الفصل الثامن

(١) بعد الأربعين

من الأقوال الشائعة أن الشباب يبدأ حياته «خياليًّا»، ثم يصير إلى الواقع شيئًا فشيئًا حتى ينكر كل خيال …

لكنني أذكر أن البداءة معي كانت على خلاف هذه القاعدة، وأنني الآن أقل إيمانًا بما يسمونه التفكير الواقعي مما كنت في مستهل الشباب.

ففي مقدمة «خلاصة اليومية» وهي أول كتاب طبعته قبل عشرين سنة قلت ألخص الأفكار التي جمعتها في تلك الخلاصة:
  • أولًا: إن كل ظواهر هذا الكون علويها وسفليها، ظاهرها وباطنها، نتيجة تفاعل القوى المختلفة … وكذلك الأمر في الاجتماع البشري …
  • ثانيًا: إن اللذة والألم أو — بعبارة أعم — المنفعة والضرر هما الدعامتان اللتان عليهما تقوم الأخلاق البشرية كافة …
  • ثالثًا: إن الإنسان حيوان راقٍ، ولكنه لا يزال «حيوانًا» …

فهذه نظرة «واقعية» لا أومن بها الآن بعد أن جاوزت الأربعين، وليس يتسع المقام هنا لتفصيل الخلاف بين رأيي في العشرين ورأيي في الأربعين، فهذا مجال واسع كثير الشُّعَب كثير التفاصيل، ولكنني أردت أن أقول إن الأمر قد يختلف أحيانًا، فيبدأ الشاب بالنزعة الواقعية، ثم ينتهي إلى التعديل فيها، وليس من الضروري في كل حال أن يبدأ بالخيال، وينتهي بالنزعة الواقعية …

على أن الحقيقة التي لا ريب فيها أن «النزعة الواقعية» عند الشاب لا تخلو من الغضب العنيف على محاسن الخيال والأمثلة العليا، فكما أن الفتى المدله يشعر بالخيانة من حبيبته فيروح ثائرًا غاضبًا يقسم أنها دميمة، وأنها حقيرة، وأنها لا تستحق منه الشغف، ولا الغضب، ولا النقمة، كذلك يفعل الشاب الذي يخيب أمله في المثل الأعلى فينقلب عليه ثائرًا غاضبًا يقسم أن المثل الأعلى خرافة، وأن الحياة كلها «مادة»، وأن الإنسان حيوان، وخير له أن يعيش كالحيوان.

فلا ينبغي أن نصدق العاشق المخدوع الثائر على الحبيبة، ولا الفتى المفكر الثائر على المثل الأعلى فإن العاشق يثور وينكر جمال حبيبته؛ لأنه يحب ويريد أن يحب، والفتى المفكر يثور وينكر جمال المثل الأعلى؛ لأنه يؤمن ويريد أن يؤمن. وهذا هو الفرق بين النزعة الواقعية عند الشباب والنزعة الواقعية عند الشيوخ … ففي الشباب تكون النزعة الواقعية أشبه بالغضب من محاسن الخيال والمثل العليا، وفي الشيخوخة تكون النزعة الواقعية إنكارًا لوجود تلك المحاسن والمثل، وعجزًا عن الشعور بوجودها مع الرضى عنها أو الغضب عليها …

فأنا في التفكير بدأت بشبابي «واقعيًّا»، وانتهيت إلى الشك في قدرة الإنسان على إدراك الواقع كله … لأن إدراك الواقع كله لا يتأتى لإنسان محدود في زمانه ومكانه وتفكيره وشعوره؛ إذ الواقع كله شيء يتناول الكون في ظاهره وخافيه، وليس للكون حدود في الزمان والمكان، ولا في مؤثراته على الفكر والشعور … فالذين يحسبون أنهم قادرون على إدراك الواقع في المسائل الكبرى، والأصول الخالدة هم الواهمون، وهم هم الذين لا يستحقون اسم «الواقعيين».

•••

هذا في التفكير …

أما في المسائل النفسية، فالذي أجزم به أن الزمن لا يغير عناصر النفس الأصيلة، ولا يزيد عليها ولا ينقص منها …

فكل ما كان في نفسي من أخلاق وأطوار وشهوات أحسستها في إبان الشباب الأول لا تزال قائمة هناك أراها في العشرين، وفي الخامسة والعشرين، وفي الثلاثين وفي الأربعين …

كل ما اختلف منها أنها كانت في حالة الفوران، ثم هي جانحة قليلًا إلى الاستقرار …

فكأنما هي مواد في قدر تغلي وتضطرب …

ففي إبان الشباب الأول كان الغليان شديدًا، فكانت هذه المواد تذوب وتتحلل، ويختلط لون منها بلون، وعنصر منها بعنصر، ولا تني صاعدة هابطة لا تلمحها إلى اليمين حتى تراها إلى الشمال، ولا تهم بأن تحصرها وتعرف مقدارها حتى تغيب عنك وتفلت من الإحصاء.

أما فيما بعد ذلك فقد جنحت إلى الاستقرار فأمكن أن تراها، وأن تحصرها وأن تعرف معادنها وألوانها، وقد رسب منها ما رسب، وطفا منها ما طفا، وقل اختلاطها وتميزت ألوانها؛ فسهل من إحصائها ما كان صعبًا، وأسلس من بيانها ما كان عصيًّا، ولكنها في جميع الناس هي هي بلا زيادة ولا نقصان.

فالسن لا تغير الطبائع ولا تضيف إلى عناصر النفس، أو تأخذ منها، ولكنها تعرفنا بمقاديرها ومواقعها، وتنقلها من غليان مبهم إلى استقرار واضح، ولكل من هاتين الحالتين فضله ورجحانه، ففي الغليان قوة وفي الوضوح معرفة، والمعرفة مع ذلك قوة للعارفين …

ذلك مجمل ما يُقَال في التغيير الذي طرأ عليَّ بين العشرين والأربعين من حيث التفكير، ولا سيما في المسائل الكبرى، ثم من حيث الأخلاق والبواعث النفسية.

•••

أما شئون المعيشة أو ما يسمى في بعض الأحيان بفلسفة العيش، فالاختلاف فيه بين العشرين والأربعين غير قليل …

ففي العشرين كنت كالمسافر الموعود في رحلته بأمتع المناظر وأعجب المفاجآت، فلا يزال يعرض عما يراه؛ لأنه دون ما كان ينتظر ويتخيل، ولا يزال مستهينًا بالحاضر أملًا فيما يليه.

