السجينة
أصاب جورجيا الذهول من هول خيبةِ أملها، حتى إنها نسيت أنه لا يزال عليها الاطمئنان على سلامة الآنسة جونز. حتى ذُكرت بانقضاء لحظة صمت محفوفة بالمخاطر، حين خاطبتها المربية بصوت خفيض مرتبك.
«ما الخطْب؟»
فاستجمعت جورجيا شتاتَ نفسِها لتتحدَّث بعدم اكتراث.
«كلُّ ما في الأمر أنني ما زلت مؤمنةً بالطِّيرة. كان أوزبرت مَن أعطاني سوار الحظ ذلك. فلا تخبريه بهذه الحادثة.»
فقالت الآنسة جونز مقتربة منها: «لن أفعل. إنني مسرورة جدًّا أننا صرنا بمفردنا أخيرًا. فلدي سؤال أود أن أسألكِ إياه. هل لديكِ رسالة شخصية تودين إرسالها إلى الديار؟ فإنهم يريدون أن يتأكدوا من أنكِ سعيدة حقًّا.»
لمَّا تذكَّرت جورجيا أن ثمة جاسوسًا كان يستمع لكل كلمة، أدركت لماذا دُبِّرت هذه الفرصة. إذ إن الاستحسان الذي أبدته الآنسة جونز — مهما بدا صادقًا — كان هو رأيها المعلن الذي ستقوله لأي شخص. وكانت مهمة كلير أن تكتشف انطباعاتها الحقيقية في المجمل.
إن حياة شخص متوقفة على ما ستدلي به.
دبَّت الحياة في أوصال جورجيا من جديد؛ إذ تذكَّرت أن عليها أن تلعب دورها، وبذلت قصارى جهدها لتؤديه جيدًا.
فقالت: «إنني سعيدة بالطبع. كل شيء مثالي.»
«أكثر من مثالي. كل شيء ممتاز: الأشخاص والأشياء. لكن ثمَّة ما يقلقني. وهو أنكِ وحيدة.»
«وحيدة؟ مع ابنتيَّ وزوجي؟»
«لكنه غريب عنكِ.»
بينما المربية تتحدث، انتاب جورجيا شعورٌ بائس بأن الموقف على وشْك الخروج عن سيطرتها. فقد راح ينمو سريعًا مثل شجرة خبيثة حاملًا احتمالات خطيرة، حيث كل كلمة مثل عقدة منتفخة، تنذر بخروج نبتة جامحة سامة. لا بد من إسكات الفتاة مهما يكلف الأمر، حتى إن كان بتحطيم حبها وإخلاصها النادر المنزَّه عن الأغراض.
فقالت ببرود: «آنسة جونز، هلا تتوقفين عن خيالك رجاءً وتجيبين على سؤال محدَّد. هل أهلي قلقون عليَّ؟»
ونظرت إلى الوجه الذي احمرَّ ألمًا وعرفت أنها ستسمع منها الحقيقة. كانت في تلك اللحظة الموحشة تسيطر عليها رغبةٌ مجنونة لمعرفة أن ضوء حجرتها الوامض في لياليها الساهدة، قد امتد عبْر أميال من البحر الخالي، ورآه نَظَّارة في ساحل وطنها، كأنه نجمة وسط الظلام.
وقبل أن يمكن لجورجيا أن تذكِّر نفسَها بأن هذا الشعور المطمئن إنما سيسفر عن مأساة، هزَّت الآنسة جونز رأسها نافية.
«لأكون صادقة تمامًا، لا. فأمكِ مسرورة بزواجكِ، وهارفي مسرور بروايتكِ الجديدة. وأوزبرت مسرور لسعادتكِ. والكل مسرور عداي أنا … في الواقع إن ما يثير جزعي هو الموقف الذي تحكيه روايتكِ. فلا أملِك التغلب على الشعور بأنه ربما يحدث لكِ.»
«حسنًا، هذه فرصتي لأخبركِ بنفسي.»
نظرت جورجيا في العينَين الوفيتَين بإشفاقٍ حقيقي. ومع أنها كان عليها أن تقضيَ على أي شك، فقد شعرت بعزاء لمعرفة أنه كان هناك شخصٌ واحد لديه القدرة على الشعور بالآخرين ليدري بحالها.
استأنفت جورجيا قائلة: «أخشى يا عزيزتي أنكِ أكثرتِ من قراءة روايات الإثارة التي تكتبها جورجيا يو.»
