الفصل الرابع

(١) عرفت نفسي

وهل يعرف الإنسان نفسه؟

كلا، بغير تردد، فلو أنه عرف نفسه لعرف كل شيء في الأرض والسماء وفي الجهر والخفاء، ولم يُكتَب ذلك لأحد من أبناء الفناء …

إنما يعرف الإنسان نفسه بمعنى واحد، وهو أن يعرف حدود نفسه حيث تلتقي بما حولها من الأحياء أو من الأشياء. والفرق عظيم بين معرفة النفس ومعرفة حدودها؛ لأننا نستطيع أن نعرف حدود كل مكان، ولكن لا يلزم من ذلك أن نعرف خباياه، وخصائص أرضه وهوائه، وتاريخ ماضيه، ولو قسنا كل شبر في حدوده.

والأحرى أن يُقال: إن الإنسان يعرف الفواصل بينه وبين غيره، فيعرف مداها ولا يتعداه …

وقد عرفت أنني أثق بنفسي وأعتمد عليها، ولكني أعتقد أنني وثقت بها من طريق النفي قبل وثوقي بها من طريق الثبوت، فقد كنت في بادئ الأمر أحسب أنني أنا المخطئ وحدي، وأن جميع الناس على صواب …!

هناك اختلاف لا شك فيه فمن المخطئ ومن المصيب؟ أنا المخطئ إذن لا جدال …

كنت في طفولتي أحب مراقبة الطير والحيوان، وكان فضاء بلدي — أسوان — يمتلئ في أوائل الشتاء وأوائل الصيف بأسراب الطير المهاجرة إلى إفريقية الوسطى أو القافلة من الهجرة، فاتفق أنني تتبعت سربًا منها وهو يحط على الأرض ويرتفع عنها، حتى ضللت الطريق في الصحراء وعدت إلى المنزل بعد هبوط الظلام.

فلما سئلت وأجبت كان جوابي أضحوكة الكبار والصغار، وشاع بين أندادي في المدرسة، فتندروا به وأكثروا من السخرية به، والتعقيب اللاذع عليه؟

هم إذن على صواب … وإلا فلماذا ضللت الطريق وحدي وراء ذلك السرب، ولم يحفل به غيري من كبير أو صغير!

وأُقِيم لقريب لي عرس في دار ريفية ذات فناء رحيب من تلك الأفنية التي تكثر في قرى الصعيد الأعلى، فاجتمع أهل القرية حول المشاعل الموقدة يصفقون ويهللون، وانحرفت وحدي إلى الفناء المعزول، فإذا الظلام الحالك قد أطلع في السماء كل كوكب يسري على ذلك المدار، فجلست على الرمل أتملى هذا المنظر الساحر، فريع أهلي إذ تفقدوني ولم يجدوني، وكنت في نحو التاسعة من عمري، فما أشعر إلا والمشاعل كلها قد تحولت إلى مكاني من الفناء، وأصوات الدهشة تنبعث من جميع الأفواه، حتى سُئِلت فأجبت، فانتقلت الدهشة منهم إلي، ودُهِشت أنا؛ لأنهم راحوا يقهقهون ولم أدرِ لماذا يقهقهون، ولولا أن اليقظة كانت ملء عيني لقالوا طفل حالم، أو طفل مخبول …

إذن نحن لا نتفاهم، وخير لي أن أنطوي على جد نفسي وهزلها لأسلم من الضحك والسخرية إلى أن يغيرني الله، فأهتدي كما اهتدى سائر خلق الله …

وإني لعلى هذا التوجس من البوح بما في نفسي، وعلى هذا الشك الشديد في جدها وهزلها، إذا بي أقرأ ما كُتِب عن بعض الشعراء ومحبي الطبيعة وهم يعتزلون العالم ليمتعوا النظر بصورة من تلك الصور السماوية، وإذا بي أقع على جزء قديم من «مجلة المقتطف» صدر في سنة ١٨٩٩م، وفيه مقال عن الطائر الطنان ويليه مقال عن مناقير الطيور، وأقرأ في كليهما أن مراقبة الطير شغل شاغل لبعض العلماء والرحالين، وأن حركة الطائر وهو يتقدم ويتأخر أو يأكل ويشرب، أو يغني ويلعب، مسألة ذات خطر وليس سخرية لمن سخر …

أكذاك هو؟

إذن يبسط أبو حنيفة رجله، ولا مبالاة …!

وكان أبو حنيفة كما قيل يبسط رجله في حلقة الدروس؛ لأنه لم يكن يستطيع أن يثنيها من مرض أو من إعياء … فأقبل على درسه ذات يوم شيخ غزير اللحية، وقور المشية، هابه أبو حنيفة فثنى رجله على ألم، ثم أخذ في درسه عن موعد صلاة الصبح، فإذا بالشيخ يسأل: «وما العمل إذا طلعت الشمس قبل الفجر؟» قال أبو حنيفة: «العمل أن أبا حنيفة يبسط رجله ويحمد الله!»

