الفصل الحادي والعشرون

الحظ الضائع

تحدَّثت الآنسة جونز إلى جورجيا وهي تبتعد عن حمام السباحة.

«هل أنتِ على خير ما يرام، أم فقدتِ وزنًا، مثل الصغيرتَين؟ أعتقد أنني لست بحاجةٍ لسؤال عروس إن كانت سعيدةً أم لا.»

فقالت جورجيا: «انظري إليَّ.»

حدَّقت فيها المربية تتفرَّسها بإمعان كما لو كانت ستطلع على قلبها، ثم هزَّت رأسها.

«إنكِ مسمرَّة جدًّا؛ لذا لن أستطيع أن أعرف حقًّا. لكن لا بد أن تكوني سعيدة. فكل شيء مثالي. إنها المرة الأولى التي أحسُد فيها أحدًا غير المنشدين المحترفين.»

تصنَّعت الآنسة جونز الشغفَ بدافع التكفير عن شكوكها السابقة. وقد قضى الكونت على ريبتها بقيامه برحلة ذهاب وعودة لإحضارها إلى الجزيرة. حيث بدت لها بادرة كريمة من حسن الاستقبال، حتى إنها وجدَت نفسها مجبرةً على شعور مجمل بالإعجاب.

كانت ترى الجزيرة في أحسن حالاتها، حيث اجتمعت عناصر الطبيعة لتضفي عليها بهاءً. كان هناك الحركة واللون في تدافع الأمواج وارتجاف أشجار الصنوبر والنسيم يداعبها. وكان البحر بالغ الزرقة من انعكاس السماء، لكنه يكتسب لونًا أخضرَ عند الظلال، ولونًا أرجوانيًّا فوق الصخور المغمورة. وقد ساد الجو في العموم الإثارة والترقب، مع روح العطلة التي حملتها معها والتي أثَّرت على الآخرين دون قصد.

كانت الصغيرتان متحمستَين لأنهما قد رتَّبتا لتمرُّد صغير ضد السلطة. فقد توقَّعتا أن تقضيَ المربية اليوم تحاول تلقينهما الدروس بالحيلة، وقرَّرتا ألَّا يستدرجهما شيء من حصنهما المائي.

الكونت هو الآخر كان مسرورًا؛ إذ أدرك الفوائد التي قد تترتَّب على زيارة الآنسة جونز. حيث إنهم من الوارد أن يأمَنوا حدوثَ استقصاء في المستقبل، إذا عاد المرسال ليفيد بأن كل شيء على ما يرام.

أما جورجيا فقد استسلمت لأجواء الدَّعة، حين استدعاها الماضي فارتدَّت إلى ملاذٍ آمنٍ من الذكريات والتداعيات. بدا من الطبيعي جدًّا أن ترى المربية مرةً أخرى وتعيد الوصال القديم، حتى إنها وجدت أن من المستحيل تصديقَ أنها في الواقع صارت ضحيةً لمجرمين. فمع شعورها بضغط ذراع الآنسة جونز وسماعها صوتها العذب، بدا كأنها قد بلغت بعدًا رابعًا، حيث تجاوز الزمن تقسيماته المحدَّدة وامتد في تيار مستوٍ متدفِّق.

فتلاشى الحاضر البغيض متهافتًا، يرتجف أمام الواقع الصامد للصداقة وأمان الماضي. وإذ فجأةً تذكَّرت جورجيا رسالتها، وهي ترفرف، بعيدًا عن الأعين، فشعرت بسعادة وحماسة. وهكذا آملة في حل سريع لكل المِحَن التي ابتُليت بها، اصطحبت جورجيا الآنسة جونز صاعدتَين المسارَ الممتد بين الأشجار.

وقالت لها بلهفة حقيقية: «أتُوق أن أريكِ المنزل.»

وعلَّق الكونت قائلًا: «أحسنتِ. إنكِ تبلين بلاءً حسنًا.»

كان صوت الكونت خفيضًا وهو يتبعهما، حاملًا معطفَ الآنسة جونز ومعطفها الواقي من الماء، لكن جورجيا حدَّقت بشدة في المربية، لتتبيَّن ما إذا كانت سمِعته.

لكن بدا وجهها جاهلًا وهي تنظر بتمعُّن بدورها إلى جورجيا.

قالت الآنسة جونز: «تبدو عيناكِ متعبتَين.»

«لم أستطِع النوم ليلة أمس. فقد كنت في حماسةٍ شديدةٍ وأنا أفكر فيكِ.»

