التوجُّس
بدا لجورجيا أنها لم تكد تدرك أنها رجعت إنجلترا، حتى سافرت مرةً أخرى. كان ثمة قسوة في اقتلاعها الثاني من أصولها، لا سيما أنها ظلَّت مغروسة في مكان واحد طَوال حياتها. وكما قالت أمها، مصيبةً في قولها، إنها كانَت مرتبطةً بمسقط رأسها بالعديد من روابط الانتماء والعادة، حتى إنه لا مفر من الألم الناشئ عن تمزُّق هذه الروابط.
حين وقفت جورجيا على سطح الباخرة السويدية لويد، في انتظار أن تبحر بها، شعرت كأنها خيالٌ وتكاد تكون طيفًا، كأنها قد ركبت بالخطأ سفينةَ الهولندي الطائر، وحُكم عليها بالترحال الأبدي.
فسألت نفسها: «تُرى متى سأرى إنجلترا مرة أخرى؟»
وقد كان يومًا متعبًا، على الرغم من أنه لم يستلزم منها أيَّ مجهود غير تناول غدائها في مطعم ريتز. وقد أدار الكونت الموقفَ بأسلوبه الراقي المعهود. فقد نُقلت من الكوخ إلى لندن، ومن هناك — في قطار مخصوص — إلى سانت بانكراس ثم إلى تيلبوري، بمعزِل عن الالتزام بمواعيد القطارات والاتصالات على ما يبدو.
وقفت البنتان بجانبها — في أبَّهة بمعاطف السفر الجديدة المصنوعة من وبَر الإبل — تتفرجان بحماسةٍ على المشهد المتحرك. وبما أنها استقوت بصحبتهما، فإنها لم تستطِع أن تدرك إحساسها بالوحدة وهي منحنية على متن السفينة. شعرت بأنها مفعمة بأحاسيس التوجُّس، كأنها باقتلاعها من بيئتها الطبيعية، إنما تقدِم على خطوة خطأ.
وبعد قليل انضم إليهن الكونت، ليثبِّته في الحال إلى سطح السفينة مرساتان توءمان: ميرل وديفيس. أمعن الكونت النظر في جورجيا، وفي الحال أعرب عن تقديره لحسِّها الأدبي.
فقد سألها: «هل تسجلين ملحوظات ذهنية؟ تلتقطين كل تفصيلة؟ حسنًا، ما هو انطباعكِ؟»
فأجابته باقتضاب: «الارتباك.»
«أهذا كل شيء؟ ماذا عن الإثارة والترقُّب؟ هل نسيتِ أننا سنسافر من سانت جوتنبرج إلى ستوكهولم عن طريق قناة جوتا؟ فلتتخيليها. إنها ممرٌّ مائي رائع من بحيرات وأنهار شاسعة أوصل الإنسان بعضها ببعض. ستجلسين على سطح السفينة وتشاهدين الحقول الخضراء تمرُّ بجانبك. وأحيانًا تضيق القناة حتى ليمكنكِ أن تلمسي أوراق الأشجار.»
فقالت جورجيا بأسًى: «يبدو الأمر باعثًا على السكينة.»
«لا، سنحظى بالكثير من المتعة. مع حلول المساء، يوجِّه القبطان مصابيحه الكشافة نحو الأحبَّاء المتغازلين الواقفين على المسار المخصَّص لقَطْر المراكب. إنهم يفِرُّون، لكن المصابيح تتبعهم، فنضحك جميعًا منهم.»
وحدهما الطفلتان شاركتاه صيحات المرح.
ثم تابع كلامه قائلًا: «وبعد ذلك نصل إلى ستوكهولم. أجمل مدينة في أوروبا. فينيسيا الشمال.»
فتمتمت قائلة: «كنت أعلم أنك ستقول ذلك.»
«عفوًا؟ ستوكهولم! هناك الكثير لتريه هناك، قديم وحديث، حتى إنكِ ستحتاجين أسابيع حتى يصير لديكِ محضُ معرفةٍ قليلةٍ بها. وبعد ذلك، سنمرُّ على الألف جزيرة، وصولًا إلى منزلنا.»
