الفصل الأول

أسئلة وأجوبة

يتسم الفلاسفة بعادة مثيرة للحَنَقِ، وهي تحليل الأسئلة بدلًا من الإجابة عنها، وهذه هي الطريقة التي أودُّ أن أبدأ بها.1 هل سؤال «ما معنى الحياة؟» سؤال حقيقي، أم أنه يبدو كذلك فقط؟ هل يوجد ما يمكن اعتباره إجابة له، أم أنه حقًّا نوع من الأسئلة الزائفة، على غرار السؤال الأسطوري الذي يَرِدُ في اختبارات أكسفورد الذي يفترض أن يكون نصُّه ببساطة «هل هذا سؤال جيد؟»

للوهلة الأولى، يبدو سؤال «ما معنى الحياة؟» شبيهًا بذلك النوع من الأسئلة على غرار «ما عاصمة ألبانيا؟» أو «ما لون العاج؟» ولكن هل هو كذلك حقًّا؟ هل يمكن أن يكون أقرب إلى سؤال «ما مذاق الهندسة؟»

ثَمَّةَ سبب قياسي إلى حد ما يفسر لِمَ يعتبر بعض المفكرين السؤال الخاص بمعنى الحياة عديم المعنى في حد ذاته. إنها قضية أن المعنى هو مسألة لغة، وليس مسألة أشياء؛ إنها مسألة الأسلوب الذي نتحدث به عن الأشياء، وليست سِمة من سمات للأشياء في حد ذاتها، مثل الملمس أو الوزن أو اللون. فنبات الكرنب أو جهاز رسم القلب ليس لهما معنى في حد ذاتهما؛ ويصبحان هكذا فقط من خلال وجودهما في حديثنا. وبناءً على هذه النظرية، يمكننا أن نضفي على حياتنا معنى من خلال حديثنا عنها؛ ولكن لا يمكن أن يكون لها معنى في حد ذاتها، شأنها شأن سحابة في السماء. فلن يكون منطقيًّا — على سبيل المثال — أن تتحدث عن سحابة باعتبارها إما حقيقية أو مزيفة. فالحقيقة والزيف هما في الواقع وظائف لافتراضاتنا البشرية عن السحب. لكن ثمة مشكلات تكتنف هذه الحجة، كما هو الحال مع معظم الحجج الفلسفية. وسوف ندرس بعضها لاحقًا.

لنُلقِ نظرة مختصرة على تساؤل أكثر إلحاحًا من سؤال «ما معنى الحياة؟» لعل السؤال الأكثر جوهرية الذي يمكن أن يثار هو «لِمَ يوجد أي شيء على الإطلاق بدلًا من لا شيء؟» لماذا يوجد أي شيء يمكننا أن نتساءل «ما الذي يعنيه؟» من الأساس؟ ينقسم الفلاسفة فيما بينهم بشأن ما إذا كان هذا السؤال حقيقيًّا أم زائفًا، وإن كان علماء اللاهوت لا يواجهون أي انقسام في هذا الشأن في معظم الأحيان. فالإجابة عن هذا التساؤل بالنسبة لمعظم علماء اللاهوت هي «الإله». فيقال: إن الإله هو «خالق» الكون، ليس لأنه يُعَدُّ أقرب لكونه صانعًا خارقًا، ولكن لكونه السبب في وجود شيء بدلًا من العدم. فهو — بحسب قولهم — أساس الوجود. وهذه الحقيقة ستظل سارية بشأنه حتى لو لم يكن للكون بداية. وسيظل السبب في وجود شيء بدلًا من لا شيء حتى لو كان هناك شيء منذ الأزل.

إن سؤال «لِمَ يوجد أي شيء بدلًا من عدم وجود شيء؟» يمكن ترجمته بشكل تقريبي إلى «كيف نشأ الكون؟» ويمكن اعتبار ذلك سؤالًا عن السببية؛ وفي تلك الحالة كان سؤال «كيف نشأ؟» ليعني «من أين نشأ؟» ولكن ذلك بالتأكيد ليس ما يعنيه السؤال. ولو أننا حاولنا الإجابة عن السؤال بالحديث عن كيفية بدء الكون في المقام الأول، فإن تلك الأسباب حتمًا تمثل جزءًا من كل شيء، وبذلك نعود إلى حيث بدأنا. ولا يمكن سوى لسبب واحد فقط لم يكن جزءًا من كل شيء — وهو سبب يسمو فوق الكون، كما هو من المفترض مع الإله — أن يتجنب الاستدراج إلى نطاق الجدل بهذه الطريقة. ومن ثم، فإن هذا في الواقع ليس سؤالًا عن كيفية نشأة العالم، وكذلك ليس سؤالًا عن سبب وجود الكون — على الأقل بالنسبة لعلماء اللاهوت — إذ إن العالم في رأيهم ليس هدفًا له على الإطلاق. فالإله ليس مهندسًا سماويًّا خلق العالم وفي ذهنه هدف محسوب استراتيجيًّا. إنه فنان قام بخلق العالم لمتعته الذاتية الخاصة وحسْب، ومن أجل المتعة الذاتية لعملية الخلق في حد ذاتها. وهكذا، يصبح مفهومًا لماذا يَعتبر الكثيرون أن الإله لديه شيء من حس الدعابة الملتوي.

إن السؤال «لِمَ يوجد أي شيء بدلًا من لا شيء؟» هو بالأحرى تعبير عن الدهشة من وجود عالم من الأساس، في حين أنه كان يمكن ألا يكون هناك أي شيء ببساطة. ولعل ذلك جزء مما كان يدور في ذهن لودفيج فيتجنشتاين حين أشار إلى أن «الغموض لا يكمن في كيفية نشأة العالم، ولكن يكمن في وجوده أصلًا.»2 قد يدَّعي أحدهم أن تلك هي نسخة فيتجنشتاين مما يُطلِق عليه الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر «الكينونة» أو مسألة الوجود. إن سؤال «كيف نشأ الوجود؟» هو السؤال الذي يريد هايدجر العودة إليه. فهو ليس مهتمًّا بكيفية نشأة كيانات محددة بقدر اهتمامه بالحقيقة المثيرة للعقل المتمثلة في وجود كيانات في المقام الأول. وهذه الأمور مفتوحة الآن لإدراكنا واستيعابنا، مثلما لم تكن مفتوحة بسهولة من قبل.

غير أن سؤال «كيف نشأ الوجود؟» بالنسبة للعديد من الفلاسفة — لا سيما الفلاسفة الأنجلو ساكسونيين — يعد نموذجًا بارزًا للأسئلة الزائفة. ففي رأيهم، لن يكون من الصعب — إن لم يكن من المستحيل — الإجابة عنه فحسب؛ بل إن هناك ريبة عميقة في وجود شيء للإجابة عنه من الأساس. في الواقع إنه — بالنسبة لهم — مجرد طريقة تيوتونية مملة لقول «يا للروعة!» ربما يصلح هذا السؤال لشاعر أو متصوف، ولكنه لا يصلح للفيلسوف. والحواجز بين المعسكرين في العالم الأنجلو ساكسوني على الأخص محصنة بصرامة.

في عمل مثل «تحقيقات فلسفية»، كان فيتجنشتاين يقظًا للفارق بين الأسئلة الحقيقية والأسئلة المزيفة. فيمكن لقطعة لغوية أن تتخذ الشكل النحوي للسؤال، ولكنها في الواقع ليست سؤالًا. أو يمكن لقواعدنا النحوية أن تضللنا وتدفعنا نحو الخلط بين نوع من الافتراضات وآخر. فعبارة مثل «ماذا بعد يا بني وطني، ما إن ينتهي العدو ويختفي، ألا يمكننا أن نحقق إنجازات في ساعة الانتصار؟» تبدو في وقعها كسؤال ينتظر إجابة، إلا أنه في الحقيقة سؤال بلاغي قد يكون من غير الحكمة الرد عليه ﺑ «لا شيء». فالكلام يُلقى في شكل استفهامي ببساطة من أجل تعزيز قوته الدرامية. والأسئلة على شاكلة «ماذا في هذا؟» و«لِمَ لا تغرب عن وجهي؟» و«فيمَ تُحَدِّق؟» تبدو كأسئلة في وقعها، ولكنها ليست كذلك في الواقع. كذلك قد يبدو السؤال «في أي موضع من الجسم تقع الروح؟» كنوع معقول من الأسئلة لطرحها، ولكن فقط لأننا نفكر فيه على وزن سؤال مثل «في أي موضع من الجسم تقع الكليتان؟» كذلك يتخذ السؤال «أين مركز الحسد لدي؟» شكل سؤال مقبول، ولكن ذلك فقط لأننا نصوغه بلا وعي على وزن «أين إبطي؟»

fig1
شكل ١-١: لودفيج فيتجنشتاين، الذي يعتبره الكثيرون أعظم فلاسفة القرن العشرين. (© Hulton Archive/Getty Images)

وقد توصل فيتجنشتاين إلى الاعتقاد بأن الكثير جدًّا من الألغاز الفلسفية تنشأ من سوء استخدام الناس للغة بهذه الطريقة. ولنأخذ — على سبيل المثال — عبارة «لدي ألم»، والتي تتطابق لغويًّا مع عبارة «لدي قبعة»، إن هذا التشابه قد يضللنا بالاعتقاد بأن الآلام، أو «الخبرات» بشكل عام، هي أشياء نمتلكها مثلما نمتلك القبعات. ولكن سيكون غريبًا أن تقول «فلتأخذ ألمي.» وعلى الرغم من أنه سيكون من المنطقي أن تقول «هل هذه قبعتك أم قبعتي؟» فسوف يبدو غريبًا أن تتساءل «هل هذا ألمك أم ألمي؟» ربما يوجد العديد من الأشخاص في إحدى الغرف وهناك ألم ينتشر بين أرجائها؛ وعندما يتلوى كل شخص فيها بدوره من الألم الشديد، نصيح قائلين: «آه، ها هو الآن بحوزته.»