أو أنني كنت في العشرين كالجالس على المائدة وهو يظن أن أطايب الطعام لا تزال مؤخرة محجوزة؛ لأنه لم يجد أمامه طعامًا يستحق الإقبال …

فهو لهذا يصيب منها القليل، ويعف عن الكثير، ويزهد فيما بين يديه ويتشوق لما بعده.

حتى إذا أشفق أن ينهض جائعًا تناول مما بين يديه في اعتدال؛ فأمن الجوع، وأمن فوات المقبل الموعود.

•••

وكذلك كنت في العشرين وأصبحت في الأربعين، فكنت أرى كل متعة حقيرة زهيدة شوقًا إلى ما بعدها وارتيابًا في قيمتها، وأن تكون هي كل ما تزلفه الحياة لأبنائها، ثم أخذت نفسي بأن أتناول ما على المائدة تناول رجل لا يفوت الحاضر، ولا يحب أن يفوته المستقبل، والعجيب أنني كنت متنطسًا عازفًا عن الدنيا حين كانت عندي كلها مادة وحيوانية، وأنني أقللت من التنطس والعزوف حين رأيت في الدنيا شيئًا غير المادة والحيوانية…وإنما يبدو هذا عجيبًا في الظاهر الذي نراه لأول نظرة دون الباطن الذي نراه بعد إنعام النظر، فإن العزوف الأول كان عزوف عاشق ساخط يطلب من الحياة الكثير، فإن لم يأخذه أنف من القليل … ومن طلب صاحبته كلها لم يقنع منها بنفاية ما تعطيه! … فالفرق ظاهر بين هذه العلاقة وعلاقة العشرة الهينة التي تقوم على رأي بشار:

إذا أنتَ لم تشربْ مرارًا على القذى
ظمئتَ وأيُّ النَّاسِ تصفو مشاربُهْ

وبعد، فما النصيحة التي ينصح بها رجل في الأربعين للشبان الناشئين؟

أحسب أن الشيوخ أولى مني بنصيحة نافعة في هذا المقام، وتلك هي أن يجتنبوا اللجاج في النصح للشبان الناشئين؛ لأنه أضيع شيء عندهم ولا لوم عليهم؛ إذ ليس في وسع الشاب أن يعيش في عمرين مختلفين، ولا في وسعه أن يجمع بين حياة المجرب وحياة غير المجرب، كائنًا ما كان نصيبه من اليقظة والذكاء، ولو كانت النصيحة تغني عن التجربة كل الغنى، لكانت الحياة عبثًا ضائعًا ولاستطاع الفتى في العشرين أن يعلم ما قد علم الشيخ في الستين أو الثمانين؛ فالشيخ الذي يحاول أن يلقن الشاب الناشئ حكمة الشيخوخة كالبستاني الذي يحاول أن يغرس نبات الشمال في حرارة خط الاستواء، فهذا وذاك على خطأ لا يليق بالمجربين.

•••

إنما النصح أن توجه ذهن الفتى الناشئ إلى ناحية من الحياة توضِّحها له ما استطعت التوضيح، فأنت تصوِّب النور أمام عينيه، ولكنك لا تعطيه النظر، ولا الرغبة في المسير، ولا القدرة عليه، وهذا هو مدى النصيحة المعقول، من تعداه من المجربين فتجربته عبث، وهو — قبل الناشئين — في حاجة إلى الناصحين!

(٢) وحي الخمسين

من كلمات «فيكتور هيجو» — على ما أذكر — أن الخمسين شيخوخة الشباب، ولكنها شباب الشيخوخة.

وفي هذه الكلمة حقيقة أكثر من مجازها، على خلاف كلمات هيجو التي يكثر فيها المجاز وتقل الحقيقة، ذهابًا مع الجرس أو إيثارًا لمحاسن التشبيه …

فذو الخمسين شاب بين الذين نيفوا على السبعين أو الثمانين، يشعر بهذا كما يشعرون به وإن لم يقصدوه ويتعمدوه؛ فإذا اجتمع مجلس من المجالس التي يختار لها الأعضاء ممن جاوزوا الأربعين، كبعض المجالس النيابية وبعض المجامع العلمية والأدبية، رأيتهم يتصرفون في التقديم والتأخير والإيثار بالراحة والرعاية، تصرف الأبناء والآباء في الأدب والمعاملة وهم دون ذلك في السن بكثير، ورأيت أبناء الخمسين، وربما بدرت منهم «شيطنة» التلاميذ في معاملة الأساتذة الذين يوقرونهم ويحبونهم، ولا يخلونهم من فلتات «الشيطنة» مع ذاك!

ولا حاجة بنا إلى إطالة التذكير بتلك الحقيقة الخالدة التي لا ينبغي أن تُنسَى في مقام، ونعني بها أن المسألة اعتبارية إضافية في جميع الأعمار والعلاقات، فما يصدق على الخمسين عند فريق من الناس، قد يصدق على غيرهم، وعلى الستين عند آخرين، فإنما الكلام في هذه الأمور على الإجمال، ولا يتأتى أن يُساق الكلام فيها على التفصيل لكل فرد من الناس على حدة.

•••

ومن الصور التي كانت شائعة في أوائل القرن الحاضر — ولا تُرى الآن كثيرًا — صورة العمر الإنساني وأدواره من السنة الأولى إلى المائة، فندر دكان حلاق دخلت إليه قبل ثلاثين سنة إلا كانت فيه هذه الصورة التي كان لكل زائر وقفة عندها يتبين فيها مكانه من الدرج الصاعد أو الدرج الهابط، وربما كان التفات الشيوخ إليها أكثر من التفات الصبية والشبان؛ لأن الصبية والشبان واثقون من المكان في حاضرهم وبعد زمن طويل، أو طويل على ما يحسبون، ولكن الشيوخ لا يثقون من مكانهم على هذه الدرجات إلا إلى حين — فهم دائمو التلفت إليه، مخافة أن يضيع! …

في تلك الصورة طفل مولود في مهده، ثم وُلِد في العاشرة يعدو وراء طوقه، ثم شاب في العشرين يصاحب فتاة في مثل عمره أو دون عمره بقليل، ثم رجل في الثلاثين معه امرأة تقاربه سنًّا، وبينهما طفل أو طفلان، ثم كهل في الأربعين تمت له مظاهر السمت والقوة والقوام، ثم يرتقي على قمة الدرج في أوسطه شيخ في الخمسين قد أدار ظهره إلى الدرج الصاعد وقد أدركه بعض الانحناء، واستقبل بوجهه الدرج الهابط وقد تزايد انحناء الهابطين عليه درجة بعد درجة، أو دركة بعد دركة، حتى انتهوا إلى كرسي كمهد الطفل في سنته الأولى، يجلس عليه شيخ فانٍ في المائة، قد نكس رأسه، لا يلتفت إلى الأمام ولا وراء …

تمثيل حسن لأدوار العمر الإنساني على كل درجة من درجاته مع استحضار الفوارق النسبية بين إنسان وإنسان.