نظر الكونت إلى ساعته وفي الحال تبدَّل أسلوبه فصار عمليًّا. «حان الوقت لتناول شراب. لا بد أن تجدن كبائنكن. لا تغيرن ملابسكن من أجل العشاء.»
وبينما هم يشقُّون طريقهم في الممرات المزدحمة، شعرت جورجيا بالإرهاق من ضيق المساحة. بدت الدهاليز ضيقةً أكثر من اللازم والتقسيمات مربكةً للغاية، حتى إنها أيقنت أنها لن تستطيع أبدًا أن تعرف طريقها في السفينة. وحين بلغت كبينتها، التي كانت مجاورة لكابينة ابنتَيها، راحت تنظر حولها في انزعاج.
وقالت لنفسها: «لا يوجد مكان لإفراغ الحقائب.»
غلبتها الحرارة وأوجست خيفةً من رُهاب الأماكن المغلقة، فراحت تحدِّق بعجز إلى حقائبها، غير قادرة على أن تتذكر أيها تحمل أغراضها المسائية.
وإذ بها تُدرك السبب الكامن وراء عجزها.
فقد قالَت لنفسها: «أنا لست مضطرةً إلى إفراغ حقائبي. كنت سأرتكب خطأً فادحًا. لا يزال أمامي الوقت لأعود إلى الشاطئ. لا بد أن أذهب الآن.»
وبينما هي تحاول استجماع إرادتها، اندفعت ميفيس إلى كبينتها.
وقالت لاهثة: «لقد ربحت القرعة. وحصلت على الفراش العلوي وبذلك سأتسلق سُلمًا عند الذهاب للنوم. هذا أفضل شيءٍ حدث لي طَوال حياتي.»
ورغم أنها كانت الخاسرة، فإن ميرل هي الأخرى بدَت متوهجةً وهي تختلس النظر من مدخل الباب.
فقالت، غير مبالية بأن السفينة كانت واقفة في المرفأ: «أحب حياة المحيط. تعالَي يا أمي لتناول العشاء. سأدُلك على الطريق.»
بوعي ضعيف أنها واقعة في أزمة نفسية، تركت جورجيا نفسها لقيادة ابنتَيها المتحمستَين. كان الكونت في انتظارهن عند مدخل صالة الطعام. لاحظَت جورجيا شيئًا في مظهره قبل أن تصيح ميرل.
«إنك تضع عينًا زجاجية.»
نظرت جورجيا إلى العدسة الواحدة المثبتة على عينه اليمنى.
وسألته: «هل أنت قصير النظر؟»
فأجابها: «نظري ممتاز. لكنني دائمًا ما أرتدي هذه العدسة وأنا في ستوكهولم؛ لأنها تضفي مَسحة من الوجاهة. فأنا من عِلية القوم هناك؛ ومن ثَم أحاول الحفاظ على مكانتي. فالمظاهر أهم شيء … والآن لا بد أن تكوني مثل أهل البلد وتحتسي كأس سنابس.»
«وما هو؟»
«كوكتيل. لكن يجب تجرُّعه دَفعةً واحدة، هكذا.»
لم تستطِع جورجيا أن تحذوَ حذوه، فشربت الكأس سريعًا. لم تكن معتادةً المشروباتِ المنبهةَ، حتى إن السنابس — وهو كحول خالص، منكَّه بروح الكراوية — أثَّر على رأسها وأكمل حالة الشرود التي كانت فيها.
جلست جورجيا إلى مائدة مستديرة، على كرسي دوَّار تحرَّك معها، وجعلت تحدق بتوهان إلى حشدٍ من الركَّاب كانوا يتناولون عشاءهم وقد بدا أنهم يدورون هم الآخرون. كان من حولها وجوه سعيدة — سواء أكانوا زوارًا متلهفين أم مواطنين عائدين إلى بلادهم — لكنها لم تشعر إلا بالضوضاء والحرارة.
وإذ بميرل تطلق صيحةَ فرح.
«إننا نتحرك.»