قالت الفتاة وقد تألَّق وجهها: «فيَّ أنا؟ لا أصدِّق. لقد خشيت أنكِ قد ترين أنه تصرُّف مزعج مني أن آتيَ دون دعوة هكذا. فأنا لم أعطكِ الفرصة لتستمهليني بلياقة. حتى إن الكونت ظل يسخر من شجاعتي حتى أتطفل على عروسَين في شهر عسل.»

فقالت جورجيا تقرُّ كلامها: «أعتقد أنكِ كنتِ جريئة بعض الجراءة. لكنني أسامحكِ على ذلك.»

فقال الكونت مشجعًا جورجيا من الخلف: «جيد. استمري على هذا المنوال.»

بدا لجورجيا أنه يقدِم على مجازفات لا ضرورة لها، بنفس الروح المتهورة التي قطف بها الزهور في الحديقة، على مرأًى ومسمع من الحارس. إنه محض خواء بلا جوهر، مثل خيال مآتة مطلي بالذهب، تهزُّه عواصف أهوائه غير المسئولة.

وعلى حين غِرة تساءلت جورجيا إن كانت الآنسة جونز في غفلةٍ كما تبدو أم لا. فربما جاءت في مهمة إنقاذ، لاستكشاف الوضع، وقد اصطنعت هذا الصممَ الزائد. فهي عادةً ما تسمع جيدًا، ما دام الناس يتحدثون بنبرة طبيعية واضحة.

وهنا طار الأمل عاليًا بجورجيا مرة أخرى. حتى إنه انعكس في ارتعاش صوتها وهي تشير إلى المنزل.

«ها هو ذا. ما رأيكِ؟»

«إنه مثالي. قصر.»

ثم تطلَّعت المربية متوجسةً نحو السيدة فاندربانت بطلتها المهيبة؛ إذ كانت واقفة بشموخ أعلى درجات السلم.

وقالت: «لا بد أن مظهري يبدو غير لائق. فقد ظننت أنني آتية إلى البراري. لم أتوقَّع قط شيئًا بهذه الفخامة.»

فقال لها الكونت: «لا بد أن تتذكري أن تصفيه لهم حين تعودين. فسيكون لديهم رغبة لمعرفة معلومات عن منزل جورجيا.»

مع أنها لم تُرِد إفساد الانطباع الجيد الذي تركته في نفس الضيفة بالذهاب لملاقاتها، فقد اتسم استقبال السيدة فاندربانت لها بالوقار وشابه الودُّ عِلاوة على ذلك.

فقد قالت: «لا بد أنكِ جائعة من بعد السفر مبكرًا. لذلك سنتناول الغداء في الحال. فلن نكون رسميين معكِ.»

فتدخَّل الكونت قائلًا: «إنها مشغولة بشأن إصلاح هندامها.»

«سأصطحبها إذن إلى دورةِ مياه الطابق الأرضي. فسيوفر هذا عليها صعود السلم.»

وقبل أن يمكن لجورجيا التطوُّع لمرافقتها، رافقت السيدة فاندربانت الآنسة جونز إلى دورة المياه. وبقيت معها لتتأكد من ذوقها في مستحضرات التجميل، وتطمئن أن كلَّ شيءٍ على ما يرام قبل أن تغلق الباب وراءها بإحكام، وتنضم إلى جورجيا في البهو.

وأثناء انتظارهما جعلت المرأتان تنظران كلٌّ منهما إلى الأخرى. لم تتحدثا، لكن الأكبر سنًّا حققت الانتصار الأول. كان على جورجيا أن تقر لنفسها بأن المنزل كان عدوًّا لها. فسوف يحرمها من أي فرصة للانفراد بضيفتها، ما دام كل باب يخفي خلفه جاسوسًا.

بعد قليل توقَّف صوت تناثر الماء، وخرجت الآنسة جونز من دورة المياه وهي تبدو في غاية النظافة والهندمة. قادتهم السيدة فاندربانت إلى حجرة الطعام، حيث أُعدت مائدة فاخرة من المشهيات. وبعد أن اغترفوا لأنفسهم وجلسوا مرةً أخرى، دخلت عليهم جريتا بالطبق التالي.

كانت ترتدي تنورةً من قماش أسود سادة، وصدرية من مُخمل أخضر موشاة بزهور زاهية، ومئزرًا مخططًا باللون الأحمر والأسود والأبيض. وقد ثبَّتت في شعرها الأصفر بأنشوطة من الخلف قبعة مخروطية الشكل بحوافَّ مخططة. وجاء خلفها البروفيسور، يرتدي هو الآخر زيًّا شعبيًّا ويحمل كومة من الصحون.

