من أدب. أما الآن فهو أدب إنساني له شخصيته القوية الحرة، وأنصاره مثقفون موهوبون متعددون، وإن لم تكن لهم مجلة خاصة ولا بريقُ مَن سبقوهم في العقد الثاني من هذا القرن، ومع هذا فإن آثارهم التي تطالعنا الصحف المهجرية بنماذجَ منها آثار قيمة لامعة، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل، ولا تستحق هذه النماذج أن تدرس فحسب، بل تستحق أن تترجم صفوتها أيضًا؛ ليعرف الأمريكيون أية مثالية رفيعة تجول في نفوس العرب الأمريكيين؛ كما تجول في نفوس أهليهم في مواطنهم الأصلية، مما يؤدي إلى احترام النفسية العربية.

ولنذكر على سبيل المثال قصيدة «يا سلم»!١ التي ترجمت إلى الإنجليزية وانتفعت بها دوائر الأمم المتحدة في دعايتها النبيلة للسلام، وقد جاء فيها:
يا سَلْمُ! خيرٌ أن نراكَ مُزَعْزَعًا
مِنْ أن نَرَى للحربِ سُوقًا بَيْنَنا
يا جاعلَ النيرانِ جَنَّاتٍ لنا
ومُطَهِّرَ الإنسانِ حتى آمنا
لا تُلْقِنا يأسًا وصَبْرًا، رُبَّما
عَلَّمْتَنَا وصَقَلْتَنَا فَخَلَقْتَنَا
إنْ كنتَ ترجونا الفِدَاء فَكُنْ لنا
بعضَ الفِدَى، فَنَرى السَّعادةَ والغِنَى
يا نفحةَ الأربابِ حين تَجاوَبُوا
والفَنَّ، فابتدعُوا سناكَ فَهَيْمَنَا
إنْ تَبْقَ حارسَنا رفعتَ نُفُوسَنا
وإلى الحضيضِ تَزِلُّ إمَّا فُتَّنَا
ولئن تمادَى الأشقياءُ بِغَبْنِنا
فكنِ الملاذَ ولا تُسَوِّغْ غَبْنَنَا
إنْ نحن ضِعْنَا ضِعْتَ أنتَ وإنْ تَصُنْ
آمالنا صانتكَ كنزًا يُقْتَنَى
ويَجيءُ يومٌ لِلْحَيَاةِ مَقَدَّسٌ
فتكونُ معبودَ الحياةِ المُعْلَنَا
لولاك كانتْ مثلَ أشباح الرَّدَى
بِجَهنَّمٍ، لا مثلَ أطيافِ المُنَى
فأجِبْ دعاءً لِلْبَرِيَّةِ، شاملًا
مَنْ قد أساءَ لنا ومَنْ قد أَحْسَنَا!

وثمة قصائدُ أخرى وآثار أخرى ممتازة لشعراء وأدباء مختلفين حَرِيَّةٌ بأن تُتَرْجَمَ، كما هي حرية بأن تدرس في الغرب والشرق على السواء، كما صرح لنا غير مرة الأستاذ محمد كفافي أستاذ الأدب المقارَن بجامعة القاهرة، ولكن أنَّى لنا ذلك قبل توفير المال (وهو ميسور فعلًا) بإسهام الدول والشعوب الإسلامية المختلفة والجاليات العربية والإسلامية في أمريكا بهذه المهمة؟! ثم كيف يتيسر ويتوافر المال — وإن كان في متناول الأيدي، وإن كان المطلوب غيرَ جسيم — قبل تبديل العقليات الجامدة والنفسيات التي تحلم بالظهور من أهون طريق وبأرخصِ وسيلةٍ، بدل البذل السخي البريء لوجه الله والوطن؟!

١  عن ديوان «إيزيس» ١٩٥٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