الفصل الثالث

كامو والعَبث

ما العَبث؟ هل شعرتَ من قبلُ باضطراب عندما تساءلت أين أنت، اللحظة التي فقدت فيها كلَّ إطار مَرجعي إزاءَ الزمان والمكان والتاريخ؟ اندلاع مفاجئ — لكنه عادةً عابر — للشك في معنى كلِّ شيء؟ كان هذا الشعور هو العبث من منظور كامو. في مقاله الإبداعي الشديد التأثير عن العَبث — بعنوان «أسطورة سيزيف» — وصفَ كامو اعتمال هذا الشعور في نفسه عندما رأى رجلًا على الجانب الآخر من نافذة المقهى، يتحدَّث بحيوية في الهاتف: لم يستطِع كامو أن يسمعه؛ ومن ثمَّ أطلقت رؤيتُه لشخصٍ آخر يتحدَّث بجدية إلى قِطعة من البلاستيك العنانَ لهذا الشعور. وكان الإحساس العميق بالاضطراب الذي أحسَّه جراء ذلك أحد تجليات العَبث.

العَبث إحساسٌ ينبع من التجربة. كانت التجربة في حالة كامو هي تجربة اقترابه من الموت؛ الهجوم الشرس لمرض السُّل في عُمر السابعة عشرة. منذ تلك اللحظة وعلى مدار حياته، صارت صحة كامو هزيلة، وكان عادةً ما يُضطر إلى أن ينقطع عن العمل لأسابيع، إن لم يكن شهورًا، لدرءِ المرض أو التعافي منه. كان مرضُه بمثابة رسالة تذكير مستمرة له بأنَّ كلَّ المساعي الاجتماعية قد تصبح بلا معنًى في أي وقت. الزواج، والعمل، والعدالة، والدين، والمعرفة، كلُّها تواجه الإحساسَ بالعبث. وضَعَه الوَعْي بحتمية الموت بمعزل عن الناس من حوله ممَّن يمارسون حيواتهم ويمضون فيها بنشاطٍ متجاهلين فناءهم. في هذا الصدد، يتشابه العَبث مع الوجودية: يقع في جوهرهما وَعْي بالفناء ومركزية الكائنات البشرية (متجاوزةً الدينَ على سبيل المثال). مع ذلك، بالنسبة إلى الوجوديين يُعَد هذا الإحساسُ بالعبث نقطةَ بدايةٍ فقط؛ إذ تتسامى أحاسيسُ اللايقين الوجودي بالفن أو بالمسئولية البشرية والتفاعل الجماعي مع العالَم. بالنسبة إلى كامو، إحساس العَبث هو غاية في ذاته، ولا يمكن التسامي عليه، بل يُتقبل ويُعتنَق.

أثبتَ العبث لكامو أنَّ الحياة بلا معنًى؛ لأنها قد تنتهي فجأةً في أي وقت. ومن هذا المنطلق، كان على كامو أن يتوافق مع ما رأى أنه استحالة تفسير أو عقلنة كلٍّ من الحياة والموت. وأطلقَ كامو على قرار مواجهة عَبث الحياة هذا «إرادة العبث» — وهو استعدادٌ لقبول فناء المرء وعَجزه عن فهم الحياة. ولذا، فإن العَبث هو إدراكٌ للحال وتغيير للوعي في آنٍ واحد، هو صحوة، قرار بمواجهة عالم بلا معنًى. وسيعبِّر كامو عن ذلك للشاعر فرانسيس بونج في صيف عام ١٩٤٣ بقوله: «الإحساسُ بالعبث هو العالَم الذي يحتضر، وإرادة العبث هي العالَم الجديد.»

«العالَم الذي يحتضر» هو عالَم التفسيرات التقليدية (الديانات والفلسفات التي تحاول أن تُضفي معنًى على الحياة). يطرح كامو تلك المعتقَدات والنُّظم الفكرية جانبًا. أما «العالَم الجديد» فهو الغاية من عالَم ذي وعي جديد، هو إدراكٌ للعبث وقبول به. في كتاباته، طرحَ كامو أمثلةً للوعي الجديد تحتلُّ فيها الطبيعة — خاصةً الشمس — مكانًا مهمًّا، والشمس الجزائرية خيرُ مثال. كان على كامو أن يستخدم القصص ليوضِّح إحساسَ العبث وإرادته؛ لأن كليهما متجذِّر في التجربة. وهذان الوجهان للعَبث بوصفه إحساسًا وإرادة يمثِّلان الأصل الذي انطلقَ منه دافعه السردي في تلك المرحلة من مسيرته الأدبية.

كان أولُ ثلاثة أعمال كبرى له — وهي «كاليجولا»، و«الغريب»، و«أسطورة سيزيف» — تدور حول سرد التجارِب العَبثية، وفي بعض الأحيان كانت تدور حول صداماتٍ عنيفةٍ بين مَن انتبه إلى عبثية الحياة وبين مَن اختار أن يتجاهلها. أطلقَ كامو على تلك الأعمال اسم «عَبثياتي الثلاثة». كلُّ عمل يعرض العبث من منظور فريد ومميَّز. في مسرحية «كاليجولا»، يعايش الإمبراطورُ الروماني الإحساسَ بالعبث، ويشرع في تعليمه لرعاياه كَرهًا. وفي رواية «الغريب»، يكون القارئ مستهدفًا على نحو غير مباشر ويُجبَر على الإحساس بالعَبث. وأخيرًا، في «أسطورة سيزيف»، يبيِّن كامو إرادة العبث عبر سردياتٍ وأمثلة.

كاليجولا

«كاليجولا» هي مسرحية كامو الأولى. بدأ كتابتها عام ١٩٣٧ وانتهى منها عام ١٩٣٩، لكنها لم تُعرَض على المسرح حتى خريف عام ١٩٤٤، بعد أسابيع من تحرير باريس. عادةً ما يُوصَف كاليجولا إلى جانب نيرو بأنه نموذجٌ مثالي للمستبِد المعتوه. ومع ذلك، مسرحية كامو ليست قصةً نمطية عن مقاومة الاستبداد؛ فمعارضة كاليجولا مدفوعة برغبة رعاياه في عيش حياتهم دون الانشغال بالمسائل الميتافيزيقية. تدور المسرحية حول العَبث، وإلى أي مدًى يمكن للناس أن ينجحوا في تجنُّب مواجهته. إنها مواجهةٌ بين كاليجولا الذي يعي العَبث ورعاياه الذين يفضِّلون أن يتجنبوه.

