رحلة بحرية
مرَّ يومٌ إثرَ يوم من دون أي تدخُّل من العالَم الواقع خارج الجزيرة. كدَّت جورجيا في العمل في روايتها، تسابق الزمن حتى ترسل الدفعة الطويلة الموعودة، التي احتوت كذلك على إشارة موجزة لكن ذات مغزًى لكاتبة روايات الإثارة البوليسية، السيدة جيرترود ييتس.
وقد أفاد تورش بتسلُّمها برسالة قصيرة، ذكر فيها أخبارًا عامة، لكن كان واضحًا من خطاب الآنسة جونز أنها وقفت على الأصل.
فقد كاتبتها قائلة: «رغم أنها مجرد شخصية هامشية، فإن السيدة ييتس لاذعة مثل المسطردة. إنها تجعل عينيَّ تدمعان، لكنكِ دائمًا أدرى بالصواب في رواياتكِ.»
جعلت تلك الملحوظة جورجيا تتساءل حزينةً عما إذا كانت المربية قد انزعجت من تخليها عن تحفُّظها، وأنها — بدافع الولاء — ستُحجِم عن لفت نظر وكيلها إلى ذلك. ومع غياب أي محاولة لنجدتها، اضطُرت جورجيا إلى استنتاج أن إشاراتها قد فُسِّرت على أنها سقطة في أسلوبها الأدبي؛ ومن ثَم فقد خشيت من إهدار فرصتها الأخيرة بأن ترسل إلى تورش البطاقةَ البريدية التي اشترياها من بروج قبل الأوان.
خوَّفتها مسئولية البت في الأمر حين تذكَّرت تجربتها في لعب البريدج. كانت خبرتها باللعبة قليلة، فكانت غالبًا ما ترتكب خطأ الاحتفاظ بالورقة الرابحة وقتًا طويلًا دون أن تلعب بها … وهي إن احتفظت بالورقة الرابحة أطولَ من اللازم، فمن الوارد أن تصبح بلا فائدة. لا بد أن تلعب بها في اللحظة الحاسمة، إلا أنها لا تملِك سوى أن تتصرف جزافًا، ما دام أصدقاؤها صامتين.
حاولت الاقتناعَ بأنهم إذا كانوا فهِموا الوضع فسيدركون أن هناك رقابة؛ ومن ثَم لن يستطيعوا التواصل معها. لكنها شعرت في قرارة نفسها أنهم سيثقون أنها بالذكاء لتفهم حتى أدقَّ التلميحات. لا بد أن يكون ثمة شيء يعرفونه جميعًا – ويجهله الكونت – ليشعل أولَ شرارة، فيبشِّرها بأن الجهود جارية لنجدتها.
وبينما هي تنتظر كانت تَجِدُ خلاصها في العمل. كانت قد ظنَّت في بداية محنتها أنها لن تستطيع تحمُّل وطأة العيش تحت تهديد حكم الإعدام، لكنها مع توالي الصدمات الواحدة تلو الأخرى أدركت قدرتها على التحمُّل ولم تَعُد تخشى مطلقًا من انهيارها. لكن ها هي ذي مرةً أخرى بدأ ينتابها الخوف من احتمال أن تنهار قوَّتها. فقد تهافتت شجاعتها رويدًا رويدًا تحت الضغط المتراكم. ولم يَعُد بمقدورها تحسُّس الأرض تحت قدمَيها؛ إذ راحت تغوص أعمقَ يومًا بعد يوم.
أدركت جورجيا الخطر المحدِق بها مع تنامي التهديد الذي فرضته قيود الجزيرة. فقد بدأت تتقلَّص متجاوزةً مساحةَ الأمان. وكان يُخيَّل إليها أحيانًا وهي ترقد مستيقظةً أنها قد خرجت منها، وتراها على الخريطة نقطةً سوداء في مساحةٍ واسعة من اللون الأزرق.
حتى إنها قالَت لنفسها: «إنها لا تتسع ليُقام عليها بيتُ كلب، لكنها اتسعت لمنزل كامل.»