ويصح على هذا التصوير أن تكون الخمسون أعلى الذروة في درجات العمر كله، قبلها الصعود وبعدها الهبوط، وهي بينهما في مكان الاعتدال والاستواء.

ومن المحقق أو الراجح في جميع الأعمار، أن الخمسين نهاية الكسب أو التحصيل من الحياة، ليس بعدها ما يأخذه الإنسان من الدنيا، ويضيفه إلى تكوين عقله وجسمه، ولكنه لا يزال بعدها يُعطَى الكثير ويفقد الكثير، إيذانًا بفقد كل شيء يأخذه التراب من التراب.

إذا قيل على هذا التعبير: إن الثلاثين سن التحصيل، وإن الأربعين سن الجمع والثروة، فالذي يُقَال في الخمسين إنها سن التصفية و«عمل الحساب» ليعرف الإنسان نصيبه من الربح ونصيبه من الخسارة.

وهي من ثم سن اغتناء وليست سن افتقار، وإن جاز لي أن أقيس على نفسي فهي لا تقل غنى عن الأربعين، وقد تفوقها غنى من وجوه.

تفوقها غنى لأن التدبير فيها أفضل، لا لأن الثروة فيها أعظم، أو تفوقها غنى لأن الحساب فيها أضبط لا لأن الثروة فيها تزداد على التوالي كلما ازدادت السنون؛ إذ هي في الواقع كما أسلفنا تكف عن الازدياد في جملة المكاسب من خيرات الحياة.

فالرجل الذي ضبط حسابه — بعد التصفية الكاملة — قد يستفيد من مائة دينار ما ليس مستفيده غيره من مائتين قبل ضبط الحساب، والرجل الذي عرف ما له وما عليه يعرف على التحقيق أين يضع ماله وأين يمسك عن الإنفاق، وتلك معرفة لا يحيط بها الرجل الذي عنده المال الكثير، ولكنه قد ينفق من ديون، ويكف عن النفقة من الملك المضمون …

•••

هذه هي فضيلة الخمسين على أدوار العمر السابقة: فضيلة المال المحسوب والنفقة المقدورة، والثروة التي لا تزيد يومًا بعد يوم، ولكنها لا تضيع في غير طائل، ولا تذهب في غير المفيد.

ووحي الخمسين هو وحي هذه الفضيلة، أو هو وحي الملك الخالص لا يعتمد على الاستعارة، ولا يقوى على الإسراف في انتظار التعويض من الوارد الجديد …

إذ الوارد الجديد قليل …

إذا جاء الوارد الجديد فقلما يتسع الوقت لتصريفه وإعادة تثميره، وقلما يكون له موضع إلا أن يُضاف إلى ما قبله، كل باب إلى بابه وكل نظير إلى نظيره …

وحي الغنى المحسوب، وليس هو بوحي الغنى بغير حساب، أو هو التدبير وليس هو بوحي التجميع والازدياد.

ذلك هو وحي الخمسين الذي يرتقي إلى ذروة السلم، ثم يقف حيث لا يطول الوقوف.

ومن أمثلة كثيرة بين أصحاب الوحي — وأصحاب الوحي هنا هم المنتجون في عالم الذوق والتفكير — نرى أن ثمرات الخمسين بين الفلاسفة والشعراء، وأرباب الفنون تضارع خير الثمرات في سائر الأعمار …

ولا يبدو هذا عجيبًا في الكلام على الفلسفة والمذاهب الفكرية؛ لأن الفلسفة حكمة، والحكمة مقرونة في الأذهان بالشيخوخة وتقدم العمر، وزيادة التجربة والروية.

ولكنه يبدو عجيبًا حين نتكلم عن الشعر والفنون؛ لأن الشعر والفنون جمال، والجمال مقرون في الأذهان بالشباب وصحوة العمر، وقد يكون مقرونًا إلى حد كبير بالغرارة، وقلة النصيب من التجربة والروية.

وهنا وهم يجب الالتفات إليه.

إذ يجب التفريق بين الجمال وتقدير الجمال، ويجب التفريق بين تقدير الجمال، والتعبير عن تقديره.

ومهما يختلف المختلفون في جمال الشباب وجمال كل عمر من الأعمار، فالحقيقة التي لا خلاف فيها أن تقدير الجمال لا ينتهي بانتهاء الشباب، وأن القدرة على التعبير لا تنقص بنقصان الشباب، بل لعلها تزيد.

ومهما يقل القائلون عن استطاعة المتعة بالحياة، فالحقيقة التي ليس فيها قولان أن المعدة التي تهضم أعسر المأكولات ليست هي المعدة التي تتذوق أحسن المأكولات؛ لأن الخبز والملح لذيذان عند من يهضم ويستخلص من الطعام القليل أكثر ما فيه من غذاء، ولكن الاختيار الأنيق إنما يكون لمن لا مناص له من الاختيار، فلا يستهويه إلا ما كمل أو قارب الكمال.

فإذا كانت الأعمار الأولى أوفر حظًّا من متعة الحياة، فالأعمار التالية أوفر حظًّا من التمييز بينها والشعور بمزاياها والعرفان بما لكل منها من قيمة وحظوة، وهذه هي الحقيقة التي تزيل الوهم العارض الذي أشرنا إليه، وهو الوهم الذي يلقي في روعنا أن وحي الأربعين أو وحي الخمسين لا يوحي جمالًا؛ لأن الجمال مقرون بالشباب.

