الزائرة
في الحال نزلت جورجيا إلى الأرض مرةً أخرى، وتغيَّر الكونت من حبيب إلى مضيف.
حيث قال لها: «قبل أن نصعد إلى المنزل لا بد أن تري حمَّام السباحة.»
ثم قادهن يسارًا فنزلوا درَجًا نُحت نحتًا خشنًا في الصخور، حتى وصلوا إلى أرض فضاء مستوية وسط الأشجار، حيث بُني حمَّام سباحةٍ مكشوف. وقد بدا في ذلك الوقت من المساء معتِمًا وباردًا — أشبه بطللٍ من العصر الروماني منه بملعب ترفيهي في هوليوود — لكنَّ الصغيرتَين طربتا به.
قال الكونت يبيِّن محاسن الحمَّام: «ستجدن مياهه دافئة من حرارة الشمس. أما البحر فإنه هائج وبارد على الصغيرتَين … والآن هيا بنا نفاجئ عمَّتي.»
لم تكن جورجيا متيقنة من عنصر المفاجأة؛ إذ تذكَّرت الشخص الواقف في الشرفة. كانت تعلم أن هناك مَن شاهد مجيئهم؛ ومن ثَم فقد تجنَّبت مغبةَ الحضور المباغت. وعلى ذلك فقد انتفض قلبها من وجلٍ طفيف أثناء صعودهم المسارَ المتعرِّج بين أشجار الصنوبر.
أمكنها أن تلتقط لمحاتٍ على الجانبَين من البحر الهائج، ولسانًا أبيضَ من الزَّبد راح يلعق القاعدة الصخرية. وبعد وقتٍ قصيرٍ خرجوا من بين الأشجار إلى حديقةٍ صغيرةٍ تحدُّها الزهور، امتدَّت أمام المنزل. وبينما هم يجتازونها، ظهرَت السيدة فاندربانت واقفةً على رأس السُّلم لتستقبلهم.
على الرغم من أنها في عزلةٍ عن المجتمع، فلم يكن ثمَّة تغيُّر في مظهرها. فهي لم تُقدم على أي تنازلٍ لوجودها وسط الطبيعة، وإنما بدت بمظهرٍ رسمي بثوبٍ غالي الثمن، كما كانت حين استضافتِها للعشاء في بروكسل. وكان وجهها الشاحب من دون بودرة، وشعرها الأبيض لم يبعثره الهواء.
ومما أدهش جورجيا أنها مدَّت يدها بابتسامة منقبضة. فرغم أن تعبيرات وجهها كانت بطبيعتها أجمدَ من أن تلين، فقد بدا أنها تحاول جاهدةً أن تتصرَّف بلياقة.
قالت لجورجيا: «يسرُّني استقبالكِ هنا. لقد اختار جوستاف اختيارًا حكيمًا في نظري. أهنئكما.»
ابتسمت جورجيا شاكرةً لها وهي ترمق الصغيرتَين بنظرة قلق.
وقالت: «أخشى أنكِ لم تتوقعي هذا الغزو.»
فردَّت السيدة فاندربانت تطمئنها برياءٍ مهذَّب: «بل إن المفاجأة ضاعفَت من مقدار سعادتي. فلا منزل يكتمل من دون أطفال.»
سارعَت الصغيرتان لافتعال سَمْت التهذيب والمسكنة، ضمانًا على حُسن السلوك في المستقبل، فيما جرؤت جورجيا على أن تسألها سؤالًا شخصيًّا في سعيها للبحث عن صلة اهتمام مشترك.
«هل لديكِ أحفاد؟»
فقالت السيدة فاندربانت ببرود، قاطعةً الصلات الضرورية بالأجيال القادمة: «لم تسمح لي واجباتي الاجتماعية بتكوين أسرة.»
تدخَّل الكونت قائلًا: «لا بد أن تري المنزل. إنه يريد الترحيب بسيدته … أوه، هل جانبتني اللباقة يا عمَّتي العزيزة؟»
فهزَّت رأسها نفيًا.
وقالت: «بل إنني أتطلع إلى التنازل لجورجيا عن مكاني. فلديَّ جدول مشحون خلال الخريف.»
ومثل حارس منزلٍ متعالٍ لا يريد إيجارَ منزله ويتعامل بلا اكتراث، قادت الكونتيسة جورجيا في أنحاء منزلها المستقبلي. فوجدته حَسن الإضاءةِ والتهوية وحديثًا، مع قليل من الأثاث المعدني، الموزَّع بنسق يماثل ديكور المسرح. وإنك لتجد في كل موضعٍ من مواضعه أثرًا من آثار الحركات الفنية والحِرفية الجديدة في السويد، متمثلة في ألوانٍ رقيقة وتصميمات أصلية.
وكانَت أفضل حجرة هي آخرَ ما رأته. وكان بها أثاثٌ مدمَج وإضاءة مستترة، وأحدُ جوانبها حائطٌ زجاجي قائم فوق البحر. وقد أمكن لجورجيا وهي واقفة بجانب النافذة أن ترى رذاذَ البحر بالأسفل في ارتفاعه وهبوطه في العتَمة.