يبدو هذا مجرد أمر سخيف، ولكنه في الواقع له بعض التداعيات الخطيرة نوعًا ما. إن فيتجنشتاين لديه القدرة على فصل القواعد اللغوية لعبارة «لدي قبعة» عن القواعد اللغوية لعبارة «لدي ألم»، ليس فقط بطريقة تلقي الضوء على استخدام الضمائر الشخصية مثل «أنا» و«هو»، وإنما أيضًا بطرق تقوض الافتراض القديم الراسخ بأن خبراتي هي نوع من الملكية الخاصة. بل إنها في الواقع تبدو كملكية خاصة ربما أكثر من قبعتي؛ إذ إن بإمكاني إهداء قبعتي للغير، ولكن ليس ألمي. ويوضح لنا فيتجنشتاين كيف أن القواعد اللغوية تخدعنا بدفعنا نحو التفكير بهذا الأسلوب، ولحجته تبعات متطرفة، بل تبعات متطرفة سياسيًّا.

إن مهمة الفيلسوف — في اعتقاد فيتجنشتاين — لم تتمثل في حسم هذه التساؤلات بقدر ما تمثلت في «تبديدها»؛ أي إظهار أنها نابعة من خلط نوع من «الألعاب اللغوية» — مثلما أطلق عليها — بآخر. فنحن مسحورون ببنية لغتنا، وكانت مهمة الفيلسوف هي تنويرنا من خلال الفصل بين مختلف استخدامات الكلمات. فنظرًا لوجود درجة حتمية من التجانس والتماثل بشأنها، تميل اللغة إلى جعل أنواع مختلفة من الكلام تبدو متماثلة إلى حد كبير، مما حدا بفيتجنشتاين إلى التفكير في تذييل كتابه «تحقيقات فلسفية» باقتباس من مسرحية «الملك لير»: «سوف أعلمك الاختلافات.»

لم تكن تلك الرؤية مقتصرة على فيتجنشتاين وحده. فقد توقعها أحد أعظم فلاسفة القرن التاسع عشر أجمع، وهو فريدريك نيتشه، عندما تساءل عما إذا كان السبب في فشلنا في التخلص من فكرة الإله يُعزى إلى قواعدنا اللغوية. فلما كانت قواعدنا اللغوية تتيح لنا تركيب وإنشاء الأسماء — والتي تمثل كيانات متمايزة — فإنها تجعل من المقبول أيضًا أن يكون هناك إمكانية لوجود نوع من اسم الأسماء — أي كيان خارق يعرف باسم الإله — والذي بدونه قد تتداعى جميع الكيانات الصغيرة الأخرى المحيطة بنا. غير أن نيتشه لم يكن يؤمن بالكيانات الخارقة ولا بالكيانات العادية. فقد كان يعتقد أن مجرد فكرة وجود أشياء مختلفة — مثل الإله أو ثمار عنب الثعلب — كانت مجرد تأثير تجسيدي للغة. ولا شك أنه كان يؤمن بذلك فيما يتعلق بالذات الفردية، والتي لم يكن يراها أكثر من مجرد خيال مريح. وكما أشار ضمنًا في الملحوظة المذكورة أعلاه، ربما هناك قواعد لغوية بشرية لم تكن هذه العملية التجسيدية متاحة فيها. ربما تكون هذه هي لغة المستقبل التي سيتحدث بها الإنسان الخارق الذي تجاوز كليًّا حدود الأسماء والكيانات المنفصلة، ومن ثم تجاوز فكرة الإله والأوهام الميتافيزيقية المشابهة. ويتبنى الفيلسوف جاك دريدا — وهو مفكر يدين بالكثير من أفكاره لنيتشه — نظرة أكثر تشاؤمية في هذا الصدد. ففي رأيه — وكذا في رأي فيتجنشتاين — أن مثل هذه الأوهام والخيالات الميتافيزيقية هي جزء أصيل من البنية الأساسية للغتنا ولا يمكن استئصالها. وينبغي على الفيلسوف ببساطة أن يشن ضدها حربًا متواصلة كحرب كانوت العظيم؛ وهي معركة يراها فيتجنشتاين كنوع من العلاج اللغوي، فيما يُطلِق عليها دريدا «التفكيك».3

ومثلما كان نيتشه يعتقد أن الأسماء لها تأثير تجسيدي، كذلك قد يعتقد أحدهم ذلك بشأن كلمة «حياة» في سؤال «ما معنى الحياة؟» وسوف نتناول هذا بمزيد من التفصيل لاحقًا. كذلك قد يُعتقد أن السؤال يغير من شكله دون وعي إلى نوع مختلف تمامًا من الأسئلة، وأن تلك هي النقطة التي اتخذ فيها مسارًا خاطئًا. يمكننا أن نقول «هذا يساوي دولارًا، وذاك أيضًا، إذن كم يساوي الاثنان معًا؟» ومن ثم يبدو وكأن بإمكاننا أن نقول أيضًا «هذا الجزء من الحياة له معنى، وكذا ذلك الجزء، إذن ما مجموع المعنى الخاص بكل الأجزاء المختلفة؟» ولكن حقيقة أن الأجزاء لها معنى لا تستتبع أن يكون للكل معنى يفوقها، مثلما لا يستتبع بالضرورة أن تؤدي الكثير من الأشياء الصغيرة إلى تكوين شيء واحد كبير لمجرد أنها جميعًا ذات لون وردي.

ولا شك أن كل هذا لا يقربنا ولو خطوة إلى معنى الحياة. غير أن الأسئلة تستحق البحث، إذ إن طبيعة أي سؤال لها أهمية في تحديد ما قد يعتبر إجابة له. بل يمكن في الواقع الادعاء بأن الأسئلة — وليس الإجابات — هي الشيء الصعب. فمن المعروف جيدًا أي نوع من الإجابات يمكن لسؤال تافه أن يثيرها، فيما يمكن لطرح النوع المناسب من الأسئلة أن يفتح عالمًا كاملًا جديدًا من المعرفة، مما يجلب تساؤلات حيوية أخرى تهرول في أعقابها. ويرى بعض الفلاسفة — من المنتمين لما يدعى الحركة الفكرية التفسيرية — أن الواقع أيًّا كان شكله هو ما يقدم إجابة لأي سؤال. والواقع — الذي يشبه مجرمًا محنكًا لا يتكلم تلقائيًّا دون أن يتم استجوابه أولًا — لن يجيبنا إلا بما يتوافق مع نوعيات التساؤلات التي نطرحها عليه. وقد ذكر كارل ماركس ذات مرة — بشكل غامض نوعًا ما — أن البشر لا يثيرون مثل هذه المسائل إلا بالقدر الذي يستطيعون حله؛ بمعنى أنه ربما إذا كان لدينا العتاد المفاهيمي اللازم لطرح السؤال، يكون لدينا مبدئيًّا الوسيلة لتحديد إجابة له.

ويعزى هذا جزئيًّا إلى أن الأسئلة لا تطرح بمعزل عن السياق المحيط، صحيح أن إجاباتها لا تكون مربوطة بسهولة في أذنابها، ولكنها تلمح إلى نوعية الاستجابة التي من شأنها على الأقل أن يعتد بها كإجابة لها. إنها توجهنا في نطاق محدود من الاتجاهات، مشيرة لنا للموضع الذي يجب أن نبحث فيه عن حل. لن يكون من الصعب أن تكتب تاريخ المعرفة في إطار نوعية الأسئلة التي رأى الرجال والنساء أنه من الممكن أو من الضروري طرحها. وليس كل سؤال متاح في أي وقت. فلم يستطع رامبرانت أن يتساءل ما إذا كان التصوير الفوتوغرافي قد جعل الرسم الواقعي إسهابًا فائضًا عن الحاجة.

بالطبع لا نقصد بهذا الإيحاء بأن جميع الأسئلة يمكن الإجابة عنها. فنحن نميل إلى الاعتقاد بأنه حيثما وجدت مشكلة فلا بد أن يكون هناك حل، مثلما نميل بشكل غريب نوعًا ما إلى تخيل أن الأشياء المفككة إلى شظايا وأجزاء صغيرة لا بد دائمًا من جمعها مرة أخرى في كيان واحد. ولكن هناك الكثير من المشكلات التي لن نجد لها حلولًا مطلقًا على الأرجح، إلى جانب أسئلة ستظل بلا إجابة إلى الأبد. فلا يوجد سجل بعدد الشعرات التي كانت تزين رأس نابليون حين وفاته، ولن يتسنى لنا الآن أن نعرف ذلك مطلقًا. ربما لا يكون المخ البشري مؤهلًا ببساطة لحسم أسئلة معينة، مثل أصل الذكاء. ولعل هذا يعزى لعدم وجود حاجة تطورية لدينا للقيام بذلك، وإن كان لا يوجد لدينا أيضًا حاجة تطورية لفهم كتاب «صحوة فينيجان» أو فهم قوانين الفيزياء. كذلك توجد أسئلة لا نعرف إجابتها لأنه في الحقيقة لا توجد لها إجابات، مثل عدد أبناء السيدة ماكبث، أو ما إذا كان شرلوك هولمز لديه شامة صغيرة في الجزء الداخلي من فخذه. فلا يمكننا أن نجيب عن ذلك السؤال الأخير بالنفي مثلما لا نستطيع الإجابة عنه بالإثبات.

إذن من الممكن أن يكون هناك بالفعل إجابة للسؤال الخاص بمعنى الحياة، ولكننا لن نعرف مطلقًا ما هي. وإذا كان الأمر كذلك، فنحن إذن في موقف أشبه بموقف راوي قصة هنري جيمس «الصورة في السجادة»، والذي أخبره مؤلف شهير، يُكِنُّ له الأول إعجابًا، أن هناك مقصدًا خفيًّا في عمله، وهو مقصد ضمني غير ظاهر في كل صورة مجازية وفي كل تعبير. ولكن يموت المؤلف قبل أن يتمكن الراوي الحائر ذو الفضول الجامح من اكتشاف ماهية هذا المقصد. وربما كان المؤلف يخدعه، أو ربما كان يعتقد أن هناك مقصدًا خفيًّا في عمله، إلا أنه لم يكن هناك أي مقصد. أو لعل الراوي يرى هذا المقصد بطريقة ما طوال الوقت دون إدراك حقيقة أنه قد أدركه. أو ربما كان أي مقصد ينجح هو نفسه في إنشائه من شأنه أن يفي بالغرض.