إن جمال الجوهرة غير تقويم الجوهرة، وغير تمييز الجوهرة، وغير السرور بالجوهرة لمن يقتنيها، وهذا هو بعينه ما يُقَال عن جوهرة الحياة فيما شئت من الأعمار وما شئت من الأقدار.

ولو اتسع المجال لأتينا هنا بالأمثلة من عشرات الدواوين الشعرية، وعشرات التحف الفنية، وقابلنا بين ما نتج منها في الثلاثين، وما نتج في الأربعين أو الخمسين أو الستين، فإننا لخليقون أن نعلم بالمقابلة والمضاهاة أن المزايا تتعادل وتتفاضل، فلا تنحصر المزايا كلها ولا الفضائل كلها في عهد من عهود الحياة، ولا تزال لكل سن فضيلة تعوضها فضيلة مثلها في سن أخرى، فإذا توفرت حماسة الشعور في بواكيره فقد تقابلها المعرفة بأنواع الشعور بعد فوات البواكير أو تقابلها القدرة على التعبير، والالتفات إلى الفروق، أو تقابلها تصفية تأخذ الخلاصة بعد أن تجمع لديها الكثير من الأزواد.

وفي الشرق تبكر الشيخوخة أحيانًا كما يبكر الشباب فيسرع الذبول كما تسرع النضارة، ويكثر النبوغ قبل الأوان كما يكثر الجمود قبل الأوان، ويندر بين أدبائنا من أتى بالفلق بعد الخمسين كما أفلق أناس من أدباء الغرب الذين جاوزوا السبعين أو الثمانين، ولكننا إذا رجعنا إلى أدبائنا الذين بلغوا تلك السن ألفينا لهم حسنات يعيشون بها في عالم الخلود يقرنها الناقد بأجمل حسناتهم المأثورة في أيامهم الأولى، وكلها ذات سمعة واحدة لا تعدوها وهي سمعة الثروة المملوكة والكنز المحسوب …

(٣) وحي الستين

إحياء ذكرى الميلاد، أو عيد الميلاد — كما يسميه بعضهم — عادةٌ جميلةٌ لسبب واحد على الأقل، وهو أن الاحتفال بهذا اليوم فرصة سنوية لاجتماع الأهل والإخوان في مودة وصفاء وإيمان بالإقبال على الحياة، كأنهم يشعرون جميعًا بأن دخول الحياة «مناسبة سعيدة» تستحق التذكر والاحتفال …

ولكنني، فيما عدا ذلك، لا أفهم في الواقع معنى لهذا الاحتفال بيوم الميلاد أو بعيد الميلاد …

هل هو احتفال بانقضاء ما مضى من العمر؟ … أو هو احتفال بالسنة القادمة التي لا نعلم كيف تكون؟ … وهل لا يكفينا الاحتفال برءوس السنوات إذا كان المقصود هو الاحتفال بالمستقبل المجهول؟ …

•••

لم أتعود لزامًا أن أحتفل بيوم ميلادي، ولم يعلم أحد مني أنا ببلوغي الستين في هذه السنة … ولكن أصحابي الذين يعرفون تاريخ ميلادي علموا بذلك، وتفضل بعضهم فكتب في الصحف مهنئًا ومحييًا لهذه المناسبة … فلم أفرغ بعد ذلك من الأسئلة التي ساقتها إليَّ هذه المناسبة السعيدة … ولم أزل أتلقى هذه الأسئلة التي تدل — أو معظمها — على فكرة واحدة عند سائليها، وهي أن الستين «نقطة تحول» في تاريخ الإنسان يكون له من بعدها شأن غير شأنه قبل بلوغها … ولا أدري كيف؟ …

إن الحياة ليست كالساعة أو الخريطة المرسومة بخطوط للتوقيت أو بخطوط للعرض والطول، وليس كل خط من هذه الخطوط المعروضة فيها فاصلًا حاسمًا بين عمرين …

والستون من ناحية أخرى رقم ثابت لا يتغير … وأين الرقم الثابت الذي لا يتغير من أطوار الحياة التي هي حركة متغيرة على الدوام في كل حي من الأحياء؟ …

وأين الرقم الثابت الذي لا يتغير من أطوار الحياة في الأحياء المتعددين الذين يحسبون بالملايين؟ …

•••

لقد سمعنا من زميلنا الأديب الظريف الشيخ عبد العزيز البشري — رحمه الله — نكتة قالها لعضو جليل من أعضاء المجمع اللغوي حين أُحِيل على المعاش، فقال له متبسطًا: «إنك لأصغر من بلغ الستين!»

وكانت هذه النكتة تُروى على أنها مزاح تجوز فيه المفارقات، ولا تستلزم فيه الدقة في التعبير … ولكن الواقع أنها جد دقيق وليست بالمزاح المرسل على عواهنه؛ لأن الستين بالنسبة إلى إنسان قد تكون «أصغر» من الخمسين بالنسبة إلى آخر، وأكبر من السبعين بالنسبة إلى غيره!

والمرجع في ذلك إلى العلم والتجربة المعهودة بين الناس، فإن علماء التاريخ الطبيعي يقررون نسبة بين سن النضج وعمر الحي من الآدميين وغير الآدميين: بعضهم يقول إن عمر الحي ثمانية أضعاف السن التي يتم فيها نموه ونضجه، وبعضهم يقول إنه سبعة أضعافه أو ستة أضعافه … ولكنهم متفقون على وجود النسبة بين أسنان النمو وبين أعمار الأحياء.

فلا غرابة على هذا أن يكون المبكر في النمو مبكرًا في الشيخوخة، وأن يكون ابن الستين في هذا الإقليم أصغر من ابن الخمسين في ذلك الإقليم، على حسب اختلاف الجو والمناخ، وعلى حسب اختلاف أثرهما في تكوين الأجسام والأعضاء.

•••

كذلك تختلف القدرة والعجز في الشيخوخة، على حسب اختلاف الأعمال أو الأعباء التي ينهض بها الإنسان … وقبل أن نقول مثلًا إن الشيخوخة أعجزته عن عمله، ينبغي أن نعرف أولًا ما هو هذا العمل الذي أعجزته عنه؟ …

فالرجل الذي يجاهد بأعضائه وعضلاته غير الرجل الذي يجاهد بتفكيره وعزيمته، أو الرجل الذي يجاهد بحسه وشعوره …

بل تختلف المجاهدة بالتفكير والعزيمة على حسب الاختلاف في نوع التفكير ونوع العزيمة.