قال لها الكونت: «هذه حجرتك. إنها مبنية لتليقَ بكاتبة مشهورة.»
فقالت جورجيا في همس: «إنها مثالية. هذه هي فكرتي عن السعادة الشاملة، أن أعيش هنا أبدًا وأكتب المزيدَ من الكتب. ليتني فقط أجد حبكةً جديدة.»
فقال لها الكونت: «سأجِد لكِ واحدة.»
ثم رمق عمَّته وتبادلا نظرةَ تفاهم.
ولاحقًا، حين نظرت جورجيا إلى مضيِّفتها على الطرَف الآخر من المائدة، شعرت بانتصارِ حُلم تحقَّق. يومًا بعد يوم، سيصير إشرافها غيرَ ضروري، وسترى ذلك الوجه المهيب أثناء كل وجبة، حتى يفقد قدرتَه على إثارة رهبتها من شدةِ ما ستألفه. ستعتاده باعتباره مجرَّد فرد في أسرة جوستاف، فقط لا غير.
رغم ذلك فقد شعرت جورجيا بشيء من الارتباك في تلك الأمسية الأولى، من سلوك السيدة فاندربانت المتجهِّم على الرغم من محاولاتها أن تكون مضيافة. ومع أنهم بعيدون عن أي منطقةٍ حضرية، فقد حافظَت مُضيِّفتهم على روح التقاليد والمعايير الاجتماعية العامة.
وقد أكلت كمياتٍ قليلة من الطعام ولم تشرب إلا المياه المعدنية. ولاحقًا بينما كانوا يتناولون القهوةَ في حجرة الاستقبال، التفتَت السيدة فاندربانت نحو جورجيا.
وقالت: «أنا لا أدخِّن، لكنني لا أفرض أهوائي على ضيوفي. أرجو أن تأخذي سيجارة. سيجد جوستاف بعضَ السجائر في تلك العلبة الفضية.»
في تلك الليلة نامت جورجيا دون أن يراودها حُلم، يهدهدها صوت البحر، حتى استيقظت على صوت ابنتَيها من الحجرة المجاورة. ولم تنعم إلا بدقائقَ أخرى من العزلة قبل أن تقتحما حجرتها من خلال الشرفة المشمسة المشتركة. كانتا قد مشَّطتا شعرهما من التشابك، لكن لا تزالان ترتديان ملابسَ النوم وقد تلفَّعتا بمناشف الحمام.
وقالت ميفيس منوِّهة: «سننزل إلى حمام السباحة. فلن نغتسل بالشكل المعتاد بعد الآن.»
وهزَّت ميرل رأسها فرِحةً: «نعم، ولن نستخدم الصابون بعد الآن. وسنرتدي ثوب السباحة طوال اليوم. وذات يوم لن نرتدي أيَّ ملابس على الاطلاق. ألن يكون ذلك توفيرًا؟»
كانتا مُسمرَّتَين أكثرَ من المعتاد، من تعرُّضهما لماء البحر والشمس في جولة اليوم السابق؛ إلا أنهما بغضِّ النظر عن هذه السُّمرة الزائدة، بدتا في غاية النشاط والصحة بعد النوم مدةً طويلة، حتى إن جورجيا شعرت بارتفاع معنوياتها.
فقالت باعتراض رقيق: «ماذا قد تقول السيدة فاندربانت؟»
فقالت ميرل ببهجة: «هي التي طلبت منَّا ذلك. فقد قالت: «تذكِّري، هذا قصر التحرُّر».»
«اذهبا … سآتي أنا أيضًا.»
تدلَّى شعرها الأشقر الطويل طليقًا وهي تخرجهما من حجرتها، وقد بدت مرةً أخرى كأنها شقيقتهما الكبرى، كما كان شكلها في الصورة. لكنها لم تتبعهما بعد ذهابهما مباشرة. وإنما ذهبت إلى حجرة الجلوس التي فاضت بضوءٍ صافٍ باهر.
بينما تتَّجه نحو النوافذ، اخترقت أشعةُ الشمس الجدرانَ الزجاجية، فبعثت الدفء في الأرضية الخشبية تحت قدمَيها الحافيتَين. كان المدُّ في ذروته، والرذاذ يرتطم بالصخور المغمورة في المياه، فيتطاير قريبًا جدًّا من النافذة حتى ليبدو كأنه يحاول أن يلمسها.
بقيَت جورجيا في موضعها، تُحدِّق في البحر الذي يلتقي بالأفق في خطٍّ لامع.
وقالت تَعِد نفسها: «ستبقى الحال هكذا دائمًا. مثالية.»
شاعرة بأنها وُلدت من جديد، انضمَّت جورجيا إلى الصغيرتَين في حمَّام السباحة، حيث حاولتا أن تعلِّماها السباحةَ الحرة. كان مستوى أدائهما منخفضًا، نظرًا لأنهما، مثل أمهما، عاشتا حياتهما بأكملها قرب البحر، لكنهما انتصرتا لمحض روحهما الاستعراضية.