من الصعب على المرء خلال قراءته للمسرحية أو مشاهدته لها أن يشعر بتعاطف كامل مع كاليجولا أو رعاياه أو نفور تام منهم، وذلك أحد أهداف كامو. يتذبذب القارئ قلقًا بين لحظات المشاركة الوجدانية مع ضحايا كاليجولا ومشاعر الاحتقار تجاه نفاقهم. هذا القلق مقصودٌ ليدفع القُراء إلى التشكيك في أنفسهم، ومعتقداتهم، وكل ما يعتبرونه من المسلَّمات، والتي منها الحاجة إلى الشعور بالتعاطف مع إحدى الشخصيات. أحاسيس الاضطراب واللايقين تلك هي أحد تجليات الإحساس بالعبث. استخدمَ كامو أسلوب الاغتراب هذا على نحو أوضح في «الغريب».

في بداية المسرحية، يمرُّ كاليجولا بأزمة بعد موت أخته (وعشيقته). يصبح كاليجولا ذاهلًا، ليس ذلك في معظمه بسبب موتها، بل بسبب إدراكه أن الأسى سيَمُر. يشعر بحزن شديد بينما يعي في الوقت نفسه أنه سيخفت دون رغبة منه. تقوده تلك التجربة إلى الوعي بعبثية الوجود. يعود كاليجولا إلى روما رجلًا مختلفًا، مصمِّمًا على أن يعلم ذلك الدرس لرعاياه؛ ولذا يبدأ في إساءة معاملتهم دون أي عِلَّة.

مسرحية «كاليجولا» مسرحية تربوية: لقد قرَّر كاليجولا أن يبيِّن عبثية العالم بعد أن أضحى مقتنِعًا بها. وكانت كلُّ تعاليمه التي تتضمَّن الاغتصاب، والتعذيب النفسي، والقتل تُطبَّق اعتباطًا. على سبيل المثال، في أحد المشاهد، يقتل كاليجولا مُواطنًا بسبب اشتباه خاطئ، وعلى سبيل التبرير بعدما أدركَ خطأه همسَ قائلًا: «عاجلًا أم آجلًا» مشيرًا إلى حتمية الموت. جرائم كاليجولا هي وسائل لإدراك غاية: أرادَ أن يبيِّن لرعاياه اعتباطية الحياة. وأفعال كاليجولا تجاه رعاياه تشبه إلى حد كبير أفعالَ كامو تجاه قرائه؛ فهو يُنزِل عليهم العَبث بكل ظلمه وعشوائيته. وأهداف كاليجولا كثيرة. فالمسرحية تتألَّف من سلسلة من الدروس المستفادة عن عدم جدوى مختلف المعتقدات والقيم التي يتمسك بها رعايا كاليجولا ويعتزُّون بها. ومستهدفوه الرئيسيون هم الأشراف (أي الأرستقراطيون أو النُّبلاء، وإن كانوا في النسخة الأولى من المسرحية أعضاءَ مجلس الشيوخ). إنهم يمثِّلون بلا شك الطبقةَ الثرية صاحبة الامتيازات، وأصحاب الأملاك، وإن كانت أكثر أفعال كاليجولا تؤثر على بقية الشعب أيضًا.

يُطرَح أحد تلك الدروس عندما يقرِّر كاليجولا إجبار الأثرياء على تغيير وصاياهم ليتركوا ثرواتهم إلى الدولة؛ حينها يتعيَّن على الجميع أن يسجِّلوا أسماءهم في قائمة، ليُعدَم بعضُهم على نحو عشوائي. يشير كاليجولا بوضوح وحِدَّة إلى أن الجميع محكومٌ عليهم بالموت بأي شكل: القضاة، العامة، هيئة المحلفين، الجميع. يختار كاليجولا أن يتصرف كالآلهة ليبيِّن مدى تعسُّفهم وقسوتهم. كما يتحدى الآلهة أيضًا أن تهلكه، ويرى أن استمرار وجوده دليلٌ على عدم اكتراث الآلهة.

تعبِّر مسرحية «كاليجولا» عن عَدمية محضة لولا ظهور بطل من نوع ما؛ هذا البطل هو شيريا، وهو مثقَّف من الأشراف يُعارِض كاليجولا لكنه يرفض أن ينضم إلى مؤامرة قتله. إنه صوتٌ غير متوقَّع — يجسِّد المنطقة المعتدلة بين الضحايا السيِّئي الطباع وبين المستبد الجسور. يفهم شيريا العَبث وما يحاول كاليجولا فِعله، لكنه ضد العنف وخطابه المُعادي للبشر.

أعدَّ كامو نسخًا مختلفة من تلك المسرحية، ويزداد دور شيريا أهمية مع كل نسخة. يرتبط حضور شيريا المتنامي بموقف كامو المتغير من العَبث ويوازيه. فشيريا يجسِّد وعي كامو بأن العبث يجب أن يمتزج بشكل من أشكال الأطر الأخلاقية، وإلا فسيكون عَدمية خالصة. عدَّل كامو شخصية شيريا في النسخ اللاحقة ليضيف جملًا يعبِّر فيها عن تصميمه على القتال ضد «فكرة عظيمة سيعني انتصارها نهاية العالم» — في إشارة واضحة إلى القتال ضد النازيين.

بوجه عام، في نسخة عام ١٩٣٩ الأصلية عندما واجه شيريا كاليجولا، يخبر شيريا إمبراطوره باعتقاده أن بعض الأفعال أجمل من غيرها. يجيب كاليجولا بأن جميع الأفعال البشرية متشابهة، ويرد شيريا «أفهمك وأتفق معك»، أزالَ كامو تلك الجملة الأخيرة بدلالتها الأخلاقية من نسخة عام ١٩٤٤. وفي سياق تحرير فرنسا (عندما عُرِضَت المسرحية لأول مرة على خشبة المسرح)، كان على كامو تعديل النسخة الأصلية لكيلا يظهر رد شيريا كمبرِّر للمستبدين. لكن من عجيب المفارقة أن نسخة عام ١٩٣٩ الأصلية لم تُعرَض على المسرح خلال الغزو لنقيض هذا السبب؛ وهو أنها كانت ستبدو هجومًا ضمنيًّا على هتلر.