وقد بسطت رجلي وحمدت الله من ذلك الحين، وعلمت أن خطأ الكثيرين جائز، وأن سخريتهم لا تضير، فلم أحفل بتلك السخرية، ولعلي بالغت في قلة الاحتفال بها «وأخذت راحتي» جدًّا في بسط رجلي حيث أشاء.

لقد علمتني تجارب الحياة أن الناس تغيظهم المزايا التي ننفرد بها، ولا تغيظهم النقائص التي تعيبنا، وأنهم يكرهون منك ما يصغرهم لا ما يصغرك، وقد يرضيهم النقص الذي فيك؛ لأنه يكبرهم في رأي أنفسهم، ولكنهم يسخطون على مزاياك؛ لأنها تصغرهم أو تغطي على مزاياهم … فبعض الذم على هذا خير من بعض الثناء، لا بل الذم من هذا القبيل أخلص من كل ثناء؛ لأن الثناء قد يخالطه الرياء. أما هذا الذم فهو ثناء يقتحم الرياء.

وود أبو حنيفة لو يصل رجله برجل أخرى ليبسطها كل البسط في وجه كل مذمة من هذا الطراز.

وعرفت أن الذين أسخطهم لا يرضيهم عني شيء، وأن الذين أرضيهم لا يسخطهم عليَّ شيء، فلا فائدة إذن من اتقاء السخط ولا من اجتلاب الرضى؛ لأن الذين يسخطون عليَّ يرجعون إلى خلائقهم التي لا تتغير، والذين يرضون عني يعرفونني من عملي الذي يرتضونه، ولا يريدون مني شيئًا سواه.

وأعجب ما عرفته من أمر نفسي أنني أسيء الظن بالناس؛ لأنني أحسن الظن بهم …

فأول ما يخطر لي على بال أن أتهم من يقترف عملًا من الأعمال المنكرة بسوء النية وتعمد الإساءة؛ لأنني لا أحسب أن إنسانًا عاقلًا يقع في خطأ جسيم عفوًا أو جهلًا بالفرق بين الحسن والقبيح …

فإذا ظلمته فقد يشفع لي أنني أظلمه في سبيل الإنصاف …!

•••

وعرفت أنني من أعجز الناس عن رفع حاجز واحد يُقام بيني وبين إنسان، ولا سيما حاجز الكلفة والإعراض، فإذا تلقاني إنسان بمثل هذا الحاجز فلا اقتراب بيني وبينه أبد الدهر، وليس أشق على نفسي من تلك الزلفى التي يزدلف بها بعضهم لكسب صداقة أو تمكين علاقة … فإن زال الحاجز وحده فهنالك يمتزج العقل بالعقل، والنفس بالنفس — طواعية وعفوًا — كأننا في عِشرة حميمة منذ سنتين.

وعرفت أنني أكره الهزيمة في كل مجال، ولكن يشهد الله إنني أعاف النصر إذا رأيت أمامي ذل المنهزم وانكسار المستسلم، ولولا أن هزيمتي أبغض إليَّ من هزيمة خصمي لأبغضت النصر الذي يفضي لا محالة إلى انهزام واستسلام …

وأعرف أن العادة قوية السلطان على سليقتي وخلقي، ولا تعصمني منها إلا الثورة النفسية، وأشدها ما كان ثورة للكرامة أو الحقيقة كما أومن بها … فكل بناء تبنيه السعادة ينهار فيما بين ليل ونهار إذا ثارت النفس لحقيقة محجوبة، أو كرامة مغلوبة، وقلما تكون للإرادة يد في الحالتين.

وأعرف أنني أعامل الناس والأشياء كأنهم معانٍ مجردة في الضمير، لا كأنهم شخوص ومحسوسات … فعشرة ملايين جنيه — مثلًا — معناها عندي المتعة أو الترف أو السطوة أو الجاه. وطلبي لها يتوقف على حاجتي إلى تلك المعاني لا على حسابها بلغة الأرقام والمصارف والقصور والضِياع …

وأكره الظلم حين أكره الظالم، والشر حين أكره الشرير، والخبث حين أكره الخبيث …

ولهذا يفوتني أحيانًا أن أفرق بين كراهة المبدأ وصاحب المبدأ، ولا يسيغ طبعي ما يُقَال عن التفرقة بين العمل وعامله؛ لأن العمل لا يكون خبيثًا وعامله من الأطهار!

وعرفت كثيرًا من أمثال هذه الحدود، ولكنني لم أعرف كثيرًا ولا قليلًا مما تحيط به تلك الحدود … فعرفت أن الفيلسوف سقراط كان يستعير لغة الكهانة حقًّا حين قال: «اعرف نفسك!»

لأنه كان كمن يطالبنا بمعرفة الغيب أو معرفة المجهول، وكلاهما من صناعة الكهان!

(٢) عرفت طريقي للنجاح

يعرف المعنيون بطبائع الطيور المهاجرة أنها قد تضل عمدًا — أو على غير عمد — عن طريقها، فتضل عنه مرة أو مرتين أو ثلاث مرات على الأكثر، ويبدو عليها في المرة الأولى تردد طويل قبل الاستقامة على نهجها، ثم يقل هذا التردد في المرة الثانية، ثم يزول أو يكاد في المرة الثالثة، ولا يلبث الطير المهاجر أن يتجه إلى وجهته، ويستقيم عليها إلى أقصاها.

