تعريف بالجزيرة
في ذلك المساء تغيَّرت بروكسل في عينَي جورجيا. لم تَعُد المدينة الجديدة تتمتع بذلك السِّحر الغامض الذي كان يغشاها قبل حفل العشاء؛ فهي نفسها لم تَعُد تحلِّق في السماء من السعادة، ولا مغيبة عن الواقع؛ بل صارت للمدينة أسسٌ ثابتة ومعالمُ واضحة يُرى فيها جمال التصميم المعماري والبناء. وبدلًا من الخليط المبهم من المباني، صار هناك جاداتٌ وميادين وطرق لمدينة أوروبية راقية. وقد درست خريطتها باهتمام واعٍ، ولأول مرة ربطت بينها وبين الذكرى الأدبية لشارلوت برونتي.
كان المطعم يضجُّ بأجواءٍ احتفالية، حيث كان يشهد مأدُبة عامة للاحتفال بلمِّ شمل مواطنين دنماركيين. شعرت جورجيا بالإثارة وهي تشاهد الضيوف ينتقلون، في مراحلَ تدريجية، من الرسميات والصمت إلى لغطٍ من الأصوات وعواصفَ من الضحك. كانوا لا يزالون يشربون الأنخاب، ويتصايحون في نفَسٍ واحدٍ حين انضمَّت جورجيا إلى الكونت في الصالون، حيث كانت الأوركسترا تعزف موسيقى وطنية مجاملةً لهم.
لاقت البهجة السائدة ترحيبًا لديها، وكأنها وصلت إلى واحةٍ غنَّاء بعد السير في صحراء قاحلة خلال رحلتها في بروج.
كانت إبَّان عودتها تشعر باليأس ينخُر في روحها مثل السوس، وقد أرعبها التهديد بالانفصال إلى الأبد، لكنها بدلًا من الوحدة وجدت صحبةً أخويةً طيبة.
كان الكونت هو الآخر في حالةٍ معنوية ممتازة، وهو يحكي الخطة التي استطاع بها أن يتهرَّب من أقاربه.
قالت جورجيا: «أعتقد أنك ستظل تضحك حتى في لحظة موتك.»
فقال لها واعدًا: «قطعًا، إلا إذا كان فكي متيبسًا. لقد قرَّرت أن تكون جنازتي مرحة؛ فقد حضرت العديد جدًّا من الجنازات الكئيبة. سيُقدم فيها الشراب بلا حدود، وسيكون على الكل أن يشرب حتى الثُّمالة؛ امتثالًا لآخر أمنياتي. وستُطبع في بطاقتي التذكارية قصتي المفضَّلة من دون حذف، بحيث يضحكون كلما طالعوها فيما بعد.»
فقالت جورجيا على الفور: «لكنني لن أضحك.»
«أعتقد حقًّا أنكِ ستبكين قليلًا. فإنكِ جادة جدًّا ورقيقة للغاية.»
اكتسب وجهه رزانةً وهو يقول مضيفًا: «لكنني لست مرحًا على الدوام. فإنني جاد في أغلب الأوقات. وأفضِّل البقاء وحيدًا، دون أحد على مرمى البصر، ناعمًا بوحدتي.»
«لكن أليس هذا صعبًا نوعًا ما؟»
«ليس بالنسبة إليَّ. فلديَّ جزيرة خاصة. وهي بعيدةٌ عن أي ساحل. من الممكن السير في أنحائها فلا ترين سوى أميالٍ من البحر. سوف تحبينها.»
وإذ فجأةً صار صوتُه المتلهف صوتًا عمليًّا، وبدأ يصف منزله بتفاصيلَ داخلية دقيقة وغير رومانسية.
راح يطمئنها قائلًا: «إنه جنة للمرأة. بكلِّ ما فيه من وسائل الراحة الحديثة الموفِّرة للجهد وكل ما فيه من زخارف فنية. أعتقد أنكِ تعلمين أنه من الممكن شراء الغاز في أسطوانات؟ أو لعلكِ تفضلين المدافئ الكهربائية؟ هل تفضلينها؟ حسنًا. فلدينا محطة توليد كهرباء خاصة.»
وواصل كلامه مفصحًا عن اهتمامه البالغ بذوقها، حتى بدأ ينمو لديها اهتمام المالك.