عدَّل كامو مسرحية «كاليجولا» عدة مرات بسبب تغيُّر السياق التاريخي. وهذا مصيرٌ يدعو إلى السخرية؛ لأن كامو أراد بتلك المسرحية التعبيرَ عن نسخة العَبث الأكثر نقاءً وعَدمية. وقد مثَّل وجود شيريا وموقفه المعتدل نبرةَ عبث أخفَّ وقعًا، وأشار إلى رؤية كامو المتغيِّرة؛ أنه قد أصبح من غير الممكن الدفاع عن العبث بكل نقائه العَدَمي — وبالطبع ليس بعد هتلر. وقد أدَّت الحرب العالمية الثانية والواقع الأخلاقي الذي تلاها بكامو إلى إدخال درجة من درجات الأخلاقية والإنسانية في فكره، والتي نتجَ عنها لاحقًا فِكرته عن التمرد، والتي هي موضوع المرحلة الثانية من أعماله.

على الرغم من أن هذا التفسير أصبحَ متوافَقًا عليه، فعندما عُرِضَت المسرحية لأول مرة في سبتمبر لعام ١٩٤٥، رأى كثيرٌ من النقاد أنها متساهلة للغاية مع كاليجولا، وأنها دمجت عَدَمية الإمبراطور المجنون ومعتقدات كامو الشخصية؛ الأمر الذي سبَّب إزعاجًا كبيرًا لكامو، وذلك رغم مقاله الأخير الذي أدانَ فيه تفجير هيروشيما.

«الغريبُ» والعَبث

دوَّن كامو في أغسطس لعام ١٩٣٧ الملاحظات التالية على عجل في يومياته عن «الغريب»:

قصة رجل التَمَس الحياة كما يراها معظم الناس (في الزواج والوظيفة، إلخ) ويكتشف فجأةً بينما يقرأ كتابًا مصوَّرًا للأزياء مدى غُربته التي كان فيها عن حياته (الحياة كما تُرى في كتب الأزياء المصوَّرة).

كانت كتب الأزياء في الأصل دليلَ أزياءٍ لمختلف المراكز الاجتماعية. وهي اليوم في صميم ثقافة المستهلك. في تلك الرواية، يرفض كامو البرجوازية وقِيمها، إلى جانب الشعائر الكاثوليكية، ودورهما الذي يلعبانه في هذا العالم العَبثي. سيصبح هذا الموقف مصدر استحسان هائل للعديد من أجيال القراء؛ لأن رواية «الغريب» تقدِّم شخصية مختلفة في الأدب الفرنسي: الموظف المكتبي. يقع هذا المركز الاجتماعي الحديث نسبيًّا والممثِّل لفئة اجتماعية جديدة في صميم الرواية.

تنقسم أحداث رواية «الغريب» — التي تدور أحداثها في الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي في ثلاثينيات القرن العشرين — إلى جزأين. الأول هو قصة ميرسو، موظف مكتبي شاب. عندما ماتت أمه، لم يشعر ميرسو بأي شيء، ولم يفهم أن المجتمع يريده أن يُبدي انفعالًا. العبارة الافتتاحية الشهيرة لتلك الرواية، والتي تُفسَّر دائمًا على أنها تعكس عدم اكتراثه بموت أمه، نجحت نجاحًا مدوِّيًا في المؤسسة الأدبية الفرنسية:

اليوم ماتت أمي. أو لعلها ماتت أمس، لست أدري. وصلتني برقية من دار المُسنِّين: «تُوفيت الأم. الدفن غدًا. المخلِص لكم.» وهذا لا يعني شيئًا. ربما حدث الأمر بالأمس.

وكما أخبرته دار المُسنِّين، يذهب ميرسو إلى الجنازة في اليوم التالي. ثم يعود في اليوم الذي تلاه إلى البيت، ويذهب لمشاهدة الأفلام، ويقيم علاقة مع زميلة سابقة له. كما يساعد قوادًا على الأخذ بالثأر من امرأة. وفي عطلة نهاية الأسبوع التي تليها، يذهب إلى الشاطئ مع بعض أصدقائه، وبعد مشادَّة لسببٍ غير مفهوم — «بسبب الشمس» كما يقول في المحكمة — يطلق النار على شابٍّ عربي ٥ مرات فيُرْديه قتيلًا.

يتناول الجزءُ الثاني من الرواية حبسَ ميرسو ومحاكمته. على الرغم من أن محاميه توقَّع حُكمًا مخفَّفًا، يواجه ميرسو الآن خطر عقوبة الإعدام، ليس لقتل عربي، بل لرفضه أن يظهر حِدادًا على وفاة أمه. يُحاكَم بسبب «غرابته»، بسبب عدم اكتراثه المتعمَّد ورفضه الامتثال للقيم المؤسِّسة للمجتمع الفرنسي: احترام المرء لوالديه، والزواج، والسعي وراء النجاح الوظيفي. عاشَ ميرسو حياته وكأنه شديدُ الوعي بالطبيعة العَبثية لوجودنا الجَمْعي، وهذا الوعي جعله لا يبالي بجميع القيم؛ ولهذا فهو خطيرٌ على المجتمع.

في النهاية، يحدث ما يريده المجتمع: صدر الحُكم على ميرسو بالإعدام بالمِقصلة في مكان عام. لكن من الصعب تصديق هذه الحبكة منذ بدايتها؛ حيث لم يُحَلْ أي مستوطن فرنسي إلى الإعدام قَطُّ لقتلِ عربي في الجزائر المحتلة. تمثِّل الحبكة عذرًا: قتل العربي هو وسيلة لنَيل غاية، المجتمع البرجوازي الفرنسي هو الذي يحاكم، من خلال طقوسه، وعاداته، ومسلَّماته. القيم الفرنسية المسلَّم بصحتها يجري تحدِّيها، مع استثناءٍ ملحوظ لتلك القيم المتعلقة بالاستعمار، لكن مثل هذا الاستثناء نادرًا ما يُلاحَظ.

