خواطر
نظرت جورجيا يو إلى مضيِّفتها على الجهة الأخرى من المائدة بإعجاب حيي.
وتساءلت في نفسها: «تُرى هل سآلف يومًا ذلك الوجه على الطعام؟»
كانت في غاية التوتر؛ إذ أدركت أن حفلة العَشاء الصغيرة كانت مناسبة رسمية تُقدَّم فيها إلى الجميع. كانت هذه لحظتها الحاسمة، فرصتها لتقبض على مستقبلٍ أعماها بريقه.
إنها الآن تكاد تشعر بأنفاسها متقطِّعة من تلاحُق الأحداث، كما لو كانت أليس في بلاد العجائب، تدور في الهواء بلا توقف. من عشرة أيام فقط كانت قد غادرت إنجلترا، لأول مرة في حياتها. ومنذ هذه اللحظة، تتابعت الأحداث، وبسرعة شديدة.
فقد جاءت إلى بروكسل والتقت بالكونت.
وفي ليلتها الأولى كان الحدَث الجلل. اختارت أن تبقى في فندق عتيق، يتردَّد عليه أولئك الذين يفضِّلون الأجواء التراثية على مزايا أنظمة السِّباكة الحديثة. كان الفندق قصرًا فيما مضى لأسرة ثرية، وقد احتفظ بفخامته الأصلية من جدران المرمر المصفر والمرايا الضخمة ذات الإطارات المذهبة؛ خلفيةً لأثاثٍ متينٍ على طراز القرن التاسع عشر.
كان يقع في البلدة، وسط شبكة من الشوارع المظلمة الضيقة، فكان بإمكان جورجيا أن تتطلع من خلال الأبواب الدوَّارة في البهو، وتشاهد الناس وهم يمرُّون بالخارج. كانت الأمطار تتساقط في الخارج لكنها كانت خفيفة للغاية، لدرجة أن أحدًا لم يشعر بها أو يراها إلا كشذراتٍ في الظلام. كانت تتلألأ على موكبٍ من المظلات، وعلى تمثال في نافورةٍ قائمةٍ في منتصف الطريق.
أما في الداخل فقد تألَّقت ثريا بمصابيحها الكهربائية، مع توافد الزوار بلا انقطاع، محدثين صخبًا من الأصوات المتحدثة بلغة غير مألوفة. وبينما هي جالسة تراقب، أثارت جِدة المكان لديها حماستها ولهفتها. لقد كانت تنظر إلى الخارج ستَّ سنوات كاملة، مراقبةً الشفق، لترى دائمًا المشهدَ نفسه: أرضًا قاحلة رمادية خالية، مع خط أبيضَ بعيدٍ من الزَّبد المتدفِّق، علامةً على البحر.
فتحت عُلبة سجائرها، فكانت الإشارة ليقفز الكونت حرفيًّا إلى حياتها، مستبِقًا النادل بعود ثقاب.
ليسألها بعد هنيهة: «أيمكن أن يكون هذا صحيحًا؟ أخبرني موظف الاستقبال أنكِ السيدة يو، الكاتبة الشهيرة صاحبة الروايات البوليسية العديدة؟»
وسريعًا، سريعًا … حين أقرَّت بهُويَّتها، جرفها الكونت في تيار أنشطته المَرِحة. وفي صحبته المثيرة، رأت بروكسل دوَّامةً مشوَّشة من المباني العتيقة والشوارع المعبَّدة بالحصى، والتماثيل، ولوحات طبيعة صامتة لجثث حيوانات، ومتاجر ملابس في ممراتٍ مقنطرة مظلمة.
وقد برز من سيلِ الانطباعات التي كوَّنتها بضعةُ انطباعات لا تُمحى. البهاء العذب المحيط بالمنازل المطلية بالذهب في ميدان جراند بليس، حين رأتها في الحمرة الشاحبة لغروب الشمس. وبرجا سانت جودولا التوءمان وهما يسبَحان في الضباب الفضي. وهول عظمة دار القضاء، فكأنه يتحدى زلزلةَ يوم الحساب. وتمثال سانت مايكل الشامخ إذ يلمع في شمس الصباح. والرعب الذي تثيره لوحةٌ باسم «سن البراءة» في متحف ويرتز، لطفلَين يحرقان أجنحة فراشة.