بل إنه من المفهوم أن عدم معرفة معنى الحياة هو جزء من معنى الحياة، مثلما يساعدني عدم حساب عدد الكلمات التي أنطق بها حين ألقي كلمة عقب حفل عشاء على إلقاء تلك الكلمة. فلعل سر استمرار الحياة يكمن في جهلنا بمعناها الأساسي، مثلما هو حال الرأسمالية بالنسبة لكارل ماركس. وقد كان الفيلسوف آرثر شوبنهاور يظن شيئًا من هذا القبيل، وكان هذا هو الحال بشكل ما بالنسبة لسيجموند فرويد. كذلك يرى نيتشه في كتابه «مولد المأساة» أن معنى الحياة رهيب بالنسبة لنا بشكل نعجز عن التعايش معه، وهو ما يفسر حاجتنا لأوهامنا المواسية إذا أردنا أن نواصل المسيرة. فما نسميه «حياة» ما هو إلا وهم ضروري، وبدون مزيج ضخم من الخيال، كان الواقع ليصل إلى نقطة جمود.

توجد أيضًا مشكلات أخلاقية ليس من الممكن أن يكون لها حل. فلما كان هناك صنوف مختلفة من الفضائل الأخلاقية — مثل الشجاعة والشفقة والعدل، وما إلى ذلك — ولما كانت هذه القيم غير قابلة للمقارنة مع بعضها البعض أحيانًا، فمن الممكن أن تدخل في صراع مأساوي مع بعضها. وكما علق عالم الاجتماع ماكس فيبر بأسلوب ينم عن البؤس: «إن التوجهات الممكنة نحو الحياة غير قابلة للمصالحة، ومن ثم فإن صراعها لا يمكن الوصول به إلى نهاية حاسمة.»4 ويكتب إيزايا برلين في نبرة مشابهة أن «العالم الذي نواجهه في الواقع هو عالم نواجه فيه اختيارات مطلقة بنفس الدرجة، وإدراك بعضها يعني حتمًا التضحية بالأخرى.»5 قد يقول أحدهم إن ذلك يعكس توجهًا مأساويًّا بعينه لليبرالية، والذي هو — على العكس من عقيدة يومنا الساذجة المتمثلة في «الاختيارات» أو «الخيارات» — معد لتقدير الخسائر المدمرة لالتزامها بالحرية والتنوع. كما يتعارض مع نوع أكثر تفاؤلًا من الليبرالية تمثل له التعددية منفعة أصيلة والصراع بين القيم الأخلاقية مصدرًا للتحفيز بشكل دائم. ولكن الحقيقة هي أن هناك مواقف يمكن أن يخرج منها المرء بأيد مدنسة. فمع الضغط الشديد، يبدأ كل قانون أخلاقي في التفكك والانهيار. وقد كان الروائي توماس هاردي مدركًا تمامًا أن بإمكان المرء أن يوقع نفسه في مآزق أخلاقية دون قصد، سوف يضار فيها شخص ما ضررًا بالغًا، مهما كان الأسلوب الذي تتحرك به. فلا توجد ببساطة إجابة للسؤال الخاص بأي من أبنائك يجب أن تضحي إذا ما أمرك جندي نازي بتسليم أحدهم لكي يُقتل.6

ثمة شيء من هذا القبيل يسري على الحياة السياسية أيضًا. فمن الواضح بلا شك أن الحل الوحيد للإرهاب هو إقامة العدالة السياسية. والإرهاب بهذا المعنى — مهما بلغ من الوحشية — ليس أمرًا لاعقلانيًّا: فهناك حالات مثل أيرلندا الشمالية يدرك فيها من يستخدمون الإرهاب للترويج لأهدافهم وغاياتهم السياسية أن مطالبهم بالعدالة والمساواة تلبى ولو بشكل جزئي على الأقل، ويستنتجون أن استخدام الترويع والإرهاب قد أصبح الآن يأتي بنتائج عكسية، ويتفقون على نبذه. أما فيما يتعلق بالشكل القائم للإرهاب الأصولي الإسلامي، فنجد من يدَّعون أنه حتى لو لُبِّيَتْ مطالب العرب — أي إذا تم تطبيق حل عادل للقضية الفلسطينية الإسرائيلية، وتم إبعاد القواعد العسكرية الأمريكية من المنطقة العربية، وما إلى ذلك — فلسوف تستمر عمليات ذبح وتشويه المدنيين الأبرياء.

ربما ستستمر، ولكن هذا قد لا يعني أكثر من أن المشكلة قد تصاعدت الآن لتتجاوز جميع الحلول الممكنة. وليس بالضرورة أن يكون هذا حكمًا انهزاميًّا، بل واقعيًّا ببساطة. فالقوى الهدامة التي تنبثق من القضايا القابلة للمعالجة يمكن أن تتخذ قوة دافعة مميتة من نفسها لن يكون هناك ما يوقفها في النهاية. ربما يكون قد فات أوان إيقاف انتشار الإرهاب، وهو ما يعني عدم وجود حل لمشكلة الإرهاب؛ وهو افتراض سيكون مستحيلًا على معظم السياسيين التعبير عنه علانية، ولن يكون مستساغًا لدى معظم الأشخاص الآخرين، لا سيما الأمريكيين المدمنين للتفاؤل. ومع ذلك فقد تكون هذه هي الحقيقة. فلِمَ ينبغي لأحد أن يتخيل أنه حين توجد مشكلة دائمًا ما يوجد حل؟

ولعل من أقوى الأسئلة المرتبطة بمعنى الحياة التي ليس لها حل متفائل هو ما يعرف بالتراجيديا. فمن بين جميع الأشكال الفنية، تعد التراجيديا هي الشكل الذي يواجه مسألة معنى الحياة بأكبر قدر من الاستقصاء والإصرار، ولديه الاستعداد لتناول أبشع الإجابات الخاصة به بشجاعة واستبسال. إن التراجيديا في أرقى صورها هي انعكاس شجاع للطبيعة الأساسية للوجود الإنساني، وتعود أصولها إلى الثقافة الإغريقية القديمة، التي تتسم فيها الحياة بأنها هشة ومحفوفة بالمخاطر، وحساسة بشكل مثير للاشمئزاز. فالعالم في منظور التراجيديين القدماء قابل للاختراق بشكل متقطع من قبل الضوء الهزيل للعقل، وأفعال الماضي تلقي بظلالها على طموحات الحاضر لخنقها في مهدها، والرجال والنساء يجدون أنفسهم يئنون في قبضة قوى انتقامية بشكل وحشي تهدد بتمزيقهم إربًا. ولا يمكنك أن تأمل البقاء سوى من خلال توخي الحذر بينما تبحث عن طريق محفوف بالمخاطر لتسير فيه عبر حقل ألغام الوجود الإنساني، معلنًا الولاء والتبعية لآلهة متقلبة بشكل وحشي نادرًا جدًّا ما تستحق الاحترام الإنساني، ناهيك عن الإجلال والتوقير الديني. والقوى البشرية الأساسية التي قد تسمح لك بإيجاد موطئ قدم لك في تلك الأرض المقلقلة دائمًا ما تهدد بالخروج عن نطاق السيطرة، لتنقلب عليك وتطرحك أرضًا. وتلك هي الظروف المخيفة التي أصدر فيها كورَس مسرحية «أوديب ملكًا» لسوفوكليس حكمه النهائي الكئيب: «لا تصف رجلًا بأنه سعيد إلا عندما يموت خاليًا من الألم في النهاية.»

قد يكون ذلك إجابة لمشكلة الوجود الإنساني، ولكنه بالكاد يعتبر حلًّا لها. فغالبًا ما لا توجد إجابة — في منظور التراجيديا — تفسر لماذا تتعرض حياة الأفراد للتحطم والتشويه بشكل يفوق الاحتمال، أو لماذا يبدو أن الظلم والاضطهاد يتوليان دفة السيطرة في الشئون الإنسانية، أو لماذا ينخدع البشر بما يدفعهم لأكل لحم أطفالهم المذبوحين مشويًّا. أو بالأحرى إن الإجابة الوحيدة تكمن في المرونة التي تواجه بها هذه القضايا، والعمق والبراعة اللذين تصاغ بهما. فالتراجيديا في أقوى صورها هي سؤال بلا إجابة، مما يحرمنا بشكل متعمد من إيجاد السلوى الأيديولوجية. وإذا كانت تظهر في كل إيماءة وإشارة أن الوجود الإنساني لا يمكن أن يستمر على هذا النحو، فإنها بذلك تتحدانا لإيجاد حل لعذابه وهذا لا يعدو كونه حلقة أخرى من التفكير التواق، أو الإصلاح التدريجي، أو الإنسانية العاطفية، أو علاجًا مثاليًّا عامًّا. ومن خلال تصويرها لعالم في حاجة ملحة للخلاص، فإنما تلمح في الوقت ذاته إلى أن فكرة الخلاص قد تكون مجرد وسيلة أخرى لتشتيت أنفسنا عن إرهاب يهدد بتحويلنا إلى حجارة.7

ويذهب هايدجر في كتابه «الوجود والزمن» إلى أن البشر يتميزون عن المخلوقات الأخرى بقدرتهم على وضع وجودهم رهن التساؤل والتشكيك. فهم المخلوقات التي يمثل لها الوجود في حد ذاته — وليس مجرد سمات معينة به — إشكالية. فهذا الموقف أو ذاك قد يثبت أنه محل إشكالية لخنزير وحشي أفريقي، ولكن — بحسب النظرية — البشر هم تلك الحيوانات غريبة الأطوار التي تواجه موقفها كسؤال، أو مأزق، أو مصدر للقلق، أو باعث للأمل، أو عبء، أو هبة، أو خوف، أو سخف. ويصح ذلك بشكل خاص نظرًا لوعيهم بأن وجودهم متناه، ربما على عكس الخنازير الأفريقية. فربما يكون البشر هم الحيوانات الوحيدة التي تعيش في الظل الأبدي للموت.