فقالت الآنسة جونز مؤكِّدة لها: «بل لم أسمع بها من قبل. هل هذا الجرس لاستدعائنا؟»
مع تصاعُد رنين الجرس النحاسي من البهو، أخذت جورجيا ذراع ضيفتها، وقد انتابها شعورٌ يائس بالنهاية. تمامًا مثلما تسجِّل أسطوانات الشمع الدوَّارة الصوت، لا يمكن إلغاء ما دُوِّن من هذا الحديث. ويتوقف كل شيء الآن على تقدير كلير ومستوى الشك لديها.
ولحسن الحظ فهي لم تكن ذات دهاء بالغ، وإنما كانت ساذَجة وطائشة، ذات حِيَل تقليدية مثل مفرداتها. وإذا بجورجيا تتشجَّع وتحاول الإيعاز بتلميح في آخرِ لحظة.
فقالت: «حان ميعاد تناول الشاي. أخشى أننا بلغنا نهايةَ هذا اليوم الرائع. أو على الأقل كان سيصير رائعًا لولا إصابتك بالصمم لسوء الحظ.»
وبينما جورجيا تتساءل ما إذا كانت الفتاة ستفهم قصدها، لاحظت أن الآنسة جونز راحت ترنو سريعًا نحو باب الخزانة، ومن دورة المياه المغلقة إلى حجرة الصغيرتَين.
قالت الآنسة جونز: «صحيح، إنني آسفة لاضطراركِ إلى الصياح. أرجوكِ أن تسامحيني إذا كنت تصرَّفت بحماقة شديدة. أرجو ألَّا تعتقدي أنني استغللت حسن ضيافة الكونت. سوف يكون لديَّ أشياء رائعة لأخبرهم بها حين أعود إلى الوطن.»
جاءت السيدة فاندربانت لملاقاتهما بمجرد نزولهما السُّلم، متشابكتَي الأذرع، بحيث لا يغيب صوت جورجيا عن مرمى سمعِهم مطلقًا. إلا أن الكونت ظل متغيبًا خلال الدقائق الأولى من تناول الشاي. أدركت جورجيا أنه صعِد إلى الطابق العلوي، من طريق آخر، لسماع تقرير التجسُّس من كلير. وحين ظهر رمقته بنظرة متفحصة، لكنها لم تستطِع الوقوف على شيء من ابتسامة الندم الصريحة على وجهه.
قال الكونت للآنسة جونز: «انتهى اليوم. لن أستمتع بالمزيد من الغناء الرائع. يا للخسارة!»
تناولوا الشاي في شرفةٍ مطلةٍ على البحر الذي اصطبغ حينئذٍ بزرقةٍ داكنة، واكتسى بخطوطٍ متداخلةٍ من الزَّبد بفعل الرياح. وقد تردَّد صفير الرياح في الهواء، منذرًا برحلةٍ صعبةٍ للبر الرئيسي.
ولأنها خشيت من إجابته، لم تُقدِم جورجيا على سؤال الكونت عما إذا كان سيقود القارب البخاري. فإنه إذا ذهب بنفسه، فستضمن بذلك سلامةَ الآنسة جونز. وفي اندفاع طائشٍ للقضاء على الشكوك، جلست جورجيا على ذراع كرسيه، واقتطعت جزءًا صغيرًا من الكعك من صحنه، كأنها بذلك تستعرض السعادة الأسرية وتأثيرها النافذ.
لكن حذَّرها عبوسه من أنها كانت تبالغ في تصنُّعها.
قال الكونت: «الكل معجب بوقارك يا عزيزتي. هكذا ستعتقد الآنسة جونز أنني المسئول عن مثل تلك الهفوة المؤسفة.»
هنا سألته المربية سريعًا: «هل ستعود معي؟»
«لا. لا بد أنكِ ستسامحينني على ذلك. فأنا عريس. وسوف أتعرَّض للتوبيخ إن بتُّ خارج المنزل ليلتَين متعاقبتَين. لذلك سيوصلك تشارلز. إنه الرجل الضخم الذي تولَّى إنزال الطعام وتقديمه على المائدة.»
«مرحى. لقد راقت لي عيناه في بريقهما وهو ينظر إليَّ. هل هو ظريف؟»
«إن لديه حسًّا فكاهيًّا قويًّا مع السيدات. وأنتِ أثرتِ إعجابه.» ثم نظر إلى ساعته وأضاف: «حان ميعاد الذهاب. إنني في غاية الأسف.»