وسريعًا، سريعًا … هُرع بها الكونت من مكانٍ لمكان، بطاقةٍ كالإعصار. وظل متقلبًا من حالٍ إلى حال، ورسميًّا في تعامله، وجريئًا؛ يخاطر بالأعراف ويدوس التقاليدَ حتى اللحظة التي باح فيها رسميًّا برغبته في أن تلتقيَ بأسرته.
تسارع إيقاع الأحداث فصارت تدور لاهثة في دوامة بعد وصول أقاربه إلى الفندق. السيدة فاندربانت — عمة الكونت — كانت أرملةً لأمريكي ثري ومرموق. وقد صاحبها عالِم مبهر الطلعة، وهو البروفيسور مالفوي، وشاب يُدعى «كلير»، كلاهما معارف من الفرع الأمريكي. وقد نزلوا في أغلى جناح جاءت منه الدعوة المصيرية.
ثم فجأة، بشكلٍ صادم، توقَّف كل شيءٍ عن الحركة، ووجدت جورجيا نفسها جالسةً في سكون إلى مائدة العشاء.
فقد كانت تخضع للتقييم.
قُدم العشاء في حجرة الجلوس الخاصة، التي كانت حجرةً باردة بأرضية ممتدة من الخشب المطلي بالشمع. وقد عُلقت ستائرُ خفيفة بيضاء منشَّاة على النوافذ الطويلة الثلاث، التي ظهرت عَبْرها مساحاتٌ صغيرةٌ من سماء الليل بزرقتها الفاتحة. وانعكس وهج ضوء الشموع الذهبي على مرآةٍ كبيرةٍ على طراز القرن التاسع عشر معلَّقة على الحائط.
استطاعَت جورجيا أن ترى نفسها فيها، ضئيلة وجميلة جدًّا، برداء سهرةٍ أسودَ عاري الظهر. لطالما بدت أصغرَ من سنِّها، لكنها الليلة، وعلى الرغم من جهودها لتبدوَ امرأة راقيةً محنكة، بدت غير ناضجةٍ مقارنةً بسجل مؤلَّفاتها.
حرَّكت رأسها فاختفت صورتها من المرآة.
حدَّثت نفسها قائلة: «لقد صرت بداخلها. لقد ابتلعت تلك المرآة وجوهًا عديدة جدًّا، ومشاهدَ كثيرة جدًّا.»
يعود بغضها لرؤيةِ نفسها في المرآة إلى طفولتها، حين اعتادت مربيتها أن تحملها وهي طفلة أمام مرآة كبيرة عتيقة الطِّراز. وذات ليلة حلَمت أنها بدلًا من أن ترى حجرتها المعتادة، رأت مكانًا مظلمًا معبأً بالدخان، حيث كان يوجد أشخاص غريبون بوجوه يبدو عليها الفساد يحتسون الشرابَ ويلعبون الورق.
أبوها كان دائمًا ما يلجأ إلى التفسير بالعلاقة بين السبب والنتيجة، فأشار إلى أن ذلك الحُلم كان النتيجة المنطقية للاطلاع على المجلد الممنوع لنقوش هوجارث.
ورغم أنها تقبَّلت العِبرة في الأمر، فقد ظلت دائمًا معتقدة أن المرآة قد عرضت صفحةً شريرة من الماضي.
أما الآن، فقد كانت في حالة في غاية الحساسية وهي مُقدِّمة لارتفاع درجة الحرارة الذي تعانيه دائمًا، عقوبةً لها على الشعور بالحماسة. وللتغلب على أثره، كانت قد تناولت جرعةً من الشراب، مما جعلها في حالةٍ ليست بالطبيعية تمامًا.