ومع ذلك، فهناك شيء «عصري» بشكل مميز فيما يتعلق بحجة هايدجر. وهذا الشيء بالطبع ليس أن أرسطو أو أتيلا الهوني لم يكونا على وعي بأنهما بشر فانون، رغم أن الأخير كان على الأرجح أكثر وعيًا بفنائية الآخرين من فنائيته. ومن الصحيح أيضًا أن البشر — لا سيما بسبب امتلاكهم للغة — لديهم القدرة على إضفاء طابع موضوعي مادي على وجودهم بطريقة لا تستطيع السلاحف اتباعها على الأرجح. بإمكاننا الحديث عن ما يسمى «الحالة البشرية»، في حين أنه من المستبعد أن تحضن السلاحف بيضها في حماية أصدافها بحكم حالتها كسلاحف. والسلاحف في هذا السياق تشبه على نحو لافت أتباع حركة ما بعد الحداثة، الذين يعتبرون فكرة الحالة البشرية فكرة غريبة بالقدر نفسه. بعبارة أخرى، تتيح لنا اللغة ليس فقط فهم أنفسنا، بل أيضًا وضع تصور لموقفنا ككل. ونظرًا لأننا نعيش بالرموز التي تجلب معها القدرة على التجريد، فإن بمقدورنا أن نفصل أو نبعد أنفسنا عن سياقاتنا المباشرة، ونحرر أنفسنا من سجن حواسنا الجسدية، والتفكير في الموقف الإنساني في حد ذاته. غير أن قوة التجريد — شأنها شأن النار — هبة يكتنفها الغموض؛ فهي تارة إبداعية، وتارة هدامة. وإذا أتاحت لنا التفكير في إطار مجتمعات كاملة، فإنها تتيح لنا أيضًا تدميرها بالأسلحة الكيماوية.

ولا يقتضي هذا النوع من الإبعاد الانسلاخ من جلدنا، أو تأمل العالم من نقطة مراقبة أوليمبية. فالتأمل في وجودنا في العالم هو جزء من أسلوب وجودنا في هذا العالم. وحتى لو تبين أن «الموقف الإنساني في حد ذاته» مجرد سراب ميتافيزيقي، كما يصر فكر ما بعد الحداثة، فإنه يظل موضع تأمل ممكن. إذن فلا شك أن هناك معنى في زعم هايدجر. فقد تكون الحيوانات الأخرى قلقة مثلًا بشأن الهروب من الوحوش الضارية، أو إطعام صغارها، ولكنها لا تظهر انزعاجها مما أُطلق عليه «القلق الوجودي»: أي شعور المرء (المصحوب أحيانًا بثمالة شديدة على نحو خاص) بأنه كائن سطحي بلا فائدة؛ «عاطفة بلا جدوى» بحسب تعبير جان بول سارتر.

ومع ذلك، فإن الحديث عن الخوف والقلق والغثيان والسخف وما شابه باعتبارها سمات تميز الحالة البشرية أكثر شيوعًا بين فناني وفلاسفة القرن العشرين من نظرائهم في القرن الثاني عشر. فما يميز الفكر الحديث على مدار تاريخه هو الاعتقاد بأن الوجود الإنساني أمر «عرضي»؛ أي ليس له أساس أو هدف أو اتجاه أو ضرورة، وأن نوعنا البشري ربما كان من السهل ألا يكون له وجود على الكوكب مطلقًا. وهذه الاحتمالية من شأنها أن تفرغ وجودنا الفعلي، مقحمة خلاله الظل الأبدي للموت والخسارة. فحتى في أكثر لحظاتنا نشوة ومرحًا، نكون واعين قليلًا بأن الأساس غير مستقر تحت أقدامنا؛ بمعنى أنه لا يوجد أساس موثوق لا غبار عليه لهويتنا وما نفعله، مما قد يجعل أروع لحظاتنا أكثر قيمة، أو قد يعمل على التقليل من قيمتها بشكل بالغ.

وليست هذه من وجهات النظر التي كانت لتلقى الكثير من التأييد والدعم بين فلاسفة القرن الثاني عشر، الذين كان لديهم أساس قوي للوجود الإنساني يعرف بالإله. ولكن حتى بالنسبة لهم، لم يكن ذلك يعني أن وجودنا في العالم كان ضروريًّا. بل إن الاعتقاد في ذلك كان ليعتبر من باب الهرطقة. فالادعاء بأن الإله يفوق خلقه يعني القول — من بين أشياء أخرى — بأنه لم يكن بحاجة لخلقه. لقد فعل ذلك من منطلق الحب، وليس من منطلق الحاجة؛ وهذا يشمل خلقنا نحن أيضًا. فالوجود الإنساني لا مبرر له — أي مسألة فضل وهبة — وليس أمرًا حتميًّا لا مفر منه. فقد كان بمقدور الإله الاستمرار والنجاح من دوننا، وكان ليحظى بحياة أكثر هدوءًا وسكينة لو كان قد فعل. ومثل أب لطفل صغير مزعج، ربما وصل لحد الندم على قراره بالإقدام على الأبوة. فقد عصى البشر قوانين الإله في البداية، ومما زاد الطين بلة أنهم فقدوا إيمانهم به تمامًا بعد ذلك مع استمرارهم في الاستهزاء بأوامره.

إذن قد يكون هناك اتجاه معين يمثل فيه التساؤل عن تفاصيل معنى الحياة شيئًا ممكنًا دائمًا للبشر؛ بل جزءًا مما يجعلنا ما نحن عليه الآن من المخلوقات. فيثير أيوب في العهد القديم السؤال بنفس إصرار جان بول سارتر تقريبًا. غير أن السؤال — بالنسبة لمعظم العبرانيين القدماء — كان على الأرجح سؤالًا في غير محله؛ نظرًا لوضوح الإجابة. فقد كان يهوه (رب العبرانيين) وقوانينه هم معنى الحياة، وعدم إدراك ذلك كان أمرًا لا مجال للتفكير فيه تقريبًا. وحتى أيوب — الذي كان يرى أن الوجود الإنساني (أو على الأقل الجزء الخاص به منه) خطيئة مريعة يجب محوها في أسرع وقت ممكن — يعترف بوجود يهوه كلي القدرة.

ربما كان السؤال «ما معنى الحياة؟» سيبدو في نظر العبراني القديم سؤالًا غريبًا شأنه شأن سؤال «هل تؤمن بالإله؟» فالسؤال الأخير، بالنسبة لمعظم الناس اليوم، بمن فيهم الكثير من المؤمنين الأتقياء، مصاغ بلا وعي على غرار أسئلة مثل «هل تؤمن ببابا نويل؟» أو «هل تؤمن بظاهرة الاختطاف الفضائي؟» وبناءً على هذه النظرية، فإن هناك كيانات بعينها، بدءًا من الإله وحيوان الييتي، وصولًا إلى وحش بحيرة لوخ نيس وطواقم الأجسام الطائرة مجهولة الهوية، قد يكون أو لا يكون لها وجود. والأدلة فيما يتعلق بهذا الأمر ملتبسة والآراء منقسمة، ولكن أي عبراني قديم لم يكن ليتخيل على الأرجح أن سؤال «هل تؤمن بالإله؟» يعني أي شيء من هذا القبيل. فلما كان وجود يهوه معلنًا ومصرحًا به من السموات والأرض، فإن السؤال يعني فقط: «هل تؤمن به؟» لقد كانت مسألة ممارسة، وليس افتراضًا فكريًّا. لقد كان يسأل عن علاقة، وليس عن رأي.

إذن ربما كانت شعوب ما قبل الحداثة بشكل عام — على الرغم من ادعاءات هايدجر شديدة العمومية — قد ابتليت بدرجة أقل بسؤال معنى الحياة منا نحن الشعوب المعاصرة. ولم يكن ذلك يرجع فقط لأن معتقداتهم الدينية كانت أقل عرضة للتساؤل، ولكن أيضًا لأن ممارساتهم الاجتماعية كانت أقل إشكالية. ربما كان أساس معنى الحياة في مثل هذه الظروف يكمن إلى حد ما في القيام بما كان يفعله أجدادك، وما كانت تتوقعه منك الأعراف الاجتماعية العتيقة. فالدين والأساطير متواجدان من أجل توجيهك فيما هو مهم بشكل أساسي. وفكرة أن من الممكن أن يكون هناك معنى فريد لحياتك بالنسبة لك — يختلف إلى حد كبير عن معنى حياة الآخرين — لم تكن لتحصد الكثير من الأصوات المؤيدة. فمعنى حياتك يتألف بشكل عام من وظيفته ضمن كيان كلي أعظم. وخارج هذا السياق أنت مجرد دلالة جوفاء لا معنى لها. فكلمة «فرد» تعني في الأصل «لا يتجزأ» أو «لا ينفصل عن». ويبدو أن شخصية أوديسيوس التي رسمها هوميروس تشعر بهذا تقريبًا، فيما يبتعد هاملت شكسبير عن هذا الشعور بشكل شبه مؤكد.

إن الشعور بأن معنى حياتك هو وظيفة ضمن كيان أعظم لا يتعارض إطلاقًا مع امتلاك إحساس قوي بالفردية. فمعنى الفردية — وليس حقيقتها — هو ما على المحك هنا. وهذا لا يعني أن الناس في عصر ما قبل الحداثة لم يكونوا يسألون أنفسهم عن هويتهم أو ماذا يفعلون هنا. إن ما نعنيه ببساطة أنهم كانوا فيما يبدو أقل حماسًا بشكل عام إزاء هذا السؤال من ألبير كامو أو تي إس إليوت على سبيل المثال، ويرتبط ذلك بشكل كبير بإيمانهم الديني.