يصدق هذا على النفس البشرية، وهي تلتمس طريقها السوي في أوائل حياتها كما يصدق على الطيور المهاجرة، فتضل الطريق مرة أو مرات، ثم لا يلبث أن تعتدل على نهج تتحراه إلى أقصاه.

وهذا الذي حدث لي في أوائل صباي بين المناهج المختلفة التي اعتقدت أنني مهيأ للمسير عليها بالفطرة وهداية الظروف …

•••

خطر لي في مبدأ الأمر أنني مهيأ لحياة الجندية وأنني أبلغ أمنيتي من الحياة إذا بلغت مرتبة القيادة في جيش مصر، وطردت جيش الاحتلال، وبين زملائي في الدراسة من يذكر هذه الأمنية أو هذه الطليعة، ومنهم الأستاذ سيد جودت المهندس الكبير، واللواء محمود عسكر الذي اتجه دوني إلى الحياة العسكرية، وترقى فيها إلى غاية الدرجات التي يرتقي إليها الضابط المصري قبل سن الإحالة إلى المعاش.

ثم خطر لي أنني خُلِقت لدراسة علوم الزراعة والحيوان، فاقترحت على والدي أن أتمم الدراسة في كلية الزراعة العليا بدلًا من التوظف بدواوين الحكومة.

ثم علمت يقينًا أنني خُلِقت للأدب ولم أُخلَق لغيره، وأن التفاتي إلى الجندية والزراعة إنما كان التفاتًا للأدب من طريق آخر: طريق الإنشاد الحماسي قبل المبارزة، وطريق الشغف بالأزهار وعامة الأحياء.

•••

وكانت أسوان ميدانًا لمختلف الجنود المصريين والسودانيين والإنجليز أيام حرب الدراويش، وكنا في المدرسة نؤلف الجيوش، ونتقاتل في الوقت المخصص للرياضة، وكنا نبدأ القتال بإنشاد الشعر الحماسي على سنة الفرسان الأقدمين كما قرأنا عنهم في كتب الملاحم والغزوات.

وشاقني أن أنظم الشعر لأنشده في هذه المواقف، فكان هذا في الواقع موطن هواي للجندية التي اعتقدت أنني خُلِقت لها، وللتقدم في صفوفها إلى مرتبة القيادة.

أما دراسة الزراعة فالذي حولني إليها شغفي بأزهار الحديقة المدرسية، وسائر الحدائق المحيطة بالمدينة الخالدة: مدينة أسوان.

وقد حولني إليها كذلك أن أسوان كانت معبر الطيور المهاجرة في أوائل الشتاء وأوائل الصيف، فلم تزل تلفتني هذه الظاهرة وتلفتني الظواهر الأخرى من قبيلها في طبائع الحيوان، حتى ظننت أنني خُلِقت للزراعة، ثم علمت الحقيقة من هداية وجداني، فأيقنت أن الولع بالشجر والطير إنما هو ولع بالوصف والتعاطف مع الحياة في شتى ظواهرها، فهو تمهيد للأدب وللهيام بالطبيعة كما يهيم بها الشعراء.

•••

ولي أن أقول من باب المجاز القريب إلى الحقيقة إن حياتي الأدبية لم تخلُ من نضال الجندية، ولا من الغرس وتعهد الغراس الفكري من الجذور إلى الثمرات …

فإذا سُئِلت: هل نجحت؟ وجب أن أبين في البداءة ماذا قصدت، ووجب أن يكون الجواب على وفاق المقصد المطلوب.

نجحت لأنني قصدت إلى العمل بالقلم، ووصلت في هذا العمل إلى نتيجة يحمدها الأديب العربي لنفسه، ويحمدها له قراؤه، ولا محل للدعوى والإنكار في هذا التقدير، فإنه مما يُقدَّر بأرقام الحساب ولا يُكتفَى فيه بتقدير الآراء.

ولا أحسب أنني اعتمدت على المعجزات أو الغرائب في توفير أسباب هذا النجاح، ولكنني أحسب أنها أسباب طبيعية معروضة للعاملين في كل صناعة، يلتفتون إليها باستعدادهم لها، ويعينهم على الالتفات إليها نصح الناصح، وهداية الدليل.

•••

أول هذه الأسباب الرغبة الصادقة في النجاح، فإنني لا إخال أحدًا ينجح في عمل لا يرغب في نجاحه.

ويلي هذا السبب الأول أن يُعنَى العامل بعمله لذاته، لا للنتيجة التي يترقبها من ورائه، سواء كانت ربحًا من المادة أو شهرة على الألسنة أو وجاهة في المجتمع أو التاريخ.