فمصطفى كامل قد استطاع أن يثابر على القتال وأضلاعه مكسورة، وسعد زغلول قد عاش برصاصة في صدره وهو إلى جانب ذلك مصاب بالربو وبغيره من الأدواء …

إن الزعامة بنوعيها هذين، تتطلب هذه القوة الخارقة في تكوين البنية الجسدية …

ولكن هل يحتاج إلى مثل هذه البنية رجل يقوم عمله الأكبر على الدراسة والبحث والاطلاع! …

على هذا النحو من الاختلاف، يتغير الحكم على أبناء الستين أو أبناء أية سن من أسنان الحياة …

ثم هو لا يتغير من سنة إلى سنة، كأنما تقع السنون في الحياة موقع الخطوط على الخرائط والساعات …

ولكنه يتغير من فترة إلى فترة، يحسبها كل إنسان بما يتفق له من التجربة والاختبار …

•••

ومن هنا أعود فأقول: إن «الستين» لم تكن في حياتي نقطة تحول بين عهدين أو بين عمرين … ولكنني إذا نظرت إلى الفترة التي تمت بها الستون والفترة التي تمت بها الخمسون مثلًا، فهناك بعض الاختلاف بين الفترتين …

وهو فيما يُخيَّل إليَّ اختلاف في التلوين أو في التمكين، وليس اختلافًا في جوهر الموضوع ومادة القدرة والشعور.

ومثال ذلك أنني قد زادت قدرتي على البحث والدراسة، ونقصت قدرتي على مواصلة الكتابة والقراءة، ولكنني عوضت هذا النقص بازدياد المرانة على الكتابة، وازدياد الخبرة بالتقاط أصعب الفوائد من أيسر القراءات …

زادت حماستي لما أعتقد من الآراء، ونقصت حدتي في المخاصمة عليها؛ لقلة المبالاة بإقناع من لا يذعن للرأي والدليل …

لم تنقص رغبتي في طيبات الحياة، ولكنني اكتسبت صبرًا على ترك ما لا بد من تركه، وعلمًا بما يفيد من السعي في تحصيل المطالب وما لا يفيد …

•••

وارتفع عندي مقياس الجمال، فما كان يعجبني قبل عشر سنين لا يعجبني الآن، فلست أشتهي منه أكثر مما أطيق …

كنت قبل عشرين سنة كما أنا الآن … قليل الرجاء في خير بني الإنسان، وكنت أقول قبل عشرين سنة:

بحسبي من أبناءِ آدمَ إن صفا
لي العيشُ يومًا أن تكُفَّ أذاها

ولكن فلسفة الشعور هنا قد تحولت إلى فلسفة العمل، ولا أطيل في شرح هذا الفارق بين الفلسفتين، ولكنني أبينه بمثل من الأمثلة العملية يغني عن الشروح والنظريات …

كنت أقول لمن معي في مسكني إذا نمت أو تفرغت للكتابة: لا توقظوني ولا تقاطعوني إذا دق التليفون أو جاءكم زائر … ما عدا هذا الاستثناء، وذاك الاستثناء، وذلك الاستثناء، أما اليوم فلا استثناء على الإطلاق.

كنت أحب الحياة كعشيقة تخدعني بزينتها الصادقة وزينتها الكاذبة، فأصبحت أحبها كزوجة أعرف عيوبها وتعرف عيوبي، ولا أجهل ما تبديه من زينة وما تخفيه من قبح ودمامة …

وتلك فيما أرى نماذج كافية لبيان الفوارق بين الفترتين … فترة الستين، وفترة الخمسين، أو ما قبلها من أرقام العقود! …

وفي الجملة يتبين لي من التجربة والاختبار أن المشتغلين بالأعمال الفكرية لا تهيض السن من قدرتهم كما تهيض من قدرة العاملين بالعضلات، وما يشبه العضلات …

إن السن مكسب للعاملين بالقلم، أو هي إلى المكسب أقرب منها إلى الخسارة …

•••

ويسأل سائل: «وأين خرف الشيخوخة؟»

فيجيب قبلي مجيبون كثيرون: «إن الذين حسبوا أن الخرف والشيخوخة حالتان متلازمتان، بقية من بقايا القرون الغابرة؛ لأن العلم الحديث يعلم أن خرف الشيخوخة مرض من أمراض البنية وليس بعرض من أعراض الأسنان والأعمار … فمن نجا من جراثيمه نجا من أعراضه كما ينجو من الأمراض، وكما ينجو من الجراثيم.»

(٤) وحي السبعين

في الشباب نأخذ الحياة «مقايضة» لأنها تطلبنا كما نطلبها…أو نبذل فيها أضعاف ثمنها؛ لأننا نجهل حقيقتها، ونملك ثروة الشعور التي تساعدنا على الإسراف والبذل الجزاف.

وفي الشيخوخة نأخذ كل شيء بثمنه، ولا نعطيه فوق حقه؛ لأننا فقراء لا نملك الثروة التي ننفقها كما نريد، وعلى الرغم منها ننفقها كما نستطيع …

لا تسل أي الحالتين أفضل و«أعقل» فلا اتفاق على جواب لهذا السؤال …

•••

ولكنك إذا سألت: أيهما أحب وأجمل، فلا خلاف على الجواب: بين الشباب والشيخوخة فروق كثيرة، فما من حالتين من أحوال هذه الدنيا بينهما من الفروق أكثر مما بين هاتين الحالتين.

ولكن الفارق الأكبر بينهما أن الشباب حالة نتمناها على علاتها، وأن الشيخوخة حالة نرضاها أو لا نرضاها على حسب الظروف!

نتمنى الشباب على علاته، ونتمنى جهله كما نتمنى هداه، إن كان له هدى أو هداية مع هواه! …

بل نحن نتمنى جهله قبل هداه …

لأن جهله هو الذي يعطينا الجديد من مرارته وأسراره، وجهله هو الذي يعطينا أول قطفة من ثماره وأزهاره، وجهله هو الذي يشوقنا إلى غده في كل يوم من أيامه، ويجعل كل يوم من هذه الأيام كأنه يوم «كولمبس» في بحر الظلمات، أو يومه بعد ذلك في العالم الجديد.