اصطحب الكونت وجورجيا ضيفتهما إلى رصيف النزول. وفي طريقهم إلى هناك زاروا حمَّام سباحة. سبحت الصغيرتان اللتان شعرتا بخيبة الأمل لعدم حدوث مشاكسات نحوهم يحدوهما الأمل في إثارتها.
خاطبتهما الآنسة جونز بلا مبالاة، توبيخًا لهما على تجاهلها: «كيف حالكما الآن؟»
فأجابتها ميفيس بعتاب: «نزداد بللًا مع كل دقيقة.»
«ستجدان المكان جافًّا إذا خرجتما. وداعًا.»
صاحت ميرل، التي طالما تفوَّقت على شقيقتها: «في مرة من المرات أُصيبت ميفيس بنزلة برد. كانت في خطر وكانت تصدر عنها أصوات مقززة جدًّا.»
فقالت ميفيس توافقها: «نعم، كنت مقززة وخطيرة جدًّا.»
ثم تغيَّر صوتها وهي تهتف بالمربية وتقول: «فلتبلغي سلامي إلى السيدة بلاكي والسيد جيمس رجاءً.»
فقالت الآنسة جونز للكونت مفسِّرة: «تقصد قطتنا وكلبنا.»
فقال معلقًا: «إنها في غاية التهذيب.»
«مع الحيوانات. أما أبي فتناديه «إليجا العجوز».»
«هل يُثير ذلك حَنَقه؟»
«بالطبع لا. فليس من الصواب أن تلقي بالًا لِما لا يُفترض بك سماعه.»
«مع ذلك فإنني لن أسمح بأن تهينني طفلة.»
وبينما هو يردُّ على ميفيس بنظرة غاضبة، مترقبًا وقاحتها، أحست جورجيا بجفاءٍ متبادَل. وللأسف، كانت ميفيس مثل أبيها، الذي كان لديه شغفٌ بالدعاوى القضائية التي لم يملِك فيها حجَّة قانونية. فهي لم تكن تستمتع بالمشاكسة فحسب، وإنما سخطت كذلك من تفضيل الكونت الملحوظ لشقيقتها الأكثر جاذبية.
بدا القادم قاتمًا وبائسًا بعد انطلاق القارب البخاري وسط الزَّبد الكثيف. وقفت جورجيا تلوِّح للآنسة جونز حتى لم يَعُد بوسعها رؤيةُ منديل المربية وهو يخفق في الهواء. ثم تجمَّعت الدموع غير المألوفة في عينَيها، حين أدركت أنها ربما تكون قد نطقت ﺑ «الوداع الأخير» لصديقةٍ مخلصة.
كان عليها السيطرة على انفعالاتها من أجل ابنتيها، لكنها مع انقضاء المساء باتت فريسةً للترقُّب المؤلم. وقد فطِنت إلى أنه لا جدوى من سؤال أي شخص عن مصير المربية، لأنها لن تجني بذلك إلا الأكاذيب.
اتخذت جورجيا مجلسَها على مائدة العشاء ذلك المساء، بينما يُخالجها شعورٌ بالنهاية وبرتابة خانقة. فنظرَت إلى السيدة فاندربانت على الجهة المقابلة من المائدة. رغم أن السيدة نادرًا ما تتحدَّث، فقد انتابها شعور جارف بأن سطوتها المرعبة تسيطر على المنزل. لمَّا حدقت جورجيا في الوجه النحيل الصارم، وجدت من المستحيل أن تجد شبَهًا بين ذلك الطائر الجارح القابض على غنيمته، وبين تلك المرأة المتهتكة التي كانت تحتسي الشراب مع نديمها، اللذين رأتهما في المرتَين اللتَين اختلست فيهما النظر.
والآن وهي تنظر إلى قِناع وجهها الأبيض الشاحب، ارتجفت جورجيا اشمئزازًا. وتذكَّرت حفل العشاء في بروكسل حين أعماها الأمل في مستقبل باهر.
وقالت لنفسها: «ها قد تحقَّق ما خطر لي. وصار وجهها مألوفًا لي عند تناول الطعام. بل وحُكم عليَّ أن أجلس قُبالة هذا الوجه على العشاء دومًا، ما دمتُ حية.»
