أبشع جريمة في الدنيا

كان الأب براون يتجوَّل في معرض لوحاتٍ بينما اكتسى وجهه بتعبيراتٍ توحي بأنَّه لم يذهب إلى هناك لإلقاء نظرةٍ على اللوحات. وبالفعل، هو لم يكن يرغب في مشاهدة اللوحات، مع أنَّه يحب اللوحات كثيرًا. ولا يعني ذلك أنَّ تلك الرسومات الحديثة للغاية كانت تتَّسم بأيِّ طابعٍ غير أخلاقي أو غير لائق؛ فالشخص ذو الطبع الشهواني هو فقط من يُستثار نحو عاطفة وثنية عند رؤية حلزوناتٍ متقاطعة ومخاريط مقلوبة وأسطوانات مُحطَّمة، أو غيرها من الرسومات التي إمَّا يُلهِم بها ذلك الفن المستقبلي البشرية أو يُهدِّدها. والحقيقة أنَّ الأب براون كان يبحث عن صديقةٍ شابة اختارت ذلك المُلتقى غير الملائم له نوعًا ما؛ لأنَّها كانت أكثر اهتمامًا بالمستقبل. وهذه الصديقة الشابة هي قريبته أيضًا، بل واحدة من أقربائه القلائل. كان اسمها إليزابيث فين، لكنَّه بُسِّط إلى «بيتي»، وهي ابنة شقيقة الأب براون والتي تزوجت من سليل عائلةٍ إقطاعية راقية صارت فقيرة لاحقًا. وحين مات زوجها وفقد ثروته، صار الأب براون بمثابة وليِّ أمر بجانب أنَّه قَسٌّ، وأصبح بمثابة وصيٍّ بالإضافة إلى كونه خالًا. وفي هذه اللحظة، كان الأب براون يجول في المعرض بعينَيه باحثًا وسط الناس الموجودين هناك دون أن يلحظ شعر ابنة أخته البُنِّي المألوف ووجهها المُشرِق. غير أنَّه رأى بعض أناسٍ كان يعرفهم، وعددًا من أناسٍ لم يكن يعرفهم، بمن فيهم بعض الأشخاص الذين لم يكن يرغب كثيرًا في معرفتهم، وذلك بِناءً على تفضيلٍ شخصيٍّ ليس إلَّا.

ومن بين أولئك الذين لم يكن القَس يعرفهم، لكنَّهم استرعوا انتباهه، شابٌّ رشيق نشيط حسن الهندام يبدو أجنبيًّا؛ لأنَّه بينما كان ذا لحيةٍ مُشذبة على شكل رمز البستوني في أوراق اللعب؛ كلحية الإسبان، فإنه كان ذا شعرٍ داكن قصير مقصوص بطريقة جعلته يبدو كقلنسوةٍ سوداء ضيقة. ومن بين أولئك الذين لم يرغب القَسُّ كثيرًا في معرفتهم سيدةٌ تبدو مهيمنةً للغاية وترتدي ثيابًا قرمزية مثيرة، بينما ينسدل حول رأسها شعرٌ أصفر أطول من أن يوصَف بأنَّه مقصوصٌ على طراز قَصَّة بوب، لكنَّه فضفاضٌ جدًّا لدرجة عدم إمكانية وصفه بأيِّ وصفٍ آخر. وتميَّز وجهها بملامح قوية حادة وبشرةٍ شاحبة سقيمة نوعًا ما، وحين تنظر إلى أيِّ شخص، كانت تبدو كأنَّها تبثُّ فيه سحر ثعبان البازيليسك الخرافي. كما يُلازمها كظِلِّها رجلٌ قصير ذو لحيةٍ كبيرة ووجهٍ عريض جدًّا وعينَين كبيرتَين ناعستَين. وكان وجهه يبدو مبتهجًا ودودًا؛ فقط حين يكون متيقِّظًا بعض الشيء، لكنَّ رقبته العريضة كانت تبدو وحشيةً قليلًا حين يُنظَر إليه من الوراء.

أخذ الأب براون يُحدِّق في السيدة، شاعرًا بأنَّ هيئة ابنة أخته وسلوكها هما نقيض ما يراه في تلك السيدة، لكنَّه واصل التحديق، دون أن يعرف لماذا، حتى شعر بأنَّ مظهر أيِّ شخص آخر سيكون مستساغًا على عكس مظهر تلك السيدة؛ لذا شعر بالارتياح، وإن كان مصحوبًا بارتجافةٍ طفيفة كأنَّه يستفيق من غفوةٍ ما، وهو يلتفت نحو صوتٍ يناديه ليرى وجه شخصٍ آخر يعرفه.

كان ذلك هو الوجه الحاد، ومع ذلك، الودود لمحامٍ يُدعى جرانبي، وقَد بدَت رُقَع الشعر الرمادي على رأسه أشبه بمسحوق على شعرٍ مُستعار؛ لأنَّها كانت غير متماشية إطلاقًا مع خفَّته وحركته الشبابية؛ إذ كان أحد رجال المدينة الذين يهرولون باستمرارٍ كالتلاميذ داخل مكاتبهم وخارجها. وصحيحٌ أنَّه لم يستطع الهرولة في معرض اللوحات المعاصرة بهذه الطريقة، لكنَّه بدا كأنَّه يريد فعل ذلك، وكان يتلفَّت حوله ببالٍ مشغول؛ بحثًا عن شخص يعرفه.

قال الأب براون مبتسمًا: «لم أكن أعرف أنَّك من أنصار الفن الحديث.»

رَدَّ عليه الآخر: «بل أنا الذي لم أكن أعلم أنَّك كذلك. لقد جئتُ هنا لأصطاد شخصًا.»

فأجاب القَسُّ: «أتمنَّى لك صيدًا موفَّقًا. لقد جئتُ للسبب نفسه تقريبًا.»

فصاح المحامي ناخرًا: «لقد قال إنَّه سيمرُّ بالقارة، وطلب منِّي أن ألتقيه في هذا المكان الغريب.» ثم راح يُفكِّر برهةً، قبل أن يقول فجأة: «أصغِ إليَّ، أعرف أنَّك تستطيع كتمان الأسرار. هل تعرف السير جون موسجريف؟»

أجاب القسُّ: «لا، لكنَّني لا أظنُّ أنَّه سرٌّ، مع أنَّهم يقولون إنَّه يُخفي نفسه في قلعةٍ. أليس هو ذلك الرجل المُسن الذي تُروى كل تلك الحكايات عن أنَّه يعيش في برجٍ ذي بوابة منزلقة وجسر متحرك، ويرفض عمومًا الخروج من تقوقعه في العصور المظلمة؟ هل هو أحد موكِّليك؟»

أجاب جرانبي سريعًا: «لا، بل أتى إلينا ابنه؛ النقيب موسجريف، لكنَّ الرجل المُسِن ذو أهميةٍ كبيرة في القضية، وأنا لا أعرفه؛ هذه هي المشكلة. أصغِ إليَّ، هذا الأمر سرِّي، كما قُلتُ، لكنِّي يُمكن أن أثق بك.» ثم خفض صوته واقتاد صديقه بعيدًا نحو غرفة عرضٍ جانبية، خالية من الناس نسبيًّا، تحتوي على لوحاتٍ لأشياء حقيقية مختلفة.