مما أزعج جورجيا أن العصابة كانت قد أعدت العُدة للموقف. فقد قام الكونت والسيدة فاندربانت بدور السجَّانَين، تحت مسمَّى حسن الضيافة، في حين أُسندت إلى كلير مهمةُ المخابرات السرية.

وقد أجالت الآنسة جونز النظرَ في أنحاء المائدة وعلَّقت على غيابه.

«هُيِّئ لي أن ثمة صبيًّا يقيم معكم هنا. وأنا متأكدة من أنني رأيته واقفًا عند رصيف النزول.»

فهتف الكونت قائلًا: «ابن أخي. إنه خجول جدًّا … سمِعت أنكِ ستطبعين روايةَ زوجتي على الآلة الكاتبة، هل هذا صحيح؟»

«نعم، إنني أتطلع إلى ذلك. كما كان الأمر في الأيام الخوالي.»

«أرجو أن تلقى إعجابكِ. هل عرفتِ أنني المسئول عنها؟ فأنا مَن اقترح الحبكة. لكن على جورجيا أن تخلق روايةً كاملة من الخطوط العريضة التي اقترحتها عليها.»

ضحِكت الآنسة جونز وهي تهزُّ رأسها.

وسألته: «هل تخادعني؟ فالسيدة يو — عفوًا، الكونتيسة — كانت دائمًا ما تتلقى حبكات من اقتراحات القراء. لكنها كانت دائمًا ما ترفضها. فلا بد أن يكون كل كتاب عملًا أصيلًا من إبداعها.»

حين رفعت جورجيا عينَيها لاحظت أن عينَي البروفيسور السوداوَين اللامعتَين كانتا مثبَّتتَين على المربية. فذكَّرها في تلك اللحظة بمنفِّذ حُكم الإعدام وهو يقيِّم في ذهنه وزنَ مَن سينفِّذ فيه الحكمَ.

قالت جورجيا في التو: «هذا صحيح تمامًا. كانت الجزيرة تصيح ليُنسج حولها رواية، لكن ذهني كان خاويًا. لذلك اقترح جوستاف هذا الموقف.»

قال الكونت مقاطعًا إياها: «لقد واتتني الآن فكرةٌ أخرى. وسأخبر الآنسة جونز بها الآن بحيث تقر حتمًا بأنني مَن جئت بها حين تقرؤها لاحقًا.»

والتفَت نحو جورجيا.

«ألا تستطيعين أن تُدخلي زيارةَ الآنسة جونز في حبكتكِ؟ عليكِ بالطبع أن تحوِّليها إلى شاب. ولا بد أن تحاول البطلة أن تعطيَه رسالةً تشرح فيها أنها حبيسة. ألا تعتقدين أنها ستكون عنصرًا مثيرًا؟ إنه قريب جدًّا منها، لكنها غير قادرة على التواصل معه.»

فاحتجَّت الآنسة جونز قائلة: «لماذا لا تستطيع إخباره؟»

«إنها تلتزم الصمتَ لحمايته. إن عَرف، فلن يغادر الجزيرة حيًّا.»

«غير معقول. فسوف يقاوم العصابةَ ويهزِمها. فشخصية البطل تُؤلَّف خصيصَى بحيث تقاوم الصدمات. ولا يمكن أن تقتل واحدًا منهم.»

مرةً أخرى لاحظت جورجيا أن البروفيسور كان يراقب الآنسةَ جونز باهتمام خاص.

ثم قالت: «سيكون عليكما أن تتركا التفاصيلَ للمؤلِّفة. سأعمل بفكرتك يا جوستاف. أعتقد أنها ستتطور إلى شيء مثير.»

فقال الكونت معلقًا: «لكن الآنسة جونز لا تزال عابسة.»

فقالت المربية للتبرير: «إنه أمرٌ شخصي جدًّا، ولا يمكنني إخبارك به.»

«لا. لا. يمكنك إخبارنا ولا يوجد إزعاج. فنحن جميعًا في غاية السعادة والانسجام، ولا نريد أن يكون هناك ما يعكِّر صفونا. هاتي ما عندكِ أرجوكِ.»

«سأحكي إذن. الأمر وما فيه أنني لا أستطيع أن أستوعب لماذا السيدة … أقصد الكونتيسة بدأت في كتابٍ آخرَ بهذه السرعة.» ثم التفَتت الآنسة جونز نحو جورجيا. «لقد اعتدتِ الشكوى من عملكِ والقول بأنكِ إنما تؤدينه من أجل المال. لكنكِ ثرية الآن، وبدأتِ التوَّة شهرَ العسل.»