وأقرر هذه الفكرة تقريرًا آخر حين أقول: إن الذي خُلِق للأدب لا يتحول عنه إلى منهج آخر من مناهج العمل؛ لأن هذا المنهج يعطيه الربح والشهرة والوجاهة حيث يفقدها أو يتعذر عليه بلوغها في منهج الأدب … ولعلي لا أخطئ التشبيه إذا قلت: إن مثل الأديب في هذا كمثل الأب الذي يُعرَض عليه أن يختار ولدًا غير ولده يطيعه، ويسره بالفلاح والتقدم حيث يخيب ولده ويعصيه، فإنه لن يقبل هذا العرض مع يقينه برجحان الولد الناجح المطيع من غير ذريته على ولده المخفق المصر على العصيان …

وسببٌ لا يقل عن الرغبة الصادقة والعمل للعمل لا للنتيجة المترقبة منه هو الثقة بالنفس والاستخفاف بالعقبات، وبإنكار المنكرين عن جهل أو حسد، أو تباين في الرأي والخليقة.

•••

ولو أنني سُئلت أن أرتب أسباب النجاح بالنسبة إليَّ لبدأت بهذا السبب وأخرت بعده جميع الأسباب.

ولو أنني سُئلت عن الفضل فيه هل هو للقدرة والتعليم والظروف أو هو للسليقة المطبوعة، لقسمت هذا الفضل بينها قسمين متعادلين، وزدت قسم السليقة المطبوعة بعض الزيادة في معظم الأحوال.

وبحمد الله، أقول إنني نجحت فيما قصدت إليه، وأنتهي بذلك إلى عبرة هذا النجاح، فألخصه في عوامله الغالبة التي لا يخلو منها نجاح في صناعة من الصناعات، وتلك هي الاهتداء إلى استعداد الفطرة، ثم صدق الرغبة في تحقيق ذلك الاستعداد، وصرف الجهد إلى العمل دون النتيجة المرتقبة منه، وتعزيز الثقة بالنفس أمام الموانع والعقبات.

ومن الحق أن أتبع هذا بالتفرقة بين النجاح وبين تحقيق كل ما يراد، وكل ما يرجوه المرء من نفسه ويرجوه عنه الناس.

فما من أحد يحقق كل ما يريد وكل ما يُراد منه، وإن كان أنجح الناجحين، وإنما يُقاس النجاح بما أستطيع فعلًا، وبما يُستطاع حقًّا لو اتسع الوقت وأسعدت الظروف.

(٣) تعلمت من أوقات الفراغ

أوقات العمل تملكنا …

ولكننا نحن الذين نملك أوقات الفراغ ونتصرف فيها كما نريد، فهي من أجل هذا ميزان قدرتنا على التصرف، وميزان معرفتنا بقيمة الوقت كله، وليست قيمة الوقت إلا قيمة الحياة …

فالذي يعرف قيمة وقته يعرف قيمة حياته، ويستحق أن يحيا وأن يملك هذه الثروة التي لا تساويها ثروة الذهب؛ لأن مالك وقته يملك كل شيء، ويصبح في حياته سيد الأحرار.

إن أفرغ الناس هو الذي لا يستطيع أن يملأ ساعات فراغه، وعندنا في الشرق كثيرون، بل كثيرون جدًّا، من هؤلاء الفارغين.

على القهوات، وعلى أفاريز الطرقات، في الصباح وفي المساء، خلال أيام الصيف وخلال أيام الشتاء …

في كل وقت وكل موسم وكل مكان ألوف من الشبان الأقوياء والرجال الناضجين يقضون ساعات الفراغ في لعب النرد والورق، أو في تعاطي الراح والدخان، أو في مراقبة الغادين والغاديات والرائحين والرائحات.

ليس هذا وقتًا فارغًا لأنهم مشغولون فيه، وليس هذا وقتًا مملوءًا لأنهم يملأونه بما هو أفرغ من الفراغ.

هذا ليس بوقت على الإطلاق …

هذا عدم خارج من الزمان، خارج من الحياة!

وليس معنى «وقت الفراغ» أنه الوقت الذي نستغني عنه ونبدده ونرمي به مع الهباء، ولكن وقت الفراغ هو الذي بقي لنا لنملكه ونملك أنفسنا فيه، بعد أن قضينا وقت العمل مملوكين مسخرين لما نزاوله من شواغل العيش وتكاليف الضرورة.

قرأت مرة في تاريخ أمريكا الشمالية أن الإنجليز والفرنسيين تسابقوا على استعمار «كندا»، فنجح الإنجليز حيث أخفق الفرنسيون … لماذا؟

زعموا في تعليل ذلك — وأصابوا — أن استعمار القفار من الأرض البور يحتاج إلى قضاء الأوقات الطوال في عزلة عن المدن الحافلة، وأن الإنجليز نجحوا في استعمار تلك الأرض؛ لأنهم يستطيعون أن يقضوا أوقات الفراغ منفردين منعزلين، وأن الفرنسي لا يطيق العزلة ولا يحتمل أن يفرغ لنفسه ولا يزال في شوق إلى المدينة لقضاء السهرات والأصائل بين الناس في الأندية والمجتمعات، فترك ميدان الخلاء لمن هم قادرون عليه …

•••

ويصدق علينا في الشرق ما يصدق على الفرنسيين، فإن الإنسان منا لا يستطيع أن يجد في نفسه ما يشغله ساعة فراغ، ولا يحس بفراغ من الوقت حتى يلوذ بالطرقات والقهوات.

