الفصل السادس

(١) إيماني

أومن بالله … أومن بالله وراثةً، وشعورًا، وبعد تفكير طويل.

فأما الوراثة فإني قد نشأت بين أبوين شديدين في الدين لا يتركان فريضة من الفرائض اليومية، وفتحت عيني على الدنيا وأنا أرى أبي يستيقظ قبل الفجر ليؤدِّي الصلاة ويبتهل إلى الله بالدعاء، ولا يزال على مصلاه إلى ما بعد طلوع الشمس فلا يتناول طعام الإفطار حتى يفرغ من أداء الفرض والنافلة وتلاوة «الأوراد» …

•••

ورأيت والدتي في عنفوان شبابها تؤدي الصلوات الخمس، وتصوم وتطعم المساكين، وقلما تُرى النساء مصليات أو صائمات قبل الأربعين. وندر بين أقاربي من لا يُسمَّى باسم من أسماء النبي وآله سواء منهم الرجال والنساء أو من أسماء الأنبياء على العموم، وكان في بيت أخوالي درس لقراءة الكتب الدينية، وأذكر منها مختارات الأحاديث النبوية، وإحياء علوم الدين؛ فللوراثة شأن فيما عندي من سليقة الاعتقاد.

أما الإيمان بالشعور فذاك أن مزاج التدين ومزاج الأدب والفن يلتقيان في الحس والتصور والشعور بالغيب، وربما كان «وعي الحياة» شعبة من «وعي الكون»، أو من «الوعي الكوني» الذي يتعلق به كل شعور بعظمة العالم، وعظمة خالق العالم … والوعي الحيوي مصدر النفس والوعي الكوني مصدر الدين.

أما الإيمان بالله بعد تفكير طويل، فخلاصته أن تفسير الخليقة بمشيئة الخالق العالم المريد أوضح من كل تفسير يقول به الماديون، وما من مذهب اطلعت عليه من مذاهب الماديين إلا وهو يوقع العقل في تناقض لا ينتهي إلى توفيق، أو يلجئه إلى زعم لا يقوم عليه دليل، وقد يهون معه تصديق أسخف الخرافات والأساطير فضلًا عن تصديق العقائد الدينية، وتصديق الرسل والدعاة. فالقول بالتطور في عالم لا أول له خرافة تُعرِض عنها العقول؛ لأن ابتداء التطور يحتاج إلى شيء جديد في العالم وحدوث التطور بغير ابتداء تناقض لا يسوغ في اللسان فضلًا عن الفكر أو الخيال، والقول بالاتقاء الدائم من طريق المصادفة زعم يهون معه التصديق بالخرافات، وخوارق العادات في تركيب الأجسام أو الأحياء.

والقول بأن المادة تخلق العقل كالقول بأن الحجر يخلق البيت، وأن البيت يخلق الساكن فيه، وأيسر من ذلك عقلًا، بل ألزم من ذلك عقلًا أن يُقَال إن العقل والمادة موجودان، وإن أحراهما بأن يسبق الآخر ويخلقه هو العقل؛ لأن المادة لا توجد ما هو أفضل منها، وفاقد الشيء لا يعطيه … فأنا أومن بالله وراثة، وأومن بالله شعورًا، وأومن بالله بعد تفكير طويل.

هذا في مجال العقيدة …

•••

أما في مجال الأخلاق، فلا موجب عندي لعمل الخير غير طلب الكمال، وفهم الكمال …

ومن الخير ما هو عسير على النفس، محفوف بالخطر، مكروه العواقب، مستهدف للنقد والمذمة بين من يجهلونه أو يصابون في منافعهم من جرائه، فلا باعث لعمل هذا الخير أقوى من باعث الشوق إلى الكمال والارتفاع بالنفس إلى ما ترضاه …

إن الإنسان لا يرائي بحب الطعام الجيد أو الطعام المفيد، إنه يحبه في السر كما يحبه في العلانية، وإنه ليبذل فيه ثمنه وإن غلا ويجلبه من مكانه وإن بعد، وإنه ليكتفي به ويحسبه جزاء حسنًا، ولا ينتظر عليه المثوبة أو الشكران من أحد؛ لأنه يتناوله لنفسه ولا يتناوله مرضاة لغيره.

وهكذا طعام العقل أو طعام الروح حيثما عرفت الروح ما يصلح لها، وما يليق بها من طعام، إنها لا تستريح بغيره، ولا تتوانى عن طلبه، ولا تنتظر المثوبة أو الشكر؛ لأنها تختار غذاءها فتحسن اختياره، ولا ترضى بما دونه، وإنما المهم أن تعرف هذا الغذاء فإذا هي عرفته فلا باعث لها إلى الخير أقوى من الشوق إليه، ولا وازع لها، ولا عقوبة تخشاها في سبيله أوجع من فواته والحرمان منه …

وقد ترى الطفل يُؤجَر على تجرع الدواء، ويُساق إليه بالحيلة والإغراء؛ لأنه لا يعرف ما هو الداء، ولا ما هو الدواء …

ولكنك تنتظره سنوات حتى يعرف هذا وذاك فإذا هو يبذل الأجر لمن يعطيه الدواء، ويسعى إليه عند الأطباء في أبعد الأرجاء، وما تغير طعم الدواء، ولا تغير عمله، ولا تغيرت الحاجة إليه، ولكن تغير شعور الطفل بالصحة الجسدية، وتغير شعوره بالواجب عليه لتصحيح جسده، وتغير فهمه «للكمال» في عالم الأجساد.

•••

وهناك عالم للضمائر، وعالم للأفكار، وعالم للأذواق والأخلاق، كما هناك عالم للأجساد، وهناك أطفال في هذه العوالم كما هناك أطفال في ذاك.