قال: «هذا الشاب موسجريف يريد أن يقترض منَّا مبلغًا ماليًّا كبيرًا على أن يُرَدَّ إلينا من ميراثه بعد وفاة والده المُسِن في نورثمبرلاند. لقد تخطَّى الرجل المُسِن السبعين منذ فترةٍ طويلة، ومن المتوقع أن يفارق الحياة في أيِّ وقت، ولكن ماذا بعد، إن جاز التعبير؟ ماذا سيحدث لأمواله وقلعته وبوابتها المنزلقة وما إلى ذلك بعد موته؟ إنَّها تركة عريقة رائعة جدًّا، وما زالت تساوي الكثير، ولكن من الغريب أنَّ أمر من ستئُول إليه لم يُحسم بعد. وهكذا صرتَ تعرفُ موقفنا. والسؤال هو، كما قال الرجل في إحدى روايات ديكنز، هل هذا الرجل المُسِن ودودٌ؟»

قال الأب براون: «إذا كان ودودًا تجاه ابنه، فستدرك ذلك، ولكن لا يمكنني مساعدتك مع الأسف؛ فأنا لم أقابل السير جون موسجريف قَط، وأعرفُ أنَّه لا يلتقي سوى قلة قليلة من الناس في الوقت الحاضر، ولكن بديهيًّا أنَّ من حقِّك معرفةَ الإجابة عن هذا السؤال قبل أن تُقرِض هذا الشاب أموال شركتك. هل هو من نوعية الأبناء الذين قد يُحرَمون من الميراث؟»

أجاب الآخر: «حسنًا، إنني متشككٌ حيال ذلك. صحيحٌ أنَّه محبوبٌ وذكي وذو مكانةٍ عظيمة في المجتمع، لكنَّه يُسافر كثيرًا خارج البلاد، فضلًا عن أنَّه صحفي.»

قال الأب براون: «حسنًا، هذه ليست جريمة. أو ليست هكذا دائمًا على الأقل.»

قال جرانبي باقتضاب: «هراء! أنت تعرف ما أقصده؛ إنَّه يُغيِّر مهنته باستمرار؛ فهو صحفيٌّ ومُحاضِر وممثل، ويمتهن كل المهن تقريبًا. يجب أن أعرف موقفي … يا إلهي، ها هو ذا.»

وفجأةً، التفت المحامي الذي كان يسير بخُطًى عنيفة في الغرفة الشاغرة نسبيًّا بنفاد صبر، واندفع راكضًا نحو الصالة الأكثر ازدحامًا؛ حيث ركض نحو الشاب الطويل الحسن الهندام ذي الشعر القصير واللحية الأجنبية.

ثم ابتعد الاثنان معًا وهما يتحادثان، وبعد ذلك ببضع لحظات، تبعهما الأب براون بعينيه البلهاوَين القصيرتي النظر، لكنَّ نظراته المُحدِّقة تحوَّلت وصُرِفت عنهما بالوصول اللاهث المبهج لابنة أخته، بيتي. وقد دُهِش خالُها حين اقتادته مرَّة أخرى إلى الغرفة الفارغة نسبيًّا وأقعدته على كرسيٍّ كان أشبه بجزيرةٍ في بحر أرضيتها.

ثم قالت: «لديَّ شيءٌ لا بدَّ أن أُخبرك به. إنَّه سخيف جدًّا لدرجة أنَّك الوحيد الذي ستفهمه.»

قال الأب براون: «لقد أقلقتِني، هل هو بخصوص الأمر الذي بدأت والدتكِ تُحدِّثني عنه؛ موضوع الخطوبة وما إلى ذلك؛ وهو ليس ما يطلق عليه المؤرِّخون العسكريون الاشتباك الشامل؟»

فقالت: «أتعرفُ أنَّها تريدني أن أُخطب للنقيب موسجريف.»

فقال الأب براون بنبرةٍ مستكينة: «لا أعرف ذلك، ولكن يبدو أنَّ النقيب موسجريف أصبح حديث الساعة.»

قالت: «بالطبع نحن فقراء جدًّا، ولا جدوى من القول إنَّ ذلك لن يُحدِث فرقًا.»

فسألها الأب براون ناظرًا إليها عبر عينيه شِبه المغلقتين: «هل تريدين الزواج به؟»

فنظرت إلى الأرض بعبوس، وأجابت بنبرة أكثر انخفاضًا:

«كنتُ أظنُّ أنني أريد ذلك. أو هذا ما أتصوره على الأقل، لكنني صُدِمت للتو.»

فقال: «إذن، أخبريني بما صَدمَكِ.»

قالت: «سمعته يضحك.»

رَدَّ قائلًا: «هذا تصرُّف اجتماعي ممتاز.»

فقالت الفتاة: «أنت لا تفهم. لم يكن تصرُّفه اجتماعيًّا على الإطلاق. وهذه هي المشكلة، إنَّه لم يكن اجتماعيًّا.»

ثم سكتَت بُرهة قبل أن تواصل بثبات: «جئتُ هنا مُبكِّرًا جدًّا، ورأيتُه يجلس وحده تمامًا مع اللوحات الجديدة وسط هذه الغرفة، التي كانت خالية من الناس تمامًا آنذاك. ولم يكن يدري بوجودي أو وجود أي شخص آخر بالقرب منه. كان يجلس وحده تمامًا، ثم ضحك.»

فقال الأب براون: «حسنًا، لا عجب في ذلك. صحيحٌ أنني لستُ ناقدًا فنيًّا بذاتي، ولكن إذا ألقينا نظرةً عامة على اللوحات المعروضة ككل …»

فقالت بغضب: «أوه، لن تفهم قصدي. لم يكن الأمر كذلك. إنه لم يكن ينظر إلى اللوحات، بل كان يحدِّق إلى السقف، ولكن بدت عيناه حولاوَين إلى الداخل وضَحِك، فارتعدتُ خوفًا.»

كان القسُّ قد قام من كرسيه وبدأ يسير في الغرفة واضعًا يديه خلف ظهره. ثم قال: «يجب ألَّا تتسرَّعي في مثل هذه الحالة. يوجد نوعان من الرجال … لكنَّنا لا نستطيع التحدُّث عنه، لأنَّه هنا.»

دخل النقيب موسجريف الغرفة بسرعة وسار فيها مبتسمًا بخفَّةٍ ونشاط. كان جرانبي، المحامي، وراءه مباشرة، وكان وجهه المتطبِّع بقسمات رجال القانون مكتسيًا بتعبيرٍ جديد ينُمُّ عن الارتياح والرضا.