والمرء يتمنى ما يجهل، ولا يتمنى ما يعرف، ولو عرفه لما تمناه، ولا وافق مناه؛ لهذا نتمنى الشباب على العلات! …

ولا يضيرنا أن نكون من الجهلاء! …

فهل نتمنى الحياة في السبعين؟ …

كلا ولا كلام … ولا نتمناها في السبعين بل نتمناها في العشرين وفي الثلاثين ونتمناها كلما جهلناها أو عرفناها على الظن لا على التحقيق.

أما في السبعين — وأنت في السبعين — فالتمني كلمة كبيرة عليها، وعلى كل شيء تعرفه قبلها وبعدها.

التمني كلمة كبيرة جدًّا على المقام أو على المناسبة، ولا بد لها من تواضع كثير قبل الطمأنينة والاستقرار، فحسبها أن تهبط من هذه العلياء إلى الوادي المطمئن بين القمتين!

•••

حسبها أن تهبط إلى وادي الرضا والقبول، فقد يكون الرضى بها غاية ما تستحقه من صاحبها، على اضطرار وعلى اختيار!

هل ترضى الحياة في السبعين؟ … نعم … فيها ما نرتضيه ولا ريب، وفيها البديل الصالح أحيانًا مما فقدناه في العشرين، ولم نجده في الثلاثين، ومما فقدناه في الثلاثين ولم نجده في الأربعين، ومما فقدناه ونفقده في كل سن ولا نجده …

فيها بديل بالرضى المعلوم عن الأمل الموهوم، وقد يكون الرضى بما تعلم بديلًا صالحًا من كل ما نرجو ونتوهم، ثم تندم عليه ولات مندم!

نحمد من السبعين أنها تعطينا الرغبة على قدر الطاقة، وأنها تعطينا الرغبة ومعها لجامها الصغير، تشد عليه إذا خطر لها أنها في حاجة إليه.

ونحمد منها أنها تعودنا الاستغناء عما يلزم وما لا يلزم … فليس في السبعين من ضروري لا غنى عنه، حتى الحياة، وحتى المجد، حتى الخلود! …

ونحمد منها أنها تعوضنا بالخبرة عن القوة، بل تعوضنا بالخبرة عن الوقت الثمين وهو مادة الحياة.

فإذا احتجنا في العشرين إلى عشرين سنة لنعرف إنسانًا نصاحبه، فحسبنا في السبعين عشرون ساعة لنعرف ذلك الإنسان غاية المعرفة التي تُتاح للإنسان، بل حسبنا كلمة نسمعها منه أو نسمعها عنه لنستغني بها عن الزمن الطويل في عشرته، وندخله في زمرة السواد التي تشمل كل بني آدم وحواء، كما قال أبو العلاء:

وما العلماءُ والجُهَّالُ إلَّا
قريب حين تنظرُ عن قريبِ

وإذا كان ابن السبعين ممن يقرأون ويكتبون فحسبه عشرون سطرًا من كتاب ليعرف ما هو الكتاب في الجوهر واللباب، ويعود إلى ما شاء من أبوابه أو يقنع منه إذا شاء بهذا الباب بعد ذلك الباب.

وفي السبعين جديدها الذي لا تشتهيه — الأنفس — ولكنه جديد يذهب بسآمة التكرار، فابن الأربعين يتبدل نظامًا للمعيشة أو نظامًا للصحة سنوات بعد سنوات.

•••

إذا تغير نظام المعيشة عنده في الثلاثين لم يسأل عن نظام جديد قبل الأربعين أو الخمسين، وإذا تغير نظام المعيشة عنده في هذه السن، فلعله لا يسأل عن غيره قبل الخامسة والخمسين أو السادسة والخمسين، أو الستين …

أما نظام الستين فما هو بصالح للحادية والستين إلا بشق الأنفس، وتعب الرأس، وجهد الطب والصيدلة، ودع عنك الخامسة والستين والسبعين وما فوق السبعين.

ولقد سُئِلتُ قبل عشر سنين عن شعوري بالحياة في الستين، فقلت: إنه شعور الحب لا مراء، ولكنه حب غير حب الحياة في ريعان الشباب؛ لأن الحياة لا تخدع الشيخ في الستين بالأبيض والأحمر والكحل والطلاء، ولا تطمع منه في حب كحب المعشوقة الفاتنة تخلبه بزينتها وتروعه بما تبديه وما تخفيه، وارتبطت به وارتبط بها على الخير والشر وعلى الحسنة والسيئة وعلى الوئام والخصام، وليست بالمعشوقة التي تتحبب إليه، ويتحبب إليها، وتلقاه ويلقاها على نمط من الإعجاب لا يخلو من التمثيل! …

فإن يكن لا بد من تشبيه الفارق بين مكان ابن السبعين ومكان ابن العشرين من الحياة … فهو على ما أحسب مكان واحد عند المائدة المشتهاة …

وإنما الفارق في «القابلية» أو اشتهاء الصحاف والصنوف، فلا نسيغ في السبعين ما كنا نسيغه في العشرين، ولا ننتفع اليوم بما كان ينفعنا بالأمس، ولكنني لو تخيلت الحياة طاهيًا يبسط أمامنا صحافه وصنوفه، لتخيلته مبتهجًا متهللًا كلما مددت يدي إلى صنف من صنوفه التي يبسطها على المائدة لضيوفه … فلا فخر للطاهي في نهم الجائع الذي يلتهم كل شيء ولا يعزف عن شيء، وله الفخر كل الفخر في كل لقمة يتناولها الشبعان القانع أو المتردد المصدوف.

•••

ومن سألني: هل تبادل؟ … هل تساوم على الزيادة والنقص في البدل؟ … هل تعطي وتأخذ وأنت مفتوح العينين في هذه الصفقة الرابحة؟ … وهل تسميها «صفقة رابحة» إذا أعطيت السبعين وأخذت العشرين والأربعين؟ …

فلا يحسبن السائل أنه يسأل عن تحصيل حاصل، ولا يعجلن بالجواب؛ لأنه يخاله من فصل الخطاب.