عند سماع كلماتها، اندفعت الدماء في رأس جورجيا. فهبَّت واقفة، لكنها عادت إلى الجلوس ثانيةً. فقد فات الأوان لتغادر السفينة.
مع هذا الإدراك، تحوَّل بقيةُ العشاء لما يشبه الكابوس. كانت جالسةً بجوار جورجيا مُدرِّسةٌ سويدية، راحت تحكي لها عن السويد، متحدثة عن تقدُّمها في الفنون والحِرف، ونظامها التعاوني، وشققها النموذجية المخصَّصة للعمال. ومع أنها كانت تتحدَّث إنجليزيةً تكاد تخلو من الخطأ، فقد استخدمت كلمة «الميلاد» وهي تقصد «معدَّل المواليد»، مما جعل جورجيا تتساءل عما إذا كان واجبًا عليها أن تصحِّح لها هذه الهفوة.
كانت لا تزال تتفكَّر في المسألة، والصوت يأتيها رتيبًا مثل محركٍ لا يتوقف عن الدوران، فيما شاهت كل الوجوه في مجال بصرها وقد صارت غير واضحة المعالم. وبدأ جفناها يرتخيان حتى انتبهت على صوت الكونت.
«لنصعد إلى السطح.»
كان من المريح أن تخرج إلى الهواء الطلق، وإن كان الظلام دامسًا لحد استعصاء رؤية الشاطئ. حدَّثها النسيم المنعش وزيادة حركة السفينة بأنهم في سبيلهم للخروج إلى أعالي البحار. وبينما هي متكئة على السور، شاهدَت أضواء بلدة ساوثيند تتضاءل إلى نقاطٍ ثم تختفي.
كانت إنجلترا تتلاشى من ورائها.
قالت جورجيا: «لا بد أن أصطحب الصغيرتَين إلى أسفل.»
أفلت الكونت من تعلُّق الفتاتَين به، ووضع ذراعه حولها.
وقال: «فلتصعدي في الحال. فإنني لم أنفرد بكِ بعد.»
«سأوافيك بمجرد أن أستطيع ذلك.»
على الرغم من وعدها، فإنها بعد أن رأت الصغيرتَين في الفراش، شعرَت بأنها مرهقة لدرجة عدم القدرة على الصعود إلى السطح مرةً أخرى. فخلعت ملابسها على عجل، وألقتها على الفراش الخاوي مما زاد من شعورها الطاغي بالفوضى.
ظلَّت مضطجعة مستيقظة مدة طويلة، تستمع لوقع الأقدام والأصوات، والضحك، وكل الأصوات المرحة التي تليق بجولةٍ للاستجمام. بدا أن الناس كانوا يمرون ببابها طَوال الليل، كما ظلَّت ترى وهج المصابيح الكهربائية خارج كابينتها حتى غفت.
حين استيقظَت جورجيا رأت الشمس ساطعةً من خلال نافذتها. كان يومًا بديعًا، حيث البحر هادئ، مثل وادٍ أزرق متغضن. وكان الضوء قويًّا جدًّا حتى إنه كشف عن كل عيبٍ من العيوب الجسدية بوضوحٍ لا رحمة فيه. وحين كانوا على ظهر السفينة، راحَت ميرل — ووحدها بمأمن من هذا الاستعراض للعيوب — تعلن عن هذه العيوب بصراحة مدمرة.
فقد رفعت صوتها لتعلن: «ميفيس لديها شارب»، وهي تحدِّق في الزَّغَب الخفيف فوق شفة شقيقتها العليا. ثم قالت: «لدى أمي ملايين الخطوط الصغيرة حول عينَيها.»
فسألها الكونت بثقة: «ماذا عني أنا؟»
«لديك الكثير من الشعر الرمادي.»
ولكي تخفي إحراجها، غيَّرت ميفيس الموضوع وكشفت عن نزعةٍ وطنيةٍ صريحة.
فسألت: «لماذا لا تضع هذه السفينة الراية البريطانية؟»
فقال الكونت مفسرًا: «لأنها سفينة سويدية.»
«لكن البحر كله ملكنا. إنجلترا هي التي تسيطر على الأمواج.»