قال المحامي للقس وهما يتجهان نحو باب الغرفة: «يجب أن أعتذر عن كلِّ ما قلته عن النقيب. إنَّه شخصٌ عقلانيٌّ جدًّا، ويتفهَّم وجهة نظري تمامًا؛ إذ اقترح عليَّ بنفسه أن أسافر إلى الشمال وأزور والده المُسِن كي أسمع من فم الرجل وضع الميراث. حسنًا، لا يمكنه أن يقترح شيئًا أكثر إنصافًا من هذا، أليس كذلك؟ لكنَّه حريص جدًّا على حسم هذه المسألة لدرجة أنَّه عَرَض عليَّ أن يوصلني سائقه بسيارته الخاصة إلى «موسجريف موس». هذا هو اسم القلعة. فاقترحتُ عليه، إذا تَكرَّم، أن نذهب معًا، وسنبدأ رحلتنا صباح غد.»

وبينما كانا يتحدثان، اتجهت بيتي والنقيب نحو باب الغرفة، مُشكِّلَين في إطاره صورةً قد يكون البعض عاطفيًّا بما يكفي ليُفضِّلها على رسومات المخاريط والأسطوانات. وبغض النظر عن أوجه التشابه الأخرى بينهما، كان كلاهما حسن المظهر، ونُقِل الحديث بين المحامي والأب براون إلى ملاحظةٍ عن الواقع، حين تغيَّرت تلك الصورة فجأة.

نظر النقيب جيمس موسجريف إلى صالة العرض الرئيسية، وحدَّق بعينيه الضاحكتَين المُبتهجتَين بانتصارٍ ما إلى شيءٍ بدا أنَّه بدَّل حاله تمامًا من شعر رأسه إلى أَخْمَص قدميه. تفحَّص الأب براون الصالة بعينيه كأنَّه يشعر سلفًا بوقوع خَطبٍ ما، ورأى الوجه المُنكب والعابس وصاحبته المرأة الضخمة ذات الثياب القرمزية؛ حيث يكاد الشرر يتطاير من وجه المرأة تحت شعرها الأصفر المُحيط برأسها كشعر الأسد. كانت هذه المرأة دائمًا ما تقف بانحناءة طفيفة، مثل ثورٍ يخفض قرنيه، وكان تعبير وجهها الشاحب طاغيًا ومنوِّمًا جدًّا لدرجة أنَّهم كانوا لا يكادون يرون الرجل القصير ذا اللحية الكبيرة الذي كان واقفًا بجوارها.

تقدَّم موسجريف إلى وسط الصالة نحو هذه المرأة، كأنَّه تمثالٌ شمعي حسن الهندام صار قادرًا على السير. وقال لها بضع كلماتٍ لم يسمعها أحد. ولم ترد عليه، لكنَّهما التفتا معًا، وسارا في الصالة الطويلة وبدا أنَّهما يتجادلان، فيما كان الرجل القصير المُلتحي ذو الرقبة العريضة يسير خلفهما كأنَّه وحشٌ غريبٌ يعمل خادمًا لدى تلك المرأة.

تمتم الأب براون وهو يُحدِّق إليهم بعبوس قائلًا: «فليحفظنا الله! من هذه المرأة الغريبة؟»

رَدَّ جرانبي بتهكُّمٍ متشائم: «يُسعدني القول إنَّها ليست صديقتي؛ إذ يبدو أنَّ إبداء القليل من المغازلة تجاهها قد ينتهي نهايةً قاتلة، أليس كذلك؟»

قال الأب براون: «لا أظنُّ أنه يغازلها.»

وبينما كان يتكلم، التفتَ الثلاثة، موسجريف والمرأة والرجل الذي يسير خلفهما، عند نهاية المعرض، ثم انفصل النقيب عنهما، وعاد إلى الأب براون والمحامي بخطواتٍ متسارعة.

وصاح متحدثًا بنبرةٍ طبيعية جدًّا مع أنَّهما شعرا بأنَّ لون بشرته تغيَّر: «أصغِ إليَّ، أعتذر بشدة يا سيد جرانبي؛ فأنا لن أستطيع أن أسافر إلى الشمال معك غدًا، لكنَّك ستستقلُّ السيارة كما اتفقنا. أرجو أن تذهب إلى هناك، لم أكن أريد ذلك، لكنني مضطرٌّ إلى البقاء في لندن بضعة أيام. يُمكنك أن تصحب معك صديقًا إذا شئت.»

قال المحامي: «هذا صديقي، الأب براون …»

قال الأب براون بجدية: «إذا تكرَّم النقيب موسجريف، يمكنني أن أوضح أنَّ لديَّ سببًا وجيهًا للمشاركة في تحرِّيات السيد جرانبي، وسيرتاح بالي كثيرًا إذا ذهبتُ معه.»

هذا ما حدث بالفعل؛ إذ انطلقَت في اليوم التالي سيارةٌ فارهة يقودها سائقٌ أنيق؛ باتجاه الشمال وسط براري مقاطعة يوركشاير مُقِلَّةً حمولةً غريبة متمثلة في قسٍّ أشبه بصُرَّة سوداء، ومحامٍ اعتاد الهرولة على قدميه لا التحرُّك على عجلات سيارة شخص آخر.

أخذوا استراحةً رائعة جدًّا في أحد الأودية العظيمة في الدائرة الغربية للمقاطعة، حيث تناولوا العشاء وناموا في نُزُلٍ مريح، واستأنفوا رحلتهم في وقتٍ مبكر من اليوم التالي؛ إذ تحركوا على طول ساحل نورثمبرلاند حتى وصلوا إلى بلدة كانت أشبه بمتاهةٍ من الكثبان الرملية والمستنقعات المِلحية الكثيفة التي تقع وسطها القلعة الحدودية القديمة التي ظلَّت مَعلمًا تذكاريًّا فريدًا للغاية، لكنَّه محتفظٌ بأسراره، باقيًا من النزاعات الحدودية القديمة. وقد وصلوا أخيرًا بعدما سلكوا مسارًا يمتد بجانب ذراع بحريَّة طويلة تشق البر، ويئول في النهاية إلى قناةٍ عفنة تنتهي بخندقٍ مائيٍّ محيط بالقلعة. كانت القلعة في الواقع مبنية على الطراز المربَّع المحاط بسورٍ مكلَّلٍ من الأعلى بشُرفاتٍ مُفرَّجة؛ كالذي شيَّد به النورمان قلاعهم في كلِّ مكان، من منطقة الجليل في شرق البحر المتوسط إلى جبال جرامبيانز في اسكتلندا. وكانت مزوَّدة بالفعل ببوابة منزلقة رأسية وجسرٍ مُتحرِّك، ثم انفصلوا عن سحر المشهد بواقعيةٍ شديدة بسبب حادثة أخَّرت دخولهما.

لقد خاضوا وسط عُشبٍ خشن طويل ونباتاتٍ شائكة حتى وصلوا إلى ضفة الخندق المائي الذي كان يحيط بالقلعة مُشكِّلًا شريطًا أسودَ مكتسيًا بأوراق نباتٍ ميتة وبعض الغثاء، مثل خشب أبنوس مرصَّع بزخرفةٍ ذهبية. وعلى بُعد ياردة أو اثنتين على الجانب الآخر من ذلك الشريط الأسود تقع الضفة الخضراء الأخرى والأعمدة الحجرية الكبيرة للبوابة، ولكن بدا أنَّه نادرًا جدًّا ما كان أيُّ أحدٍ يقترب من تلك البوابة من الخارج، لدرجة أنَّ جرانبي حين صاح من خلالها بنفاد صبرٍ في الأشخاص ذوي الهيئات القاتمة الذين كانوا واقفين خلفها، بَدا أنَّهم وجدوا صعوبةً كبيرة حتَّى في إنزال الجسر المتحرك الكبير الصدئ؛ إذ بدأ الجسر في الحركة، ونزل من وضعيته المرتكزة بالأعلى كبرج شاهق يميل فوقهما، ثم علقَ في الهواء مائلًا بزاوية تجعله عُرضةً للنزول في أيِّ لحظة.