أما وقد توقَّفت الأمطار الآن، فقد بات الجو خانقًا وغائمًا، والبحر يفيض بأمواج متلاحقة ذات لون أخضر مصفر. لكنها بدلًا من التحطُّم متناثرةً على الصخور، ظلَّت الأمواج تتتابع طبقةً فوق طبقة، متراكمةً في مرتفعات عالية. في أوقاتٍ بدا المحيط فائضًا بمائه حتى إن جورجيا استسلمت لفكرة مروعة؛ حيث تخيَّلت أنه سيرتفع في الحال ويغرِق الجزيرةَ لو أن أحدًا دبَّ يديه الاثنتَين فيه.
كان ملاذها الوحيد حجرتها ذات الجدار الزجاجي؛ حيث استطاعت الهروبَ إلى روايتها وفقدان هويتها في عالَم وهمي من نسْج خيالها. وبقدْر ما تاقت إلى رُفقة ابنتيها، فقد كانتا غير معتادتين رقابةَ الكبار فشعرت أنهما، على شغفهما بها، ستنفران من أي قيد على حريتهما.
مع أنه كان عليها تركهما يفعلان ما يروق لهما، فقد انتبهت شيئًا فشيئًا لأنهما قد صارتا مرتبطتَين بعلاقاتٍ ودِّيةٍ لا مع الخدم القرويين فحسب بل مع البروفيسور أيضًا. ومع أنها لم تُرِد إثارةَ شكوكهما بمنعهما من التحدُّث معه، فقد نفرت من فكرة تواصلهما مع هذا الوحش البشري. ولا سيما ميرل، التي كانت مراوغةً ولا تهدأ مثل قطرة من الزئبق. فكان من المستحيل أن تعلم أين ذهبت أو ماذا فعلت.
وذات مساء، جاءت ميفيس إلى العشاء بجَفنَين أحمرَين ووجه يعلوه التجهُّم. وقد اتضح الباعث عليهما حين حذَّرت ميرل أمَّها ألَّا تأكل من الدجاج المشوي مطلقًا.
حيث قالت معلِّلةً بصوتٍ مرتاع: «إنها دجاجة خاصة.»
فضحِكت كلير بغلظةٍ وقالت: «إنها إحدى صديقات ميفيس. فلتأكلي منها يا ميفيس. فلحمُها طيب وطريٌّ.»
رمقتها ميفيس بنظراتٍ غاضبةٍ يعتريها حَنَق عاجز.
وقالت: «تقول الآنسة جونز إن الدول الأجنبية كلها تعامل الحيوانات بوحشية. وهذا غير مسموح به في إنجلترا. فهناك الجمعية الملَكية للرفق بالحيوان، وقد قامت بأبحاث عن خمسة وثلاثين ألف حالة السنة الماضية. الملكة فكتوريا كانت أول مَن أسَّس للرفق بالحيوان.»
فقاطعتها ميرل التي كانت قد شاهدت فيلمًا عن قصةِ حياة الملكة فيكتوريا قائلة: «حين كانت ملكة، وليس حين كانت بطلة سينمائية.»
أمعنت ميفيس في حديثها عن الموضوع بأشدِّ نبراتها صخبًا، بينما تحاول التغلُّب على رجفة شفتَيها. فنظرَت إليها ميرل ثم ازدردَت ريقَها معبِّرةً عن مواساتها إياها.
وقالت: «أمرت البروفيسور أن يقتلها برفق بالغ. فوعدني أنه سيستخدم الكلوروفورم وسيحرص على أن يكون سريعًا جدًّا.»
فقالت كلير مؤكدة: «من المؤكد أنه سيكون سريعًا. فله الكثير من التجارب في ليِّ الأعناق. فلم تكن خليلته الأخيرة أولَ مَن تركها بعنقٍ ملوي للأبد.»
عندئذٍ تساءلت ميرل: «ما معنى خليلة؟»
فقال الكونت على الفور: «إنها دميةٌ من القماش. كفِّي يا كلير.»
مع أن جورجيا تمنَّت أن تستغرق الفتاة في هوايتها المعتادة بمحاولة ترويعهن، فقد شعرت بالامتنان حين أقدمت سيدة الحِيَل — السيدة فاندربانت — على تغيير الموضوع بإحدى ملحوظاتها المعهودة عن موسم أنشطة المجتمع الراقي في لندن. ولحسن الحظ فقد بدا لها أن الصغيرتَين لم تفهما الحوار؛ إذ تظاهرتا بالفهم والثقة بدلًا من التظاهر بالبراءة التي تخفيان بها معرفتهما بالأمور.