انتابَتها حالةٌ من الانفصال الوجيز كشخصٍ متفرج، فراحت تجول بنظرها في الآخرين الجالسين حول المائدة. مضيِّفتها، السيدة فاندربانت، كانت عجوزًا بوجه واضح القسمات متغطرس، ذي ملامح حادة، وفم رقيق الشفتَين، يشي بالتعصُّب والتكبُّر. وعلى النقيض من شخصيتها الباردة، بدا الوجه الكبير المتورد الحليق للبروفيسور لطيفًا، وكان صوته رخيمًا عذبًا، وإن كان نادرًا ما يتحدَّث. وكان شَعره غزيرًا بخصلات مجعَّدة بلون الثلج، ظلَّلت عينَيه السوداوَين، اللتَين لمعتا خلف نظارةٍ ذات إطارٍ ذهبي.
أما الشاب، كلير، فقد كان أصغرَ من أن تأبَه له. فهي لم تنتبه إلا لأنه كان شابًّا حادَّ الوجه، يرتدي سترةً مسائية. وكان يتحدَّث بلهجةٍ أمريكية، وإن كانت يداه وقدماه الصغيرتان، بجانب شعره الناعم الأسود ذي اللمعة الزرقاء، توحي بشخصٍ لاتيني.
وكان هناك ضيفٌ آخر، وهو وكيل أعمالها الأدبية، هارفي تورش. وكان رجلًا أنيس المعشر، لكنه تضاءل تمامًا مقارنةً بالشخص الجالس بجواره. فقد طغت شخصيةُ الكونت المتألقة على بقية الرفقة. كان وسيمًا وسامةً غير معهودة، بعينَين زرقاوَين لامعتَين وأسنان بيضاء ناصعة، حتى إنه كان كلَّما تحرَّك أو تحدَّث أحاط به وميض وألق دائمان.
عدَّلت جورجيا من جِلستها حتى ترى انعكاسهم في المرآة، رفقة صغيرة لكنها نابضة بالحياة. كان أكثر ما انتبهت له هو صورة الكونت الوامضة في عتَمَة المرآة القديمة، مثل خطوط من طلاء مضيء تألَّقت في الظلام.
وهنا غُشِّي بصرها وبدأ رأسها يدور.
وقالت في نفسها: «هذه اللحظة ستبقى حتمًا. فذات يوم — ربما بعد آلاف الأعوام من الآن — سينظر أحدهم في تلك المرآة، ويرانا جميعًا جالسين حول المائدة، كما نحن الآن تمامًا … وعندئذٍ، سيكون قد حصل لنا كلُّ ما هو مقدَّر أن يحصُل. ولن يكون بيدنا ساعتَها شيءٌ لنعاون على حدوثه أو نمنعه.»
كان هذا الإحساس بالمصير الوشيك والمجهول هو ما أثقل رُوحها. وقد أفاقت على الواقع مع صوت مضيِّفتها، الذي ظل قاسيًا ومزعجًا رغم محاولتها أن تكون دمثة السلوك.
«هل تنوين زيارةَ أي منطقة أخرى في بلجيكا؟»
فأجابت جورجيا: «لا. أنوي البقاء في بروكسل طوال المدة. لقد تجوَّلت بالسيارة في أنحاء أردين، في بداية زيارتي.»
«لقد رأيتِ مناظرَ خلابة إذن.»
«نعم، لكنها قديمة جدًّا وقاسية جدًّا. كان هناك العديد والعديد من الأطلال وسجون ذات زنازين مروِّعة تحت الأرض. لقد أصابتني بالغم.»
ضحِك الكونت وقال: «هذا قولٌ طريف بحق. إنكِ تشعرين بالأسف على ناس راقدة بسلام منذ مئات السنين. لكن لا تأخذكِ الرحمة بشخصياتكِ المسكينة.»
«هذه نقرة وتلك نقرة. إنني أملِك التحكم في أحداث رواياتي. وشخصياتها أحرار بالفعل.»