وهؤلاء الأطفال هم الذين يقبلون الصحة؛ لأنهم يُثابون عليها، ويتجرعون الدواء؛ لأنهم يُساقون إليه، فدعهم حتى يكبروا في أعمار العقل، أو في أعمار الضمير، ولا تتكلف أن تعرض عليهم الدواء، أو تلحف عليهم في تعاطيه؛ لأنهم ينشدونه حيث كان، ويبذلون فيه أغلى الأثمان …

في عالم الأخلاق لا باعث إلى الخير أقوى من شعور الإنسان بكماله، ولا وازع عن الشر أقوى من شعور الإنسان بنقصه، ولا أخلاق لمن يحسن؛ لأنه يُؤجَر على الإحسان، أو يسيء لأنه في أمان.

فساعة من الغبطة ببلوغ الكمال هي غاية ما تصبو إليه النفس من مراتب السعادة، وساعة من تبكيت الضمير على النقص هي غاية ما تنحدر إليه النفس من الشقاء.

وإيماني في المعاملات أن الطيبة موجودة في الطبيعة الإنسانية، ولكنك لا تجدها في كل إنسان ولا تجدها في جميع الأوقات …

ولكنك إذا بحثت عن المعين لم تضمن وجوده حين تريده، وإذا وجدته حين أردته لم تضمن أن يوافقك على رأيك ويساعدك على قصدك، فلعله يعين إذا اعتقد وجه الصلاح في العمل الذي يُدعَى إليه، ولعله لا يعتقد اعتقادك فيما ترى من الصلاح.

•••

فلا تقنط من طيبة الناس كل القنوط، ولا تعول عليها كل التعويل، بل أحسن الظن بالناس كأنهم كلهم خير، واعتمد على نفسك كأنه لا خير في الناس.

وقديمًا قلت:

أنا لا ألومُ ولا أُلام
حسبي من الناسِ السلام
أنا إن غُنِيتُ عن الأنا
مِ فقد غُنِيتُ عن الملام
وإذا افتقرتُ إليهم
فاللومُ من لغوِ الكلام

ولا أزال كلما نسيت هذه الخطة في سهوة من السهوات ردتني الحوادث إليها، وزادتني إيمانًا بصوابها.

•••

وإيماني بالأدب أنه رسالة عقل إلى عقول، ووحي خاطر إلى خواطر، ونداء قلب إلى قلوب.

وأن الأدب في لبابه قيمة إنسانية، وليس بقيمة لفظية.

فالأديب الذي يقرؤه القارئ فلا يعرف شيئًا جديدًا، ولا يحس بشيء جديد، فسكوته خير من كلامه.

والأديب الذي يقصر جهده على التسلية وإزجاء الفراغ خادم جسد، وليس بصاحب رسالة في عالم العقل والروح، والعلاقة بين الكاتب وقارئه علاقة تعاون واشتراك لا يغني فيها الجهد المفرد على الجهدين المتساندين.

فالقارئ الذي يفرد الكاتب بواجب التفهيم لا يستحق من الكاتب أن يلتفت إليه؛ لأنه واحد من ثلاثة: فإما رجل يظن أن القراءة لا تستحق التعب وهو يتعب في طلب اللهو والتسلية، فلا نفع فيه.

وإما رجل يتعب فكره ولا يصل بالتعب إلى نتيجة فذلك أيضًا لا نفع فيه، وإما رجل لا تهمه نتيجة القراءة التي يتسلى بها أو يتعب فيها، فهو كصاحبيه لا نفع فيه.

•••

وإيماني بالشهرة والثناء كإيماني بالثواب والجزاء فما أجفلت قط من نقد، ولا توسلت قط إلى ثناء، ويعزيني عن كثير من الثناء أن الناس لا يبذلونه لمن يكبرونه بل يبذلونه لمن لا يملأ قلوبهم بالإكبار، ولا يبلغون من إعظامه مبلغًا يحسدونه وينفسونه عليه، وأن الأدب شيء هين كل الهوان إن ضاعت قيمته بكلمة حاسد أو جاءت قيمته من كلمة كاذب منافق، فإذا كانت له قيمة فلا خوف عليها، وإن لم تكن له قيمة فلا حرص عليه.

•••

وبعد، فإيماني كله في العقيدة والأخلاق والمعاملة والأدب يُوزَن بميزان واحد وهو ميزان المثل الأعلى، أو طلب الكمال؛ لأنه إيمان يغنينا عن طلب الجزاء، ويعزينا عن فقدان الحمد والثناء …

(٢) لو عدت طالبًا

من قديم الزمن يشعر كل طالب في حياته المدرسية بالتنازع بين قطبين متقابلين، أحدهما ما نسميه «بالنظام» والآخر ما اشتهرت به الطفولة والشباب من حب التمرد والهرب ومخالفة النظام.

فالتلمذة بغير نظام مستحيلة، ولا بد لكل مدرسة من مواعيد وفصول وواجبات في المدرسة، وواجبات في خارجها، ولا بد للتلميذ من القيام بهذه الواجبات إذا أراد أن يضمن النجاح، ومن لم يأخذ نفسه برعايتها حقًّا فهو على الأقل مضطر إلى رعايتها غشًّا وتزييفًا؛ لأنها لا يمكن أن تخرج كل الخروج من الحساب …

لا بد للتلمذة من نظام …

ولكن من القول في الطفولة أو في الصبا الباكر على العموم، وكلاهما ملازم للتلمذة في أدوارها الأولى؟

هل يمكن أن تخلو الطفولة من قلق وعربدة و«شقاوة»، وولع بالشيطنة والمخالفة؟

لا يمكن … فلا بد من فلتة، إن لم تكن الطفولة كلها فلتة في نفوس الشذاذ الميئوس من فلاحهم، وهم غير قليلين …

نظام وشيطنة، أو نظام ومخالفة، وهذان هما القطبان اللذان يتنازعان كل تلميذ في دراسته الباكرة، إن لم يتنازعاه في جميع أدوار الدراسة بعد سن الطفولة والصبا، فقد قرأت للقس الإنجليزي الفيلسوف المطران «إنج» أنه هو وزملاءه في كلية اللاهوت كانوا «يعاكسون» أستاذهم الكبير «فارار» على توقيرهم لعلمه وحبهم لشخصه، وكانوا يتعمدون أن يسوقوه إلى تكرير لوازمه ليضحكوا منها في «أكمامهم» كما يقول الإنجليز …

وهؤلاء رجال لاهوتيون من أهل الورع والوقار، فما بالك بالتلاميذ الطلقاء من رهبة الدين وسمت الهيبة والسكينة؟!

