تمهيد عام
يضمُّ هذا الكتاب نصوص الحكمة البابلية التي حفظها الزمان على الألواح الطينية بالخط المسماري، واستطاع علماء الآثار واللغات السومرية والأكدية (البابلية والآشورية) — بعد جهودٍ مُضنيةٍ رائعة استمرت زُهاء قرن ونصف قرن — أن يقدموها في أصولها الأولى أو في ترجماتها المختلفة إلى اللغات الأوروبية الحديثة. وهو يتابع نصوص هذه الحكمة على اختلاف أشكالها وأساليبها في أدب وادي الرافدين الذي لم ينفصل عن حضارته الدينية بوجهٍ عام؛ فيبدأ بأهم نصوص الحكمة وأشهرها، وهي النصوص الثلاثة المعروفة في التراث البابلي والعالمي تحت هذه العناوين والأسماء: «لأمتدحن رب الحكمة» (ويعرف أحيانًا باسم أيوب البابلي أو بالكلمات التي يبدأ بها الأصل وهي «لدلول-بيل-نيميقي»)، والحوار بين المعذب والصديق، وحوار السيد والعبد، ثم ينتقل إلى «تجلِّيات» هذه الحكمة في النصائح والنواهي التي كان يُوجِّهها الآباء والحكماء لأبنائهم أو للأمراء الذين عُهد إليهم بتربيتهم، وفي التراتيل والضراعات الدينية لبعض الآلهة، والمناظرات الأدبية والحكايات الخرافية على لسان النبات والحيوان، حتى يصل إلى «الحكمة الشعبية» التي تظهر في الحِكَم والأمثال والأقوال السائرة.
ويبدأ الكتاب بمدخل إلى الحكمة البابلية، يستهل بمحاولة تحديد مفهوم الحكمة وتمييزه عن مفهومها في أسفار العهد القديم وفي التراث العقلي والمنهجي اليوناني الذي اصطُلح على تسميته بالفلسفة. ويتبين من ذلك التحديد أن مفهوم الحكمة لم يقتصر على البراعة في طقوس السحر والعبادة وطرد الأرواح الشريرة من أبدان المبتلين بالمرض والعذاب، وإنما اتسع في نصوصها المتنوعة فاشتمل على معانٍ أخلاقية، وتأملاتٍ كونية، ومشكلات عقلية عبَّرت في صورٍ مختلفة عن رؤية الإنسان في حضارة أرض النهرين للوجود والمجتمع، والخير والشر، والعدل والظلم والمصير.
بيد أن تفكير البابليين ونظرتهم إلى الحياة والعالم قد اختلفا مع مرور الزمن وتحت تأثير عوامل التغير والتطور السياسي والاجتماعي والثقافي عن تفكير السومريين، كما تغيَّر تفكير البابليين أنفسهم وتصوُّرهم للعالم والقيم، وموقفهم من العلاقة بين الإنسان والآلهة منذ الألف الثانية قبل الميلاد، بعد أن اتخذت الآلهة ملامحَ إنسانيةً واضحة، و«أسقط» الإنسان قيمه وقوانينه الأخلاقية والتشريعية على الكون في مجموعه، وبدأ — كما قلتُ — في التساؤل عن معاني الخير والشر، والعدل والظلم على المستوى الإلهي والكوني والبشري، وعن ذنبه فيما يصيبه من مصائب على الرغم من تقواه وطاعته المطلقة للآلهة، ويتتبع «المدخل» بشيء من التفصيل الأسباب المحتملة لهذا التطور الذي تمخَّضت عنه أروع نصوص الحكمة البابلية المعبِّرة عن المشكلات العقلية والأخلاقية والوجدانية التي اشتدَّت حدَّتها حول الألف الأولى قبل الميلاد، وعن نزعات الشك والحيرة والتشاؤم و[التعب الحضاري] التي تصوِّرها النصوص الأساسية الثلاثة التي سبق ذكرها، والتي تتناول قضية اضطهاد الأبرار الصالحين، إلى جانب معالجتها مشكلة الموت الذي يبدو أنه كان منذ العصور المبكرة هو «الظلم الأكبر» عند السومري والبابلي، لا سيما إذا تذكَّرنا الصورة المظلمة المرعبة التي لازمتهما عن العالم السفلي أو «أرض اللاعودة»، وتفكَّرنا في الصورة الفاجعة المؤثرة التي تقدمها «جلجاميش» — في بعض القصص السومرية اﻟﻤﺠتزأة التي بقيت منها، أو في الملحمة البابلية — عن صراع الإنسان لمقاومة الموت وشوقه الجارف إلى الخلود.