«لكن بعض السجون مريحة تمامًا. أو هذا ما أكَّده لي أصدقاءُ في القطاع المالي، أو بالأحرى أصدقاء رفيعو المناصب في القطاع المالي … كما أنكِ أخبرتِني أنكِ ظلِلتِ حبيسةً في مكان واحد صغير طَوال حياتكِ. لقد كنتِ تعيشين في حجرة واحدة. فما الفرق؟»
مع أنها كانت تعلم أنه يستفزُّها، فقد أجابت جورجيا عن سؤال الكونت بجِديَّة.
«إليك الفرق. بمقدوري أن أغادر سِجني متى أردتُ … لكن لا بد أن يكون من المروِّع أن تعلم أنك مرغم على لزوم مكان واحد إلى الأبد. أن ترى دائمًا المنظر نفسه، مثل نابليون في سانت هيلينا.»
وبينما تتحدَّث شعرت أن الغرفة قد اختفت بعضَ الوقت، وبدا كأنها تحدِّق في آخرِ شعاع أحمر للشمس الغاربة، منعكسًا على خطوطٍ طويلةٍ من الأمواج الرمادية المتدفقة ناحية الأفق.
تتدفق وتتدفق … كانت تتحرك بلا توقُّف، لكن كان يجب أن تبقى وتشاهد الماء وهو يُهدر في ذلك المنظر الكئيب. مشهد ينطوي على أسًى موحش. ليس ثمة بصيصٌ من أمل. وإنما هلاك بلا رحمة … سجن.
كما لو كان شَعرَ بضيق عميلته، بادر تورش بنجدتها بملحوظةٍ عن أحد موضوعات الساعة. فلما تحرَّرت من الانهماك أكثرَ في المحادثة، أدركت جورجيا أن الشاب، كلير، كان يحدِّق فيها بعينَين ثابتتَين فضوليتَين. وقد أخبرها تعبيرهما العدائي أنه يبغضها بشدةٍ لسببٍ ما غير معلوم.
وبمجرد أن خطرت ببالها الفكرة، أدركَت أن الكراهية لم تكن متبادَلةً فحسب، وإنما زاد من حدَّتها نفورٌ فطري، من ناحيتها.
وهو بتفرُّسه فيها بلا رحمةٍ حوَّل العشاء إلى تجربةٍ اجتماعيةٍ مؤلمة. كان العشاء رسميًّا ومطولًا؛ إذ تكوَّن من عدَّة أطباق وأنواع من النبيذ، مع حضور نادلَين باستمرار. وكانت المائدة مزيَّنةً بالأوركيد ومغطاةً بشرشف من الدانتيلا المصنوعة يدويًّا.
أخذت جورجيا تنظر إلى المائدة بتوتُّر، بينما عادت بها الذاكرة إلى طفولتها، حين اصطُحبت لغداء في الأسقفية. أمكنها أن ترى مرةً أخرى بعينَي ذاكرتها مفرش البروكار الدمشقي، المنقوش بالنفل، وقد تلطَّخ بعصير الخوخ الذي أراقَته بفعلتها المخزية.
وبينما هي ما زالت تحت تأثير الماضي، ارتجفت يدها ارتجافًا شديدًا حين رفعت كأسها، حتى إنها انتابها خوفٌ طفولي من أن تسكب شرابها. وفي هذه الصحبة، من الممكن لأي زلة أو هفوة بعيدًا عن السلوك المثالي أن تقضيَ على آمالها. هكذا شعرت أن جسامة الموضوع الذي هي بصدده أكبرُ من طاقتها؛ إذ أرهقها واقع أن أقارب الكونت أشخاص ذوو نَسب وجاه وثروة.
حدَّثت نفسها بيأسٍ قائلة: «إنني أطلب العلا. وأنا لا شيء. مجرد نكرة.»
كانت ممتنة على الدعم المعنوي لوكيلها، هارفي تورش. رغم أنه كان مستاءً من دعوة الكونت، فقد قبِلها امتثالًا لغريزة حماية مصالح الآخرين. وفي هذه المرة كان قلِقًا من أن تكون عميلته الأكثر جلبًا للربح قد ألِفَت صحبة المغامرين.