فإذا عدت طالبًا، فماذا أصنع بين هذين المتنازعين؟ … هل أندم على قلة النظام أو على قلة التمرد فيما سلف من تلك الأيام؟

أحسب أنني أخذت من كليهما الكفاية، وأنني لا أبالي أن أعود كما كنت بغير تبديل كثير …

كنت «نظاميًّا» في مواعيدي، فلا أذكر أنني تخلفت عن موعد حضور أو موسم امتحان أو حصة مذاكرة حين تُفرَض للمذاكرة حصص في ختام السنة الدراسية …

وكنت إذا خالفت النظام، فإنما أخالفه في شيء يعنيني، ولا يعني المهتمين بدروسي وواجباتي.

إنما أخالفه في قليل من «البهدلة» التي تظهر في إهمال الملابس، وإهمال الحلاقة، وربما خالفته حبًّا للسرعة لا حبًّا للبهدلة والإهمال، فإنني لم أكن أطيق أن أنتظر «البذلة» عند الكواء، ولم أكن أعطي اللبس — ولا أنا أعطيه الآن — أكثر من بضع دقائق في عجلة وهرولة، وقد أترك للفراش تغيير «البذلة» دون أن أختار له «بذلة» أخرى، وقد يغيرها وأنا لا أعلم بالتغيير …

•••

لهذا كنت في مقدمة التلاميذ المرضي عنهم من وجهة النظام، وكان بعض الأساتذة وبعض الزملاء يتناولونني أحيانًا بنكتة هنا وتشنيعة هناك من أجل البهدلة الكسائية، ولكنهم كانوا مع ذلك يتجاوزون عن هذه البهدلة اضطرارًا إذا وجب استقبال زائر كبير بخطبة أو تحية شعرية، أو وجب حل مسألة حسابية أو حل مشكلة من مشكلات الأجرومية الإنجليزية يعيى بعلاجها زملائي المتخلفون في الحساب واللغة …

وكنت — لحسن الحظ — محسوبًا من المفرطين في رعاية النظام وأداء الواجبات، حين كنت في الحقيقة مفرطًا في الخروج على النظام وإهمال الواجبات …

•••

كنت أجلس إلى المصباح في حجرتي حتى منتصف الليل أطالع وأذاكر، في ماذا؟!

كلهم في المنزل يحسبون أنني أذاكر دروسي وأطالع كتب المدرسة، ويصفونني من أجل ذلك بالغيرة على الواجب والأنفة من التأخر في الترتيب، وكلهم في الواقع لا يعلمون الحقيقة؛ لأنهم لا ينظرون في الكتب والدراسات التي أدمن مطالعتها …

إنها تارة ديوان شعر، وتارة أخرى قصة من قصص ألف ليلة ونحوها، وتارة غير هذه، وتلك مجلة شهرية «كالمقتطف»، و«الهلال»، و«المحيط»، و«المفتاح»، وغيرها من مجلات تلك الأيام!

ولهذا لا يسوءني أن أعود طالبًا، فأعود نظاميًّا على هذه الوتيرة؛ إذ هي نظامية تجمع بين قضاء حق الواجب، وقضاء حق التمرد في رأي الذين يطالبونني بالنظام …

•••

كدت أنسى أن أقول للقارئ إن هذه المغالطة لم تكن غاية شوطي من التمرد على النظام أيام التلمذة …

فقد ذهبت في التمرد إلى النقيضين، وكان بعض هذا التمرد خطرًا على الحياة؛ لأنه كان يغريني بالسباحة في النيل، وما أدراك ما النيل عند أسوان؟!

إنه يبلغ من العرض قرابة ميل، ويندفع فيه التيار من شلال وراء شلال، وتلتف الدوامات بصخوره، فلا يقدر على عبورها غير السابح الخبير، وتكمن التماسيح في مائه متربصة بالسابحين، ولا سيما قبل تمام أعمال البناء على عيون الخزان …

وكنا نخرج من المنازل وعلى سيقاننا خواتم سليمان مرسومة بالمداد الخفيف الذي لا يحتمل الماء، ولكننا مع هذا كنا نستجيب لغواية النيل، ونعوم بين جزائره المترامية في أخطر أيام الفيضان، ونعتمد على فن الرسم لإخفاء معالم العصيان، فلا يخذلنا هذا الفن إلا حين ننسى ونتعجل، فنرسم خاتم سليمان على اليمنى بدلًا من اليسرى، أو على اليسرى بدلًا من اليمنى، فيأخذ منا النظام حقه عصيًّا، أو سياطًا معدودات … ثم نعود إلى العصيان وتزييف خاتم سليمان.