ولا يهتدي بعد البحث الطويل في أعماق ضميره وأطواء دماغه إلى شيء يملأ به ذلك الفراغ.

إن كان قصارى ما أصاب الفرنسيين من هذه الخصلة أنهم أخفقوا في استعمار «كندا» … فالأمر معنا أخطر وأعظم، فلعلنا لم نذهب فريسة الاستعمار إلا لأننا فارغون، وأننا لا نجد في نفوسنا ما ننطوي عليه!

قيل عن «أسبرطة» إنهم كانوا ينبذون الطفل الضعيف في العراء، وأنهم كانوا يمتحنون قوة الأطفال بوضعهم في إناء مملوء بالنبيذ، فمن بقي منهم مفيقًا بعد هذه التجربة أبقوه واستحق عندهم التربية، ومن ظهر عليه التخدر والسبات أهملوه ونبذوه …

ولو أنني أردت امتحان الأقوياء من الرجال لما تركتهم فترة في آنية النبيذ، بل تركتهم فترات في مكان مغلق يقضون فيه ساعات فراغهم، فمن صبر على هذه الساعات فهو رجل ملآن بقوة الفكر، وقوة الخلق، وقوة الاحتمال، ومن لم يصبر عليها فهو الفارغ الذي لا خير فيه.

•••

ماذا نتعلم من ساعات الفراغ؟

نتعلم منها كل شيء، ولا نتعلم شيئًا من الحوادث أو الكتب أو الأعمال إلا احتجنا بعده أن نتعلمه مرة أخرى في وقت فراغ …

فالمعارف التي نجمعها من التجارب والكتب محصول نفيس، ولكنه محصول لا يفيدنا ما لم نغربله ونوزعه على مواضعه من خزائن العقل والضمير …

ولن تتيسر لنا هذه الغربلة، وهذا التوزيع في غير أوقات الفراغ …

إن معارف التجربة والاطلاع زرع في حقله ينتظر الحصاد والجمع والتخزين، ولا فائدة للحرث والسقي والرعاية ما لم تأتِ بعد ذلك ساعة التخزين …

وهي ساعة الفراغ …

ساعة هي ألزم لنا من ساعات العمل؛ لأن العمل كله موقوف عليها في النهاية، فلا ثمرة لأعمال الحياة بغير فراغ الحياة.

ولولا أننا نخشى أن يقدس الناس الفراغ لقلنا إن تاريخ الإنسانية من أوله إلى عهده الحاضر مدين لساعات الفراغ.

لقد عرف التاريخ الإنساني أقوامًا فارغين جنوا عليه بفراغهم أشنع الجنايات، ودفعوا به إلى الحرب تارة وإلى الفتنة تارة أخرى؛ لأنهم وجدوا أمامهم متسعًا من الفراغ يعيشون فيه.

ولكننا — حتى مع هذا — لا نستغني عن ثمرات ذلك الفراغ جميعًا دون أن نجازف بالجانب الصالح النافع من تاريخ الإنسان.

ماذا يبقى من تاريخ الإنسانية لولا الفارغون الذين اتسعت أوقاتهم للبذخ والترف بين الحلي والحلل في ظلال القصور؟

من كان يجوب الأرض ويمخر عباب البحر ليجلب الحرير والبهار، والحجر النفيس، والحجر الذي تُبنى به الصروح؟

من كان يتعلم الملاحة؟ من كان يتعلم صناعة السفن؟ ومن كان يتعلم النسيج؟ من كان يستخرج اللآلئ، أو يبحث عن شذور الذهب والفضة؟ من كان يرسل القوافل، ويحذق فنون التجارة؟ من كان يرصد النجوم، ويدرس حركة الأفلاك في السماء؟

من كان يعرف هذه الأعمال التي يعيش عليها الملايين لولا ذلك الفراغ الذي تقدم به الزمن في تواريخ الأمم!

لقد كان فراغًا ذميمًا في أكثر نواحيه، ولكنه على مذمته قد أفادنا درسًا خالدًا لا يصح أن ننساه. ذلك الدرس الخالد هو حاجة الناس جميعًا إلى أوقات الفراغ، فهو شيء لا غنى عنه في حياة أمة، ولا في حياة أحد …

وحبذا قضاء الفراغ كله فيما هو خير، ولكننا إذا خُيِّرنا بين الفراغ بخيره وشره، وبين ضياع الفراغ كله لاخترنا أهون الشرين.

إن العقلاء من أصحاب الأعمال يطلبون اليوم متسعًا من الفراغ لعمالهم بعد أن كان طلب الفراغ مقصورًا على العمال.

فالعامل الذي يتسع وقته للرياضة ينشط لعمله بعد عودته إليه.

والعامل الذي ينفق بعض الوقت ينفق بعض المال؛ فتدور الحركةُ حركةُ البيع والشراء في الأسواق.

حسبة من حساب الحرص لا من حساب الإسراف، وحسبة يرضى عنها علم الاقتصاد ولا يغضب عليها علم الأخلاق.

والاقتصاد الأعظم بعد هذا وذاك هو الذي تعلمناه ونتعلمه من تاريخ الإنسانية من أوله إلى عهده الحاضر.