يضع ميرسو طقسَ الحداد موضع تساؤل في العبارات الافتتاحية بالرواية التي يعترف فيها أنه لا يتذكَّر تاريخ موت أمه، ثم يلفت النظر إلى خواء تلك الأعراف. وبوضع عبارته الصادمة («لا أذكر متى ماتت أمي») في مقابل عبارة أكثر عَرضية (تعبيرات نمطية ولكنها خالية من المعنى مثل «المخلص لكم»)، يُخلُّ ميرسو باتزان القارئ. ذات القارئ «المحترمة» مصدومة بصراحة ميرسو، لكنها أيضًا تتعاطف مع الهجوم الذي يشنه ميرسو على التقاليد؛ ولذا تتقلب ذاته بين الاتفاق معه وإلقاء اللائمة عليه.

يفنِّد الجزءُ الأول من الرواية طقوسَ الحِداد، لكن الأقسام اللاحقة تشكِّك في الآمال الاجتماعية، والصداقة، ونظام العدالة، والزواج، وهذا غيضٌ من فيض. يبدأ ميرسو والقارئ في إدراك أن المجتمع البرجوازي يريد دراما فيها تعبيرٌ واضح عن تلك الأدوار — الابن المتألِّم، والزوج المحب، وخلافه. ورفضُ تلك الأدوار يثير شكوك أفراد المجتمع الآخرين فيه. ولهذا، فإن ميرسو متهَم من قبل أن يرتكب أيَّ جريمة.

يُضرَب مثالٌ آخر بعدما يرجع ميرسو إلى العمل، عندما يسأله رئيسه عن عُمر أمه:

عملتُ اليوم كثيرًا في المكتب. وقد كان الرئيس ودودًا. سألني إذا ما كنت متعَبًا، وأرادَ أيضًا أن يعرف عُمرَ أمي. قلت له: «ما يناهز الستين عامًا» حتى لا أخطئ. ولست أدري لمَ بدا لي وكأنما تخفَّف من عبءٍ، واعتبر أن الأمر قد انتهى.

المفارقة هنا أنه على الرغم من أن ميرسو لا يتذكَّر عُمر أمه، فهو شديدُ الوعي بأهمية المظاهر، ويخاف أن يصدم مديره بإجابة صادقة. يناسب هذا الخوف التوقعات المألوفة لدى القارئ. لكن ما فاجأ ميرسو أن رئيسه شعر بالارتياح من رده المبهَم. إنه على الأرجح لا يودُّ أن يعرف عُمر أمه، بل فقط إذا ما كانت مُسنة بالقدر الكافي الذي لا يجعل من موتها مأساة. شعرَ الرئيسُ بالارتياح؛ لأن موتها كان طبيعيًّا، ومطابِقًا لتوقعات المجتمع. باختصار، السؤال الذي طرحه رئيسه لا يعبِّر بأي شكل عن اهتمام صادق بالآخرين، بالقدر الذي تكون به الأسئلة العَرَضية بعد الأحداث المأساوية مجردة من المعنى. علاوة على ذلك، يعتبر عدم اكتراث ميرسو رد فعل أيضًا تجاه الشخصيات الأخرى في الرواية الذين يتسمون — شأن القارئ العادي — بأنهم «مندمجون تمامًا في المجتمع»، وذلك هو المفهوم الحقيقي للامتثال.

يعني السلوك القويم أيضًا صَوْن النظام الاجتماعي البرجوازي الجديد. يجعلنا هذا المبدأ نتساءل: مَن الغريب؟ هل هو ميرسو، الذي يقول الحقيقة، أم نحن القراء، مَنْ نُخفي مشاعرنا ولا نكترث بالكلمات ونحيِّدهما؟ تلك العملية الخفيَّة تمكِّننا من النظر فيما كنا نظنه قِيمًا أخلاقية خاصة بنا، ونكتشف أنها ليست إلا نِتاج منظومة أخلاقية جَمْعية. ومن ثمَّ، نشرع في تحرير أنفسنا من تلك المنظومة الأخلاقية، ونواجه انعدام المعنى في العالَم.

تناولَ كامو الزواجَ من خلال ميرسو الذي يقضي وقته مع زميلة سابقة له. تطلب منه زميلته أن يتزوجها، ويجيبها بعدم مبالاته المعهودة:

مساءَ مرَّت بي ماري، وسألتني عما إذا كنت راغبًا في الزواج بها. أجبتُها أن الأمر سواء بالنسبة إليَّ، وأننا نستطيع الزواج إن كانت تلك رغبتها. فأرادت أن تعرف إذا ما كنت أحبها. أجبتُها، مثلما فعلت في مرة سابقة، بأن هذا الأمر لا يعني شيئًا، بيد أني ما كنت أحبها على الأرجح.

مرة أخرى، لا يهاجم ميرسو هنا الزواجَ مباشرةً. إنه يقبل طلبَ الزواج من ماري بينما ينفي في الوقت نفسه أهميته. ومن جديد، يقوِّض ميرسو القيم المجتمعية من خلال الموافقة عليها والتشكيك فيها على حَدٍّ سواء.