•••

هذه مجازفة في سبيل الرياضة البدنية …

مجازفة بالخروج على النظام، ومجازفة بالتعرض للغرق، ومجازفة بالتعرض للعقاب …

فهل كنت مع هذا من محبي الرياضة البدنية؟

كلا … بل كنت أغيب عن حصتها عمدًا، وأعلم أن جزاء الغياب حبس ساعات …

وهذا هو الذي عنيته حين قلت فيما تقدم: إنني ذهبت في التمرد إلى النقيضين، وأعود فأسأل نفسي وأسأل القارئ أيضًا: هل هما نقيضان حقًّا؟ وهل السباحة التي نهواها «كالجمباز» الذي نُساق إليه على الرغم منا ونهدد بالعقاب لنقبل عليه مكرهين؟

من جهة، هما نقيضان …

ومن غير هذه الجهة لا تناقض بين هوى السباحة، وكراهة الجمباز المفروض بالإكراه، فقد يكون الذنب على الطريقة لا على الجمباز …

ولكنني بعد هذه السنين الطوال أقول: إنني أود لو عدت طالبًا لأمسح «تمردي» في صفحة واحدة هي صفحة الألعاب الرياضية، فقد تعبت كثيرًا من جراء كراهتها وإهمالها، ولو أنني أعطيتها جانبًا من الوقت إلى جانب الأوقات التي أخذها المعري وشركاؤه لاسترحت في بدني من بعض المتاعب ولعلي أُكفِّر — من حيث لا أشعر — عن خطيئتي في حقها بما كتبته وكررته عن فضائلها وحقوق أبطالها، فهي في رأيي أحد الترياقين الموصوفين لكل أمة تشكو الخمول وتطلب السلامة والقوة، والترياق الآخر هو الفن الجميل …

لو عدت طالبًا …

ولماذا أعود طالبًا؟ … إن كانت العودة للتكفير عن خطيئة الألعاب الرياضية، فالصلح معها على طريقتنا المختارة يغنينا عن مشوار الرجوع كل تلك السنين …

•••

كلا … لا أحب أن أعود؛ لأن الحاضر خير من الماضي فيما أرى، وبخاصة حين نعود إليه. وإنما يحلو الماضي حين ننظر إليه بأعيننا الحاضرة …

فلننظر بها قانعين إلى ما بين أيدينا من السنين …

(٣) فلسفتي في الحب

ما ليس بالحب أسهل في التعريف مما هو الحب، وهكذا الشأن في كل تعريف لمعنى من المعاني أو كائن من الكائنات، فنحن نستطيع في لمحة عين أن نعرف أن زيدًا ليس بعمرو، ولكننا لا نستطيع في هذه السهولة أن نذكر تعريف عمرو أو زيد، ونحيط بأوصاف هذا أو ذاك، ولو كنا من أعرف العارفين بالاثنين …

وعلى هذا القياس نعرف الحب من طريق النفي قبل تعريفه من طريق الإيجاب …

فليس الحب بالغريزة الجنسية؛ لأن الغريزة الجنسية تعم الذكور والإناث، ولا يكون الحب بغير تخصيص وتمييز.

وليس الحب بالشهوة؛ لأن الإنسان قد يشتهي ولا يحب، وقد يحب وتقضي الشهوة على حبه.

وليس الحب بالصداقة؛ لأن الصداقة أقوى ما تكون بين اثنين من جنس واحد، والحب أقوى ما يكون بين اثنين من جنسين مختلفين.

وليس بالانتقاء والاختيار؛ لأن الإنسان قد يحب قبل أن يشعر بأنه أحب، وقبل أن يلتفت إلى الانتقاء والاختيار.

وليس الحب بالرحمة؛ لأن المحب قد يعذِّب حبيبه عامدًا أو غير عامدٍ، وقد يقبل منه العذاب مع الاقتراب، ولا يقبل منه الرحمة مع الفراق …

والحب كذلك يعرف جزءًا جزءًا قبل أن يعرف كاملًا شاملًا مستجمعًا لكل ما ينطوي عليه.

ففي الحب شيء من العادة؛ لأن المحب يهون عليه ترك حبيبه إذا كان تركه لا يغير عاداته ومألوفاته، وأقوى ما يكون الحب إذا طال امتزاجه بالعادات والمألوفات …

وفي الحب شيء من الخداع؛ لأن المرأة الواحدة قد تكون أفضل المخلوقات في عين هذا الرجل، وتكون شيئًا مهملًا لا يستحق الالتفات في عين ذاك، ثم تعود كالشيء المهمل في عين الرجل الذي فضلها من قبل على جميع المخلوقات …

وفي الحب شيء من العداوة؛ لأن المحب مُكرَهٌ على البقاء في أسر الحب، عاجز عن الإفلات من قيوده، ويقترن الشعور بالإكراه، والعجز دائمًا بشعور النقمة والعداء …

وفي الحب شيء من الأنانية ولو أقدم صاحبه على التضحية؛ لأنه لا يترك محبوبه لغيره ولو كان في ذلك إسعاده ورضاه، ولكنه قد يضحي بنفسه إذا اعتقد أن محبوبه لا يصير إلى سواه …

وفي الحب شيء من الغرور، ولولا ذلك لما اعتقد الإنسان أن إنسانًا آخر يهمل الألوف من أمثاله ليخصه وحده بتفضيله وإيثاره …

وقد يخلو الحب من كل شيء إلا من شيء واحد، وهو الاهتمام … فصدِّق إن قيل لك إن حبيبًا يبغض حبيبه ويؤذيه، وصدِّق إن قيل لك إن حبيبًا يتقبل من حبيبه البغض والإيذاء، وصدِّق إن قيل لك إن الحب والازدراء يجتمعان، وصدق إن قيل لك إن الحب يخون أو يقبل الخيانة من المحبوب، فأما إن قيل لك إن حبًّا يبقى في النفس بغير اهتمام، فذلك هو المحال الذي لا يقبل الصديق.