بشخصية المراقب الناقد راح هو يدرُس صحبته، مستثنيًا كلير، الذي اعتبره جديرًا بالإهمال. بدت السيدة فاندربانت مثالًا نموذجيًّا على التزاوج بين الأقارب من ذوات المكانة الاجتماعية الرفيعة على مدى قرون، في حين كان للبروفيسور سيماء المهاجرين الإنجليز الأوائل إلى أمريكا. والكونت أيضًا بدا مثالًا نموذجيًّا للنشاط الفائق واللياقة البدنية. ورغم أنه كان في منتصف العمر، فقد كان من الممكن أن تتخيله في سنواته السابقة، شابًّا أشقرَ، يركض حول ملعب حاملًا شعلة متقدة.
ارتأى الوكيل أنهم يَبدون حقيقيين، ربما أكثر من اللازم، هذا إلى جانبِ ما لديهم من مزايا بيئة مسرحية موفقة وضوء شموع. من ثَم، فقد أجرى عليهم أسلوبه المعتاد لكشف الزيف، وذلك بأن يخلع عليهم — في مخيِّلته — ملابسَ مختلفة.
وقد شفعت النتائج لهذا التمرين العقلي. فبعد تجريده من بذلته المسائية وحلاقة شعره، من الممكن أن يتحوَّل البروفيسور إلى ملاكمٍ من الوزن الثقيل في حَلْبة الملاكمة. والصبي، كلير، يتحول إلى همجي فرنسي شاب، يرتدي قميصًا صوفيًّا متسخًا وقلنسوة؛ أما الكونت فكان من الممكن أن يتحول إلى أي نوع من الأوغاد الجذابين، المألوفين في كل جزء من العالم.
وحدَها السيدة فاندربانت تحدَّت جهوده للحطِّ من قَدْرها. فرغم أنه نزل بها إلى دوائر الرذيلة والبؤس الدنيئة، فقد ظلت بانتصار السيدة المثالية في وجه المِحن.
مع توقُّف تدفُّق الحديث هنيهة، جاء موقفٌ مربك ليعكِّر هذه المناسبة الاجتماعية. فالشاب كلير، الذي لم يحوِّل عينَيه عن وجه جورجيا قط، خرج فجأةً عن صمتِه بوابل الأسئلة.
سألها: «هل لديك معرفة جيدة ببروكسل؟»
فأقرَّت جورجيا قائلة: «لا. هذه زيارتي الأولى.»
«عجبًا، كيف فاتكِ أن تزوريها؟ ألم تسافري من قبل؟»
«بلى. أنا لم أسافر إلى الخارج من قبل.»
«أين تعيشين؟»
«في قرية صغيرة، على الساحل الشرقي لإنجلترا.»
«لماذا؟»
«الأجواء هناك هادئة للكتابة.»
«هل لديكِ إقطاعية كبيرة؟»
«لا، مجرد كوخ.»
«وكيف تسلِّين وقتكِ؟»
«لديَّ أصدقاء قليلون جدًّا. لم أعُد مهتمة بالمشاركة في الأنشطة.»
«أليس لديكِ عائلة؟»
«أمي وابنتاي الكبيرتان. ميرل وميفيس. في السابعة والثامنة من العمر.»
لما ذهلت من تدفُّق الأسئلة سؤالًا تلو الآخر، راحت جورجيا تجيب عنها آليًّا، مثل شاهدٍ ضُيِّق عليه الخناق في استجواب. كانت قد توقعت الاستعلام عنها بأسلوب رقيق دمِث، وبطريقة جذابة حاذقة، ما دامت ستنضم إلى أسرة الكونت؛ أما هذا التعدي على خصوصيتها من شاب جِلف فقد أصابها بالذعر.
كان الهجوم سريعًا جدًّا وغير متوقَّع لدرجةٍ حالت دون تدخُّل الآخرين. وتكوَّن لدى تورش انطباع بأن مضيِّفيه فضَّلوا تجاهُل هذا الاستجواب على الاعتراف بأي إساءة سلوك. ورغم أن ذهنه كان خاليًا في البداية، فقد أعطاه ذكر ابنتَي جورجيا الفرصةَ ليتدخل.