لا بد من فراغ!

ولا بد من فراغ نحفظه!

والفراغ الذي نحفظه هو الذي يحفظنا؛ لأننا نستخلص فيه خير ما ندخره من غربلة التجارب والمعارف والعظات.

(٤) أحرج ساعة في حياتي

إنها كانت ساعة من ساعات كارتر البوليس السري المشهور؛ ذلك أني كنت مدة الحرب العالمية الأولى «ناظر المدرسة الإسلامية بأسوان»، وكان عندنا إذ ذاك مدير متأله طالما كابد الأهالي من غطرسته شرًّا. وصادف أن وقعت حادثة إلقاء القنبلة على السلطان حسين كامل فنجا منها، واحتفلت البلاد بنجاته، وكان حقًّا علينا أن تحتفل مدرستنا بهذه المناسبة، فلما أعددت العدة لهذا الاحتفال دعوت سعادة المدير لحضوره، ولكنه لم يقبل، فاحتججت عليه في ذلك فكان جوابه أن طَوَّق المدرسة بخيله ورجاله، فرفعت عنه تقريرًا إلى السلطان حسين … فلما وصل عظمته استدعى المدير إلى القاهرة وأطلعه على شكواي. ويظهر أنه أنَّبه تأنيبًا شديدًا؛ إذ ما عاد المدير حتى استدعاني … فلما حضرت إلى مكتبه جلست على أحد المقاعد التي فيه، فما كان منه إلا أن انتفض قائلًا: «قف أمامي يا أفندي» فلم أملك أمام تلك الفظاظة إلا أن أقول له: «ولأي شيء هذه الكراسي المرصوصة التي اشترتها الحكومة للجلوس في هذا المكتب؟» فبهت الرجل من هذه الإجابة … ولكنني تركته وانصرفت، فتهيج الرجل، وأمر أعوانه باللحاق بي، فلما رجعت إليه جعل يهددني بالنفي إلى «مالطة» وأنا أعلم أن النفي إلى «مالطة» إذ ذاك معناه الإعدام؛ لأن صحتي كانت لا تسمح لي بتحمله، ولكني لم أعبأ بذلك وقلت له: «افعل ما تريد.» وانصرفت.

وكان مفتش الداخلية إذ ذاك في أسوان، وكنت في هذه المدة تحت المراقبة … وكان يلازمني عسكري بوليس أينما ذهبت نهارًا، فإذا جاء الليل وقف على باب داري خفيرًا إلى الصباح، وهكذا دواليك … فما إن وقعت تلك الحادثة بيني وبين المدير حتى أخذ يشدد عليَّ المراقبة، وكتب خطابًا إلى رئيس جمعية المدرسة بفصلي، ثم جعل يرسل التقارير ضدي إلى الداخلية، ويزعم أني أقوم بتهييج الأهالي. واستقر رأيه هو ومفتش الداخلية على نفيي إلى «مالطة»، ولكن قبل أن أنتظر موافقة الداخلية دبرت طريقة للخروج من أسوان. ففي ذات يوم، وضعت «عفشي» في قفة من قفف الطحين، وغطيته بطبقة من القمح، وأرسلت القفة إلى بيت أحد أقاربي بالبلدة، وهناك وضعوا «العفش» في «شنطة» وأخذها أحدهم إلى المحطة الثانية التي تلي أسوان، وفي اليوم الثاني كلفت صديقًا لي بأن يقطع تذكرة من محطة أسوان إلى الأقصر.

بقي أمر خروجي أنا من المنزل مع هذه المراقبة الشديد التي تستمر صباحًا ومساء … فلم أجد وسيلة إلا تكليف أحد أقاربي بإحداث «شكلة» مع أحد المارة بقصد إبعاد الخفير عن البيت — وقد كان — وفي أثناء اشتغال الخفير بالمتنازعين خرجت ورفيق لي إلى ظاهر البلدة؛ حيث كنا أعددنا الحمير للركوب في المساء … فما إن ركبنا حتى حثثنا السير إلى المحطة الثانية. فلما وصلنا إليها وجدنا حامل التذكرة المذكورة، فأخذتها منه واعتليت القطار. ولسوء الحظ وجدت في المركبة التي دخلتها معاون بوليس أسوان مسافرًا لكتابة محضر حريق في «كوم أمبو» فأحرجت، وكانت تلك الساعة ما بين محطة أسوان، ومحطة كوم أمبو هي أحرج ساعة في حياتي، ولكنها مضت بخير، ووصلت إلى القاهرة بعد أن انتقلت إلى قطارين آخرين بقصد التمويه على إدارة أسوان؛ حتى لا ترسل من يلحق بي في الطريق، ولما حضرت إلى القاهرة أخذت أقابل ولاة الأمور في شأني. وبينما كنت أقابلهم للشكوى من المدير كان هو يكتب إليهم التقرير إثر التقرير، ويزعم أني أقوم في ذلك الوقت بتحريض الناس، وتهييجهم في أسوان؛ مما أدى إلى افتضاح كذبه وإحالته إلى المعاش.