ولو أن ثقافات ما قبل الحداثة بشكل عام كانت أقل انشغالًا بمعنى الحياة من فرانز كافكا، لكان الشيء نفسه قد انطبق فيما يبدو على ثقافات ما بعد الحداثة. ففي المناخ البراجماتي الذي يتمتع بالقدرة على التعامل مع المواقف الصعبة الذي تتميز به رأسمالية ما قبل الحداثة المتقدمة، بتشكيكها في الصور الكبيرة والسرديات الكبرى، وتحررها الواقعي من كل ما هو ميتافيزيقي، تعتبر «الحياة» واحدة ضمن سلسلة كاملة من الكيانات الكلية غير الموثوق بها. فنحن مُطالَبون بالتفكير على نطاق محدود بدلًا من التفكير على نطاق كبير وطموح؛ في الوقت الذي يفعل فيه بعض ممن يسعون لتدمير الحضارة الغربية العكس تمامًا، وهو ما يثير السخرية. وفي إطار الصراع الدائر بين الرأسمالية الغربية والإسلام المتطرف، نجد ندرة في الإيمان في مواجهة وفرة بالغة منه. فيجد الغرب نفسه في مواجهة هجوم ميتافيزيقي عنيف بالتزامن مع المرحلة التاريخية التي تجرد فيها من الأسلحة الفلسفية إن جاز التعبير. وفيما يتعلق بمسألة الإيمان، تفضل حركة ما بعد الحداثة التنقل بأقل عدد من الأحمال: فلا شك أن لها معتقدات، ولكن ليس لديها إيمان.

حتى «المعنى» يتحول إلى مصطلح مشكوك فيه لدى مفكري ما بعد الحداثة مثل الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز. فهذا المصطلح يفترض أن شيئًا واحدًا يمكن أن يمثل أو يرمز لآخر، وهو افتراض يجده البعض باليًا. وهكذا تسقط فكرة التأويل فريسة للهجوم. فالأشياء بصراحة شديدة تعبر عن نفسها فقط، وليست رموزًا مبهمة لشيء آخر؛ فما تراه هو ما يصل إليك. أما المعنى والتأويل، فيتضمنان رسائل وآليات خفية؛ أعماق متراصة أسفل أسطح، ولكن هذا النموذج الكلي للسطح/العمق — من منظور فكر ما بعد الحداثة — يبدو مشابهًا لميتافيزيقا عتيقة الطراز. ونفس الشيء مع الذات، التي لم تعد مسألة ثنايا سرية وأعماقًا داخلية، ولكنها الآن مفتوحة للفحص والمشاهدة باعتبارها شبكة لا مركزية وليست روحًا مراوغة بشكل غامض.

لم يكن هذا ينطبق على طريقة ما قبل الحداثة في تفسير العالم التي نعرفها بالقصص الرمزية. فالأشياء من منظور القصة الرمزية لا تحمل معانيها على وجوهها؛ بل لا بد من فهمها كرموز «لنص» ضمني أو حقيقة متوارية من نوع أخلاقي أو ديني في الغالب. فيرى القديس أوغسطينوس أن الاهتمام بالأشياء في حد ذاتها إنما يعكس أسلوبًا شهوانيًّا منحلًّا للوجود؛ بل لا بد بدلًا من ذلك أن نقرأها في إطار الرموز والدلالات، باعتبارها تشير إلى النص الإلهي الذي هو الكون، متجاوزة حدود نفسها. وتسير دراسة الرموز جنبًا إلى جنب مع فكرة الخلاص، وينفصل فكر الحقبة المعاصرة عن هذا النموذج في جانب، فيما يظل ملتزمًا به في آخر. فلم يعد المعنى جوهرًا روحانيًّا مدفونًا أسفل سطح الأشياء. ولكنه يظل بحاجة للتنقيب عنه، إذ إن العالم لا يبوح به من تلقاء نفسه. ومن بين الأسماء التي تطلق على هذه المغامرة التنقيبية العلم، والذي يسعى من منطلق رؤية معينة له للكشف عن القوانين والآليات الخفية التي تعمل الأشياء بموجبها. ويظل هناك أعماق، ولكن ما لديه تأثير فعلي منها الآن هو الطبيعة وليس الألوهية.

بعد ذلك دفعت حركة ما بعد الحداثة تلك الحركة العلمانية خطوة أخرى للأمام. فهي تصر على أنه طالما لا يزال لدينا أعماق وجوهر وأسس، فإننا لا نزال في الحضرة المهيبة للإله، أي إننا لم نتخلص من فكرة الإله تمامًا حقًّا، بل ببساطة منحناها مجموعة من الأسماء المهيبة الجديدة، مثل الطبيعة والإنسان والعقل والتاريخ والنفوذ والرغبة، وما إلى ذلك. وبدلًا من تفكيك تلك المنظومة الكاملة العتيقة للميتافيزيقا واللاهوت، قمنا ببساطة بمنحها محتوى جديدًا. وليس بإمكاننا أن نتحرر إلا بالانفصال عن المفهوم الكلي للمعنى «العميق»، الذي سيغرينا دومًا بملاحقة وهم معنى المعاني. وقطعًا، لا يعني أن نكون أحرارًا أن نكون أنفسنا؛ لأننا قمنا أيضًا بتفكيك الجوهر الميتافيزيقي المعروف بالذات. ومن ثم يظل تحديد من سيُمنح تلك الحرية من خلال هذا المشروع نوعًا من الألغاز إلى حد كبير. وربما تكون حركة ما بعد الحداثة، بما لديها من نفور من الأسس المطلقة، قد قامت أيضًا بتسريب مثل هذه القواعد المطلقة إلى المناقشة سرًّا. وهذه القواعد بالتأكيد ليست الإله أو العقل أو التاريخ، لكنها تتصرف على نفس النحو شبه المطلق. وعلى غرار القواعد المطلقة الأخرى، من المستحيل أن نتوغل تحتها، وهو ما يعرف لدى حركة ما بعد الحداثة بالثقافة.

•••

تميل التساؤلات الخاصة بمعنى الحياة — حين تطلق على نطاق كبير — للظهور في الفترات التي تُقحَم خلالها الأدوار والمعتقدات والأعراف المسلَّم بها في أزمة. وربما لا يكون من باب المصادفة أن معظم الأعمال التراجيدية المتميزة تميل للظهور في تلك اللحظات أيضًا. ولا يعني هذا إنكار أن سؤال معنى الحياة قد يكون سؤالًا ساريًا دومًا. ولكن بالتأكيد لا يوجد انفصال بين ما يطرحه كتاب هايدجر «الوجود والزمن» من قضايا وبين حقيقة أن الكتاب قد تم تأليفه في فترة من فترات اللغط التاريخي تلك، إذ ظهر في أعقاب الحرب العالمية الأولى. كذلك نشر كتاب جان بول سارتر «الوجود والعدم» — والذي يتناول أيضًا مثل هذه القضايا الخطيرة — في منتصف فترة الحرب العالمية الثانية؛ فيما ازدهرت الوجودية بشكل عام — بما تشمله من وعي بسخافة الحياة الإنسانية — خلال العقود التي أعقبت هذه الحرب. ربما يكون جميع الرجال والنساء يتفكرون في معنى الحياة؛ ولكن لأسباب تاريخية وجيهة، يساق البعض إلى التفكر فيه بمزيد من الإلحاح مقارنة بالآخرين.

إذا كنت مرغمًا على التحقيق في معنى الوجود على نطاق موسع، فمن المحتمل أن تسير الأمور في اتجاه الفشل. أما التحقيق في معنى وجود المرء نفسه فأمر مختلف، إذ قد يدعي أحدهم أن مثل هذا التأمل الذاتي جزء لا يتجزأ من مسألة عيش حياة كاملة. ومن ثم سوف يبدو ذلك الشخص الذي لم يسبق له أن سأل نفسه كيف تسير حياته وهل من الممكن أن تتحول إلى الأحسن مفتقدًا للوعي الذاتي بشكل غريب. ومن المحتمل في تلك الحالة أن يكون هناك جوانب عدة لا تسير فيها حياته بشكل جيد كما قد ينبغي. فحقيقة أنه لا يسأل نفسه إلى أي مدى تتوافق الأشياء مع حياته إنما تشير إلى أنها لا تتوافق معها بشكل جيد كما ينبغي. أما إذا كانت حياتك تسير بيسر بشكل رائع، فإن من بين أسباب هذا هو أنك — على الأرجح — تفكر مليًّا من حين لآخر فيما إذا كنت بحاجة إلى إصلاح أو تغيير.

وعلى أية حال، فإن الوعي بحقيقة أنك تسير في حياتك بشكل جيد يعزز على الأرجح من إحساسك بالسعادة؛ ويبدو من غير المعقول ألا تضيف هذه الميزة الإضافية المستحسنة إلى حالتك العامة من السعادة والرضا. بعبارة أخرى، ليس صحيحًا أنك تشعر بالسعادة فقط إذا كنت لا تدركها. والتأمل الذاتي دائمًا ما يكون محبِطًا بشكل مميت لتلك الرؤية الرومانسية إلى حد السذاجة. وهذا هو ما قد يطلق عليه المرء نظرية الاجتياز الخطر للهاوية في الحياة: فكر في الأمر وسوف يصيبك الفشل في الحال. ولكن معرفة الكيفية التي تتوافق بها الأمور معك هو شرط أساسي لمعرفة ما إذا كان عليك محاولة تغييرها، أم أن تبقي عليها كما هي تقريبًا. فالمعرفة بمثابة عامل مساعد للسعادة وليست غريمًا لها.