فقال: «إنني من القلَّة المحظوظين باحتفاظهم بصورةٍ لابنتَي السيدة يو، مع أمهما. إنهن يبدون مثل ثلاث شقيقات، اثنتَين في الحضانة وواحدة في المدرسة.»
ثم أمسك عن الكلام؛ إذ تشتَّت انتباهه عن الحديث، بسماع شكوى غير مألوفة.
كانت السيدة فاندربانت تقول: «أيها النادل، هذه السكاكين حادة للغاية. أحضر لنا سكاكين ثَلِمة. فهذه هي الطريقة لمعرفة إن كان اللحم طريًّا بحق أم لا.»
بعد تبديل السكاكين سريعًا، ونجاح اللحم في الاختبار، ابتهج الكونت بعمَّته.
«كنت أعلم أنه حتى أنتِ سترضين عنه. لقد تحدثت مع رئيس الخدم، فذهب بنفسه إلى المطابخ واختار قطعة اللحم.»
أثار هذا الموقف شكوكَ تورش من جديد، فربما كان مرتبًا من قبلُ لاستعراض المستوى الراقي للنزلاء الذين يستطيعون الحصول على تلك الخدمة الخاصة.
وكلما أمعن في الموقف، قلَّ استحسانه له. كان يعلم أن الظروف قد جعلت جورجيا بالغةَ الحساسية أمام الهجوم. وهي بعيدًا عن العمل، ذات طبيعة مطواعة وساذَجة، وقد غادرت للتو منفاها الاختياري. فكانت هذه أول إجازةٍ لها بعد سنواتٍ من الكتابة تحت ضغطٍ هائل، حيث كانت تعيش في عالمٍ من خيالها النابض.
كان يرى أنه إذا كانت هذه الأسرة كما تدعي عن نفسها، فسيكون الكونت معتادًا مجتمعَ السيدات الجميلات الفاتنات، مما يجعل من المستبعَد أن يقع بعنف في حب جورجيا. علاوة على ذلك، فإنهم إن كانوا بحاجة لدعم مالي، فإنهم كانوا سيستهدفون وريثةً حقيقية.
أما إنهم قد بدَوا في موقفِ مَن يصطادون كاتبةَ روايات رائجة، فقد وضعهم ذلك في فئةِ صائدي الثروات الوضعاء. لذلك فقد قرَّر أخيرًا أن يتأكَّد من شكوكِه بمناقشة الدوافع الخاصَّة.
فقال: «من المؤكَّد أنكم جميعًا قد قرأتم روايات السيدة يو. فإنني من قرائها بجانب كوني وكيلها. لكنني في الوقت نفسه لا أعتقد أن هناك أيَّ وجه للمقارنة بين الجرائم الحقيقية والخيالية. فلا يوجد في الروايات ما يمكن أن يضاهيَ هول جريمة «العرائس المقتولات في حوض الاستحمام».»
ثم التفت نحو الكونت.
«لعلك تذكرها؟ إنه رجل تزوَّج من العديد من النساء المسكينات ثم أغرقهن، ليحصل على أموالهن.»
نظر الكونت إليه باهتمام حقيقي.
وقال: «إن القتل لشيءٌ لا يسعني فهمه مطلقًا. فالشخص الذي يرتكب جريمةَ قتل لا بد إما أن يكون وحشًا أو مجنونًا. فلا يمكن لشخصٍ عاقلٍ أن يخاطر بحياته، بينما هناك سُبل عدة للحصول على المال من المرأة.»
قالت السيدة فاندربانت: «على المرأة التي تتزوَّج من غريبٍ أن تقبل العواقب. لا شك أن مثل تلك الزيجات مستبعَدة في طبقتنا. فأول ما نتمسك به هو المعرفة الوثيقة بالعائلة.»