فقال الكونت بلهفة: «دعيني أفسِّر لكِ الأمر. أخشى أنكِ عالمة نفسانية ضعيفة. ألا تعلمين أن المرأة ما إن تعتاد كسْبَ قُوتها، حتى لا تستطيع التوقف؟ إذ يصير الاستقلال في دمها. لا بد أن تلجأ إلى رجل من أجل مصروفاتها، لكنها تريد أن تحقِّق إنجازات أيضًا. هل أخبركِ بالسر وراء رغبة زوجتي في كسبِ مالها الخاص سريعًا؟»

«إذا كانت لا تمانع.»

«ليكن إذن، ما حدَث أنني قد استثمرت مبلغًا من المال في منجم في ألاسكا. احتمالات خسارة أموالي أعلى بدرجة بسيطة جدًّا، لكنني إن وُفقت، فسوف أخرج بثروةٍ صغيرةٍ من الصفقة. من ثَم فإن زوجتي تريد أن تشاركني فيه منذ البداية بمالها الخاص. لكنني حذَّرتها من أنها قد تخسره.»

كادت جورجيا تصدِّق التمثيلية وهي تستمع إلى صوته المسترسِل. وخطر لها أنه ارتجالٌ ذكي لتبرير ضياع أموالها حين يستفسر أقاربها عن ترِكتها، بعد الحادثة.

مع أن الكونت ظل يتلاعب بأعصابها طوال الغداء، فقد تمنَّت أن تمهِّد قسوتُه الطريقَ لإدراك الآنسة جونز الحقيقةَ حين تُريها الرسالة. توجَّست جورجيا خيفةً من لحظة المكاشفة، حتى إنها بالكاد استطاعت أن تطيق انتظارها. وفي غمرة القلق من استعجال اللحظة، تمنَّت جورجيا أن ينتهيَ الغداء، حتى يمكن لها اقتراح أن تُري ضيفتها المنزل.

لكن بينما هم يحتسون القهوة أخيرًا في الشرفة المشمسة، أدركت جورجيا أنها لا بد أن تترك السيدة فاندربانت تتخذ هي الخطوةَ الأولى. وكانت السيدة دَمِثة الأخلاق على نحوٍ غير مألوفٍ وهي تناقش ميعادَ رحلة رجوع المربية.

«سيبدو كلامي مجافيًا لآداب الضيافة، لكن لا بد أن نفكِّر في مصلحتكِ. فليس من المناسب أن تعودي إلى الفندق بعد منتصف الليل، إذا كنتِ ستجدين صعوبةً في الدخول. أعتقد أنكِ لا بد أن ترحلي في الساعة الخامسة، بعد أن نتناول الشاي مباشرةً … أما الآن، فما رأيكِ أن تشاهدي المنزل؟»

قاموا جميعًا بجولةٍ في الطابق الأرضي — تصحبهم تعليقات حماسية من الآنسة جونز — وبعدها قادت السيدة فاندربانت الجماعةَ عائدين إلى حجرة الاستقبال.

وقالت السيدة فاندربانت: «ستريكِ جورجيا الحجرةَ التي تكتب فيها فيما بعد. فهذا سيتيح لكما الفرصة لتتحدَّثا على انفراد. أرجو أن تسامحينا على الاستئثار بك، لكننا قلما يسرُّنا بالزيارة شخصٌ بإمكانه الغناء.»

فقاطعها الكونت قائلًا: «بل وغناؤها جميل أيضًا. سوف نستغلك بلا هوادة.»

وقد نفَّذ تهديده، حاملًا الفتاة على غناء أغنية إثرَ أغنية. ولم تكن حماسته تكلفًا وقد استجابت هي لإعجابه بغنائها. فقد توهَّج وجهها البريء سرورًا مؤكدةً له أنها تشاركه الاستمتاع.

ومن خلال النافذة المفتوحة أمكن لجورجيا أن ترى البحر وهو يتكسَّر على الجزيرة. كان المدُّ عاليًا، حيث أخفت الأمواجُ بجيشانها ولونها الأبيض المخضر الصخورَ البارزة. فبدَت مثل أرضية من الرخام المعرَّق — صلبة حتى ليمكنك الرقص فوقها — باستثناء حين تنحسر عنها الأمواج لتكشفَ عن حواف سوداء حادة وقاسية.