صاح جرانبي الذي نفد صبره وهو يتقافز على الضفة قائلًا لصاحبه:

«أوه، لا أستطيع تحمُّل هذه الطرق الموحلة! يا إلهي، سيكون الوضعُ أقلَّ صعوبةً إذا قفزنا.»

ثم قفز باندفاعه المعتاد، وهبط بترنُّحٍ طفيفٍ على البرِّ الداخلي. ولم تكن ساقا الأب براون القصيرتان مهيأتَين للقفز، لكنَّه كان أكثر تكيُّفًا من معظم الناس مع السقوط في مياهٍ موحلة للغاية مُحدِثًا صوت ارتطامٍ قويًّا. وبفضل سرعة بديهة رفيقه نجا من الغوص إلى عمقٍ أكبر، ولكن بينما كان رفيقه يسحبه على الضفة الخضراء اللزجة، توقف القسُّ حانيًا رأسه ومُحدِّقًا إلى نقطةٍ معينة على المنحدر العُشبي.

سأله جرانبي بانفعال: «هل تدرسُ النباتات؟ ليس لدينا متَّسعٌ من الوقت لجمع النباتات النادرة بعد محاولتك الأخيرة للغطس بين عجائب الأعماق كالغوَّاصين. هيا بنا، سواءٌ كنت ملطخًا بالوحل أم لا، يجب أن نقابل البارون.»

وحين دخلا القلعة، استقبلهما خادمٌ عجوز، وهو الشخص الوحيد الذي ظهر في مرمى بصرهما، بلُطفٍ بالغ، وبعدما أوضحا سبب مجيئهما، قادهما إلى غرفةٍ طويلة ذات جدران مكسوَّة بالألواح البَلُّوطِية وبها نوافذ شبكية ذات طرازٍ عتيق. وكانت تحتوي على أسلحةٍ منتمية إلى قرونٍ مختلفة ومُعلَّقة بأنماطٍ متناظرة على الجدران الداكنة، بينما كانت توجد حُلَّة حديدية واقية من القرن الرابع عشر تقف كالحارس بجانب المدفأة الكبيرة. وفي غرفة طويلةٍ أخرى استطاعا رؤيتها من الداخل، عبر بابٍ نصف مفتوح، كانت توجد صفوفٌ داكنة من صور العائلة.

قال المحامي: «أشعر بأنني دخلت روايةً وليس منزلًا. لم أتوقَّع أنَّ أي شخص يُمكنه أن يُضاهي رواية «أسرار أودلفو» هكذا.»

قال القس: «نعم، لا شكَّ أنَّه لم يتخلَّ عن هوسه بالأشياء التاريخية، فضلًا عن أنَّ هذه الأشياء ليست مُقلَّدة أيضًا، بل أصلية. وهذا أمرٌ يفعله شخصٌ يعي جيِّدًا أنَّ الناس في العصور الوسطى لم يعيشوا جميعًا في الفترة نفسها. أحيانًا ما كانوا يصنعون حُلَّاتٍ حديدية واقية من قِطَعٍ مختلفة، لكنَّ هذه الحُلَّة كلَّها كانت تُغطِّي رجلًا واحدًا، بل وكانت تغطيه تمامًا. كما ترى، إنَّها من نوعية دروع المبارزة التي ظهرت في فترةٍ زمنية متأخرة.»

قال جرانبي متذمرًا: «في الواقع، أظنُّ أنَّه من نوعية المضيفين الذين يتأخَّرون على ضيوفهم. إنه يدعنا نُمضي وقتًا طويلًا عصيبًا في انتظاره.»

قال الأب براون: «يجب أن تتوقَّع أن يسير كل شيء ببطء في مكان كهذا. أظنُّها لفتةً مُهذَّبةً جدًّا منه أنَّه وافق في الأساس على مقابلتنا، ونحن غريبان أتيا ليسألاه أسئلةً شخصية للغاية.»

بالطبع حين ظهر صاحب البيت، لم يكن لديهم مُبرِّرٌ للشكوى من طريقة استقبالهما، بل أدركا طابعًا أصليًّا في تقاليد التربية الحسنة والسلوك التي استطاعت الاحتفاظ بجلالها الأصيل بسلاسةٍ في هذه العزلة البربرية، وبعد تلك السنوات الطويلة من الجمود والكآبة. لم يكن البارون متفاجئًا ولا مُحرَجًا من هذه الزيارة النادرة، مع أنَّهما ظنَّا أنَّه لم يستقبل شخصًا غريبًا في منزله منذ فترة تُقدَّر برُبع عمره، بل تصرَّف كأنَّه كان يُحيِّي بعض السيدات النبيلات قبل بضع لحظات. ولم يُبدِ أيَّ خجلٍ أو نفاد صبر حين أخبراه بالمسألة الشخصية جدًّا التي أتت بهما إليه، بل بدا، بعد قليلٍ من التفكير المتأنِّي، أنَّه أدرَك أنَّ فضولهما مُبرَّرٌ في ظل هذه الظروف. كان رجلًا عجوزًا نحيلًا حاد الملامح ذا حاجبَين أسودَين وذقنٍ طويل، ومع أنَّ الشعر المموَّج بعناية الذي يضعه على رأسه كان شعرًا مستعارًا بلا شك، فقد كان الرجل حكيمًا بما يكفي لأنَّه اختاره رماديًّا يتسق مع سنِّه الكبيرة.

قال: «بخصوص السؤال المُلحِّ الذي يشغلك، فالإجابة بسيطةٌ للغاية في الواقع. أعتزم بالتأكيد توريث ابني كلَّ ممتلكاتي، كما ورَّثني والدي إيَّاها، ولا شيء — وأقول ذلك بعد تفكيرٍ عميق متأنٍّ — لا شيء قد يدفعني إلى أن أحيد عن ذلك القرار.»

أجاب المحامي: «إنني ممتنٌّ للغاية لهذه المعلومة، لكنَّ لطفك يشجعني على القول إنَّك تقولها بجزمٍ قاطع. ولا أقصد أنَّ ثَم احتمالًا ضعيفًا أن يفعل ابنك أيَّ شيءٍ يجعلك تشكُّ في جدارته بهذا الميراث. لكنَّه ربما …»

قال السير جون موسجريف بنبرةٍ جادة: «بالضبط. بل إنَّ كلمة «ربما» لا تُوفِّي الحقيقة قدرها. هلَّا تتكرَّم وتأتي معي إلى الغرفة المجاورة لحظة.»