فتابع تورش حديثَه وقال: «لا فرق؛ فأي امرأة ذات ثروة معرَّضة للخطر حتمًا عند زواجها. وهي حتمًا مشكلة مزعجة في حالةِ كان الغريب جذابًا. فإنها إذا رفضته، فقد تخسر حبًّا حقيقيًّا؛ وإذا تزوَّجته، فربما تخسر ما هو أكثر من مالها.»
وبينما هو يتحدَّث، رمق جورجيا بنظرة. اضطرب ضوء الشموع مع النسمات الآتية من النافذة المفتوحة، وارتعش على شَعرها الأشقر الأشبه بنسيجٍ رقيق. وكانت عيناها متسعتَين في توجُّس، لكن ظلَّت على فمِها ابتسامة. بدَت جورجيا مستعصيةَ المنال وغامضة، مثل حورية أشجارٍ هاربة من شجرتها.
تفاقم توجُّسه إلى خوف فعلي. فمع أنه كان يتحدَّث عن حالة افتراضية، فإنه من الوارد أن تكون في خطرٍ حقيقي. وما إن طافت المخاوف بذهنه، حتى هاجم كلير جورجيا مجددًا بسؤال شخصي مباشر.
«ماذا كنت ستفعلين في هذه الحالة يا سيدة يو؟ إن لديكِ ثروة.»
وضعت جورجيا يدَها على حلقها، كأنها تواجه صعوبة في الإجابة. كانت لانبهارها بشخصية الكونت ومركزه، قد تجنَّبت التطرُّق إلى أمورها الشخصية في علاقتها به. وقد تصاعد تحفُّظها حتى كاد يتحوَّل إلى شللٍ عاطفي، لكنها أدركت الآن أن الوقت قد حان لتغتنم فرصةً ميئوسًا منها.
قالت جورجيا: «ليس لديَّ ثروة.»
متذكرًا حقوقها الأدبية، راح تورش يحدِّق فيها مندهشًا، في حين استشاط كلير غضبًا.
قال كلير مناقضًا قولها: «إنكِ تجنين أموالًا طائلة. الكل يعرف أنكِ تجنين أموالًا طائلة. هل تحاولين الاستخفافَ بي لأنني سألتكِ سؤالًا؟»
«لا.» مرةً أخرى حملت جورجيا نفسَها على التفسير. «صحيح أنني كسبت الكثير من المال، لكنه ليس بالقَدْر الذي يتصوَّره الناس. فالكُتَّاب نادرًا ما يفعلون. لكنني لا أستطيع أن أمسَّه. لقد خصصت أموالي بالكامل لابنتيَّ.»
وقبل أن يتمكن الشاب من أن يرُد بأي تعليق، صرفته السيدة فاندربانت.
«لا نتوقع أن تنتظر لتتناول القهوة يا كلير. فلا بد أن حديث الكبار مملٌّ في نظرك.»
تجهَّم الشاب وغادر المائدة. وعند مروره بالكونت وضع يده على كتفه في حركةٍ دالةٍ على التملُّك، وهو ما استاءَت منه جورجيا.
فقالت في نفسها: «إنه يَغار مني.»
في الوقت نفسه، راح تورش يدرُس ردَّ الفعل العام على إعلان جورجيا الصادم، فوجد أنه لم يبدِ أحدٌ تأثُّرًا به. فما زالت ابتسامة الكونت بشوشة دون مبالاة، في حين كان انتباه البروفيسور منصرفًا بالكامل لتقشير خوخة. فيما حافظت السيدة فاندربانت على موضوعية المضيِّفة المثالية.
في ضوء مستواهم الاجتماعي، بدا وجود شاب سيئ التربية على المائدة اختيارًا غير موفَّق. وهو ما جعله يتساءل إن كان كلير قد انضم إليهم لاستنطاق ضحية محتملة أم لا. إذا كان الأمر كذلك، فمن المتوقَّع أن يحطم الخبر الذي باحت به جورجيا آمالَ أي صائدٍ للثورات.
هكذا تنفَّس تورش الصُّعَداء. فقد باتَت جورجيا في أمان.