ثم تساءلت عما كان يحدث للمربية في تلك اللحظة، وما إذا كان البروفيسور قد مازحها بتسديد ضربة إلى صدرها أفقدتها الوعي. ورأت في مخيِّلتها عينَي الآنسة جونز تشعان وفاءً ومودة، ثم … ثم رأت وجهها يشرع في الهبوط أكثرَ فأكثر في المياه المعتمة، ولا يطفو ثانيةً أبدًا.
حتى لو لم يُصِب الفتاةَ ضرر، فقد ذكَّرت جورجيا نفسها بأن أملَها في النجدة قد طار بعيدًا في الرياح مع قصاصة الورق. ولا يمكن للمربية أن تعود إلا بشكٍّ ملتبس لن يلبث أن يتلاشى حين يتعرَّض لضوء النهار، مثل الصور الفوتوغرافية السلبية.
صعِدت جورجيا إلى حجرتها، لما وجدت نفسها غيرَ قادرةٍ على الصبر على الجلوس في سكون. كانت أدوات الكتابة قد أُعيدت إلى المنضدة، لكنها كانت أشدَّ اضطرابًا من أن تستطيع العمل. وأثناء انتظارها مجيء الصغيرتَين إلى الفراش، سرَحت خارج المنزل ونظرت إلى رصيف النزول.
فرأت آخرَ شعاع أحمر من الشمس الغاربة قد انعكس على صفوفٍ ممتدةٍ من الأمواج الرمادية المتحركة نحو الأفق. راحت الأمواج تمضي إلى الأمام في موكبٍ متواصل، بينما جورجيا واقفة تتفرج على المشهد الكئيب للمياه وهي تذهب هدرًا. لا بصيصَ أمل. هلاك لا مفر منه. إنها سجينة …
في تلك الليلة هبَّت عاصفةٌ في أنحاء الجزيرة، حيث بدا البحر وكأنه سينتزع قمم الصخور، واستحال النوم مع هدير الأمواج الصاخب. وفي الصباح كانت السماء لا تزال تُمطر بغزارة، وإن كانَت الرياح قد هدأت. أطلَّت جورجيا من الجدار الزجاجي في الحجرة، فرأت الأمواج بلونها الأبيض المشوب بلونٍ رمادي وهي تعلو وتهبط، محمَّلة بطحالب طافية. ولما لم تستطِع الصغيرتان زيارةَ حمام السباحة، مكثتا في شرفة حجرتهما وراحتا تناقشان المزايا التي تنافست بها البيوت المعلن عنها في الصحف.
وإذا بجورجيا يخطر لها أنه رغم أنهما ظلَّتا على التزامهما بلعبة اختيار المنازل، فقد فقدتا اهتمامهما بحفلات الزفاف.
فنادتهما قائلة: «مَن آخرُ عرائس المجتمع؟»
فتمتمت ميفيس قائلة: «لا نعلم ولم نَعُد نأبه. فحفلات الزفاف ممتعة لوصيفات العروس، لكنها مملة للفتيات المنعزلات عن المجتمع.»
التفسير جعل جورجيا تدرك أن الفتاتَين، لسببٍ ما خاصٍّ بهما، لم تعودا واثقتَين من إقامة العرس الفاخر الذي خطَّطتا له بحماسة. وكان ثمة احتمال آخر مزعج وهو أنهما لا تريدانها أن تتزوج الكونت.
في أيٍّ من الحالتَين، يكون قد قُضي تمامًا على ترقُّبهما لحفل الزفاف، وهو ما أشار على ما يبدو إلى أنها لم توفَّق توفيقًا حقيقيًّا في خداعهما.
بينما جورجيا تحدِّق متأملةً من خلال سيل الأمطار الغزيرة وهي تخترق البحر، تحدَّثت ميفيس بنبرةٍ عَفْوية.
«منزل بجدار مشترك. ليس بالمنزل الراقي … لقد وجدت المناسب لي تمامًا في جريدة «صانداي تايمز»، بتاريخ الرابع من يوليو. ماذا فعلتِ يا أمي بتلك الصفحة بعد أن قصصتِ منها الكلمات؟»
شعرت جورجيا بالدماء تتجمَّد في عروقها إذ استمعت إليها. فبما أنها كانت قد تخلَّصت من الصفحة الممزَّقة، فلا يمكن أن تعلم الصغيران بما فعلته ليلًا إلا إذا كانتا شاهدتاها من خلال شقٍّ في بابهما، وهي تنسِّق الحروف وتلصقها.