قادهما إلى الغرفة الأخرى، التي ألقيا نظرةً خاطفة على ما بداخلها بالفعل عبر بابها نصف المفتوح قبل قليل، وتوقَّف الثلاثة بجِدِّيةٍ أمام صفٍّ من الصور القاتمة التي تُظهِر وجوهًا عابسة.

قال مُضيفهما مشيرًا إلى صورة شخصٍ ذي وجه طويل وشعرٍ مستعار أسود: «هذا هو السير روجر موسجريف. كان واحدًا من أحقر الكاذبين والأوغاد في الحقبة المنحطَّة لوليام أمير أورانج؛ إذ خان مَلِكَين ويُمكن القول إنَّه قَتل زوجتَين. وهذا والده، السير روبرت، الفارس العجوز الأمين. أمَّا هذا، فهو ابنه السير جيمس، أحد أنبل الشهداء اليعاقبة وأحد أوائل الرجال الذين حاولوا دفع بعض التعويضات للكنيسة والفقراء. فهل يهتمُّ آل موسجريف بانتقال قوَّتهم وشرفهم وسلطتهم من فردٍ صالح إلى فردٍ صالح آخر عَبر فاصلٍ زمني يشغله فردٌ طالح؟ لقد حَكم إدوارد الأول إنجلترا حُكمًا رشيدًا. وكساها إدوارد الثالث بالمجد. ومع ذلك، انتقلت إنجلترا من الحقبة المجيدة الأولى إلى الحقبة المجيدة الثانية عبر عار وبلاهة إدوارد الثاني، الذي تملَّق جافستون وهرب من بروس، وحماقته. صدِّقني يا سيد جرانبي، إنَّ عظمة الأُسَر العظيمة والتاريخ أكبر من هؤلاء الأفراد العابرين الذين ينتسبون إليها، مع أنَّهم لا يشرِّفونها. لقد انتقل إرثنا من الآباء إلى الأبناء، وسيظلُّ ينتقل على هذا المنوال؛ لذا يمكنكما أن تَطمئِنَّا أيُّها السيدان، وتُطَمئنا ابني بأنني لن أترك أموالي لأحد ملاجئ القطط الضالة. سيظلُّ إرثُ آل موسجريف ينتقل من آبائهم إلى أبنائهم حتى يوم القيامة.»

قال الأب براون بنبرةٍ توحي بتفكيرٍ عميق: «حسنًا، أفهم قصدك.»

وقال المحامي: «ويسرنا للغاية أن ننقل هذه البُشرى المُطَمئنة إلى ابنك.»

قال مضيفهم بنبرةٍ حادة: «يمكنكم نقل البُشرى المُطَمئنة. إن حصوله على القلعة واللقب والأرض والأموال مضمونٌ مهما حدث، ولكن ثَم مجرَّد إضافةٍ صغيرة شخصية إلى هذا القرار؛ وهي أنني لن أخاطبَه طوال حياتي تحت أي ظرف.»

ظلَّ المحامي مُلتزمًا بسلوكه الذي يُبدي احترامه لمضيفه، لكنَّه الآن أخذ يحدِّق فيه باحترام أيضًا.

وقال: «لماذا؟ ماذا فعل بحقِّ الله …؟»

قال موسجريف: «لستُ شخصيةً عامة لأتناقش مع عموم الناس فضلًا عن أنني وصيٌّ على ميراثٍ عظيم. خُلاصة القول أنَّ ابني ارتكب فعلًا فظيعًا لدرجة أنَّه لم يعُد — لن أقول رجلًا نبيلًا — بل لم يعد حتى إنسانًا. إنها أبشع جريمة في الدنيا. هل تتذكران ما قاله دوجلاس عندما طلب مارميون، ضيفه، أن يصافحه؟»

قال الأب براون: «نعم.»

قال موسجريف: «لقد قال: «إن قلاعي مِلكُ مَلِكي وحده، من أبراجها إلى أساساتها. أمَّا يد دوجلاس فمِلكه وحده».»

ثم اتجه نحو الغرفة الأخرى مُديرًا ظهره لضيفَيه المشدوهَين نوعًا ما.

وقال بنفس الأسلوب الرصين: «آمل أن تتناولا بعض المشروبات المنعشة. وإذا لم تحسما أمر سفركما، يسعدني أن أستضيفكما في قلعتي الليلة.»

قال القسُّ بنبرةٍ فاترة: «شكرًا لك أيُّها السير جون، لكنني أظنُّ أنَّنا يُستحسن أن نذهب.»

قال مضيفهما: «سأُنزِل الجسر المتحرِّك حالًا.» وفي غضون بضع لحظات، ملأ صريرُ هذا الجهاز الضخم العتيق إلى حدٍّ مذهل أرجاء القلعة كصرير طاحونة. ومع أنَّه كان ما يزال صدئًا، نزل بنجاحٍ هذه المرة، وأصبحا واقفَين مرَّة أخرى على الضفة العُشبية خارج الخندق المائي.

ارتجف جرانبي فجأةً بقُشَعْريرةٍ سرت في جسده.

وصاح قائلًا: «أي فعلة جهنمية ارتكبها ابنه يا ترى؟»

لم يَرد الأب براون، ولكن حين انطلقا مرَّةً أخرى في السيارة، وواصلا رحلتهما إلى قريةٍ غير بعيدة تُسمَّى جرايستونز، حيث نزلا في نُزُل «سِفِن ستارز»، فوجئ المحامي قليلًا حين اقترح القس ألَّا يسافرا أبعد من ذلك؛ وبعبارةٍ أخرى، يبدو أنَّه كان يعتزم البقاء بالقرب من القلعة.

قال القسُّ بنبرةٍ جادة: «لا أستطيع إقناعَ نفسي بالاكتفاء بهذا القدر والرحيل. سأطلب من السائق أن يعود بالسيارة، ويمكنك بالطبعِ أن تعود معه؛ إذ إنك قد تلقيتَ إجابةً عن سؤالك، الذي كان يُركِّز ببساطةٍ على مدى إمكانية وثوق شركتك في السيد موسجريف الشاب وإقراضه المال بناءً على إمكاناته المالية المستقبلية، لكنَّني لم أتلقَّ إجابةً عن سؤالي: هل سيكون زوجًا مُناسبًا لبيتي أم لا؟ يجب أن أحاول اكتشاف ما إذا كان قد ارتكب فعلًا فظيعًا حقًّا، أم أنَّ الأمر برمته مجرد وهمٍ في رأس رجلٍ عجوز مجنون.»

قال المحامي معترضًا: «ولكن إذا كنت تريد معرفة المزيد عنه، فلماذا لا تلاحقه وتواجهه بنفسك؟ ما الذي يدفعك إلى إهدار وقتك في التسكُّع حول هذه الحفرة المقفرة التي لا يأتي إليها إلا نادرًا؟»

سأله الآخر: «ما الجدوى من ملاحقتي إيَّاه؟ ليس من المنطقي أن تذهب إلى شابٍّ عصري أنيق في شارع بوند ستريت وتقول له: «معذرةً، هل ارتكبت جريمة شنعاء؛ لا يمكن لإنسانٍ أن يرتكبها؟» لأنَّه إذا كان خبيثًا بما يكفي لارتكابِ جُرمٍ كهذا، فسيكون خبيثًا بما يكفي لإنكاره بكلِّ تأكيد. ونحن حتى لا نعرف ما هو هذا الفعل. كلَّا، هناك رجلٌ واحد فقط يعرف، وربما يتفوَّه بها في نوبة انحرافٍ نبيلةٍ أخرى عن تحفُّظه المعتاد. سأبقى بالقرب منه حاليًّا.»