قضت جورجيا ليلةً ليلاء، مهمومة بشأن مستقبلهن، وتحاول سدَّ أذنَيها دون الصوت الممسوخ المدوي الذي حاول أن يفصح عن انتصاره كلما ارتطمَت الأمواج بالصخور. لكن على الرغم من بؤس تلك الليلة، فقد تبيَّن أنها كانت مقدِّمةً ليوم مفعمٍ بالأمل. حيث شعرت جورجيا مع حلول العصر بتكاسُلٍ ورطوبةٍ شديدَين، حتى إنها سمحَت لميرل باستدراجها للذَّهاب إلى السباحة.
وأثناء نزولهما الطريق المؤدِّي إلى حمَّام السباحة، مرَّتا بميفيس والخادمة السويدية، جريتا، اللتَين كانتا جالستَين تحت شجرة صنوبر تطالعان مجلةً أمريكية مصوَّرة. كانت المجلة مفتوحةً على إعلان ملونٍ لمطبخ نموذجي، وطاهٍ حسن المظهر وهو يُعِدُّ طبقًا مثيرًا للشهية من أحد أصناف الأرز المنتفخ.
كانت ميفيس تُشير نحو التفاصيل المختلفة في الصورة ذاكرةً اسمَ كلٍّ منها بالإنجليزية بنبرة مثقفةٍ قَدْر استطاعتها.
«هاند (وتعني بالعربية يدًا). هيد (وتعني رأسًا). هام (لحمًا). هابل (تقصد تفاحة لكنها نطقتها بالإنجليزية بزيادة حرف إتش). هيج (تقصد بيضةً لكنها نطقتها بالإنجليزية بزيادة حرف إتش).»
وحين بدأت جريتا تكرِّر الكلمات طائعةً، شعرت جورجيا أنها لا بد أن تعترض.
فقالت ميفيس معلِّلة: «لكنني أعلِّمها الإنجليزية وهي تبدو أفخمَ مع إضافة حرف إتش.»
جعلت ميرل تقلِّد جريتا، بينما هما تسعيان هابطتَين في المسار المحفوف بالجذور على نحوٍ خطِر.
حيث قالت وهي تكبِت ضحكها: «هيج.»
فقالت جورجيا: «أتوقَّع أن تتحدَّث جريتا الإنجليزية في النهاية أفضلَ من بعض الإنجليز. إنه من السخافة أن تضحكي عليها وأنتِ لا تعلمين أيَّ كلمة باللغة بالسويدية.»
«بل أعلم بالطبع. الكثير.»
«بإمكانكِ إذن أن تخبري جريتا أن الدرس انتهى؛ إذ نريد من ميفيس أن تسبح. أودُّ سماع عينةٍ من اللغة السويدية التي تتحدثينها.»
ضحِكت جورجيا وهي تخاطبها، لكن تشكُّكها تحوَّل إلى ذهول حين نظرت ميرل وراءها، وخاطبَت جريتا بلا مبالاةٍ متحدِّثةً بطلاقةٍ بلغةٍ غير مفهومة. إلا أنه بدا واضحًا أن المرأة السويدية قد فهمتها؛ إذ ابتسمت ابتسامةَ ارتياحٍ وسارت عائدةً إلى المنزل، حاملة المجلة.
رغم أن ميرل نظرَت إليها بترقُّب — أشبه بجروٍ يستجدي قطعةً من البسكويت بعد أن أدَّى حيلة — فقد كانت جورجيا في حالةٍ شديدةٍ من الذهول منعَتْها من أن تُعبِّر عن استحسانها. وتذكَّرت كيف أعربت الآنسة جونز ذات مرة عن أن ميرل تتمتَّع بأذنٍ موسيقيةٍ رائعة؛ حيث أرادت أن تعلِّمها العزف على الكمان، وأنها استهزأت بالفكرة على أساس افتقارها هي إلى الحس الموسيقي.
وقالَت تُذكِّر نفسها: «كنت دائمًا أقيدهما بالقيود الخاصة بي، وأنسى أن لهما أبًا ورِثتا منه مواهبَ أخرى.»