وإذا بحادثةٍ تافهة تخلُّ بانسجام مجلس الغناء. فقد طلب الكونت من الآنسة جونز أن تدوِّن تفاصيلَ أغنيةٍ ما، ثم تذكَّر أن كلير كانت قد جمعت كلَّ أدوات الكتابة وأخفتها. فلم يدرك زلته إلا بعد أن مضى إلى المكتب الخاوي، تتبعه الفتاة.

فقال وهو يهزُّ كتفيه: «مكتب فخم من دون ورقة واحدة. أليس هذا المعتاد في منازل الروائيين؟»

فقالت الآنسة جونز تذكِّره: «لا بد أن هناك بعضَ الأوراق في حجرة المكتب.»

وقبل أن تذهب إلى الباب، جعلها تلتفت.

قائلًا بصرامة: «لا. لا تضيِّعي الوقت وهو أساسًا قصير جدًّا.»

وفي غضون دقيقة، كانت الآنسة جونز قد جلست مجددًا أمام البيانو.

وقد اضطربت جورجيا من هذه الحادثة اضطرابًا شديدًا. فلم يَرُق لها الأسلوب الماكر الذي اتبعه الكونت والسيدة فاندربانت في مراقبة الآنسة جونز. فقد أدركت أنهما كانا متوثِّبين مثل خيولٍ بلا حدوات تطأ على مخلفات زرع محترق، بعد اشتعال النار في البراري، وأنهما سيندفعان في ذعر إذا ما بدا على وجه الآنسة جونز أقلُّ ظلٍّ من الشك.

وقد استبد بها التوتر الحاد حين نظرت السيدة فاندربانت نظرةً خاطفة إلى الساعة.

قالت السيدة فاندربانت: «سيُقدَّم الشاي بعد قليل. لا بد أن الآنسة جونز تودُّ أن ترى حجرتكِ يا جورجيا.»

هبَّت جورجيا واقفةً وصعِدت السُّلم جريًا تستبق المربية؛ مخافةَ أن تأخذ بذراعها فتلاحظ أنها كانت ترتجف. وحين بلغت حجرتها، اضطُرت إلى أن تبذل مجهودًا لتفتح الباب. فقد كان ضغط الرياح شديدًا جدًّا حتى لَيخيَّل إليها أن ثمة شخصًا يحاول منعها من الدخول.

بعد إطلاقها صيحات الإعجاب أولًا، مضت الآنسة جونز سريعًا إلى منضدة الكتابة.

وسألتها: «أين الكتاب الثمين؟»

فأجابتها جورجيا: «مقفول عليه.»

«خسارة. فلتعيريني قلمًا وورقة، رجاءً. فإنني أودُّ كتابةَ أسماء تلك الأغاني من أجل الكونت … لا يسَعني أن أصِف لكِ كم أشعر بالإطراء لمجيئه من أجل إحضاري. فقد جعلني أشعر بأنني موضع ترحيب.»

تظاهرت جورجيا بأنها تبحث في دُرج خاوٍ.

ثم قالت: «كأن آفةً أصابت البيت. يبدو أن الصغيرتَين قد استنزفتا ما لديَّ من أوراق … لكن هيا تعالي هنا لتري رغوة البحر في اندفاعها. إنها تكاد تبلغ الزجاج.»

وأثناء حديثها، كانت واعية تمامًا أن ثمة جمهورًا غيرَ مرئي. فقد كانت على دراية بأن كلير كانت مختبئة في إحدى الخزانات، تشاهد كلَّ حركة وتستمع لكل كلمة. اجتذبت جورجيا المربيةَ نحو التجويف، وفتحت النافذة، وكان الهواء قد أغلقها التوَّة، مُحدثًا ضجة.

وحين فتحتها، اكتشفت أن احتكاك الريح بالورقة قد انتزعها من المسمار. فانسلَّت حتى كادَت تصل إلى آخر حُزمة الطحالب، لكنها كانت لا تزال معلَّقةً بالجدار ترتعش — مثل فراشةٍ مثبتةٍ بدبوس — لا يبقيها في مكانها سوى قبضة النسيم.

اندفعت جورجيا نحو الورقة في هلع، تحاول أن تصل إليها، لكن منعها سوارها الخشبي الذي علِق في المسمار. ولما حاولت تخليصه، انقطع الرباط المطاطي وسقطت الخرزات الخشبية المكونة للسوار في الزَّبد الفائر، وفي الوقت نفسه طارت الورقة بعيدًا.

شاهدتها جورجيا وهي تتهاوى في البحر، في حين صدرت من الآنسة جونز صيحةُ استياء.

«يا ويحي. لقد فقدت تميمة حظك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