وبالفعل، ظلَّ الأب براون بالقرب من البارون الغريب الأطوار، وقابله أكثر من مرَّة، واتَّسمت لقاءاتهما بأقصى تأدُّبٍ من الرجلَين. وقد كان البارون، بالرغم من شيخوخته، نشيطًا جدًّا ومحبًّا للتجوال، وكثيرًا ما كان يُرى وهو يتسكَّع في القرية وعلى الطُّرُقات الريفية. وفي اليوم التالي لوصول الأب براون وصديقه المحامي، رأى القسُّ، الذي خرج من النُّزُل آنذاك قاصدًا السوق المرصوف بالحصى، ذاك الشخص المُميَّز ذا الثياب القاتمة يخطو خطًى واسعة بعيدًا باتجاه مكتب البريد. كان يرتدي ثيابًا سوداء بالكامل، لكنَّ وجهه القوي كان أشدَّ لفتًا للأنظار في ضوء الشمس الساطع، وبدا، بشعره الفضي وحاجبَيه الداكنَين وذقنه الطويل، أنَّه يحمل طابعًا يُذكِّر من يراه بالممثل هنري إيرفينج، أو ممثلٍ شهير آخر. وبالرغم من شعره الأشيب، كانت هيئته وقسمات وجهه توحي بالقوة، وكان يحمل عصاه كأنَّها هراوة وليست عُكَّازًا. وقد حيَّا القسَّ، ثم تطرَّق إلى صُلب الموضوع مباشرةً بلا خوف كما فعل البارحة.

قال مُستخدمًا كلماته بلامبالاةٍ شديدة البرود: «إذا كنت ما تزال مهتمًّا بابني، فلن تجده هنا. لقد غادر البلاد للتو. وبيني وبينك، لقد فرَّ منها على وجه الدقة.»

حدَّق الأب براون بجدية قائلًا: «حقًّا!»

قال السير جون: «بعض الأشخاص الذين لم أسمع بهم مطلقًا، ويُدعون آل جرونوف، يزعجونني، أنا تحديدًا من بين جميع الناس، بأسئلتهم المتكررة عن مكان وجوده، وقد أتيتُ للتو لإرسال برقيةٍ أخبرهم فيها بأنَّه، على حد علمي، يعيش في مدينة ريجا بلاتفيا. وحتى ذلك يمثل مصدرًا للإزعاج. وقد جئتُ البارحة لإرسال البرقية، لكنِّي وصلت متأخرًا عن موعد إغلاق مكتب البريد بخمس دقائق. هل ستمكث هنا طويلًا؟ آمل أن تزورني مرَّة أخرى.»

وحين حكى القسُّ للمحامي تفاصيل لقائه القصير بموسجريف العجوز في القرية، أبدى المحامي مزيجًا من الحيرة والاهتمام؛ لقد تساءل قائلًا: «لماذا هرب النقيب؟ ومَن أولئك الأشخاص الآخرون الذين يريدونه؟ ومَن هُم آل جرونوف يا تُرى؟»

أجاب الأب براون: «بخصوص السؤال الأول، فلا أعرف إجابته. وبالنسبة إلى السؤال الثاني فربما افتُضِح أمرُ خطيئته الغامضة. وأظنُّ أنَّ أولئك الأشخاص يبتزُّونه بها. أمَّا السؤال الثالث، فأظنُّ أنِّي أعرف إجابته. تلك المرأة السمينة المُخيفة ذات الشعر الأصفر تُدعى السيدة جرونوف، ويبدو أنَّ ذلك الرجل القصير الذي كان يلازمها زوجها.»

وفي اليوم التالي، دخل الأب براون غرفته في النُّزُل مُتعبًا بعض الشيء، وألقى مظلَّته السوداء المحزومة من يده مثل حاجٍّ يضع عصاه. وكان يبدو عليه بعض الاكتئاب، لكنَّه لم يكن اكتئاب الفشل بل اكتئاب النجاح، الذي كثيرًا ما كان يظهر عليه في تحرِّياته الجنائية.

قال بصوت فاتر: «إنَّها صدمة، ولكن كان يجب أن أخمِّن ذلك. كان يجب أن أخمِّن ذلك منذ أوَّل وهلةٍ دخلت فيها تلك الغرفة ورأيت ذاك الشيء واقفًا هناك.»

سأله جرانبي بفارغ الصبر: «رأيتَ ماذا؟»

أجاب الأب براون: «حين رأيتُ حلَّةً حديدية واقية واحدة.» ثم خيَّم صمتٌ مُطبِق لم يفعل فيه المحامي شيئًا إلَّا التحديق إلى صديقه، قبل أن يستأنف صديقه قائلًا:

«في ذلك اليوم الذي التقينا فيه في المعرض، كنتُ سأقول لابنة أختي إنَّ هناك نوعين من الرجال الذين قد يضحكون حين يكونون بمفردهم. إذ يكاد المرءُ يجزِم بأنَّ مَن يفعل ذلك يكون إما رجلًا صالحًا جدًّا وإما شديد الخبث. أتفهمني؟ أقصدُ أنَّه إمَّا يبوح بسر ضحكته إلى الله وإما يبوح به إلى الشيطان. ولكن على أي حال، هذا الرجل لديه جوانب خفية في حياته. حسنًا، يوجد بالفعل نوع من الرجال الذين يبوحون بمزحة للشيطان. ولا يُبالون بعدم وجود أيِّ شخصٍ آخر يسمع هذه المزحة، أو يُسمَح له حتى بمعرفتها دون أن يمسَّه أذًى. بل تكون المزحة كافيةً في حدِّ ذاتها، إذا كانت تتسم بقدرٍ كافٍ من الشرِّ والخُبث.»

سأله جرانبي: «ولكن ما الذي تقصده؟ ومَن الذي تقصده؟ أعني أيَّ نوعٍ منهما؟ ومن ذا الذي باح بمزحة شرِّيرة لجلالة الشيطان؟»

نظر الأب براون إليه من الجهة الأخرى بابتسامةٍ مُخيفة.

وقال: «أوه، هذه هي المزحة.»

ثم حلَّ صمتٌ آخر، لكنَّه بدا هذه المرَّة ممتلئًا وثقيلًا على النفس وليس مجرد صمت فارغ؛ إذ بدا أنَّه يُخيِّم عليهما كالشفق الذي كان يتحول تدريجيًّا آنذاك من الغسق إلى ظلام الليل. وواصل الأب براون حديثه بنبرةٍ رزينة هادئة، فيما كان جالسًا على كرسيه بثبات ومرتكزًا بمرفقيه على الطاولة.