قال: «هناك حجرة تصرخ طالبة أن يجلس فيها مؤلِّف شهير للكتابة. جزء منها زجاجي، وتُطِل على البحر مباشرة، بحيث تستطيعين النظرَ من النافذة لرؤية الأمواج وهي تتكسَّر فوق الصخور المغمورة تحت الماء. وحين تكون الأمواج شديدة جدًّا، يرتطم الرذاذ بالزجاج كأنه مطر.»
ناشدته جورجيا قائلة: «لا تزِد كلمة أخرى. لقد أثرت غَيرتي.»
«إنني أريد إثارة غيرتكِ. فربما عندئذٍ أستطيع إقناعكِ بالبقاء معي. البقاء زمنًا طويلًا جدًّا.»
وحملت عيناه معاني قوية حتى إن أعصابها اضطربت رغمًا عنها.
فقالت سريعًا: «حدِّثني عن تكلفة تركيب نظام تدفئة. فأنا أيضًا أعيش في البراري.»
«بالتأكيد. لقد حكيت لكِ عن كوخي الريفي. فاحكي لي عن كوخكِ.»
«إنه لطيف جدًّا. يكاد يكون حديثًا؛ فقد بُنيَ عام ١٨٩٣. ونحصل على الطاقة بحرق النفط والفحم، لكن لدينا شركة مياه. ومن دواعي فخرنا الشديد أننا نمتلك حمَّامًا، وإن كان ليس مكسوًّا بالقِرميد. ومؤخرًا أضفت حجرتَين؛ إذ تعيش أمي معنا.»
عندما نظر الكونت إلى وجهها الصغير الرزين، وجد من المستحيل أن يحدِّد أكانت تتحدَّث بثقة مفتعلة أم ببساطة حقيقية. لم يبدُ عليها أمارات السنين التي حملت خلالها العالَم على كاهلها الضعيف، وقد استشعر أنها لم تشكُ يومًا الجهودَ التي بذلتها ولا روَّجت للإنجازات التي حقَّقتها.
ولأول مرة أدرك سرَّ قوَّتها. إنه يكمُن في صمتها.
فسألها: «هل كانت تلك السنة الأولى بالغة الصعوبة؟»
«لا. لقد تمكَّنت من إطعام أسرتي، ولم أتضور جوعًا.»
وبينما هي تتحدَّث، ذكَّرت جورجيا نفسها بأن هذا الرجل، على الرغم من بهائه، كان غريبًا تمامًا عنها. وسيكون الزواج منه أشبهَ بالغوص في حفرة مظلمة في قاع المحيط. وإنها تريد الإقدام والغوص، لكن لن تواتيها الشجاعة حتى تتأكد تمامًا من شخصيته.
وحتى تختبره قرَّرت أن تستعرض وضعها المالي بالصورة الأكثر إحباطًا لصائد ثروات.
فقالت: «سوف أخبرك بسرٍّ. لقد حالفني الحظ بأن ضمنت لنفسي دخلًا بسيطًا في الوقت المناسب. لقد استنزفت مخزون الإبداع والكتابة الذي لديَّ.»
ضحِك الكونت غيرَ مصدق.
وقال: «أوه، لا. هذا مؤسف للغاية. تقصدين أنكِ فقدتِ الإلهام.»
«أقصد أنني صرت مستنزَفة الأفكار. كان من المتوقَّع حدوث ذلك؛ إذ إنني لم أرفض تكليفًا قط.»
«لكن أليس من الممكن شراء الحبكات؟»
«لست أنا مَن يفعل ذلك. فلا بد أن يكون الكتاب من خَلْقي. لا بد أن أعيش فيه وأشعر بكل كلمة فيه، وإلا فلن يخرج إلى الحياة.»
وللمرة الأولى يولي الكونت مأساتها الأدبية اهتمامًا.
سألها: «وكيف سيؤثِّر ذلك على العقود التي أبرمتِها؟»
فقالت مفسِّرة: «لحسن الحظ لم يتبقَّ لديَّ سوى كتابٍ واحد لأتمَّه. ولن يضغط عليَّ الناشر لأسلمه حين يعلم بظروفي. فهو يعلم أن العمل، إذا كان دون المستوى، فسيكون مصيره الفشل ليس إلا.»