كانَت مبتهِجةً للغاية حتى إنها لم تشعر بندمٍ أو نقص. فقد حدَثت معجزة دون مقدمات وبدأت تتبيَّن ملامحَ باب مفتوح. كانت تظن أن السُّبل قد انقطعت بها تمامًا عن البشر، لوجود عائق اللغة، مع أن الخدَم السويديين بدَوا صادقين وطيبين.
فقالت: «رائع يا عزيزتي. إنني فخورة جدًّا بكِ … هل يعلم أحدٌ أن باستطاعتكِ تحدُّث السويدية وفَهْمها؟ هل يعلم جوستاف ذلك؟»
هزَّت ميرل رأسها وهي تبتسم ابتسامتها الشديدة الشقاوة، وتنظر إليها نظرةً ذات معنًى. كان من سِماتها أن تجمع المعلومات سرًّا؛ حيث كانت تتمتَّع بالذكاء والقدرة على التقليد مثل القردة، أما ميفيس فكانَت على عكسها مُحبةً للاستعراض بامتياز. كبتَت جورجيا حماستها المتأججة وخاطبت الصغيرتَين بنبرة عادية.
«أين الآخرون؟»
فأجابتها ميفيس: «كلهم بالداخل.»
فقالت جورجيا: «لنا إذن أن نذهب في نزهةٍ بحريةٍ يا ميرل، فلتذهبي وتسألي هنري» استخدمت الصورةَ الإنجليزية لاسم الخادم «أن ينضم إلينا في الحال عند المرفأ. وليس عليه أن يزعج أحدًا بأن يطلب منه الإذن.»
هُرعت جورجيا إلى المنزل دون أن تحدِث صوتًا، وهي تخطو بحذائها المطاطي حيث صعِدت إلى مخدعها، فلم تبقَ إلا بما سمح لها بالتقاط معاطف دافئة والحقيبة التي حملت نقودها. وعندئذٍ شعرت بامتنان على الشروط الخاصة لحبسها؛ فقد حضَّت على وجوب معاملتها معاملةَ ضيفةٍ مكرَّمة، حتى يمكن استغلال موهبتها.
كانت جورجيا قد وقَّعت عدةَ شيكات بمبالغَ كبيرة، حتى يصرفها الكونت منذ أن حوَّلت حسابها البنكي على ستوكهولم، إلا أنه لم يُقدِم على الاستيلاء على حُزَم الأوراق النقدية التي كانت قد أحضرتها من أجل رحلتها، والتي وفَّرها لها لأنه كان يدفع كلَّ نفقاتها. لكنها كانت محض لفتة؛ إذ كان يعلم أنه ليس بمقدورها إنفاقها على الجزيرة، وأنها ستئول إليه في النهاية.
ولم تكن ذات نفع لها في ظروفِ حبسها على الجزيرة. فتركتها ملقاةً في حجرتها، وكان الخدم السويد في غاية الأمانة فلم يسرقوها. لكن ها قد تبيَّن أنها مئونة حفظتها لها العناية الإلهية.
تسلَّلت جورجيا السُّلم نزولًا بحذر، وهي تضم النقودَ إليها، بينما قلبها يخفِق بشدة وهي تحبس أنفاسها توجسًا. كانت كلُّ دقيقة حاسمة في هذا السعي اليائس للحرية، إلا أنها لم تجرؤ على الجري؛ إذ كان لا بد ألا تُحدِث ضجةً في انسحابها. وبينما هي تقطع حديقةَ الزهور الصغيرة، شعرت كأن كل نافذة بمثابة عينٍ تشاهد محاولةَ هروبها شامتةً من عدم جدواها؛ وظلَّت تنظر وراءها وهي تركض في الغابة، لترى ما إذا كان أحدٌ في إثرها.
كان الثلاثة الآخرون ينتظرونها على رصيف النزول الصغير. قبضت ميرل على ذراع الرجل السويدي الضخم وراحَت تبتسم له، في محاولةٍ لاكتساب ودِّه. كانت قسماته حادة غليظة وشعره أشقر، ذا درجةٍ شاحبة جدًّا حتى إنه لَيبدو أبيض. وقد اكتسى وجهه بتعبير بالبلادة ولم يبدُ عليه لا الذكاء ولا سرعة الاستجابة.