غير أن السؤال عن معنى وجود الإنسان في حد ذاته يوحي بأننا ربما قد نكون ضللنا طريقنا بشكل جماعي، مهما كنا نرتحل فرادى. في فترة ما حوالي عام ١٨٧٠ أو ١٨٨٠ في بريطانيا، بدأت خيوط بعض الحقائق اليقينية الفيكتورية بشأن هذا السؤال في التكشف؛ لذلك نجد أن توماس هاردي وجوزيف كونراد مثلًا يطرحان سؤال معنى الحياة بإلحاح من المستحيل تخيله في حالة ويليام ثاكاري وأنتوني ترولوب. وبالمثل جين أوستن، التي سبقت هؤلاء الكتاب. بالطبع أثار الفنانون السؤال قبل عام ١٨٧٠، ولكن نادرًا ما كانوا يطرحونه كجزء من «ثقافة» كاملة قائمة على التساؤل والتشكيك. وبحلول العقود الأولى من القرن العشرين، اتخذت هذه الثقافة — بمخاوفها الوجودية الملازمة لها — شكل الحداثة، وهي تيار أنتج بعضًا من أبرز أعمال الفن الأدبي التي شهدها الغرب على الإطلاق. ومع تحدي كل ما هو تقليدي من قيم واعتقادات ومؤسسات، باتت الظروف مهيأة الآن للفن كي يطرح أكثر الأسئلة الاستقصائية عن مصير الثقافة الغربية في حد ذاتها، ومصير الإنسانية نفسها. ولا شك أن أحد أتباع الماركسية السوقية من ذوي العقليات الكئيبة قد يدرك وجود علاقة بين هذا الحراك الثقافي وبين الكساد الاقتصادي في نهاية العصر الفيكتوري، واندلاع الحرب الإمبريالية العالمية في عام ١٩١٦، والثورة البلشفية، وصعود الفاشية، والأزمة الاقتصادية في فترة ما بين الحربين العالميتين، وظهور الستالينية، وانتشار الإبادة الجماعية، وما شابه. نحن أنفسنا نفضل أن نحصر تخميناتنا وأفكارنا بشكل أقل سوقية في الحياة المعرفية والفكرية.

خلف هذا الأسلوب الخصب والمتمرد في التفكير آثارًا لاحقة — كما رأينا — في الوجودية؛ ولكن بحلول خمسينيات القرن العشرين تعرض للانحسار بشكل عام ليظهر على السطح مرة أخرى في موجة لاحقة من الازدهار في الثقافات المضادة في ستينيات القرن العشرين؛ ولكن بحلول منتصف السبعينيات تقلصت مثل هذه الطموحات الروحانية، وبترت في الغرب بفعل انتشار مناخ سياسي حاد وبراجماتي متزايد. وقد رفضت حركة ما بعد البنيوية — ومن بعدها حركة ما بعد الحداثة — جميع المحاولات للتفكير في الحياة الإنسانية ككل باعتبار أنها موصومة بأنها «إنسانية»؛ أو بالأحرى باعتبارها نوعية النظرية «الشمولية» التي قادت بشكل مباشر إلى معسكرات الموت في الدولة الاستبدادية. فلم يعد هناك آنذاك ما يسمى بالإنسانية أو الحياة الإنسانية للتأمل فيها؛ فلم يكن هناك سوى اختلافات، وثقافات محددة، ومواقف موضعية.

ولعل أحد الأسباب وراء إسهاب القرن العشرين في التفكير في معنى الوجود بأسلوب أكثر ابتئاسًا مقارنة بمعظم العصور الأخرى أنه قد اعتبر الحياة الإنسانية زهيدة وبلا ثمن بشكل مثير للفزع. فقد كان هذا العصر أكثر العصور دموية على مدار التاريخ، بالنظر لملايين الأرواح التي أزهقت بلا مبرر. فإذا كانت قيمة الحياة قد انحدرت بهذا الشكل العنيف في الواقع، فمن الممكن إذن أن يتوقع المرء أن يقع معناها تحت طائلة الشك من الناحية النظرية. ولكن ثمة قضية أكثر عمومية هنا أيضًا. فمن الشائع في العصر الحديث أن ما قد يطلق عليه البعد الرمزي للحياة الإنسانية يتعرض للتهميش بشكل مستمر ومنتظم. وقد كان هذا البعد يضم ثلاثة جوانب طالما كانت حيوية: الدين، والثقافة، والجنس. وقد أصبحت هذه الجوانب الثلاثة جميعًا أقل أهمية بالنسبة للحياة العامة مع بزوغ العصر الحديث. أما في مجتمعات ما قبل الحداثة، فقد كانت في أغلب الأحيان جزءًا من المحيط العام وكذلك الخاص. فلم يكن الدين مجرد مسألة ضمير شخصي وخلاص فردي، بل كان أيضًا مسألة نفوذ دولة، وطقوس عامة، وأيديولوجيات قومية. وباعتباره عنصرًا أساسيًّا للسياسات الدولية، فقد شكل مصير الأمم على طول الطريق من الحروب الأهلية إلى زيجات السلالات الحاكمة. ويوجد نذر شؤم تنذر بأن الفترة التي نعيشها قد تعود إلى ذلك الوضع في نواح معينة.

أما بالنسبة للثقافة، فلم يكن الفنان شخصية منعزلة متقوقعة يتسكع في إحدى المقاهي البوهيمية الماجنة بقدر ما كان موظفًا عامًّا له دور محدد داخل القبيلة أو العشيرة أو البلاط الملكي. وإن لم توظفه الكنيسة، فقد يعين من قبل الدولة أو أحد الرعاة ذوي النفوذ ممن ينتمون للطبقة العليا. وقد كان الفنانون أقل ميلًا للتفكر والتأمل في معنى الحياة حينما كانوا يتقاضون عمولة مجزية لتأليف موسيقى قداس الموتى. إلى جانب ذلك، كان الإيمان الديني يحسم المسألة إلى حد كبير بالنسبة لهم. أما عن الجنس، فكان آنذاك مسألة حب شهواني وإشباع شخصي مثلما هو الآن. ولكنه أيضًا كان محبوسًا داخل أعراف النسب، والإرث، والطبقة الاجتماعية، والملكية، والسلطة، والمكانة بشكل أعمق مما هو عليه الآن بالنسبة لمعظمنا.

وليس المقصود من هذا إضفاء مثالية على الأيام الخوالي. فالدين والفن والجنس ربما كانوا أكثر أهمية للشئون العامة أكثر من اليوم؛ ولكن من الممكن أيضًا أن يكونوا بمثابة الخدم المطيعين للسلطة السياسية، ولنفس الأسباب إلى حد كبير. وبمجرد أن استطاعوا الخروج من قبضة هذه السلطة، استطاعوا الاستمتاع بدرجة من الحرية والاستقلال لم يحلموا بها من قبل. غير أن ثمن هذه الحرية كان باهظًا. فقد استمرت هذه الأنشطة الرمزية في أداء أدوار عامة ذات أهمية؛ ولكنها عمومًا كانت تقصى بشكل متزايد إلى المجال الخاص، حيث لم تكن تخص أي شخص سوى صاحبها.

كيف يرتبط ذلك بالسؤال عن معنى الحياة؟ الإجابة هي أن هذه بالضبط هي المجالات التي كان الرجال والنساء يتجهون إليها عادة حين يتساءلون عن معنى وقيمة وجودهم. فكان من الصعب أن تجد أسبابًا أكثر حيوية وجوهرية للعيش أكثر من الحب، والإيمان الديني، والقيمة النفيسة لعشيرة الفرد وثقافته. في الواقع، كان هناك عدد ضخم من الناس على مدى القرون على استعداد للموت، أو مستعدين للقتل، باسمها. وقد اتجه الناس إلى هذه القيم بشكل أكثر حماسًا ولهفة حين أصبح الميدان العام نفسه مجردًا من المعنى بشكل متزايد. فقد بدا أن الحقيقة والقيمة قد انفصلا، تاركين الأولى شأنًا عامًّا، والأخيرة شأنًا خاصًّا.

وكما اتضح، فقد أثقلت الحداثة الرأسمالية كاهلنا بنظام اقتصادي وسيلي بشكل بحت. فقد كان عبارة عن أسلوب حياة مكرس للنفوذ والربح والبقاء المادي، وليس لتنمية قيم المشاركة والتكافل الإنسانيين. وكان المجال السياسي مسألة إدارة ومناورة أكثر من كونه تكوينًا مشتركًا لحياة مشتركة. حتى المنطق ذاته انحدرت قيمته حتى أصبح مجرد حسبة تحكمها المصلحة الذاتية. أما بالنسبة للأخلاقيات والفضيلة، فقد أصبحت أيضًا شأنًا خاصًّا بشكل متزايد، يرتبط بغرف النوم أكثر من ارتباطه بقاعة الاجتماعات. وتنامت أهمية الحياة الثقافية من جانب، لتتطور إلى صناعة كاملة أو فرع من فروع الإنتاج المادي. غير أنها — على جانب آخر — تضاءلت لتصبح مجرد تزيين لواجهة نظام اجتماعي لم يكن لديه سوى وقت محدود للغاية لأي شيء لم يكن بإمكانه تسعيره أو قياسه. فقد انحصرت الثقافة آنذاك إلى حد كبير في كيفية شغل انتباه الناس بدون ضرر حين لم يكونوا يعملون.