كلا … لا أبادل، ولا أقبل المساومة بغير معارضة على الشروط، ولن أقبل كل ما في العشرين أو أنفي عن كل ما في السبعين.

يفتح الله … فإما الحياة «على السكين» وإما لا حياة، ولن تجدني يومًا أحرص الناس على حياة، فما هي بشيء في حسابي إذا تجردت أمامي من الألف واللام، وحبذا هي من حياة إذا علمت أنها «الحياة» للعهد والتعريف …

وسأنفي من العشرين والأربعين كل ما سوغ لي ما لا يسوغ، وكل ما هون عندي ما لا يهون، إما في باطل لا يتحقق ولا خير فيه إذا تحقق، أو مجاملة لمن تستر لهم جهالتهم ولا يسترونها، ومن يسترون كل فضيلة ولا يكادون يرونها …

وسأبقي معي في السبعين كل ما يعين النفس على هجران الحياة إذا وجب أن تُهجَر، وهجرانها واجب يوم تستبقيني وأنا آسف للبقاء فيها.

•••

ولئن تمنيت شيئًا بعد السبعين، لأتمنين أن أعيش فلا أعيش عبثًا ولا فضولًا، وأن أعيش كما عشت بحمد الله على الدوام، أحقابًا وأحقابًا إلى الأمام، فيقول الناس اليوم ما كنت أقوله قبل عشرات الأعوام، فذلك هو العمر الذي أحتسبه سلفًا وأعيشه قبل حينه، فلا يكلفني انتظاره إلى الختام.

(٥) اعترافاتي

دارت عادة الاعترافات دورة تامة منذ وُجِدت قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة، إلى أن دخلت في نطاق الطب النفساني والجسماني قبل نحو ثلاثين أو أربعين سنة.

وقد اشتهرت الاعترافات في الهياكل على عهد الحضارة البابلية قبل ميلاد السيد المسيح بعدة قرون، وكانت في حقيقتها ضربًا من العلاج الجثماني الذي يتطلبه المريض من الطبيب؛ لأن البابليين كانوا يعتقدون أن المرض والبلاء على اختلافه عقوبة إلهية يقتص بها الأرباب من أصحاب الذنوب والخطايا، وأن الذي يبوح بخطيئته ويندم عليها يشفى من دائه بوساطة الكهان والأحبار، فكان الاعتراف بهذه المثابة ضربًا من الاستشفاء، كعلاج الأمراض بالطب في العصر الحديث.

وهكذا عاد كما بدأ، في أوائل القرن العشرين، فشاع الكلام عن الكبت، وعن العقد النفسية، وعن أثر التنفيس عنها بالاعتراف، والكشف في شفاء الأبدان والنفوس، فتمت الدائرة في حلقة مفرغة من أيام البابليين إلى أيامنا هذه من القرن العشرين.

ولن يكون الاعتراف اعترافًا في رأي بعضهم، إلا إذا كان اعترافًا بأمر يغلب على الناس إنكاره وكتمانه، فلا يفهمون من الاعتراف إلا أنه إعلان لخبيئة في النفس تشين صاحبها، وتدعوه إلى إخفائها.

لكنها على التحقيق مغالطة من مغالطات «العرف» التي تواضع عليها أبناء آدم وحواء على سنة الكذب والرياء، فهم جميعًا سواسية في الخطايا والعيوب التي يخفونها ولا يعترفون بها، ومتى صدق عليهم قول السيد المسيح: «من لم يخطئ منكم فليرمها بحجر.» فلا حاجة بهم إلى الحجارة ولا إلى الرجم، ولا معنىٍ لخجل قوم وشموخ آخرين، وما لم يكن الإنسان مجرمًا غارقًا في الإجرام أو نذلًا مغرقًا في الخسة، فعيوبه وخطاياه «قاسم مشترك أعظم» بينه وبين الآدميين جميعًا من قبل الطوفان إلى نهاية الزمان.

وحسبي اعترافًا في هذا الصدد أن أحدًا من الناس لم يسلم من عيوبي وخطاياي؛ فهل في وسعهم جميعًا أن يدَّعوا مساواتي في جميع فضائلي ومزاياي؟

من شاء أن يدَّعي فليدَّعِ ما يشاء، ولكنني لا أرى من الإنصاف أن أستهدف للحجارة، وعندي حجارة مثلها أقابل بها كل حجر بعشرة من أمثاله حين أريد أو حين أستطيع.

وأنا بحمد الله لا أريد ولا أستطيع، فلتكن حجارتي محفوظة في محجرها الأمين، وليكن اعترافي نوعًا من التعريف الذي يفيد، أما تبادل الحجارة طردًا وعكسًا، وعكسًا وطردًا فهو عبث لا يعيى به راجم ولا مرجوم، وهو كذلك لا يفيد.

أعترف بالخصائص النفسية التي تدل الناس على بعض الحقائق في الطبيعة الإنسانية، وذلك — ولا ريب — أجدى من الاعتراف بالعيوب والخطايا التي يتشابه فيها أبناء آدم وحواء على السواء أو على مقربة.

•••

وأول ما أعترف به أنني مطبوع على الانطواء، وأنني — مع هذا — خالٍ بحمد الله من العقد النفسية الشائعة بين الأكثرين من أندادي في السن ونظرائي في العمل، وشركائي في العصر الذي نعيش فيه.

ولقد ورثت طبيعة الانطواء من أبي وأمي، فلا أملُّ الوحدة — وإن طالت — بغير قراءة ولا تسلية، ولا أزال أقضي الأيام على حدة؛ حيث يتعذر على الآخرين قضاء الساعات واللحظات.

كيف يتفق هذا؟ … كيف يتفق الانطواء على النفس والخلو من العقد النفسية أو من الأسرار المكبوتة في اصطلاح النفسانيين المحدثين؟

هنا محل للاعتراف الذي قلنا: إنه خير وأجدى من تبادل الحجارة، فإن تفسير ما أعرفه من عادات طبيعتي خليق أن يصحح الأوهام عن معنى الانطواء، ومعنى العقد النفسية.

فليس كل انطواء كبتًا للنفس، أو كتمانًا لسر من الأسرار الخفية، وهناك فارق كبير بين السكوت خشية من الكلام، والسكوت لأنك لا ترى حاجة إلى الكلام.