قالت جورجيا سريعًا: «هيا يا ميرل. بأقصى سرعة. اسأليه إن كان باستطاعته قيادة القارب البخاري. فإن كان يستطيع فقولي له إننا نريد الذهابَ إلى سالتسوبدن. وسأكافئه بهذه النقود.»
ونزعت الغطاء عن حَفنة من الأوراق النقدية، وحملتها أمام عينَيه لترشوَه من دون أن تنبِس بكلمة، بينما راحت ميرل تترجم له. إما أن مفرداتها المحدودة لم تكن على مستوى ضغط الموقف، أو أنه كان بطيء الفهم لدرجةٍ بالغة؛ إذ لم يتكرَّر التوفيق الذي حقَّقته سابقًا. وانتظرت جورجيا بجزعٍ محموم بينما ميرل تشرح له. توقَّعت جورجيا في أي لحظة أن تسمع احتكاك الحصى على المسار الصخري، أو صوتًا يناديهم من غياهب الغابة.
وبالكاد أمكنها أن تصدِّق حُسنَ حظِّهن حين أومأ برأسه أخيرًا ليبرهن على أنه فهِم.
فقالت له مجددًا لتتأكد أنه ليس ثمة خطأ: «سالتسوبدن.»
فقال بالإنجليزية ليريهن أنه يعرف كلمةً باللغة الإنجليزية: «ييس (وتعني بالعربية أجل).»
وبحركاتٍ بطيئة متأنية ركب القارب وبدأ تشغيل المحرك. لكنه إذا كان ذا شخصية متأنية — لا يمكن استعجاله — فلديه عقلٌ خامل ليجاريها؛ إذ لم يخالجه أيُّ شك بشأن جواز هذه الرحلة.
أدركت جورجيا أن الكونت لم يتصوَّر قط احتمالَ أن تتحدث أيٌّ منهن السويدية؛ ولذلك لم يعطِ الخدم أي تعليمات بوجوب معاملة زائرته معاملةَ السجينات.
حين اكتظَّ القارب بهم جميعًا، حدَّثت جورجيا نفسها قائلة: «إنه يرانا كأننا إنجليزٌ أثرياء مدلَّلون.» شعرت بالقارب ينتفِض كأنه كائن حي، قبل أن يمضيَ منطلقًا، ليمخر عبابَ البحر مخلفًا وراءه خطًّا من الزَّبد الملتفِّ.
كانت اللحظة ذات نشوة غير معقولة حتى ليكاد المرء يعجز عن تحمُّلها. بعد أن كانت مشدودة الوِثاق في موقعها، تحرَّرت جورجيا منطلقةً نحو الأفق. فقد تركت الجزيرة بتداعياتها وذكرياتها الشنيعة … فامتدَّت ياردات من المياه البيضاء المخضرة بين القارب والمرفأ الصغير. وظلت المسافة بينهما تتسع مع كل لحظة. وجعلت الأمواج الصغيرة ترتطم بجوانب القارب، وشعرت جورجيا بأول لسعةٍ من الريح.
وما لبِثت الريح أن اشتدت في هبوبها عليهم، وانطمست الملامح الجلية للجزيرة أكثرَ فأكثر. كأن ستارًا غيرَ ملحوظٍ قد أُسدل عليها، فاختفَت تدريجيًّا وغاصَت في بحرٍ من الضبابية المطلقة. لم تَعُد سوى ظلٍّ طافٍ فوق الماء، إلا أن جورجيا ظل باستطاعتها رؤيةُ المنزل الأبيض رؤيةً مشوَّشة.
كان في أحد أطرافه حجرة ذات جدران زجاجية، قائمة فوق البحر. شعرت جورجيا أنها لا تزال محتفظةً بسجينتها — امرأة منكبَّة على دفتر كتابة، تصبُّ في الصفحات عذابَها — تذيع مأساتها على عالَمٍ لن يصدِّقها.
نبذت جورجيا عنها ذلك الخيالَ البشِع.
«كلا، أنا حرة. لقد هربت. ونحن في أمان.»
وأغمضت عينيها بعزم، مستقبلةً اندفاع الرياح وهي تداعب جفونها، كأنها تُسبِغ عليها البركة. وحين فتحتهما مرة أخرى، لم يبدُ أثرٌ للجزيرة أو المنزل.