ويحاول الكتاب أن «يقرأ» هذه النصوص المهمة قراءةً متفهِّمة متعاطفة، بعيدة بقدر الإمكان عن التسرُّع في إطلاق الأحكام «القبْلية»، والتعسُّف بفرض الآراء والتفسيرات التي تصبُّها في قوالب وأُطُر ووجهات نظر غريبة عنها؛ ولذلك تلجأ إلى تجربتها تجربةً باطنة تعتمد على استشعار روح النص ودلالته ورسالته من داخله، مع وضعه في سياقه التاريخي والاجتماعي المحدَّد، وتوخِّي الدقة والحذر والالتزام بآراء الثقاة في كل الأحوال. ولا شك أن «الذات» القارئة لم تستطع أن تحقق هذا النهج التأويلي (أو الهيرمينوطيقي) الباطن على الدوام؛ إذ منعها من ذلك عجزها — الذي لا بد من الاعتراف به والاعتذار عنه — عن قراءة النصوص في لغتها الأكدية الأصلية، واضطرارها في بعض الأحيان إلى قراءتها على ضوء المحنة التاريخية والحضارية الراهنة التي تعانيها «الذات» العربية الجماعية والفردية على السواء.
وقد كان من الطبيعي أن تواجَه مثلُ هذه القراءة — التي تتحاشى التعميم وإطلاق الأحكام المتسرِّعة بقدر الإمكان — بصعوبات ومشكلات لا يُستهان بها؛ فهناك مشكلة الإطار التاريخي والحضاري الذي يُفترض الإلمام به قبل الشروع في المحاولة، ومع أن هذا الكتاب ليس تاريخًا لحضارة أرض الرافدين، فإن قراءته لا تستغني عن قدر من الإلمام بتاريخ هذه الحضارة، في خطوطه المجملة وعصوره الأساسية؛ ولذلك وضعتُ في بدايته لوحةً زمنيةً موجزة تُبيِّن أهم عهوده وسلالاته وملوكه، ولوحةً أخرى بمعالم التطور الأدبي والفكري في مراحله التاريخية والسياسية البارزة، مع خريطتين تساعدان على تعرُّف جغرافيته التي لم تتوقَّف عن الحركة والتغير، ومواقع أهم الدول والمدن الأثرية وأسمائها القديمة والحالية، غير أن المشكلات التي تتصل بالمنهج والمفاهيم والتصورات كانت في واقع الأمر أصعب وأدقَّ. ولستُ أدري إن كنتُ قد اهتديتُ فيها إلى الصواب؛ إذ يكفيني — وأنا الغريب عن مجال التخصص اللغوي والأثري — أن أطرحها وأُوجِّه النظر إليها، لعلها أن تثير لدى المهتمين أسئلةً وإشكالاتٍ أخرى تتعلَّق بتراثنا و«هويتنا» وجذورهما الممتدة في حضارتنا وتاريخنا القديم، أو في عصورهما المختلفة ومراحلهما المتتالية بوجهٍ عام (وهي التي لم تزل بحاجة إلى قراءاتٍ تفسيرية أو «تأويلية» متعمِّقة لنصوصها وشواهدها المختلفة في سياقاتها التاريخية والاجتماعية المحددة).
وتتركَّز المشكلات والإشكالات التي رأيتُ من الضروري التعرُّض لها في هذا التمهيد العام في عدد من الأسئلة التي سأحاول الإجابة عنها بقدر طاقتي وعلمي المحدود: حكمة بابل، فلسفة هي أم حكمة؟ مفهوم الأدب ودور الإبداع أو المبدع فيه، معنى التاريخ وهل هو من صُنع الآلهة أو البشر الفانين، والأسطورة — مغزاها عند أهالي أرض النهرين القدماء وإمكانات التفسير والاستكناه لدينا نحن.
وأخيرًا تأتي قضية استلهام هذا التراث القديم ومدى ما تحقق منه عند بعض المبدعين وما يُرجى أن يتحقق.