•••

وفي الحب شيء من القضاء والقدر، كما يعبرون عنه في لغة الحوادث والتحقيقات …

لماذا وُلِد فلان؟ لماذا مات علان؟ لماذا أحب فلان؟ إن «التأشير» على المحضر بكلمتي «القضاء والقدر» هو أصدق ما يُقَال في تعليل هذه الأحداث المتشابهات؛ لأنها كلها من أطوار الحياة التي لا يملكها الإنسان، ولا يحسب أنه سيطر عليها حتى يرى أنها هي مسيطرة عليه …

وإلا فماذا تقول إذا سألك سائل: لماذا أحب فلان فلانة؟ ألأنها أجمل من يرى من النساء؟ ألأنها أقرب الناس إليه؟ ألأنها تجزيه الحب بمثله؟ ألأنها تروعه بالفطنة النافذة والخلق الحميد؟ ألأنها تنفرد بمزية من المزايا لا توجد في العشرات والمئات؟

ماذا تقول غير «القضاء والقدر» إذا كانت «لا» هي جوابك على كل سؤال من هذه الأسئلة؟ ولعلها هي كذلك جواب المحب المفتون!

فقد تعمى الأبصار عن الحب كما تعمى عن الأقدار، أو يسير الحب إلى فريسته كما قال ابن الرومي في مسير القضاء:

أو مسيرِ القضاءِ في ظُلَمِ الغيـ
ـبِ إلى قاصدٍ له بالتَّواءِ

وربما خطر للفريسة المخدوعة أنها تهرب وتمعن في الهرب، وهي تقترب في كل خطوة من الشَّرَك المنصوب في الخفاء، وربما أنكر المحب أنه محب كما ينكر السكران أنه سكران، بل لعله يشتد في الإنكار كلما اشتد به الدوار، ولا يدري أنه قد سكر حقًّا إلا حين يأخذ في الإفاقة، ويقوى بعض القوة على فتح عينيه وتحريك قدميه.

وأوجز ما يُقال: إن الحب قضاء يملك الإنسان ولا يملكه الإنسان، ولو دخل في مشيئته لما استولى عليه، ولا غلبه على أمره …

قال بعض الحكماء: إن الحجر الذي تقذفه بيديك يحسب أنه يطير في الجو باختياره، لو كان له شعور …

وهكذا يحسب العاشق وهو يتهالك على معشوقته … يحسب أنه هو الذي يريد ما يصيبه، ولا يزال على حسبانه حتى يحاول ألا يريد، فلا يستطيع …

وخلاصة القول: إن الحب عواطف كثيرة، وليس بعاطفة واحدة، ومن هنا كان أقوى وأعنف من العواطف التي تواجه النفس على انفراد …

ففيه من حنان الأبوة، ومن مودة الصديق، ومن يقظة الساهر، ومن ضلال الحالم، ومن الصدق والوهم، ومن الأثرة والإيثار، ومن المشيئة والاضطرار، ومن الغرور والهوان، ومن الرجاء والقنوط، ومن اللذة والعذاب، ومن البراءة والإثم، ومن الفرد الواحد، والزوجين المتقابلين، والمجتمع المتعدد، والنوع الإنساني الخالد على مدى الأجيال …

والذي يعجب لذلك يعجب في الحقيقة من أقرب الأشياء إلى المألوف، وأبعدها من العجب والغرابة.

فكيف يكون الحب شعورًا يستولي على نفسين كاملتين، ثم يخلو من كل ما يخامر النفوس في مختلف الأوقات والأحوال؟!

وكيف يكون الحب مشتملًا على جسدين، ثم لا يضطرب فيه النزاع بين الجسدين والنفسين كما يضطرب الجسد الواحد في منازعة النفس الواحدة، ثم يزيد على هذا الاضطراب؟!

وكيف يكون الحب ترجمانًا لإرادة النوع، ثم لا ينطق بكل عاطفة يتسع لها كيان الإنسان؟!

•••

يسألونك عن الحب، قل هو اندفاع جسد إلى جسد، واندفاع روح إلى روح …

ويسألونك عن الروح، فماذا تقول؟

قل هي من أمر ربي … خالق الأرواح!

لهذه الكثرة الزاخرة في عناصر الحب، تكثر العجائب في العلاقات بين المحبين فيجمع الحب بين اثنين لا يخطر على البال أنهما يجتمعان …

ويتكرر الحب في حياة الإنسان الواحد حتى ليكون المحبوب اليوم على نقيض المحبوب بالأمس في معظم المزايا ومعظم الصفات …

ويتقارب البعيدان، ويتباعد القريبان، ويتجدد القلبان بين آونة وأخرى كأنها من طبيعة الجان، والواقع أن العاطفة حرارة ونار، ولا فرق بين طبيعة الجان وطبيعة النيران …

إلا أن القلوب أقرب إلى التناسب والتجاوب إذا هي تناسبت في العمر، وتجاوبت في المزاج، وحب الفتى للفتاة كحب الفتاة للفتى لا يدوران على الجسد وحده كما قد يخطر على البال، ولكنهما يتناسبان ويتجاوبان؛ لأنهما ينظران إلى الدنيا بعين واحدة، ويستقبلان الحياة بشوق واحد، ويطربان ويغضبان على نحو واحد، ويعطيهما الجسدان المتشابهان فرصة واحدة للتفاهم على الآراء، وتبادل الخواطر والأهواء.