يبدو ميرسو أنه يُبدي عدم مبالاة تامة تصل إلى حَدِّ التعنُّت تجاه أي شيء تقريبًا يشغل بقية الشخصيات (كالحب، العمل، الطقوس الاجتماعية). فما سبب تلك اللامبالاة؟ عادةً ما تكون اللامبالاة آلية دفاعية، ردَّ فعل على خيبة أمل محطِّمة أو تحرُّر من وهم. إذا نظرنا إلى حياة كامو الخاصة، فثَمَّة أحداثٌ قد تُسلِّط الضوءَ على رد فعل ميرسو، لا سيَّما ما يخص لامُبالاتَه تجاه الطموح الوظيفي. فحديثه عن تخلِّيه عن دراساته وآماله الوظيفية يتردَّد صداه في تجربة كامو الخاصة. فقد درسَ لسنواتٍ عديدة في الجامعة وكتبَ أطروحة، فقط ليرفضه أطباء الدولة الفرنسية رفضًا باتًّا باعتباره غير كفء للتدريس في النظام التعليمي الفرنسي بسبب حالته الصحية. لعل ميرسو كان يتحدث هنا عن مشاعر كامو ويتأمَّل آماله في الماضي: «عندما كنت طالبًا، كان لديَّ آمالٌ عديدةٌ كتلك. لكن عندما كان عليَّ أن أتخلى عن دراساتي تعلَّمت بسرعة شديدة أن أيًّا منها لم يكن مهمًّا حقًّا». في مرحلةٍ ما، لا بد أن كامو رأى سنواته التي قضاها في الجامعة بلا معنًى. يمكن ربط الفقرة الافتتاحية في الرواية بتناقض كامو الوجداني في جنازة جدته لوالدته التي شعر خلالها بقليل من الأسى، وبكى امتثالًا ليس إلا. يمكننا أيضًا أن نربط زواجه الفاشل من سيمون ييه باعتباره مؤثِّرًا في تجسيده لموقف ميرسو من الزواج. لقد نقلَ كامو تَجارِبَ العناء أو الخذلان الشخصية وعدم مبالاته الناتجة عنها إلى أدبه.

صاغت تفسيراتٌ أخرى عدم مبالاة ميرسو بوصفها نقدًا لتعصب المجتمع نحو مَنْ لا يمتثلون له. في رأي سارتر، قلة وعي ميرسو بالقواعد الأخلاقية جعلته يُشبِه كانديد، وهو نقيضُ البطل في أشهر الأعمال الأدبية الفلسفية لفولتير. ركَّز الناقد والفيلسوف رولان بارت (١٩١٥–١٩٨٠) على نقاء الأسلوب في رواية «الغريب»، واعتبره دالًّا على عدم مبالاة ميرسو.

ومع ذلك، عدم مبالاة ميرسو غير شاملة لكل شيء. فهي تتبع المنطق العبثي في الرواية في أن صديقه الوحيد، رايمون سينتس، يعمل قوادًا. وبما أنه رجلٌ عبثي بلا أخلاقيات، فإن عمل رايمون لا يضايق ميرسو. وعندما يضرب سينتس امرأة بهمجية شديدة لدرجة أن صرخاتها استحضرت الشرطة، يُدلي ميرسو بشهادة زور ليحمي صديقه. لقد اختفى الحب التلقائي للخير في الشخصية الرئيسية، وهو الأمر المعتاد في الروايات. يبدو أن ميرسو يعيش حياةً خالية من الأخلاق.

هناك شيءٌ مشترك بين ميرسو وسينتس، وهو كُرههما الشديد للشرطة. بُغضهما للشرطة هو تصريح علني بأن المجتمع هو العدو، لكن لا يتَّضح على الفور أيُّ جزء من المجتمع هو المستهدَف. ومن المهم أن نعرف أن الشرطة في سياق الجزائر المستعمَرة هي الممثِّل الممقوت للسلطة الباريسية المركزية، سلطة العاصمة الإمبراطورية. يلتحم ميرسو وسينتس مع هويتهما باعتبارهما من الأقدام السوداء: لا يكترثان لحياة العرب، ويمتعضان بشدة من فرنسا الأم.

يتجسَّد الاتحادُ ضد العرب في العديد من أحداث الرواية، وإن لم يكن هذا بوضوح كبير في قتل ميرسو للشاب العربي. يقع هذا الحدث على الشاطئ في الجزائر العاصمة. فبعد مشاجرة بين ميرسو وسينتس وصديق لسينتس، وبين ثلاثة جزائريين شهدوا تراجع الأقدام السوداء، يعود ميرسو إلى مكان الحادث. يرى رجلًا عربيًّا مستلقيًا يعزف الناي. وفي المشهد الذي لربما هو الأشهر بالكتاب تقريبًا — الذي تلعب فيه كلٌّ من الشمس والحرارة دورًا بارزًا — يسير ميرسو نحو الرجل، الذي يكشف لميرسو عن سكينه. تنعكس الشمسُ على السكين، وتنعكس على عينَي ميرسو. بعدها يطلق النار على العربي خمس مرات. يوضع ميرسو قيد الحبس، وتدور المحاكمة التي تتبع ذلك في معظم الجزء الثاني. الغريب أن المحاكمة لم تخاطب جريمة ميرسو الحقيقية؛ إذ لم يطلب من أي عربي الشهادة، ولا يبدو أن جريمة القتل تلك تشغل الجهاز القضائي.

تُعَد المحاكمة فرصة كامو للتنديد بالقضاء الفرنسي، لكنها أيضًا توفِّر المنصة التي سيندِّد كامو من خلالها بالامتثال البرجوازي العام. فبدءًا من القاضي المتدين تديُّنًا متطرفًا، الذي يلوِّح بصليبه في وجه ميرسو خلال الإجراءات السابقة للمحاكمة ويلقِّبه بعدوِّ المسيح، إلى محامي الدفاع غير الكفء والمدعي العام المُزايد، يبدو النظام القضائي مشغولًا في الغالب بسُمعته وبتطبيق القيم الأخلاقية المحافِظة. وفي نهاية المطاف، فإنَّ نتيجة المحاكمة مرهونة كليًّا بالجانب الأخلاقي لدى المتهم.

بهذا التركيز يُصبح ميرسو في وضع سيئٍ، بالنظر إلى عدم ذرفه للدموع في جنازة أمه، وعدم معرفته لعُمرها، وإقامته لعلاقة مع زميلة له بعدها بفترة قصيرة للغاية. هنا مرةً أخرى، تشكِّل تجارب كامو الحياتية جذور خيبة الأمل تلك؛ ففي الوقت الذي قضاه كصحفي يكتب تقارير المحاكمات، كان عادةً ما يشجب الأحكام، حتى إنه كان أحيانًا يكتب عرائض في محاولة لنقضها. رغم ذلك، فإن المجتمع البرجوازي هو الذي يُحاكم هنا في الوقت نفسه. كلُّ مَنْ في قاعة المحكمة هو مثالٌ على الامتثال؛ كلُّهم يلعبون دورهم المجتمعي إلى حد الإتقان. وكما هو واضح، هدفُ المحاكمة هو لفت النظر إلى عبثية حقيقة أن ميرسو مُذنِب ليس لقتله كائنًا بشريًّا، بل لأنه لم يذرف دموعًا في جنازة أمه. لكن يبقى اللغز: لماذا يقتل ميرسو الشاب العربي؟