قال: «لقد تحرَّيتُ عن سلالة آل موسجريف. إنَّهم أناسٌ أصحَّاء ومُعمَّرون، وحتى لو كانوا عاديين كبقية الناس، فأظنُّ أنَّك ستنتظر وقتًا طويلًا لاسترداد أموالك.»

قال المحامي: «نحن على استعدادٍ تام لهذا، ولكن على أي حال، فلن يدوم هذا الوضع إلى الأبد؛ إذ يبلغ الرجل العجوز ثمانين عامًا تقريبًا، مع أنَّه ما زال يتسكَّع في الطُّرُقات، والناس في النُّزُل هنا يسخرون ويقولون إنَّهم يظنون أنَّه لن يموت أبدًا.»

هَبَّ الأب براون ناهضًا في واحدةٍ من حركاته النادرة السريعة، لكنَّه ظلَّ مرتكزًا بيديه على الطاولة، وأصبح مائلًا إلى الأمام وناظرًا إلى عينَي صديقه.

وقال بصوتٍ خفيض لكنَّه منفعل: «بالضبط. هذه هي المشكلة الوحيدة. وهذه هي الصعوبة الحقيقية الوحيدة. كيف سيموت؟ كيف يُمكن أن يموت بحقِّ الله؟»

سأله جرانبي: «ماذا تقصد بحقِّ الله؟»

دَوَّى صوت القسِّ في الغرفة التي كان الظلام يُخيِّم عليها: «أقصد أنني أعرف الجريمة التي ارتكبها جيمس موسجريف.»

كانت نبرته تحمل طابعًا مُخيفًا لدرجة أنَّ جرانبي لم يستطع كبت رجفة سرت في جسده حين سمعها، وتمتم بسؤالٍ آخر.

قال الأب براون: «لقد كانت أبشع جريمةٍ في الدُّنيا حقًّا. أو هكذا يعتبرها العديد من المجتمعات والحضارات على الأقل. ودائمًا ما كان مصير مرتكبها في القبائل والقرى العقاب الشديد منذ قديم الأزل، لكن على أي حال، أعرفُ الآن ما فعله الشاب موسجريف بالفعل والسبب الذي دفعه إلى ذلك.»

سأله المحامي: «وماذا فعل؟»

أجاب القس: «لقد قتل أباه.»

وهنا نهض المحامي هو الآخر من كرسيه وحدَّق إلى صديقه عبر الطاولة بحاجبَين مقطبَين.

وصاح بنبرةٍ حادة: «لكنَّ أباه في القلعة.»

قال القس: «بل في الخندق المائي، وقد كنتُ أحمقَ لأنني لم أتفَطَّن إلى ذلك منذ الوهلة الأولى التي انتابني فيها شعورٌ مُريب حيال تلك الحلة الحديدية الواقية. ألا تتذكرُ منظر تلك الغرفة؟ ومدى دقة ترتيب محتوياتها وزينتها؟ كانت تحتوي على بَلطتَين حربيتَين متقاطعتَين مُعلَّقتَين على أحد جانبَي المدفأة؛ وبَلطتَين حربيتَين متقاطعتَين مُعلَّقتَين على جانبها الآخر. كما تحتوي على درع اسكتلندية مستديرة مُعلَّقة على أحد الجدران؛ ودرع اسكتلندية مستديرة معلَّقة على الجدار المُقابل. وهناك حُلَّة حديدية واقية تحرس أحد جانبي المدفأة، وحيِّزٌ فارغٌ على الجانب الآخر. لا شيء سيُقنعني بأنَّ الرجل الذي رتَّب كل المحتويات الأخرى في تلك الغرفة بهذا التناظر المُفرِط قَد تَرَك هذا الشيء الوحيد بلا نظيرٍ يُكافئه؛ لذا فمن المؤكَّد أنَّ الغرفة كانت تشمل حُلَّة حديدية واقية أخرى. فماذا حدث لها يا تُرى؟»

ثم سكت بُرهةً، قبل أن يواصل كلامه بنبرةٍ أكثر واقعية: «إذا أمعنت التفكير فيها؛ فستجد أنَّها خطةٌ مُحكمة للقتل، وتحلُّ المعضلة الدائمة المتمثِّلة في كيفية التخلُّص من الجثة؛ إذ وقفت الجثة داخل تلك الحُلَّة الحديدية الواقية الكاملة لساعاتٍ، أو ربما أيَّام، بينما كان الخُدَّام يمرُّون عليها ذهابًا وإيابًا، حتى استطاع القاتل سحبها خارج القلعة في أحلك ظُلُمات الليل وألقاها في الخندق المائي، دون أن يعبر الجسر المتحرك حتى. وبعدئذٍ؛ يا لها من فرصة رائعة للإفلات بجريمته! فحالما تتحلَّل الجثة تمامًا في المياه الآسنة، لن يتبقى عاجلًا أو آجلًا سوى هيكلٍ عظمي في حُلَّة حديدية واقية من القرن الرابع عشر، وهذا شيءٌ من الوارد جدًّا العثور عليه في خندقٍ مائي محيط بقلعةٍ حدودية قديمة. صحيحٌ أنَّه من المستبعد أن يبحث أيُّ شخصٍ عن أيِّ شيء هناك، ولكن حتى لو حدث ذلك، فسرعان ما سيكون هذا هو كلَّ ما سيعثُر عليه. وقد وجدتُ بعض العلامات التي تؤكِّد ذلك. كنتُ أنظرُ إليها حين سألتني عمَّا إذا كنتُ أبحث عن نبات نادر، ويُمكن القولُ إنَّها كانت أشبه من نواحٍ عديدة بنباتٍ مغروس في الأرض، إذا كنتَ ستسامحني على هذه الدعابة. إذ رأيتُ آثار قدمَين محفورتَين عميقًا في أرض الضفة الصلبة، وتيقَّنتُ حينئذٍ من أنَّ صاحبها إمَّا كان ثقيلًا جدًّا أو كان يحمل شيئًا ثقيلًا جدًّا. وبالمناسبة أيضًا، هناك استنتاجٌ آخر خرجت به من تلك الحادثة البسيطة التي وقعت حين قفزتُ قفزتي الرشيقة الرائعة الشبيهة بقفزة الهِررة.»

قال جرانبي: «ذهني مشوشٌ بعض الشيء، لكنِّي بدأت أفهم بعضًا من تفاصيل هذا الكابوس. ما الاستنتاجُ الآخر الذي توصَّلتَ إليه، وما علاقته بقفزتك الشبيهة بقفزة الهِررة؟»

قال الأب براون: «تيقَّنتُ على نحو غير رسمي، في مكتب البريد اليوم، من صحة ما ذكره لي البارون البارحة، حين قال إنَّه ذهب إلى المكتب بعد موعد إغلاقه مباشرةً أول أمس، أي إنَّه كان هناك في اليوم نفسه الذي وصلنا فيه إلى القلعة، بل وفي الوقت نفسه أيضًا. ألا تفهم ما يعنيه ذلك؟ يعني أنَّه كان خارج القلعة بالفعل حين دخلناها، وعاد إليها بينما كُنَّا ننتظره؛ ولذا انتظرناه طويلًا. وحين عرفتُ ذلك، تراءت أمام عيني صورةٌ وضَّحت كل شيء.»