فلا تجاوب بين المحبين أقرب ولا أعم، ولا أقوى من تجاوب العمر والمزاج …

ولكن اختلاف السن قد يفتح الأبواب لداعية من دواعي التجاوب بين النفسين لا تتوافر في السن الواحدة على الدوام. وحاجة نفس إلى عطف الأبوة، وطمأنينة التجربة، وسكينة الرضى قد تقابلها حاجة نفس إلى دفء العاطفة، وحماسة الرغبة، وإسداء العطف والرعاية، فتقبل النفس على النفس، ويعتصم الضمير بالضمير، ويقع التبادل بين بضاعتين مختلفتين لا بين بضاعة واحدة من كلا الطرفين. ولكنها الندرة التي لا يُقاس عليها، والمصادفة التي لا تنتظم في حساب، وكأنما يختلقها الحب اختلافًا ليفتح باب الشك فيه، ويبطل اليقين في أمره، وهو لا يتقي خطرًا من الأخطار كما يتقي خطر اليقين الجازم والضياء الحاسم؛ فالحب بخير ما دام في القلب باب للشك مفتوح … فإذا أوصد الباب مصراعيه على يقين لا شك فيه، فالحب مارد في قمقم مأمون، أو رفات في قبر مدفون …

وخلاصة التجارب كلها في الحب أنك لا تحب حين تختار ولا تختار حين تحب، وأننا مع القضاء والقدر حين نُولَد وحين نحب وحين نموت؛ لأن الحياة وتجديد الحياة وفقد الحياة هي أطوار العمر التي تملك الإنسان، ولا يملكها الإنسان …

وقد تسألني في خاتمة المطاف: هل الحب إذن أمنية نشتهيها؟ أو هي مصيبة نتقيها!

ولي أن أقول: إنه مصيبة حين تحمل به نفسًا ثانية مع نفسك وأنت تريدها ولا تريدك، وإنه أمنية حين تتعاون النفسان ولا تتخاذلان …

وليس بالمصيبة، ولا يكفي فيه أن يُوصَف بالأمنية، حين لا عبء ولا تخفيف، بل تنطلق النفسان محمولتين معًا على كاهل «النوع» كله أو على أجنحة الخلود التي تسبح في أنوار عليين … وما من محبين إلا اتفقت لهما هذه الرحلة السماوية في سهوة من سهوات الأيام …

(٤) فلسفتي في الحياة

من فلسفة الحياة ما نستمده من الطبع الموروث …

ومنها ما نستمده من تجربة الحوادث والناس …

ومنها ما نستمده من الدرس والاطلاع …

وهي في اعتقادي على هذا الترتيب في القوة والأصالة، فلا يتفق الناس في فلسفة الحياة إذا كان بينهم اختلاف في الطبع الموروث، وإن اتفقوا في الدرس والاطلاع، أو اتفقوا في تجارب الحياة …

وأهم جانب من جوانب فلسفتي في الحياة هو ما استفدته من الطبع الموروث، وجاءته بعض الزيادة من التجربة أو القراءة …

وأعني به قلة الاكتراث للمقتنيات المادية …

فأعجب شيء عندي هو تهالك الناس على اقتناء الضِّياع والقصور، وجمع الذخائر والأموال …

•••

وربما امتد العجب من هذا إلى ما هو أكبر وأعظم إلى رجالات التاريخ، وأبطال الفتوح والغزوات …

فالمتوسعون في الفتح أعجب عندي من المتوسعين في الثراء، وكلامي عن هتلر ونابليون والإسكندر هو أثر من آثار هذه العقيدة أو هذا الشعور …

وقد يخطر لبعض القراء أنها «فلسفة نظرية»، أو نزعة من نزعات الرأي والتدبير …

أما الواقع الذي أعلمه من نفسي فهو أن الطبع أغلب هنا من التطبع …

فلم أشعر قط بتعظيم إنسان لأنه صاحب مال، إن لم يكن أهلًا للتعظيم بغير مال …

ولم أشعر قط بصغري إلى جانب كبير من كبراء الثراء، بل شعرت كثيرًا بصغرهم حيث يستحقون التصغير …

وكنت أعتقد دائمًا أن نابليون مهرج إلى جانب باستور، وأن الإسكندر المقدوني بهلوان إلى جانب أرشميدس، وأن البطل الذي يخوض الحرب ذودًا عن الحق والعقيدة أكرم جدًّا من كل «بطل» يقتحم الحروب ليُقال إنه دوَّخ كذا من الأمم، وفتح كذا من البلدان …

من هنا كنت قليل المبالاة بالمقتنيات المادية؛ لأن احتواءها لا يعظِّم من يحتويها في نظري، ونقصها عندي لا يصغرني بالنسبة إليه …

•••

أما فلسفتي في الحياة من الناس، فأثر التجربة والدرس فيها أغلب من أثر الطبيعة الموروثة …

كنت أتعب في معاملتهم، ثم عرفت ما أنتظره منهم، فأرحت نفسي من التعب …

واتخذت لنفسي شعارًا معهم: ألا تنتظر منهم كثيرًا، ولا تطمع منهم في كثير.

والطمع في إنصاف الناس، إذا كان في الإنصاف خسارة لهم، أو معارضة لهواهم، هو الكثير الذي ما بعده كثير.

فهم منصفون إذا لم يكلفهم الإنصاف شيئًا، ولم يصدمهم في هوى من أهوائهم …

ومنهم المنصف وإن جنى عليه الإنصاف، ولكنه واحد في ألوف … لا تجده في كل حين …

ولقد رُضْتُ نفسي معهم على هذه الحقيقة، وتعودت منهم مجافاة الإنصاف حتى كدت أشعر بشيء من «خيبة الرجاء» إذا وقعت اتفاقًا على أحد المنصفين!

فهل هم أهل خير؟

هل هم أهل شر؟

ليبحث من أراد أن يبحث في أمرهم على مهل، ولكنه قادر على أن يستريح معهم في خلال ذلك إذا لم يطمع في خيرهم وهم أخيار، ولم يحفل بشرهم وهم أشرار …

•••

وفلسفتي في العمل تتلخص في أصول ثلاثة هي:

  • قيمة العمل فيه …

  • وقيمة العمل في بواعثه لا في غاياته …

  • وأساس العمل كله نظام …

فإذا علمت شيئًا له قيمته، فثق أنها قيمة «محفوظة» لا ينقص منها قول منكر، ولا يزيد فيها قول معترف …

وإذا لم تبلغ بك الثقة هذا المبلغ فاجعلها فرضًا بين فرضين ليس لهما ثالث: إما أن يكون للعمل قيمة مرهونة به فلا بأس عليه، وإما أن تكون قيمته مرهونة بمشيئة هذا أو ذاك فهو أهون من أن تأسى عليه …

وقد درج الناس على النظر إلى غايات الأعمال حتى أوشكوا أن يجهلوا بواعثها، أو يغفلوا عنها.