بغضِّ النظر عن عدم مبالاته الواضحة، هناك بعضُ الأمور التي يحبها ميرسو إلى حَدٍّ بعيد. يستمتع ميرسو بالطعام (والنبيذ والتبغ)، ويرغب في ماري، وإن كان ذلك لأسباب جسدية بَحتة. ويعشق الطبيعة أكثر من أي شيء، في تكرار للفكرة الرئيسية المهيمِنة على أبطال كامو في مجموع إنتاجه الأدبي. لا يبدو ميرسو سعيدًا حقًّا إلا عندما يصف البحر والشاطئ، وتحديدًا الشمس. إنَّ تفاعل ميرسو مع الطبيعة يصل إلى حد الاتحاد معها. هذا التواصل مع الطبيعة هو مثالٌ آخر لمفهوم الغبطة لدى كامو. لا يهتم ميرسو بالتخطيط للمستقبل (رفض الترقية، والزواج)، بل يعيش الحاضر، في اللحظة الآنية.

تجسِّد الشمس وضوءُها — اللذان يَهِيم بهما ميرسو طوال الرواية — تلك العلاقة الخاصة مع الطبيعة، التي أطلقَ عليها بعضُ المعلقين وصفَ المقدَّسة. لحظاتُ الاتصال مع الطبيعة تلك توفِّر مَهربًا من الزمن كما يقيسه البشر، مَهربًا من الماضي، ومن التاريخ، ومن الذاكرة الجَمْعية.

يعكس تصويرُ الطبيعة في رواية «الغريب» اختلافًا جوهريًّا بين رؤى كامو ورؤى جان بول سارتر. في وجودية سارتر، تثير التفاعلاتُ مع الطبيعة لحظاتٍ من اللايقين الوجودي العميق، لكن ينبغي التسامي على تلك اللحظات من خلال الأنشطة الإنسانية. أما في عَبثية كامو، فإنَّ التفاعلات مع الطبيعة مرغوبة، وهي المصدر الوحيد للعزاء في النهاية.

وفيما يخصُّ القتل، يرى أحدُ التفسيرات أن ميرسو قتلَ الشاب العربي لأنه أعاق تفاعله مع الطبيعة. فمن خلال استرخائه واستلقائه على الشاطئ، استعادَ هذا الشابُّ تلك المنطقة رمزيًّا (إنه «يجعل نفسه كما لو كان في بيته»). ثم يستولي على الشمس رمزيًّا، ويوجِّه انعكاسها في سكينه على وجه ميرسو. وبالنظر إلى حب ميرسو للطبيعة وللشمس، يعد ذلك انتهاكًا للمقدسات.

كتبَ العديدُ من المعلقين، أمثال كونور كروز أوبراين وإدوارد سعيد، عن غياب العرب في الرواية باعتبارهم كائنات بشرية لها أسماء وتستطيع التحدُّث. وغياب العرب وحياة البربر في الرواية أمرٌ غريب؛ لأن من الواضح أن كامو كان واعيًا بالوضع الاستعماري ومهتمًّا به، وكتبَ بإسهاب عن محنة سكان منطقة القبائل. يبدو أن هناك تكتُّمًا ظاهريًّا — لم يرد كامو أن تكون روايته عن الاستعمار بشكل صريح (الأمر الذي كفل كونها كذلك في أعين بعض القراء، وهذه إحدى المفارقات). كتبَها كوسيلة لإخفاء موقع الجزائر من التاريخ، كاستراتيجية للتمسك بالمسائل الميتافيزيقية المرتبطة بالعبث عوضًا عن الاستعمار. يُرمَز إلى ذلك بقتل العربي، والذي يبدو كذريعة لمناقشة مسائل فلسفية يُرتأى أنها أعلى جانب أكبر من الأهمية من جريمة القتل وضحيتها الذي لا اسم له.

يعارض أوبراين معلقين آخرين مثل روبرت زارتسكي وديفيد كارول، ويعتبرون أن إقصاء ميرسو عن المجتمع يجعله في منزلة عربي؛ ولذا بتجريده من إنسانيته يصبح ميرسو في النهاية هو ذلك الآخر، المُقصى.

رغم ذلك، وصفُ كامو الفعلي للعرب في روايته هذه — وهي الأكثر شهرةً له — وصفٌ مشوَّش. لعل بإمكاننا الرجوعَ إلى خيبة أمله الشديدة من رفض فرنسا مشاركة قوتها وسلطتها مع عددٍ قليلٍ من النخبة الجزائرية. قبل أن ينهي كامو روايته، أخفقَ مشروع قانون بلوم-فيوليت إخفاقًا تامًّا، وإنْ صدر لحقَّق ذلك الهدف الشديد التواضع. يكمُن خلف هذا الوصف الفاتر والمغفِل للعرب حلمُ كامو المحطَّم، المتمثل في وضع مسار يقود نحو وجود فرنسي بالجزائر أكثر عدالة وإنصافًا. في رواية «الغريب»، يقمع كامو أيَّ مشكلة قد تكون لديه مع الاستعمار. وينتقد بعنف عددًا كبيرًا من القيم المجتمعية — الحب، والصداقة، والعمل، والعدالة — لكن ليس قمع العرب. الأمر كما لو أن كامو فقد الأمل في تلك المشكلة المحورية وقرر أن يقمعها. وفي أثناء ذلك يقرُّ إقرارًا غير مباشر بالنظام الاستعماري بإبقائه في الخلفية.

أسطورة سيزيف

«أسطورة سيزيف» لكامو هي رسالةٌ يتغيَّر أسلوبها وموضوعها بتقدُّمك فيها. إنها نقاشٌ لأفكار فلسفية، ووصفٌ لأحاسيس؛ وأحيانًا تُقرأ كرثاء، وأحيانًا كقصيدة غنائية. إنها وصفٌ مفصَّل لطريقة عيش حياة عبثية، إنها هجوم ذكي على الذكاء. ولذا من الصعب تحديد ماهيتها على نحو قاطع.