غير أنه كانت هناك مفارقة في هذا الشأن. فكلما أُجبرت جوانب الثقافة والدين والفن والجنس على العمل كبدائل لقيمة عامة مضمحلة، قلت قدرتها على القيام بذلك. وكلما تركز المعنى في المجال الرمزي، كان ذلك المجال ينحرف عن المسار الصحيح بفعل الضغوط التي كان ذلك يفرضها عليه. ونتيجة لذلك، بدأت الجوانب الثلاثة للحياة الرمزية جميعًا في إظهار أعراض مرضية. فتحول الجنس إلى هوس غريب، بل وكان أحد المصادر القليلة للمذهب الحسي التي ما زالت متبقية في عالم منهك القوى. فحلت الصدمة والغضب الجنسيين محل اقتتال سياسي مفقود. وبنفس القدر أصبح الفن متضخمًا في قيمته؛ إذ أصبح في نظر الحركة الجمالية آنذاك لا يقل عن كونه نموذجًا للحياة، فيما كان الفن — في رأي بعض أتباع حركة الحداثة — يمثل المأوى الهش الأخير للقيمة الإنسانية في الحضارة الإنسانية؛ تلك الحضارة التي نبذها الفن نفسه في ازدراء. غير أن هذا كان ينطبق فقط على أثر شكل الفن. ونظرًا لأن محتواه كان انعكاسًا حتميًّا للعالم المادي من حوله، فلم يكن باستطاعته تقديم مصدر دائم للخلاص والنجاة.

fig2
شكل ١-٢: تجمع لحركة «العصر الجديد» في ستونهنج. (© Matt Cardy/Alamy)

في غضون ذلك، كلما لاح الدين كبديل للنزيف المستمر للمعنى العام، كان يُدفع في اتجاه أشكال قبيحة متعددة من الأصولية. أو إن لم يكن ذلك، كان يدفع في اتجاه هراء أنصار حركة العصر الجديد. باختصار أصبحت الروحانية إما جامدة أو فاترة بلا روح. ومن ثم أصبحت مسألة معنى الحياة بين أيدي المرشدين الدينيين والموجهين الروحانيين، والمتخصصين في خلق الإحساس بالسعادة، ومعالجي النفس. ومن خلال التقنيات الصحيحة، كان يمكنك أن تضمن نفض غبار انعدام المعنى عنك في غضون فترة بسيطة لا تتجاوز الشهر. واتجه المشاهير الذين فسدت عقولهم بفعل المداهنة إلى الكابالا والساينتولوجي. وكان مصدر إلهامهم في هذا هو ذلك الاعتقاد الخاطئ والتافه بأن الروحانية لا بد بالطبع أن تكون شيئًا دخيلًا وسِرِّيًّا، وليس شيئًا عمليًّا وماديًّا. وفي نهاية المطاف، كانت المادة — في شكل الطائرات الخاصة ومجموعات الحرس الخاص — هي ما كانوا يحاولون — على الأقل ذهنيًّا — الهروب منها.

بالنسبة لتلك النوعيات، كان الجانب الروحاني هو الجانب الآخر للمادة. فقد كان مجالًا من الغموض المختلق الذي ربما كان فيه تعويض عن عبث الشهرة الدنيوية. وكلما كان غامضًا — وكلما كان أقل شبهًا بحسابات وكلائك ومحاسبيك المجردة من المشاعر الإنسانية — بدا أكثر معنى. وإذا كانت الحياة العادية قاصرة في المعنى، فسيكون لزامًا أن يتم إكمالها صناعيًّا بالمادة. ومن الممكن تطعيمها من وقت لآخر بقدر ضئيل من علم التنجيم أو استحضار الأرواح، مثلما قد يضيف الإنسان الفيتامينات إلى نظامه الغذائي. وقد أحدثت دراسة أسرار قدماء المصريين تغييرًا محببًا من تلك المسألة المرهقة الخاصة بالعثور لنفسك على قصر آخر به خمسين غرفة نوم. علاوة على ذلك، فلما كانت الروحانية تكمن في العقل بشكل كامل، فإنها لم تتطلب منك أي نوع مزعج من الأفعال، كتحرير نفسك من عبء إدارة قصورك من خلال التبرع بمبالغ ضخمة من المال للمشردين.

يوجد جانب آخر للقصة. فإذا كان المجال الرمزي مفصولًا عن المجال العام، فقد اجتيح من قِبله أيضًا. لقد غُلف الجنس كسلعة مربحة في السوق، فيما كانت الثقافة تعد في أغلب الأحيان من أجلِّ وسائل الإعلام المتعطشة للربح. أما الفن، فكان مسألة مال وسلطة ومكانة ورأس مال ثقافي. لقد كانت الثقافات آنذاك تُغلف وتُوزع بشكل مثير للدهشة بواسطة صناعة السياحة. حتى الدين حول نفسه إلى صناعة مربحة، عندما احتال المبشرون التليفزيونيون على الفقراء السذج الورعين واستولوا على أموالهم التي كسبوها بشق الأنفس. بعد ذلك ابتلينا بأسوأ ما في كلا العالمين. فالأماكن التي كان فيها المعنى عادة في أقصى مخزون له لم تعد تؤثر كثيرًا على العالم العام؛ ولكنها أيضًا احتُلت بشكل عدواني من قبل قواها التجارية، ومن ثم أصبحت جزءًا من تسرب المعنى الذي كانت يومًا تسعى لمقاومته. وأجبر هذا النطاق من الحياة الرمزية — الذي أصبح الآن مخصخصًا — على تقديم أكثر مما يستطيع. ونتيجة لذلك، كان إيجاد المعنى حتى في المجال الخاص يزداد صعوبة. ولم يعد العبث وإضاعة الوقت بينما الحضارة تحترق، أو الاهتمام بشئونك الخاصة بينما التاريخ ينهار من حولك، تبدو كخيارات عملية كما كانت من قبل.

fig3
شكل ١-٣: المبشر التليفزيوني الأمريكي جيري فالويل في عرض أصولي حماسي مكتمل. (© Wally McNamee/Corbis)

وتعد الرياضة بلا شك في وقتنا هذا واحدة من أكثر فروع صناعة الثقافة شعبية وتأثيرًا. فإذا تساءلت عما يقدم معنى ما في الحياة هذه الأيام لقطاع كبير من الناس — لا سيما الرجال — فلا بأس أن تكون إجابتك هي «كرة القدم». ربما لن يكون الكثير منهم على استعداد للاعتراف بذلك بنفس الدرجة، ولكن الرياضة — وفي كرة القدم البريطانية على وجه الخصوص — تحل محل جميع تلك القضايا النبيلة — من الإيمان الديني، والسيادة القومية، والشرف الشخصي، والهوية العرقية — التي كان الناس على مدار قرون على استعداد للتضحية بأرواحهم في سبيلها. فالرياضة تتضمن ولاءات وعداوات قبلية، وطقوسًا رمزية، وأساطير رائعة، وأبطالًا رموزًا، ومعارك ملحمية، وجمالًا حسيًّا، وإشباعًا بدنيًّا، وإشباعًا فكريًّا، واستعراضات مهيبة، وإحساسًا عميقًا بالانتماء. كذلك تقدم التضامن الإنساني والتجسيد اللحظي اللذين لا يوفرهما التليفزيون. ولولا هذه القيم، لصارت حياة الكثيرين خاوية بلا شك. فالرياضة — وليس الدين — هي أفيون الشعوب الآن. والحق أن الدين الآن في عالم الأصولية الإسلامية والمسيحية لم يعد أفيون الشعوب بقدر ما هو كوكايين الشعوب.

fig4
شكل ١-٤: الألم والنشوة: مشجع رياضي. (© Rex Features)
وقد صار المعلمون الدينيون المزيفون والحكماء الكاذبون في عصرنا هذا يحلون محل الكيانات المقدسة الأكثر تقليدية التي أثبتت فشلها وعجزها. فالفلاسفة — على سبيل المثال — تم تحويلهم فيما يبدو إلى خبراء تقنيين في اللغة. صحيح أن فكرة الفيلسوف كمرشد هاد لمعنى الحياة هي اعتقاد خاطئ رائج، ولكنك على الرغم من ذلك قد تتوقع منه أن يقوم بما هو أكثر من محاولة إثناء الأشخاص عن الانتحار قفزًا من النوافذ عن طريق الإشارة إلى أن التركيب النحوي لعبارة nothing matters يختلف عن التركيب النحوي لعبارة nothing chatters (زعم الفيلسوف جلبرت رايل بجامعة أكسفورد ذات مرة أنه أقنع أحد الطلاب بالعدول عن الانتحار عن طريق شرح هذا الفارق له). في الوقت نفسه، أصبح علم اللاهوت فاقدًا للثقة بفعل تسلل العلمانية إليه، وكذلك بفعل جرائم وحماقات الكنائس. وجاء علم الاجتماع الوضعي وعلم النفس السلوكي — إلى جانب العلوم السياسية الخالية من أي رؤية — ليكملا خيانة النخبة المثقفة. فكلما سُخِّرت العلوم الإنسانية لخدمة احتياجات الاقتصاد، ازداد تخليها عن دراسة وفحص القضايا والمسائل الجوهرية؛ ومن ثم هرع بائعو بطاقات التاروت، والعرافون، وأفاتارات أتلانتس، ومتخصصو تنقية الروح لشغل مكانها. وهكذا أصبح معنى الحياة صناعة مربحة. وهكذا كانت كتب على شاكلة «الميتافيزيقا للتجار المصرفيين» تُلْتَهَم سريعًا. واتجه الرجال والنساء ممن تحرروا من وهم العالم المهووس بصنع المال والثروة إلى متعهدي الحقيقة الروحانية، الذين كونوا ثروة طائلة من توريدها.

لِمَ يجب أيضًا أن يطل سؤال معنى الحياة برأسه في عصر الحداثة؟ قد يظن المرء أن هذا يرجع بشكل جزئي إلى أن مشكلة الحياة العصرية تكمن في وجود الكثير من المعنى والقليل منه في الوقت نفسه. فالحداثة هي الحقبة التي شهدت خلافًا بيننا فيما يتعلق بجميع القضايا الأخلاقية والسياسية الجوهرية. ومن ثم وجد في الحقبة الحديثة عدد كبير من المتنافسين والخصوم يتحاربون في حلبة معنى الحياة، دون أن يكون لدى أحدهم القدرة على توجيه ضربة قاضية للآخرين. وهذا يعني أن أي حل وحيد للمشكلة سوف يبدو حتمًا مثيرًا للريبة والشك، نظرًا لوجود عدد هائل من البدائل المغرية. وهكذا نجد أنفسنا هنا فيما يشبه الدائرة المفرغة. وما إن تبدأ المعتقدات التقليدية في الانهيار في مواجهة أزمة تاريخية، يبدأ سؤال معنى الحياة في دفع نفسه إلى السطح. ولكن حقيقة أن هذا السؤال قد صار بارزًا للغاية يثير مجموعة كبيرة من الإجابات له؛ ومن ثم يعمل هذا التنوع في الحلول على تقليص مصداقية أي منها. وهكذا فإن الشعور بأهمية طرح سؤال معنى الحياة يعد دلالة على أن الإجابة عليه ستكون أمرًا عسيرًا.