واختلاف البواعث هو الذي ينتهي إلى اختلاف الغايات، فالناس يختلفون في طلب المجد حين يطلبه أحدهم في الرئاسة، ويطلبه غيره في العلم، ويطلبه غيرهما في الثروة، ويطلبه آخرون في الإيمان …

وإنما اختلفت غاياتهم لاختلاف بواعثهم، فما يبعث هذا إلى العمل لا يبعث ذاك، وما يزهد فيه بعضهم يتناحر عليه غير الزاهدين فيه …

فعوِّل على صحة الباعث لك على العمل قبل التعويل على صحة الغاية؛ لأنك إذا صدرت عن باعث صحيح هان عليك أن تفوتك الغاية المرجوة، وعملت ما ينبغي أن تعمله، وبقي عمل الزمن أو عمل الأقدار …

وأصعب الأعمال سهل مع النظام …

والعمل الكثير مستطاع إذا نيط كل عمل بوقته؛ لأن حكم الأعمال الكثيرة في هذه الحالة حكم العمل الواحد … ما دام له وقت لا يشترك فيه عمل آخر، وشعاري مع النظام كلمتان: «لا ترتبك» …

وإنما تأتي الربكة من المفاجأة التي تطرأ على نظامك فتلجئك إلى تغييره …

فلا تغيِّر نظامًا لغيرة ضرورة …

وإذا حلت الضرورة فلا تتردد في تغييره، وخذ بين ذلك بالمهم في وقته الذي لا يحتمل التأجيل …

•••

فصواب هذه الخطة ثابت من جانب لا شك فيه، وهي أنها كل ما يستطاع وخير ما يستطاع، وإنك بها تعمل شيئًا، وبالتردد لا تنتهي إلى عمل شيء …

فلسفة حياة في بضعة سطور: غناك في نفسك، وقيمتك في عملك، وبواعثك أحرى بالعناية من غاياتك، ولا تنتظر من الناس كثيرًا …

(٥) الحياة … هل هي جديرة بأن نحياها؟

نعم … ولكن أي حياة؟ … لقد عاب القرآن الكريم على بني إسرائيل في عهد النبي خوفهم من الموت، فقال: إنهم أحرص الناس على «حياة»، ولم يقل على الحياة … لأن الحرص على الحياة واجب طبيعي وواجب إلهي لا عيب فيه، فلا يُلام الحي على أن يحرص على الحياة … وإنما يُلام لأنه يحرص على كل حياة وأي حياة، ولو قبل الهوان، وهرب من الواجب، وامتنعت عليه وسائل العمل النافع، ووسائل الرجاء في صلاح الأمور …

وفي ختام مقال لي عن «فلسفة الحياة» قلت ما معناه: إن الحياة تستحق أن نصونها إذا كانت لنا شروط نمليها عليها وتقبلها، ولكنها غير جديرة بالصون إذا كانت كلها شروطًا تمليها هي علينا فنقبلها صاغرين، ولا نملك العرف والعدل فيها …

وهذا هو الفاصل الحاسم الذي نفرق به بين الحياة الكريمة والحياة المهينة، والحياة الأولى نعمة تُصَان، والثانية سخرة وسخرية في آنٍ … ومن الأمثلة التي يتضح بها هذا الفارق مثال الحياة في الشباب المقبل والحياة في الشيخوخة الفانية، فالشاب له أن يأكل ويشرب وينعم ويطرب، وعلى الحياة أن تديم له الصحة والنشاط والقدرة على هضم كل طعام، واحتمال كل شراب، والإعراض حينًا بعد حين عن المنام …

له أن يسرف، وعلى الحياة أن تعوضه تعويضًا كاملًا عن كل خسارة تصيبه من ذلك الإسراف.

له أن يطيش، وعلى الحياة أن تصبر على طيشه حتى يثوب إلى الحكمة، ويصلح بيديه ما كانت تصلحه هي بيديها …

له أن يعذب أبويه بالمغامرة والمخالطة، وعلى الحياة أن تحبب إليهما العذاب، وتلهمهما الصفح والحنان … فهو صاحب شروط، والحياة تتقبل منه تلك الشروط، فهي جديرة بأن يحياها، وهو جدير بأن يتقبلها على هواه وعلى هواها …

أما الشيخوخة الفانية، فهي على نقيض ذلك من الألف إلى الياء … حق للحياة أن تحرمها الطعام والشراب شيئًا فشيئًا، وواجب عليها هي أن تقنع بما بقي لها، وتجرب الاكتفاء بالموجود عن كل مفقود. من حق الحياة أن تطيش معها، ومن واجبها هي أن تتقي ذلك الطيش بالحكمة، وتحسب له الحساب بالتدبير بعد التدبير … فالحياة كلها شروط تمليها عليه، فيتقبلها، والحياة إذن غير جديرة بأن يحياها ولكنه يحياها، فلماذا؟ … إنه يحياها بحكم العادة وبحكم الضعف عن فراقها؛ لأن الإنسان لا ينبذ الحياة إلا بقوة مستمدة من الحياة. ومن أجل هذا، كانت نسبة الانتحار بين الشبان أكبر من نسبة الانتحار بين الشيوخ …