وبينما هي تتباهى بقوميتها، فقدَت توازنها من شدة الأمواج. فشحب لونها من الغثيان، وهُرعت إلى جانب السفينة.
وبينما كتمَت جورجيا في نفسها ضيقها من ضحك الكونت، فقد أعربت ميرل عن استيائها علانيةً.
وقالت تاركة ذراع الكونت: «ليت أوزبرت كان هنا. إنه حنون.»
تذكَّرت جورجيا بملحوظتها كِياسة أوزبرت وحيلته على الدوام، متى راودت ميفيس عادة الإصابة بالغثيان عند ركوب أيٍّ من المركبات المتحركة.
فسأل الكونت: «ماذا كان أوزبرت سيفعل؟»
ردَّت ميرل: «إسعافات أولية. هل تعلم أن الإصابة بالغثيان بالغة الخطورة؟ فإنك إذا أصابك غثيان ولم تستطِع التوقف وظلِلت مصابًا به بقيةَ حياتك، فإنك عندئذٍ ستموت.»
وكأنه خمَّن سبب صمتها، تحول الكونت إلى جورجيا.
فسألها: «أتفتقدين أنتِ أيضًا أوزبرت؟»
فقالت بجمود: «كان دائمًا متعاونًا في هذه المواقف.»
«تقصدين أن باستطاعته أن يفعل ما قد يفعله أيُّ خادم على السفينة بصورة أفضل. أما أنا فأضحك فحسب … إذا لم نضحك من دُوار البحر، فسيكون أمرًا مقززًا. لذلك لا بد أن نجعل منه مادة للهزل … والآن سأجرب أسلوبي العلاجي على سيدة صغيرة في حالة هستيرية.»
«لكن لا يمكن أن تلومها لكونها تُصاب بدُوار البحر.»
ابتسم الكونت لها بتسامح.
«ماذا حدث لسيدتي الكريمة؟ لقد تحولتِ إلى دُبة غاضبة، تدافع عن صغارها. فلتقرِّي بأنه كان من الخطأ أن نأتيَ بهما.»
«ما كنت سآتي من دونهما.»
«بالطبع. وأنا أيضًا أحبهما. فإن ميرل لديها كل حيل النساء على حداثة سنها. كما أنها جميلة؛ ومن ثَم فإنها تستطيع أن تنجوَ بأفعالها من أي عقاب. أما ميفيس فلديها مشكلة في أعصابها فقط. البحر أهدأ من أن يصيبها بالغثيان.»
ومما جعل جورجيا في خجل أنه أثبت صحة كلماته، حين ظل ما تبقى من الصباح يذرع سطحَ السفينة وميفيس متعلقة بذراعه.
مع أن ميرل أثبتت أنها الأفضل سلوكًا، فقد تعادلتا في الغداء، حين تعرَّفت الصغيرتان أولَ مرة على البوفيه المفتوح. كانت تجربة جديدة أن يُسمَح لهما بالتجول حول مائدة حافلة بألوان من المقبِّلات، ليصيبا منها ما يروق لهما أيًّا كان.
وللأسف حذَت ميرل حذوَ الكونت في اختياراته، وعادت بصحن مليء بسمك سلمون مملح وكافيار سويدي وأنشوجة ورنكة. ولما اتضح أن الأخيرة هي شرائح من الرنكة المتبَّلة، المنقوعة في الخل المُحلى والمنكَّهة بالبصل، فقد دفعت ثمنًا قاسيًا نظير تصرُّفها، خاصةً حين تحداها الكونت أن تأكلها.
وقد أثبتت شجاعتها، لكن على حساب مَعِدتها، وظلَّت ما تبقى من اليوم ساهمة.
بدا لجورجيا أن رحلة العبور قصيرة أكثر من اللازم. كانت مهلة للراحة، حيث بدا كأن الوقت قد توقَّف ما بين فترات، لتناول الوجبات والتحديق في البحر المتألق بأشعة الشمس. فبعد الضغط العاطفي الذي عانَته مؤخرًا كان من المريح أن تتحرَّر من مشاعر الحب، وتركن إلى الركود الذهني، في انجرافها غير الملحوظ نحو المستقبل.