كانت كلتاهما فضولية مثل القردة؛ ومن ثَم فإنهما إذا كانتا تجسَّستا عليها لذلك الحد، فإنهما كانتا ستمضيان في تحرياتهما إلى حدٍّ أبعدَ من ذلك. فقد بدا شبه مؤكَّدٍ أنهما قد رأتاها وهي تثبت الورقة في المسمار خارج نافذتها، وفي تلك الحالة كانتا ستنتهزان أولَ فرصة لقراءتها حين تخرج من الحجرة.
غامت ذاكرتها حين حاولت تذكُّر النص الحرفي لرسالتها. كانت تعلم أن بها عبارة «أخبري تورش» وتمنَّت أن تبدوَ لهما مشفَّرة مثل البرقيات. وإذ فجأةً تذكَّرت كلمة «خطر» المشئومة.
نظرت جورجيا إلى ابنتَيها، لكن إنما لتأخذها الحيرةُ من البراءة المحضة في عيونهما. إنهما تعلمان شيئًا، لكنها لم تجرؤ على تكدير غفلتهما الظاهرية لتحذرهما؛ مخافةَ أن توقظ بذلك خوفهما.
فإنهما الآن مستمتعتان بغموض الاحتفاظ بسرٍّ بمأمن من معرفة الكبار. ومما أثبت ذلك بدرجة كبيرة أن ميفيس لم تكرِّر سؤالها بعد أن أدركت أنه خطأ استراتيجي.
بدا لجورجيا أن سلامتهما تكمُن في اليقين من عدم إفشاء الأسرار التي تطَّلعان عليها، حتى لها. لكن يظل الخطر الحقيقي قائمًا وهو أنهما قد تبوحان بمعلوماتهما الخطيرة في لحظة عفوية.
وبينما تحدق جورجيا بعينين ملؤهما الالتياع في الزجاج الملطَّخ، لاحظت بشرود أن ميفيس كانت تسعُل. وبمجرد أن لاحظت ميفيس أن أمها سمِعت سُعالها كرَّرته مصطنعة إياه.
فقالت جورجيا بفتور: «أرجو ألَّا تكوني أُصبتِ ببرد. لقد تغيَّر الجو، ومن الأفضل أن أبحث عن ملابسَ صوفية.»
بدافع أن تشغَل نفسها بقَدْر ما هو بدافع قلق الأم، أخرجت جورجيا حقيبةَ سفر غير مفرَّغة من الخزانة. كانت الحقيبة التي أخذتها في عطلة بروكسل وقد شقَّ عليها مجرد رؤية البطاقات الملصقة بها. من الجلي أنها كانت قد أعيد حَزْمها على عُجالة من أجل رحلتها الثانية؛ إذ كان لا يزال بها ياقة صغيرة من الدانتيلا وبطاقة بريدية مصورة لم تكن قد أخرجتها من الجيب الجانبي.
وحين نظرت إلى الصورة تذكَّرت ظروف ابتياعها. كان تورش قد اشتراها لها، بعد رؤيتهما للوحة الأصلية في كنيسة في بروج. كانت تُسمَّى «سجود الرعاة»، وكان قد أخبرها بطُرفة عن الفنان الذي رسمها، بيير بوربو.
لكنها كانت آنذاك في حالةٍ بالغة من البؤس حتى إنها لم تتأثر بها كثيرًا. فلم يكن بإمكانها ساعتئذٍ أن تتخيَّل حياتها بعيدًا عن الكونت، أما الآن فهي تبذل قصارى جهدها للفِرار منه. كانت لديها رسالة يائسة — استغاثة جزِعة — وكانت تجتهد لتحرِّر نفسها من قبضة رقابة الكونت، لكن كل الطرق مسدودة دونها.
وبينما هي تتأمل القدَر بما يشوبه من مظاهرِ الاضطراب والعبث، طرأت فكرةٌ على ذهنها … حين تتعطل إحدى الحواس، تنشط أخرى. فحين تتوقَّف العينان عن الرؤية، تنشط حاسَّتا اللمس والسمع.
وقد يكون ما زال هناك طريقة لتتواصل بها مع أصدقائها، فقط إذا استطاع شخص واحد أن يفهم.