•••

ويشبه هذا المثال مثال الفارق بين الحياة المستقلة والحياة المستعبدة لأهواء الآخرين … فالحياة المستقلة نعمة، والحياة المسخَّرة «مدة سجن» تُقضى؛ لأن المستقل يملك شروطه ويمليها على الحياة فتقبلها، ولأن الحياة تملي شروطها على «المسخر» فلا يملك الفكاك منها … يعمل المستقل حين يشاء، ويستريح حين يشاء … أما المسخر فلا يعمل لنفسه، ولا يستريح لنفسه، ولكنه يجري في العمل والراحة على قانون مفروض عليه ولا رغبة له فيه …

ولنا أن نتخذ الأمثلة من الحياة الفنية كما نتخذها من الحياة الطبيعية، فنقول: إن الحياة الفنية تستحق العناء إذا كان عندك ما تقوله وتصنعه — وفاقًا لذوقك، ووحي وجدانك وعقلك — ولكنها لا تستحق عناء قل أو كثر إذا كان كل ما تقوله موافقة لأذواق الناس وعقولهم، ومرضاة لهم في مطالب المصلحة والجد أو مطالب اللهو والفراغ …

والشروط بالأمل الصحيح كالشروط بالعمل الواقع في تقويم قيم الحياة … فليس من الضروري أن تكون شروطك كلها منجزة بين يديك في كل ساعة؛ لأن الحياة ليست ساعة واحدة، وليست يومًا واحدًا، وليست سنة ولا بضع سنوات …

•••

فإذا كانت لك شروط مؤجلة فيها، فهي كالشروط المعجلة على حد سواء، ومثلك في ذلك مثل المنفق على حساب المحصول في المزرعة، وهو يعلم أن المحصول آتٍ لا ريب فيه … فالحياة مصرف كبير، وأموال المصارف ليست كلها حاضرة منجزة في كل لحظة من لحظات النهار والليل، وإنما تغني عنها الثقة التي لا غنى عنها.

فاقنع بشروط الثقة في بعض الأحوال، كما تقنع بشروط الثقة في كثير من الأحوال …

والحياة لعوب ماكرة، لا يحيط بمكرها جميع الأحياء ولو كانوا من أبناء آدم وحواء، وهي تعلم أنها تستهوي الخلق باللعب والدهاء، وتحول بينهم وبين الموت بالحيلة الناجحة في كثير من الأوقات، ولولا ذلك لشردوا منها كما يشرد الأطفال من الحبس الكريه الذي لا يلعبون فيه كما يشتهون؛ لهذا تُعطي بعض الشروط وتمنع بعضها، فلا تكون جديرة بالحب كله، ولا بالبغض كله في وقت واحد من أوقات عمر الإنسان.

فالشاب له شروط كثيرة على الحياة في الصحة والنشاط، ولكنها قد تملي عليه شروطها الثقيلة في مسائل العمل والمال، أو مسائل الجاه والنفوذ، والشيخ عليه شروط يطيعها في شئون بدنه ونفسه، ولكنه قد يملك شروطه في تدابير المعيشة التي تريحه، ويعوض بها مسافات من راحة العافية والسلامة.

والفنان المستقل قد يقول ما يشاء، ولكن الفنان «الهواش» قد يربح ما يشاء … ولولا ذاك لانتحر نصف الناس، وعاش الباقون في حكم المنتحرين … أو منتحرين مع وقف التنفيذ!

قبل أن أطبع ديواني الأول — على ما أذكر — كنا ثلاثة أو أربعة من قراء الشعر والأدب في بعض الضواحي التي يطيب فيها تناشد الأشعار، فتمثَّل أحدهم بهذين البيتين:

قالوا الحياةُ شقاءٌ
قلنا فأين النعيمُ؟
إنَّ الحياةَ حياةٌ
ففارِقوا أو أقيموا

وكان بعضنا لا يعلم أن هذين البيتين من نظمي، فقال هذا الكلام صعب … هذا كلام استغناء … كأنه يقول: من لم تعجبه الحياة فليشرب من البحر!

قلت: ليته يجد البحر ليشرب منه؛ لأن الموت قفر تنضب فيه جميع البحار إلا أن تكون حياض الموت التي قال فيها الشاعر:

أَتَتْ وحِياضُ الموتِ بيني وبينها
وجادتْ بِوَصْلٍ حين لا ينفعُ الوصلُ

فالحق أننا بين أمرين اثنين، لا ثالث لهما: فإما أن تكون الحياة جديرة بأن نحياها، وإما أن يكون الموت جديرًا بأن نموته … ولا خيار بعد هذا الخيار …

وأحسب أن إيماني بالحياة لم يتبدل منذ نظمت تلك الأبيات، وقد كان إيمانًا جديرًا بالتقدير والتكرير في غاشية الضعف التي رانت على زملائنا من أبناء الجيل كله أو جله؛ لأنهم كانوا يتباكون، ويظنون أن البكاء علامة الظرف والذوق؟ ويَشكُون الحقيقة ويظنون أن جهاد الحياة شيء لا يليق بأصحاب المزاج «الرقيق».

وليس معنى هذا أننا لا نشكو من حالة من الحالات، فإن الدنيا ما خلت قط، ولن تخلو أبدًا من أسباب الشكاية بسبب معقول أو غير معقول … ولكننا نعني أن شكوى الطفل لأمه غير شكوى الرجل لنفسه، وأن الحياة حياتنا … فنحن مسئولون عنها، ونحن نصلحها، ونعالج نقصها، ونجعلها أهلًا لنا، أو جديرة بأن نحياها، وقولنا إن الحياة غير جديرة بأن نحياها مرادف لقولنا إننا نحن غير جديرين بالحياة …

فلا نقل هذا ولا ذاك، ولنقل إن الحياة جديرة بأن نحياها فنراها كذلك …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