فإذا سكت الإنسان خاشيًا فهنالك عقدة نفسية، وإذا سكت الإنسان لأنه لا يشعر بالحاجة إلى الإفضاء والتصريح فلا عقدة هناك، ولا كتمان.

وقد تعودت أن أقول ما أريد حين أريد، فلا أعكف على العزلة كبتًا ولا حذرًا، ولا أحس التناقض بين الانطواء والاستراحة من آفات الكبت والعقد النفسية.

•••

ويغلب على المنطوين أنهم لا يألفون الناس بسهولة، وأعترف بأنني واحد من المنطوين في هذه الخصلة …

ولكنني أعترف كذلك بأن الألفة التي تصح بيني وبين أحد من الإخوان لا تنقطع ولا تتعرض للقطيعة باختياري، وقد يتعدى الأمر ألفة الإخوان إلى ألفة غيرهم من الأحياء والأشياء؛ فالحلاق الذي عرفته منذ ثلاثين سنة هو الحلاق الذي أعرفه اليوم، والطاهي الذي عمل عندي في سنة خمس وعشرين أو نحوها هو الطاهي الذي يعمل عندي في سنة خمسين أو إحدى وخمسين، بل أدع الأحياء من الآدميين، وأذكر المنزل الذي أقيم فيه، فهو مسكني منذ أربع وعشرين سنة، ولا أحسبني أسكن غيره ما دمت تسعني سكناه.

وأعترف إلى جانب هذا بأنني لا أعرف التوسط بين الحب والكراهية، ولا أريد أن أعرفه، وشعاري في ذلك هو شعار أبي إسحاق الصولي الذي قال:

خلِّ النِّفاقَ لأهلِهِ
وعليكَ فالتمِس الطريقا
واربأْ بنفسِكَ أن تُرى
إلا عَدُوًّا أو صَدِيقا

فأنا أفهم أن يقبل الإنسان نصف صداقة إذا كان مضطرًّا إليها، وأفهم أن يقبل الإنسان نصف عداوة إذا كان خائفًا منها، ولكنه إذا وجد الصداقة كاملة، فلماذا يجمع بينها وبين نصف الصداقة؟ … وإذا استوجب العداوة كاملة فلماذا يتقيها ويداريها! …

إن طائفة من الخَلق يستبقون العلاقة بينهم مع انقطاع المودة طلبًا لدوام المنفعة، فهؤلاء يمثِّلون ويتاجرون، ولا ضير من التمثيل فنًّا، ولا من التجارة عملًا، ولكن الضير كل الضير من التمثيل في الضمير والاتجار بالعاطفة، ففي هذا من المعابة ما يُعاب على المتاجرة بالأجسام والشهوات.

•••

وعندي صفة يسميها الشانئون عنادًا وتشبثًا، ويسميها المحبون عزيمة وصدق إرادة …

أعترف بأنهم مصيبون في جانب، ومخطئون في جانب … فقد يبلغ من ضعف إرادتي أحيانًا أن أحتال على نفسي كأنها شخص آخر أطلعه على بعض مرادي، وأخفي عنه بعضه، فإذا اعتزمت الإقلاع عن التدخين مثلًا قلت لنفسي: اتركيه أسبوعًا وانظري ما يكون بعد أسبوع. أقول لها هذا وأنا أنوي أن أتركه أبدًا فلا أقطع بهذا الترك دفعة واحدة، ثم أعود بعد أسبوع فأقول لها: إن شيئًا تقدرين على تركه أسبوعًا لا حاجة إلى احتماله على مضض، ولا حكمة في العودة إليه.

أعترف بهذا وأعترف معه بأنني في المواقف الحاسمة أملي على تلك النفس بعينها شروطًا كشرط القائد الذي لا يرحم: العدو أمامك والبحر وراءك … وافعلي ما تشائين.

ومن لطف الله بالعباد أن هذه المواقف الحاسمة لم تتكرر في حياتي أكثر من خمس مرات أو ست مرات، ولم أندم قط — بحمد الله — مرة في جميع هذه المرات.

أعترف بأنني من الزاهدين في البذخ والحطام، ولكنني أعترف بأنه زهد لا فضل لي فيه؛ لأنه لم يكلفني مشقة المغالبة والمقاومة، فليس في النفس هوى أغالبه وأقاومه، وإنما ألوذ في هذه العصمة بسند واحد، وهو سهولة احتقاري للباذخين ومن يُنظَر إليهم نظرة الإكبار والإعجاب؛ فهؤلاء وهؤلاء أهون عندي من الهباء.

وأعترف بأن عنان النفس يفلت من يدي في حالات كثيرة، ولكنها حالات أراجعها أحيانًا فلا آسف لإفلاته، بل أرى أن ضرر الإطلاق أخف من ضرر الشد والكظم وثني العنان.

أما اعترافاتي في ميدان الأدب فمنها ما يخصني ومنها ما يعم القراء معي …

وأول هذه الاعترافات أنني أقرأ لنفسي، وأقرأ أحيانًا في موضوعات لم أكتب فيها للقراء حرفًا واحدًا حتى الساعة.

ولا أطالب أحدًا بجميل؛ لأن جميلي لنفسي سابق لكل جميل، ولكنني أعترف كذلك بأنني لا أطيق التواضع الكاذب، الذي هو رياء في المتكلم، وغفلة في السامع، فإذا بخسني الباخسون حقًّا فدعواي إذن أمام ضميري لا يزعزعها إجماع الخافِقَيْن.

أعترف بأنني أحب الشهرة والخلود، ولكنني أعترف كذلك بأنني لا أطلبهما بثمن يهيض من كرامتي، وأنني إذا أحسست أن إنسانًا يمتنُّ عليَّ بشهادة يبذلها أو شهادة يمنعها فلا نصيب له عندي غير التحدي الذي يذهب به إلى الحائط، ولتذهب الشهرة، وليذهب الخلود معها إلى الشيطان.

ولقد تعبت كثيرًا في تحصيل الأدب والثقافة، ولكنني أعترف بعد هذا التعب كله بقصوري عن الغاية التي رسمتها أمامي في مقتبل صباي، فلم أبلغ بعدُ غاية الطريق، ولا قريبًا من غايته، وإذا قدرت ما صبوت إليه بمائة في المائة، فالذي بلغته لا يتجاوز العشرين أو الثلاثين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