ابتسمت جورجيا لهنري، الذي حدَّق نحوها بدوره، إلا أنها لم تجد في قلبها موضعًا لشك.
وقالت متعهدة: «لن أعود إلى هناك مهما يحدث. إذا لم يكن يعرف كيف يوجِّه القارب، فسوف نرسو به في أي مكان. وإذا نفد الوقود، فسننتظر حتى تأخذنا أيُّ سفينة. سوف نجرِّب حظنا.»
تلاصقت الصغيرتان تنشدان الدفء، لكنهما لم تعلِّقا ولم تطرحا أيَّ أسئلة. فجعلها صمتهما تتساءل إن كانتا تفهمان الوضع أم لا. فحين كانتا على الجزيرة، كانتا تبدوان في غاية السعادة، ولا تحرصان إلا على ألَّا تعودا إلى إنجلترا ودروسهما.
كان من المستحيل أن تخمِّن ما يدور بذهنهما، ولم تجرؤ على تقصِّيه؛ إذ كانت تعلم نفورَ الأطفال من الخروج عن المألوف.
والآن لا يوجد سوى أميال من البحر الخالي. ولم يكن هناك أيُّ مركبة أخرى ولم يكونوا قد وصلوا إلى أيٍّ من الجزر الصغيرة: التكوين الصخري للأرخبيل. ملأت الريح عينَي جورجيا بالمِلح حتى التصقتا. وكلما فتحتهما بصعوبة، أمكنها بالكاد رؤيةُ الرذاذ يرتفع في أشكال بيضاء مهتزة، مثل ملائكة حارسة.
ضمَّت جورجيا ابنتَيها أكثر، وبدأت تخطِّط. سيكون الوقت متأخرًا حين يصلون إلى البَر الرئيسي، لكن الطريق إلى ستوكهولم لن يستغرق سوى رحلةٍ قصيرةٍ بالقطار. وإذا لم تتمكَّن من استقلال الباخرة هناك، فستركب القطار إلى جوتنبرج. فلن تشعر بالأمان حقًّا إلا حين تصير على الأرض المحايدة للباخرة السويدية لويد.
ثم بدأت تغفو، وفقدت كلَّ إحساسها بالاتجاهات أو المكان حتى أيقظتها ميرل.
«لقد اقتربنا يا أمَّاه.»
فتحت عينيها فرأت الجزيرةَ بشكلها المألوف على خلفية ذهبية من غروب الشمس.
فقالت بحِدة: «لقد قلت سالتسوبدن.»
فشرحت لها ميرل قائلة: «لكن هنري لم يجِد وقودًا كافيًا للذهاب إلى هناك. فطلبت منه العودةَ في الحال، وإلا تأخَّرنا على العشاء.»
فكرَّرت جورجيا كلامها قائلة: «لم يجِد وقودًا كافيًا. هذه هي الخطة إذن.»
أدركت أنها كانت قد استخفَّت باحتياطات الكونت. فلن يكون في المحرِّك الوقود الكافي للذهاب في رحلة إلى البر الرئيسي أبدًا وهو يحتفظ بمفتاح المخزن.
كانت ابتسامته مرحة وهو يلاقيهم على المرفأ.
حيث سأل جورجيا: «أكانت رحلة سعيدة؟»
لكنها لم ترُدَّ؛ إذ أوهنتها خيبةُ الرجاء التي كانت بالغةً حتى قضت على قدرتها على التمرد. فتحول نحو ميرل، وتحدَّث إليها بالسويدية، فوقعت في فخِّه وأجابته باللغة نفسِها.
قال الكونت معلقًا، وهو يلاحقها بنظرته وهي تهرول بعيدًا: «إنها ماهرة في إتقان اللغات. يا لها من فتاةٍ صغيرةٍ ماكرة! لكنها جميلة كفاية لتنجوَ بأفعالها … لكن يجب ألَّا يحدث هذا مرة ثانيةً أبدًا يا عزيزتي. فقد كنتِ في وضعٍ شديد الخطورة. فهنري ليس ميكانيكيًّا ماهرًا ولا يستطيع الإبحارَ على نحوٍ سليم. ثمَّة شخصٌ واحد فقط غيري بإمكاني أن أثقَ فيه إذا خرج بكِ في القارب.»
عرفت جورجيا اسم هذا الشخص المميَّز. إنه البروفيسور.