(٥) كنت شيخًا في شبابي

كنت شيخًا في الشباب، فلا عجب أن أكون شابًّا في الشيخوخة … قياس منطقي غير صحيح كما يظهر لأول وهلة …

فإذا كانت الشيخوخة قد بكرت إلى الفتى في إبان شبابه، فالمعقول أن يصبح شيخًا قبل الأوان، وأن يأتي عليه السن، وليست فيه بقية من الشباب …

هذا هو المعقول، ولكن لأول نظرة كما تقدم …

أما بعد نظرة أو نظرات، فالمعقول غير هذا على التحقيق.

المعقول بعد النظرة والتجربة أن الشباب المرح المندفع في شرته وعنفوانه يبعثر قواه عاجلًا، ويستنفد رأس ماله سريعًا، فيخطو إلى الشيخوخة خطوات واسعات كأنه يسير إليها بكل قوة الصبا والفتوة!

إن الشباب الذي يحس الشيخوخة قبل أوانها يتأنى ويتئد، فلا يصل إلى شيخوخته في الأوان …

وهذا هو المعقول في القياس.

وهذا هو المعقول؛ لأنه هو الواقع الذي أعلمه من نفسي كيفما كان حكم القياس …

نعم … لقد كنت شيخًا في الشباب، وأصح من هذا أن أقول: بل كنت شيخًا في الطفولة الأولى قبل أن أجاوز سبع سنوات.

ولا أطيل في وصف العوارض والبدوات التي تدل على أطوار الشيخوخة في تلك السن المبكرة، فإن طورًا واحدًا يغني عن عشرات الأطوار، وحسبي أن أذكر أنني لم ألبس قط بنطلونًا قصيرًا، وأصررت كل الإصرار على رفضه مع فرحي بالملابس الجديدة المجهزة لدخول المدرسة مع زملائي وأقربائي، وقد كنت من أصغر التلاميذ سنًّا في السنة الأولى الابتدائية، وكانوا جميعًا بالبنطلونات القصيرة ما عداي، فقد أصبح إيجاد البنطلون الطويل لمن كان في مثل سني مشكلة تجارية في المدينة الصغيرة، لو لم يسعفني طول القامة الذي جعلني أطول من لداتي بنحو سنتين!

هذا المثل يغني عن أمثال …

•••

وأحسب أن هذا الشعور قد لازمني في كل مرحلة من مراحل حياتي، وأحسبني أشير إليه حين قلت أخاطب الشيب وأنا في السادسة والعشرين:

دُونَ الثلاثين تعروني وما انصرمت
إلَّا كما تنقضي الأعوامُ في الحُلُمِ!
قل لابنِ تسعينَ لا تحزنْ فذا رجلٌ
دون الثلاثينَ قد ساواكَ في الهرمِ
إذا ادَّكرت شبابًا في النعيمِ مضى
لم يدَّكر من شبابٍ كان أو نِعَمِ
وما انتفاعي وقد شابَ الفؤادُ سدى
إن لم تشب أبدًا كفي ولا قدمي
وليس ما يخدعُ الفتيانَ يخدعني
كلَّا، ولا شيمُ الفتيان من شِيَمي

وهو الصحيح، فلم تكن شيم الفتيان قط من شيمي، وأعي بها اللهو والغي والتمادي في طلب المتعة والسرور، وهذا التحفظ الذي لم يفارقني فترة في حياتي هو «القصد» الطبيعي الذي حفظ لي ثروة الفتوة، فجاوزت الستين وأنا أعمل عملي في العشرين، وفي الثلاثين، وفي الأربعين، وقد أزيد عليه …

وهذا هو المقياس الصحيح لدوام قوة الشباب، ولكنه مقياس واحد من عدة مقاييس، يكثر تردادها في مثل هذا المقام.

فعندهم مقياس الشعور، وأصحاب هذا المقياس يقولون ما معناه: عمرك شعورك أو أنك تبلغ العمر الذي تحس أنك بلغته، فأنت في الثلاثين إن شعرت شعور ابن الثلاثين، وأنت في الستين إن شعرت شعور ابن الستين، وإن كانت تذكرة ميلادك تقول إنك لم تبلغ نصفها من السنين …

وعندهم مقياس القلب والهوى، وأصحاب هذا المقياس يقولون إنك شاب إذا كانت الفتاة تسعدك وتشقيك، وكهل إذا كانت تسعدك ولا تشقيك، وشيخ إذا كانت لا تسعدك ولا تشقيك.

أي إنك شاب ما دمت تنخدع بالهوى، وما دمت تطلبه، فإن أصبحت لا تنخدع به ولا تطلبه، فقد جاوزت الشباب، وجاوزت الكهولة بعد الشباب.