في هذا الموقف يكون من الممكن دائمًا للبعض أن يجدوا معنى الحياة، أو على الأقل جزءًا كبيرًا منه، وسط هذا التنوع الشديد في الآراء بشأن الموضوع. والأشخاص الذين يراودهم مثل هذا الشعور يعرفون بشكل عام بالليبراليين، على الرغم من أن البعض منهم هذه الأيام يعرف أيضًا بأتباع ما بعد الحداثة. والعثور على إجابة قاطعة لسؤال معنى الحياة لا يهم هؤلاء بقدر اهتمامهم بحقيقة وجود العديد من الطرق المتنوعة بشكل غير مألوف للإجابة عليه. والواقع أن الحرية التي يدل عليها ذلك قد تكون في حد ذاتها المعنى الأكثر قيمة الذي سنعثر عليه على الإطلاق. ومن ثم فإن ما يراه البعض تفتتًا محبطًا، يعتبره الآخرون تحررًا مبهجًا.

إن ما يشكل أهمية في المقام الأول بالنسبة لمعظم أولئك المنخرطين في سعي حامي الوطيس وراء معنى الحياة هو الهدف محل المطاردة نفسه. غير أن موطن الاهتمام بالنسبة لليبراليين وأتباع مذهب ما بعد الحداثة هو الجلبة الممتعة التي يثيرها الحوار الدائر حوله في حد ذاته، والتي تحمل في نظرهم على الأرجح قدرًا من المعنى يساوي كل ما سنكتشفه على الإطلاق. فمعنى الحياة يكمن في البحث عن معنى الحياة. وثمة عدد كبير من الليبراليين يميلون لتفضيل الأسئلة عن الإجابات، إذ يعتبرون الإجابات مقيدة بشكل مفرط. فالأسئلة تتمتع بالحرية والانسيابية، فيما لا تعد الإجابات كذلك. والفكرة وراء ذلك هي أن يكون لديك عقلًا فضوليًّا، لا أن تغلقه نهائيًّا بإجابة قاطعة إلى حد كئيب. صحيح أن هذا الأسلوب لا يجدي كثيرًا مع أسئلة على غرار «كيف يمكننا أن نجلب لهم الطعام قبل أن يتضوروا جوعًا؟» أو «هل ستكون هذه وسيلة فعالة لمنع جرائم القتل العنصرية؟» ولكن ربما يكون لدى الليبراليين أنواع أسمى من الأسئلة في أذهانهم.

غير أن التعددية الليبرالية لها حدودها؛ لأن بعض الإجابات المقترحة لسؤال معنى الحياة لا تتعارض معًا فحسب، ولكنها متناقضة فيما بينها. فقد تؤمن بأن معنى الحياة يكمن في الاهتمام بالمستضعفين، فيما قد أصر أنا على أنه يكمن في التنمر على أكبر عدد يمكن أن تطوله يدي من الكائنات المريضة التي لا تقوى على الدفاع عن نفسها. وعلى الرغم من أن كلينا قد يكون مخطئًا، فلا يمكن أن يكون كلانا على حق. حتى الليبرالي يجب أن يكون محددًا بشكل صارم، بحيث يستبعد أي حل — مثل بناء دولة استبدادية — قد يقوض التزامه نحو الحرية والتعددية. فلا يجب أن يسمح للحرية بتدمير أسسها، على الرغم من أن الراديكاليين سوف يجادلون بأنها تفعل ذلك في كل يوم من أيام الأسبوع في ظل الأجواء الرأسمالية.

وللتعددية حدودها أيضًا في هذا الإطار، إذ إنه إذا كان هناك ما يسمى بمعنى الحياة، فإنه لا يمكن أن يكون مختلفًا لدى كل منا. يمكنني أن أقول إن «معنى حياتي هو أن أتناول قدرًا من الويسكي يكفي لأن يجعلني قادرًا على الزحف فقط»، ولكن لا يمكنني أن أقول إن «معنى الحياة بالنسبة لي هو تناول الكثير من الويسكي»، ما لم تكن تلك مجرد طريقة أخرى للتعبير عن الادعاء الأول. فسوف يكون الأمر وكأنني أقول: «لون الثلج بالنسبة لي فيروزي يشوبه لون أرجواني خفيف»، أو أن أقول: «معنى «القناني الخشبية» بالنسبة لي هو «الزنابق المائية».» فلا يمكن أن يكون المعنى هو ما أقرره أنا. فإذا كان للحياة أن تملك معنى، فسوف يكون هذا هو معناها بالنسبة لك ولي ولكل شخص آخر، مهما كان معناها في اعتقادنا، أو المعنى الذي نود أن يكون معناها. وعلى أية حال فقد يكون للحياة عدد من المعاني. لماذا يجب أن نتخيل أن للحياة معنى واحد؟ فمثلما يمكننا أن ننسب لها عدة معانٍ مختلفة، فقد يكون لها مجموعة من المعاني الفطرية، هذا إن كان لها معانٍ فطرية من الأساس. ربما يكون هناك أهداف عديدة مختلفة في ذلك، بعضها متناقض فيما بينها. أو ربما أن الحياة تغير هدفها من آن لآخر مثلما نفعل نحن. لا يجب أن نفترض أن كل ما هو منسوب أو فطري يجب دائمًا أن يكون ثابتًا وفرديًّا. ماذا لو أن للحياة هدفًا بالفعل، ولكنه هدف يتعارض تمامًا مع مشروعاتنا؟ ربما يكون للحياة معنى، ولكن الغالبية العظمى من الرجال والنساء الذين وجدوا في هذه الحياة قد أخطئوا فهمه. فإذا كان الدين زائفًا، فهذا هو الموقف في الواقع.

fig5
شكل ١-٥: مايكل بالين في دور قس أنجليكاني متملق في فيلم «معنى الحياة» لفريق مونتي بايثون. Photo12.com/Collection Cinéma)
غير أنه من المحتمل أن يشكك الكثيرون من قراء هذا الكتاب في عبارة «معنى الحياة» مثلما يشككون في وجود بابا نويل. فهو يبدو كمفهوم من نوع غريب، يتسم بالبساطة والروعة في الوقت ذاته، ويصلح للخضوع للانتقاد التهكمي لفريق مونتي بايثون.8 ويعتقد عدد كبير من المثقفين في الغرب اليوم — على الأقل خارج نطاق الولايات المتحدة المتدينة بصورة تثير الدهشة — أن الحياة عبارة عن ظاهرة تطورية عارضة ليس لها معنى متأصل أكثر من تقلب هوائي أو قعقعة في المعدة. غير أن حقيقة أنها ليس لها معنى محدد تمهد الطريق للأفراد من الرجال والنساء لتكوين أي معنى يمكنهم تكوينه لها. وإذا كان لحياتنا معنى، فإنه شيء يمكننا من خلاله استثمار هذه الحياة، وليس شيئًا تأتي مجهزة به.

وتأسيسًا على هذه النظرية، ما نحن إلا حيوانات تجيد التأليف لنفسها، فلا نحتاج لتلك الفكرة التجريدية التي تعرف باسم الحياة لتكتب لنا قصصنا. فمن منظور نيتشه أو أوسكار وايلد، يمكننا جميعًا — فقط لو امتلكنا الجرأة — أن نكون فنَّاني أنفسنا البارعين؛ قطعة صلصال في أيدينا في انتظار تشكيل أنفسنا في شكل فريد إلى حد الإتقان. وأنا أعتبر أن الحكمة التقليدية في هذا الشأن هي أن معنى الحياة لا يُشكَّل مقدمًا، وإنما يُبنى؛ وأن كل واحد منا يمكنه أن يفعل ذلك بطرق مختلفة تمامًا. لا شك أن هناك قدرًا كبيرًا من الحقيقة في تلك المسألة؛ ولكن لأنها أيضًا مسألة مملة وعديمة الإثارة، فإنني أود أن أجعلها محل تركيز بالغ في هذه الصفحات. ومن ثم فإن جزءًا من هذا الكتاب سوف يُخصص لفحص هذه الرؤية لمعنى الحياة باعتبارها مشروعًا خاصًّا من نوع ما، لكي نرى إلى أي مدى يمكن لهذه الرؤية أن تصمد.

هوامش

(1) Perhaps I should add that I am not myself a philosopher, a fact which I am sure some of my reviewers will point out in any case.
(2) Ludwig Wittgenstein, Tractatus Logico-Philosophicus (London, 1961), 6.44.
(3) For a more detailed discussion, see my ‘Wittgenstein’s Friends’, in Against the Grain (London, 1986).
(4) Max Weber, Essays in Sociology, ed. H. H. Gerth and C. Wright Mills (London, 1991), 152.
(5) Isaiah Berlin, Four Essays on Liberty (Oxford, 1969), 168.
(6) For a useful discussion of moral dilemmas, see Rosalind Hursthouse, On Virtue Ethics (Oxford, 1999), ch. 3.
(7) I have written more fully on the idea of tragedy in Sweet Violence: The Idea of the Tragic (Oxford, 2003).
(8) There is another, non-Pythonesque film called The Meaning of Life, which I once saw in the Mormon Temple in Salt Lake City. Unfortunately, I have completely forgotten what it claimed the meaning of life to be, partly because of my surprise that it only lasted about four minutes.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