يحذِّرنا كامو في ملاحظة استهلالية قصيرة: هذا النص لن يكون عن فلسفة العَبث، بل عن شعور العَبث. رغم ذلك، في العبارة الافتتاحية في المقال يكتب: «ثَمة مشكلة فلسفية واحدة فقط هي المهمة بحق: إنها الانتحار»، واضِعًا نفسه مباشرةً في ملكوت الفلسفة. يستعمل كامو تلك الافتتاحية ليعرِّفنا إحساسه بالعبث، الذي سيسود الجزءَ الأول من المقال. تنظر العبارة الافتتاحية إلى شخص يواجه إدراك أن الحياة تخلو من المعنى، اللهم إلا فيما يخصُّ حتمية الموت. ألا يكون الانتحار — وهو قرارُ المرء في النهاية — هو التصرُّف الوحيد الذي في إمكان القدرة البشرية؟ يجيب كامو بالنفي؛ فالعَبث هو نتيجة للمواجهة المزعجة بين بحث المرء عن المعنى وغياب المعنى في الحياة، وينصح قُراءه بتقبل ذلك. وينبغي للمرء بإدراكه محدودية الحياة أن يعيش حياته إلى أقصاها؛ ومن ثمَّ، يشكِّل الموت السابق لأوانه عن طريق الانتحار عائقًا وليس حلًّا. ويُقرُّ كامو أنه لا يستطيع أن يُعرِّف العَبث في كلمات، لكن ينبغي له بالأحرى أن يُحصي الأحاسيس التي تنطوي على العَبث والمواقف التي تثيره: على سبيل المثال، عندما يحدِّق في صخرة، هذه «الغِلظة، غرابة هذا العالم، ذاك هو العَبث».

لا يُفترض بأحاسيس العَبث تلك أن تتبدد أو تُتجاوَز، ولا حتى أن تُفسَّر. يهاجم كامو في «أسطورة سيزيف» فكرة المعرفة، والعلم، والتفسيرات من أي نوع. بعض أهم العبارات المعبِّرة في هذا المقال عبارة عن تأكيداتٍ من جانب كامو: «المنطقُ أعمى»، «المنطقُ الكلي والشامل مثيرٌ للضحك». ويذهب كامو إلى التصريح بأنه ضد النظريات المفسِّرة لكل شيء، وأنه يعتنق ما يراه طلاقًا غير قابل للصلح (بمنصوص كلامه) بين اللامعقول وبين رغبته في الجلاء والفهم. إنَّ إرادة العبث الخاصة به هي قبولٌ لإحساس العبث باعتباره نقطة بدء لعيش حياة عبثية. وفي الجزء الثاني من المقال، يستعرض كامو أمثلة على الحيوات العَبثية الجديرة بالملاحظة ويمدحها.

الوَعْي بالعبث مُعتِق؛ تلك هي أحد معتقدات كامو الرئيسية في «أسطورة سيزيف». وبرفضه إرساء نظامٍ فكري، يُعلن كامو عن أسلوبٍ للحياة يتَّبعه الرجل العَبثي (لا يوجد مثالٌ واحد على امرأةٍ عبثية)، يقدِّم وجهة النظر، والمُثُل العليا، والمِهن المُثلى المطلوبة. يكتب كامو الآن عن نفسه بصيغة المتكلم، باعتباره مثالًا على الرجل العَبثي: «العقائد التي تفسِّر كلَّ شيء تجعلني غير مسئول، تجعلني أضعَف: يجب على المرء أن يموت راضيًا بفكرة الموت، لا بإرادته الحرة.» في الوقت نفسه، يقترح كامو أن تعيشَ الحياة لأقصاها لكن بصفتك فردًا، لا بصفتك جزءًا من جماعة: «لا أستطيع أن أعايشَ إلا حريتي.»

الرجلُ العَبثي «يستمتع بالتحرُّر من القواعد العامة». كيف ذلك؟ في البداية، رجلُ العبث لا يبالي بالمستقبل، يعيش للَّحظة. لديه ولعٌ بأن يأخذ كلَّ ما يستطيع أَخْذه، وليس لديه إحساسٌ راسخٌ بالقيم؛ لأن امتلاكه لها سيُعطي معنًى للحياة التي يعرف أنها بلا معنًى. وبناءً على ذلك، فإنَّ حياة العَبث تدور حول العيش أطول في مقابل العيش أفضل. يمثِّل كامو هذا التصريح بشخصية دون خوان: «إذا ما تركَ دون خوان امرأة، فلا يعني هذا بالتأكيد أنه لم يعد يرغب فيها. فالمرأة الجميلة مرغوبة دائمًا. لكن كل ما هنالك أنه يرغب في أخرى. وشتان بين هذا وذاك …» هنا يقدِّم كامو نفسه بوصفه شاهدًا خبيرًا ليُبيِّن بثقةٍ شديدةٍ دوافعَ دون خوان. هل كان كامو على شاكلة دون خوان يومًا؟ تميل حياته الخاصة إلى تأكيد ذلك. فقد كانت له علاقاتٌ كثيرة، بعضُها كان خلال زواجه الثاني. وبعد الحرب، عندما كان أصدقاؤه يأتون من خارج البلدة لزيارته، كانوا عادةً ما يتصلون بفرانسين (زوجته) ليسألوها عن رقم عشيقته الحالية؛ لأن تلك كانت أفضل طريقة لإيجاده. كان ذلك يؤلم فرانسين بشدة، وأخبرَ كامو الجميعَ (بمَن فيهم عشيقاته) كم يشعر بالذنب. ورغم ذلك ظلَّا معًا حتى موته.

مثالٌ آخر يخصُّ ممثِّلي المسرح، الذين يصفهم بأنهم عَبثيون من نوعٍ خاص بسبب طبيعة عملهم العابرة. يطَّلع الممثل على دور تمثيلي، ويعيش حياة شخص آخر — عادةً ما تكون بطولية — إلى أقصاها، وبعدها ينتقل إلى الحياة التالية، والدور التمثيلي التالي.