وشاعرنا العربي على هذا المذهب حين قال:

يا عَزُّ هل لكِ في شيخٍ فتى أبدًا
وقد يكونُ شبابٌ غيرُ فتيانِ

وعندهم مقياس الهمة والطموح، وأصحاب هذا المقياس يحسبون المرء شابًّا ما دام له مطمع في المجد والعظمة، فإن ونى وقنع فهو هرم الهمة وإن كان فتى الأيام …

وعندهم من يقول إن الخمسين شباب الشيخوخة وشيخوخة الشباب …

ولكنها كلها مقاييس عامة لجميع الناس، وإنما المقياس الخاص ما يقيسك بنوع عملك، أو شغل نفسك الذي لازمك في كل الأعمار، فإذا استطعت في الستين عملًا كنت تقدر عليه وعمرك عشرون أو ثلاثون سنة، فأنت في شيخوخة يمازجها الشباب، ومهما يقل أصحاب مقياس الشعور، أو أصحاب مقياس القلب والهوى، أو أصحاب مقياس الهمة والطموح، أو أصحاب مقياس الخمسين …

والمقياس الواحد الذي أقيس به جهدي في جميع أدوار حياتي هو النهم إلى المعرفة، فإنني لا أذكر سنًّا لم أكن فيها أحب أن أعرف، وأن أقرأ وأن أختبر، وأن أفيد من كل ذلك توسعة في آفاق الشعور.

صديقنا الأستاذ توفيق الحكيم تخيلني في بعض كتبه قد دخلت الجنة، وذهبت أطوف في أرجائها عسى أن أرى وجهة مكتبة أقف أمامها، وأتأمل عناوين الكتب فيها، فلما طال بي المطاف، ولم أجد مكتبة ولا كتبًا ضجرت منها، وطفقت أقول: «ما هذا؟! … جنة بغير كتب؟!»

وصديقنا الحكيم لم يبالغ في تخيله؛ لأنني فعلًا لا أستطيع أن أعيش في جنة لا أطلع فيها … نعم لا أطلع فيها، وليس من الضروري أن أقرأ في كتاب …

وأود أن ألفت القارئ إلى هذا الفارق المهم جدًّا في نظري بين القراءة والاطلاع …

فقد يقرأ الإنسان ولا يطلع، وقد يطلع ولا يقرأ، فالقراءة هي إحدى وسائل الاطلاع، وليست هي وسيلته الوحيدة.

ولماذا لا نطلع في الجنة؟

يجب أن نطلع في الجنة قبل غيرها؛ لأن المكان الذي تسكنه وتحب أن تسكنه هو أحق الأمكنة أن تطلع عليه وتعرف كل ما قيل فيه، وكل ما خطر بالبال عنه، وكل ما خامر به النفوس — غير نفسك — من خوالج الغبطة، والشوق، والرغبة، والاستطلاع.

يجب أن نطلع في الجنة؛ لأن الساعة الحاضرة فيها لا تكفينا، ومن حقها علينا أن نعرفها ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، وأن نحيط فيها بشعورنا وشعور الآخرين الذين اختبروها غير خبرتنا، وشهدوا منها غير ما شهدناه …

فإن لم تكن لنا وسيلة إلى ذلك غير الكتاب فليكن الكتاب في الجنة، ولا يُعقَل أن تنقص الجنة حيث تكمل المدن العامرة في هذه الدنيا.

ويقول قائل: أقراءةٌ في الجنة؟! إذن أنت سوسة كتب يا صاح!

كلا أيها القائل، وهذه غلطتك الكبرى، فإن سوسة الكتب هو الذي يعيش في الكتب كما يعيش السوس، وأما الذي يقرأ الكتاب ليوسع حياته في العالم، فالكتاب عنده طريق إلى عالمه، أو هو نظارة يكبر بها نظره ليضاعف رؤيته، فهو من صميم الحياة، وليس بالصومعة التي تعزل ساكنها عن الحياة …

وأيًّا كان الرأي في طلب المعرفة فالواقع أنها هي المقياس الذي أعرف به ما بقي لي من الشباب؛ لأنها هي العمل الواحد الذي حصل بالأمس، ويحصل اليوم، وسيحصل غدًا إلى أن يشاء الله.

•••

وأحمد الله، لم يتغير من ذلك شيء إلا قوة النظر على طول القراءة، فليس في طاقتي اليوم أن أثابر على القراءة أكثر من ساعة واحدة، ثم أستريح هنيهة قبل أن أعاودها، وقد كانت تطول في إبان الشباب بضع ساعات متواصلات.

وأحمد الله مرة أخرى؛ لأنه نقص يقابله عوض حسن، فالساعة اليوم أبرك من ساعات، مع المرانة على التحصيل، وعلى الكتابة والتسجيل.

ولا أراني صنعت معجزة إذا احتفظت بهذا القسط من الشباب؛ لأنه حظ يصيبه من شاء، وأخال طريقتي في إصابته من أيسر الطرق للجميع …

فلي وقت للعمل، ولي وقت للرياضة، ولي يوم كل أسبوع أكف فيه عن كل عمل، وكل قراءة حتى مطالعة الصحف وفض رسائل البريد، ولي مواعيد للطعام والنوم لا تختلُّ في يوم، ولي قاعدة عامة تشمل العمل والرياضة، والطعام، والجد واللهو، والبطالة، وهي التوسط بين الإفراط والتفريط …

وقبل ذلك كله كانت لي شيخوخة في مقتبل الشباب.

ولم يخلُ شبابي من الشيخوخة، فمن الحق ألا تخلو شيخوختي من الشباب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