سأله الآخر بفارغ الصبر: «حسنًا، وما هي؟»

قال الأب براون: «يستطيع رجلٌ عجوز في الثمانين من عمره المشي. بل ويستطيع أنَّ يمشي لفترات طويلة، ويتسكَّع في الطُّرُقات الريفية، لكنَّ الرجل العجوز لا يستطيع القفز. إذ كانت قفزته ستكون أقلَّ رشاقةً من قفزتي حتى، ولكن إذا سلَّمنا بأنَّ البارون قد عاد إلى القلعة بينما كُنَّا في انتظاره، فلا بد أنَّه دخلها مثلما دخلناها — بالقفز عبر الخندق المائي — لأنَّ الجسر المتحرك لم يُنزَل إلَّا لاحقًا. وأظنُّ أنَّه عاق الجسر بنفسه ليؤخِّر دخول أيِّ زوَّارٍ قادمين في وقتٍ غير ملائم، وذلك بناءً على السرعة التي أُصلِح بها، لكنَّ هذا غير مهم. وحالما تراءت أمام عيني تلك الصورة الخيالية لشخصٍ أسود الثياب ذي شعرٍ رمادي يقفز قفزةً طائرة عبر الخندق المائي، أدركت فورًا أنَّه شابٌّ يرتدي ثياب رجلٍ عجوز. وحينئذٍ، اتضح كلُّ شيء.»

قال جرانبي ببطء: «أتقصدُ أنَّ الشاب الجذَّاب قتل أباه، وأخفى جثته أولًا في الحُلَّة الحديدية الواقية، ثم ألقاها في الخندق، ثم تنكَّر، وتوالت الأمور؟»

قال القسُّ: «لقد تصادف أنَّ ملامح موسجريف الشاب كانت نسخةً طبق الأصل تقريبًا من ملامح أبيه. ويمكنك أن ترى من خلال صور العائلة مدى قوة الشبه بينهما. ثُم ها أنت تقولُ إنَّه تنكَّر. ولكن من منظورٍ معين، يُمكن القول إنَّ الجميع يرتدي أدوات تنكرية؛ فالرجل العجوز كان متنكرًا بشعرٍ مستعار، والشاب كان متنكرًا بلحيةٍ أجنبية. وحين حلق الشاب شعره ووضع على رأسه شعرًا مستعارًا، بدا كأبيه بالضبط، مع إضافة القليل من مستحضرات التجميل. ولعلَّك صرتَ تُدرِك الآن، بالطبع، لماذا كان لطيفًا جدًّا وعَرَض عليك الذهاب إلى القلعة بسيارته في اليوم التالي؛ ذلك لأنَّه كان يعتزم الذهاب في تلك الليلة بالقطار. لقد سبقك إلى هناك، وارتكب جريمته، وانتحل شخصية أبيه، وصار جاهزًا للنقاش القانوني.»

قال جرانبي بنبرة توحي بانهماكه في التفكير: «أوه، النقاش القانوني! تقصد بالتأكيد أنَّ البارون العجوز الحقيقي كان سيُبدي رأيًا مختلفًا تمامًا في ذلك النقاش.»

قال الأب براون: «كان سيخبرك بصراحةٍ أنَّ النقيب لن يحصل على بنسٍ واحد من ثروته. وقد كانت هذه الجريمة المُدبَّرة، بغض النظر عن مدى غرابتها، هي الطريقة الوحيدة لمنعه من إخبارك بذلك، لكنِّي أريدك أن تُقدِّر الدهاء الكامن فيما قاله لك هذا الرجل. إذ لبَّت خطته عدة أغراضٍ في آنٍ واحد. لقد كان هؤلاء الروس يبتزُّونه بفضح جرمٍ ما، ربما تكون خيانةً في الحرب على حد ظنِّي. فهرب منهم فورًا بخطوةٍ واحدة، وضلَّلهم مُرسِلًا إيَّاهم إلى مدينة ريجا ليلاحقوا سرابه، لكنَّ أدهى لمسةٍ نهائية حَبَكَ بها خطته تجسَّدت في نظريته التي قال فيها إنَّه يعترف بابنه وريثًا لكنَّه لا يعتبره إنسانًا. ألا ترى أنَّ هذه النظرية لم تؤمِّن فقط مستقبله في مرحلة ما بعد وفاة والده، بل حلَّت مشكلةً سرعان ما كانت ستُصبح الأصعب بين جميع مشكلاته الأخرى؟»

قال جرانبي: «أرى عدة مشكلات. فأيَّها تقصد؟»

«أقصد أنَّ الابن إن كان غير محرومٍ من الميراث، فسيبدو غريبًا ألَّا يلتقي بأبيه أبدًا. لكنَّ تعهُّد الرجل بالابتعاد عن ابنه إلى الأبد لأسبابٍ شخصية حلَّ هذه المشكلة؛ ومن ثَمَّ بقيت مشكلةٌ واحدة، كما قُلتُ، ربما تؤرِّق بال هذا الشاب الآن. كيف سيموت الرجل المُسن بحقِّ الله؟»

قال جرانبي: «أعرف كيف يجب أن يموت.»

بدا الأب براون متحيِّرًا قليلًا، وواصل كلامه بنبرةٍ أكثر شرودًا.

قال: «لكنَّ هذه النظرية تضمَّنت شيئًا آخر كذلك. شيئًا أعجبه على نحوٍ أكثر … حسنًا، لنقُل أكثر تنظيرًا؛ إذ شعر بمتعةٍ فِكرية جنونية في إخبارك وهو منتحل إحدى الشخصيات بأنَّه ارتكب جريمةً في ثوبِ شخصيةٍ أخرى، حين كانت هي شخصيته الفعلية. هذا ما أقصده بالسخرية الجهنمية؛ أي المزحة التي باح بها للشيطان. هل أخبِرُك بشيءٍ يُشبه ما يصفونه بالمفارقة؟ أحيانًا ما يَفرحُ الشيطان القابع في قعر الجحيم حين يقول المرء حقيقةً صادقة، لا سيما حين يقولها بطريقةٍ تُضلِّل الجميع ليسيئوا فهمها؛ لهذا أحبَّ ذلك السلوك الغريب بأن يتظاهر بكونه شخصًا آخر، ثم يصف نفسه بأنَّه شرِّير، كما كان بالفعل؛ ولهذا سمعتْه ابنة أختي يضحك مع نفسه حين كان وحيدًا في معرض اللوحات.»

وثب جرانبي وثبة طفيفة، كشخصٍ يستفيق ويعود إلى شئونٍ معتادة بارتطامٍ خفيف.

وصاح قائلًا: «ابنة أختك. ألم تكن أمها تريد أن تزوِّجها موسجريف؟ بسبب ثروته ومكانته، على ما أظن.»

قال الأب براون: «بلى، كانت أمُّها تسعى إلى أن تزوِّجها زواجًا يؤمِّن مستقبلها.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