«ومع ذلك، لو كنتُ وكيلكِ لاختلقت قصةً، فأقول إن استثماراتكِ قد انهارت، وإن ابنتَيك ستجوعان. من شأن هذا أن يشحذ عقلكِ الخامل.»
«لو فعلت ذلك لاضطُررت إلى البحث عن عملٍ آخر. ألا تفهم الأمر؟ الكتابة عندي ليسَت مسألةَ عقل. وإنما مسألة خيال. وهذا لا يأتي قسرًا. وإذا غادرك، فلا حيلةَ لك في استرجاعه.»
بان على وجه الكونت الانشغال، وقطَّب ما بين حاجبَيه كمن استغرق في التفكير. وبعد وقفةٍ طويلةٍ هزَّ كتفَيه وكرَّر كلماتها.
«حسنًا، لا حيلةَ لنا في استرجاعه، إذن فلا أسف عليه.» وقبَّل يده مودِّعًا سرابًا من نسجِ خياله. «يا لكِ من امرأةٍ سعيدة الحظ! ليس لديكِ مالٌ في البنك. ولا مال هنا.» ثم لمس جبهتها برقة. «فلا يمكن لأحدٍ على الاطلاق أن يرغبَ في الزواج منكِ من أجل ثروتكِ يا عزيزتي، مثل ذلك الرجل الذي قتل عرائسه في حوض الاستحمام.»
وبينما هي تُصغي لصوته الرقيق، شعرت جورجيا بالبرودة التي انتابتها في بروج.
قالت: «ربما ما زال لديَّ فرصة أخرى. فلديَّ أكثر من ألف جنيه وديعة.»
«ألف؟» قالها الكونت وعيناه شبه مغمضتَين من الاستهزاء. «آسف يا عزيزتي، لكن الألف جنيه لن يكفيَني إلا أسبوعَين تقريبًا بأسلوب الحياة الذي اعتدت عليه.»
لاحقًا، بينما جورجيا تصعد وئيدًا السُّلم الرخامي العريض، توقَّفت عند البسطة أمام صورتها على مرآةٍ ضخمة. كانت قد اعتادَت أن تحييها بهمسة حمقاء.
«تصبحين على خير يا أيتها الكونتيسة.»
كشفت الصورة في المرآة عندئذٍ عن مدعية وقحة. كانت ابتسامتها مُرة تمامًا كأفكارها.
«كنت حمقاء إذ توهَّمت أنه عاد من أجلي. كان هنا حين أتيت وسيظل هنا بعد أن أرحل. وكلما عجَّلت برحيلي كان أفضل.»
بعد أن أطفأت الأنوار، وقفت عند نافذة الصالون وأرسلت نظرها لعتَمَة الحديقة. كانت ذكرى حُلمها لا تزال حيةً للغاية، حتى إن الأشكال التي رأتها في الكابوس مثَلت مرة أخرى أمام عينَيها. فرأت شابًّا منحلًّا بشفتَين ملوَّنتَين. ورجلًا بلُغد رجراج. وامرأة بغيضة متنكِّرة في ثياب سيدة راقية. رأتها بوجه أحمر سكران، مبتلٍّ ورطب كأنه نُقع في ماء مُغلًى.
وحدَه الكونت لم يكن موجودًا. فقد اختفى إلى الأبد.
قالت تحدِّث نفسها: «أحمَد الله أنني في مأمن منهم.»
وفي تلك الليلة حلَمت أنها تزوجت من أوزبرت. كانت البنتان معهما حيث بنَوا جميعًا حديقة مزينة بالصخور في فناء الكوخ، تحت سماءٍ برتقاليةٍ في غروب خريفي ساده الصقيع. ثم دخلوا لتناول الشاي، حيث غمرتها سعادة أسرية هادئة، تمنح الطمأنينة مثل مدفأة فحم لا تنقطع حرارتها.
وظل الشعور بالدفء حتى بعد استيقاظها في الصباح التالي.
تساءلت جورجيا: «ترى ماذا سيحدث اليوم. كلا، أنا أعلم. لا شيء.»
وفي صباح ذلك اليوم طلب الكونت منها الزواج.