ومع قدوم الليل، ازداد البحر هياجًا وبدأت السفينة تتأرجح. وحين نزلت إلى كابينتها وجدت أن نافذتها قد أُغلقت بإحكام. ولدى رؤيتها جيشان مياه البحر المكفهرة المحمَّلة بالزَّبد، في النور الصادر من نافذتها، اتَّجهت أفكارها إلى ميفيس.
فأسرعت إلى الكابينة المجاورة، حيث كانت الخادمة منهمكةً في إخراج الأواني بطريقةٍ مزعجة. وكانت ميرل التي استولت على الفِراش العلوي المشتهى، منحنيةً على حاجزه لتشاهدَ ما يحدث، فيما كانت ميفيس شاحبة من الترقُّب.
ولدى رؤيتها أمَّها بلَّلت شفتيها بتوتر.
وسألت أمَّها قائلة: «أماه، هل سينتهي البحر حين نصل إلى السويد؟»
بدلًا من جورجيا، أجابتها الخادمة التي أرادت التدرُّب على اللغة الإنجليزية وقالت: «لا. إنه يمتد ويمتد.»
نحبت ميفيس وهي تقبض على ذراع جورجيا.
«هيا بنا نعود إلى ديارنا. لا تذهبي إلى جزيرة الكونت. فلن تكون آمنة والبحر يحيط بها من كل جهة.»
«لا يا أماه، إنها ليست آمنة.» شاركت ميرل في التنبؤ بالهلاك، كأن عدوى الحالة الهستيرية التي ألمَّت بشقيقتها قد انتقلت إليها. «لا بد أن نعود إلى الديار في الحال. ثمة طريق للعودة، طريق بريٌّ بالكامل، ليس به إلا قطعة صغيرة جدًّا من البحر يمكننا القفز فوقها. لقد أرتنا الآنسة جونز إياها على الخريطة.»
خجلى من الكشف عن مشاعرها، حاولت جورجيا أن تجعل ابنتَيها تضحكان بأن ألقت مزحةً بائسة.
«لقد أكلت ميرل الرنكةَ فصارت مرتبكة. إنني خجلى من طفلتَي البكَّاءتَين.»
وعلى الرغم من كلماتها فإن قلبها كان مثقلًا بالخوف من المستقبل. فتذكرت المأساةَ التي وقعت مؤخرًا حين ماتت زوجة مزارعٍ محلي في حادث تحطُّم طائرة. كانت المرة الأولى التي تسافر فيها جوًّا، حيث قيل إن أولادها ظلوا يتشبَّثون بها، وهم يبكون بكاءً يثير الشفقة ويترجونها ألَّا تذهب.
وقد استحوذت تلك القصة على تفكيرها؛ إذ شعرت بقبضة ميفيس الخانقة حول عنقها. وقالت لنفسها إن الأطفال لديهم الغريزة نفسها التي تحذِّر الحيوانات من المصائب الوشيكة.
إنهما تعلمان أن هذه الرحلة ستنتهي بكارثة.
شعرت بأنها أمام فرصتها للهروب، للمرة الأخيرة. وفي حالةٍ من التردُّد البائس، اضطجعت ساعات مستيقظةً، تستمع لاصطدام الأمواج بالسفينة ودوي المحرِّك. وبينما هي ترهف السمع لتلتقط كل صوت، ظلَّ يعذبها وَهْم سماع أوركسترا مصاحبة لدوي المحركات، حيث كانت دائمًا تجد نفسها على وَشْك سماع موسيقى خافتة.
كانَت السفينة كلما تمايلت استغرقت جورجيا في حالةٍ من التوجس المتوتر، حيث تكتم أنفاسها حتى تعود السفينة إلى وضعها الصحيح. ولارتياعها من هاجس الموت في البحر، تركت جورجيا نفسها لتتأثر بخوف صغيرتَيها.
ومع طلوع الفجر المعتِم عزمَت على أن تقتصر رحلتها على السويد، وتعود إلى إنجلترا برًّا.
وقالت لنفسها: «لن أذهب إلى الجزيرة.»