يخلع كامو على المُحارِبين، وأمثال دون خوان، والممثلين ثوبَ المثالية: كلُّهم يواجهون طبيعتهم، إنهم «أُمراء بلا ممالك» — صدًى لتشبيه بودلير للشاعر بالقطرس، «أمير السحاب». شبَّه كامو تلك النخبة، التي كان واحدًا منها، ﺑ «الخراف» — قطعان عادية، لا تعي العَبث، ويخونها — على حَدِّ تعبيره — الرجال العبثيون.

وبنهاية المقال فقط، يعود كامو إلى سرده الجديد لأسطورة سيزيف: رجلٌ محكومٌ عليه من قِبل الآلهة بأداء مهمة عبثية، وهو أن يدفع إلى الأبد صخرة إلى أعلى التل، بحيث يراها فقط تنحدر من جديد إلى أسفل في كل مرة يصل بها إلى القمة. يجب أن يُعتبر سيزيف — كما يخبرنا كامو — شخصًا سعيدًا؛ بمعنى أن علينا أن نعي مأزقنا، ونقبل لأقصى درجة أيًّا ما كانت الحياة التي سيتحتَّم علينا أن نعيشها على الأرض.

أهمية الغِبطة

إحدى طرق مواجهة العبث بوعي هي عيش حياة مليئة بلحظات التفاعل المميَّز مع الطبيعة قدر المستطاع، لحظات «الانشراح». يعبِّر الانشراح عن الهناء، عن الوقت الذي تقضيه في الطبيعة، تحت الشمس، على الشاطئ، وسط الأطلال، إنه حيث شعرَ كامو بالانسجام مع العالَم، وتحرَّر من الإحساس بالزمن. كان المكان الوجيه لإحساسه هذا — إلى جانب شمس الجزائر — هو الأنقاض الرومانية في مدينة تيبازة.

في إحدى مجموعات المقالات المبكِّرة المنشورة في الجزائر العاصمة عام ١٩٣٨، يحكي كامو عن رحلةٍ مدتُها يوم واحد إلى تيبازة («أعراسٌ في تيبازة»). يصف كامو في نصٍّ تعبيري بدرجة كبيرة لحظةً من التوحُّد السامي مع الطبيعة، أثارت فيه مشاعر الحب والإحساس بالانتماء إلى «سلالة» تتمثل عظمتها «في بساطتها، تقف على الشواطئ وترسل ابتساماتٍ متلألئة، ذات مغزًى، إلى السُّحب». ورغم كلِّ ما تحمله تلك اللحظة من عظمةٍ وفخامة، فإنها مؤقَّتة — يُقرُّ كامو أنه لن يبقى أبدًا لأكثر من يومٍ هناك. فلحظات الانشراح ذاتيةٌ وقصيرة — بعدها يعود إلى الجزائر العاصمة، إلى عمله النهاري، مثل سيزيف. في الواقع، من الغريب أن تناسب طبيعة حياة كامو — حياة عملٍ ووحشة تتخللها لحظاتُ اتحاد مع الطبيعة — حياة موظف مكتبي تقليدي، بأسابيع طويلة من العمل الشاق تقطعها عطلاتُ نهاية الأسبوع. يضع كامو نظامًا لحياة الموظف الجديدة ويمجِّدها، وقد أصبحت الآن تشمل إجازاتٍ مدفوعة الأجر، وهي أحد أعظم انتصارات الحركة العُمَّالية الفرنسية.

بعد أكثر من عقد على ذلك، يعود كامو إلى أنقاضه المحبوبة، ويكتب «عودةٌ إلى تيبازة»، بالتعبير النابض والعاطفي نفسه عن الصلة القديمة الثابتة بينه وبين الطبيعة وتلك الأرض — صلة يدعوها عِشقًا. تلك هي اللحظة المطلقة للشخص الذي يعي بالعَبث: لحظة الاتحاد مع الطبيعة، ورفض الحضارة، والمنطق، والتقدُّم، والتاريخ. والمفارقة بالتأكيد هنا هي أن تيبازة كانت إحدى البؤر الاستعمارية في روما القديمة. وعلى الرغم من أن كامو يريد أن يتجنَّب التاريخ البشري وأحداثه، فإنهما يواصلان العودة: أحيانًا يتجلَّيان من الخارج، فيفرضان تغييرًا على النصوص، كما حدثَ في «كاليجولا»، وأحيانًا يكونان جزءًا من المنظر الطبيعي كما في تيبازة.

يكتبُ كامو أن الحياة بلا معنًى، لكن حتى غياب المعنى فيها يُضفي عليها معنًى. ولذا يعطي غياب المعنى اسمًا. فكرة العَبث هي شكلٌ من أشكال التناقض، ويخصِّص كامو لنفسه مكانةً بطولية لملاحظته إياه والعيش فيه. وبدفاعه عن الجهل ورفضه لاعتبار التفسيرات شرطًا مسبَّقًا للسعادة، ينظِّر كامو يأسه ببراعة، الأمر الذي قد يكون مرجعه هو الوضع الصعب في الجزائر المستعمَرة، ويُعَقْلِن رفضه مواجهة ذلك الوضع. من هذه اللحظة فصاعدًا، يرفض كامو الالتزامات السياسية الطويلة الأمد، ويصبح تدخُّله في السياسة مبنيًّا على أساس التدخل في كل قضية على حدة.

نجاح فكرة كامو عن العبث وجاذبيتها هو على الأرجح ما يعطي قُراءه وسيلة للإحساس بتعاستهم — والتعايُش معها، وهذا شكلٌ من أشكال التحولات الميتافيزيقية عند كامو. إذ يخبر قراءه أن يقبلوا بتعاستهم، أن يضعوها في صميم حياتهم ويستخدموها لتساعدهم على العيش بأسلوب أفضل. بتلك الطريقة يصبح العبث أيديولوجية لتقبُّل المرء لذاته تستبعد الصراعات الاجتماعية والتاريخية.

لكن، في الوقت الذي انتهى فيه كامو من «أسطورة سيزيف»، عادَ التاريخُ البشري إلى الصخب، باندلاع الحرب العالمية الثانية. أدى هذا إلى تغيُّراتٍ جدية في طريقة تفكير كامو. وبعدها بقليل، تراجعَ العبث أمام فكرة كامو الجديدة عن التمرُّد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