وبينما كن يتصايحْنَ ويرششْنَ الماء، مرَّ الكونت بحمَّام السباحة، ملتحفًا بروب حمام.
فصاح بهن: «سأذهب إلى البحر. سيكون باردًا جدًّا عليكن.»
شاهدنه — يرتدي أقلَّ القليل من الملابس — وهو يقف متأهبًا للغوص، وجذعه يلمع مثل النحاس في أشعة الشمس.
فقالت ميفيس معلِّقة: «يبدو كتمثال. هل ترين كم هو رائع؟»
فقالت ميرل معترضة: «لا. إن بطنه مترهل.»
وعلى الرغم من انتقادها القاسي فقد بدا نموذجًا جذابًا للذكورة، بقميصه المفتوح عند العنق، وشعره المتموج المبتل من ماء البحر حين التقَوا على الفطور. وكان الفطور غيرَ تقليدي، حبوب وحليب وعسل، قُدِّم في شرفةٍ مطلَّة على البحر.
ومما أراح جورجيا أن السيدة فاندربانت لم تكن موجودة.
قال الكونت لتفسير غيابها: «عمَّتي تسألكِ المعذرة. ستجدينها في باريس أو نيويورك مضيفةً غاية في الكِياسة. أما هنا فكلنا نحب الاسترخاء. كما أنها تعتبركِ بالفعل سيدة المنزل.»
فقالت جورجيا: «أرجو أن تكون إدارته سهلة.»
«إنه يدير نفسه بنفسه. لدينا أدنى عدد من الخدم، كلهم من الفلاحين. فلا يمكن لشيء أن يتسخ، وقد توافرت كل المرافق الموفِّرة للعمالة. من المريح أن تحل محلَّ مليونير.»
فسألته ميرل: «ومَن سيحلُّ محلك؟»
فأجابها الكونت: «إما ابني — أو الشرطة — حسب الظروف.»
كان الإفطار صاخبًا، لتحررهم من القيود التي يفرضها وجودُ السيدة فاندربانت. وكانت شهية الصغيرتَين مفتوحة للغاية حتى إن جورجيا انتابها القلق بشأن المؤن، حتى طمأنها الكونت.
«بإمكاننا الصمودُ لحصار. إننا نذهب إلى البرِّ الرئيسي مرةً في الأسبوع. لكننا بخلاف ذلك لدينا مخازن مليئة بشتَّى أصناف الطعام، كلها في صفائح.»
فعلَّقت ميفيس، غير قادرة على مقاومة الفرصة للترويج لهيبة وطنها: «في إنجلترا لدينا كل الطعام طازج.»
فسألته جورجيا، متجاهلةً ابنتها ذات النزعة القومية: «هل يأتيكم زوار؟»
«لا.»
«لقد راقت لي الجزيرة إذن.»
كان اليوم الأول ساعاتٍ متعاقبة من السعادة والكسل، حتى غروب الشمس. لم تُقدِم الصغيرتان على محاولات أخرى للاستئثار بالكونت، لكنهما اعتبرتاه ضمنيًّا مِلكًا لأمهما. وهكذا قضَوا أغلب الوقت إما في المياه، أو يتشمسون على مراتبَ بجانب حمام السباحة. وقد أتى لهم بوجباتهم فلاحةٌ ممتلئة الجسم بوجه مُسمَرٍّ، ترتدي الزي الوطني؛ ليعيشوا بذلك في الهواء فعليًّا.
تطلَّعَت جورجيا إلى التأنُّق من أجل العشاء، ليس من أجل التباين فقط لكن بتوجيه الكونت.
«ارتدي أكثرَ فساتينك أناقة. وتذكري أنكِ الليلة تتأنقين من أجلي.»
أدَّت معرفتها بضرورة أن تنال استحسان حبيبها، لتحويل عملية التزيُّن إلى سلسلةِ محاولاتٍ بالغةِ السعادة. وفي نهايتها، شعرت بالرضا حين رأت صورتها في المرآة، حيث تحقَّقت رغبتها في أن تبدوَ جميلةً بتجربة عدة اختيارات.
وبينما هي تلفُّ شَعرها الطويل المموج كعكة، وتنظر إلى سُمرة خدَّيها النضرَين المتوردَين، دخلت ميرل الحجرة ركضًا.
وقالت وهي تلهث: «ثمة ضيوف. لقد جاءوا في زورق بخاري.»
فسألتها جورجيا: «مَن هم؟»
«سيدة ذات شعرٍ أسود معها كلب داكن اللون.»
هُرعت جورجيا نحو النافذة الجانبية المطلة على السُّلم. ثم جمَد وجهها وفقد ألقَه حين أدركت مَن هو الشخص النحيف الأسود الشعر الموجود في الأسفل.
وقالت بصوتٍ خالٍ من التعبير: «ليس سيدة.»
فقالت ميرل بإصرار: «كلَّا، إنها سيدة. لا تكوني جاهلة يا أمي؛ فالكثيرات من السيدات يرتدين السراويل.»
هزَّت جورجيا رأسها.
وقالت: «هذا ابن شقيق الكونت. واسمه «كلير».»