(١) حكمة بابل: فلسفة هي أم حكمة؟
ولو تأملنا ما قاله كانط العجوز (١٧٢٤–١٨٠٤) في إحدى رسائله من أن جهده الفلسفي كله قد انحصر في محاولة الإجابة عن ثلاثة أسئلة هي: ماذا يمكننا أن نعرف؟ ماذا ينبغي علينا أن نعمل؟ ماذا يحق لنا أن نؤمن به أو نأمل فيه؟ لكي تكتمل الأسئلة الثلاثة في هذا السؤال: ما الإنسان؟ لكان في إمكاننا أيضًا أن نطرح الأسئلة السابقة — بالنسبة لبدايات التطور العقلي للإنسان — على غير الترتيب الذي أراده كانط أو على العكس منه، فلا بد أن الإنسان قد بدأ بالتساؤل عن حقائق الميلاد والموت والمصير أو عن ألغازها، كما تُفكِّر في القوى الخفية التي تفوق وجوده ومعرفته، كالآلهة التي تمثلت له في الظواهر الطبيعية المخيفة، وفي الأرواح والشياطين، وفي قواعد السلوك الصحيح والفعل الأخلاقي أو الفعل النافع، قبل أن يسأل بطريقةٍ نظريةٍ مجرَّدة عن طبيعة الوجود أو طبيعة المعرفة ومجالاتها وحدودها، وإذا كان كل مُفكِّر وكل عصر يُقدِّم إجابات عن الأسئلة الكبرى المتعلِّقة بالوجود والموت والحرية والخير والشر … إلخ؛ فقد قدَّم حكماء بابل أيضًا إجاباتهم. صحيح أنها صيغت بلغةٍ شعرية ومجازية وأسطورية مختلفة عن لغة «المقال» البرهانية، ولكن هذا ليس سببًا كافيًا لتجاهلها والتقليل من شأنها، ولا يسوغ استبعادها وإخراجها من دائرة «التفلسف» بمعناه العام بحجة أنها لم تُصبَّ في قالب «اللوجوس» القياسي والمنطقي الصارم.
ويشير الأستاذ «برييه» إلى ثلاث نقاط جديرة بالاعتبار فيما نحن بصدده من الحديث عن مكانة الحكمة البابلية بوجهٍ خاص في تاريخ الفكر الفلسفي: أولها: أن الإدراك الواضح للروابط والعلاقات المتماثلة بين المذاهب والآراء في الشرق والغرب لا يتم عن طريق الحكم المتعسِّف على أوجه التشابه بينها، بل عن طريق الصلات التاريخية المؤثرة القابلة للمراجعة والتمحيص (وهو مبحث لم نتقدم فيه بصورةٍ جادة إلى اليوم).
وثانيهما: ضرورة الاعتراف، بجانب بعض العناصر المشتركة التي انتشرت هنا وهناك، بوجود عناصر أخرى ذات «أصالة جذرية» تجعلها غير قابلة للانتقال من حضارة إلى أخرى. وإذا كان «برييه» يمثل لذلك بأصالة الفكر الهندي والصيني، فإن المفكِّرَيْن؛ الرافدي، أو المصري القديم لا يَقلَّان عنهما أصالة وخصوصية. والنقطة الثالثة التي تستحق الانتباه إليها هي أن الوثائق والأسانيد التي يعتمد عليها المستشرقون (والمقصود بهم هنا الباحثون في حضارة الشرق وفكره سواء كانوا من الغربيين أو الشرقيين) لا يمكن أن تقارن من حيث طبيعتها بالوثائق والأسانيد التي يستخدمها مؤرخو الفلسفة الغربية؛ فالأولى أدنى إلى التي يستعملها الأنثروبولوجيون ومؤرخو الديانات والعلوم والفنون والصنائع من طقوسٍ دينية، واحتفالات، وأساطير، واختراعات فنية، إلى غير ذلك من العناصر التي تستطيع دون سواها أن تساعد على إلقاء الضوء على تفكير الأقدمين من سكان أرض الرافدين ومصر وإيران، وعلى ما يسميه الأستاذ «ماسون — أورسيل» بفلسفتهم «الضمنية»، والأمر في هذا لا يختلف تقريبًا فيما يتَّصل بالشعوب الأكثر تطورًا في الهند والصين.
وطبيعي أن الأصول المشتركة للتفكير الشرقي والغربي، وعلاقات التأثير والتأثر المتبادلة بينهما؛ لا تنفي الحقيقة الواقعة، وهي أن طريقة النظر و«الاستكناه الروحي» ليست واحدة فيهما. ولعل هذا أن يكون هو السبب في لجوء مؤرخ الفكر الشرقي إلى استخدام كلمات ذات معنًى أوسع وأكثر إبهامًا من كلمة «فلسفة» — المحدَّدة بتاريخها العقلي والمنهجي منذ اليونان إلى اليوم — للدلالة على موضوع بحثه، وهي كلمات الفكر أو الحياة الروحية أو الحكمة … وبلا شك أن دافعه إلى ذلك هو أن معظم النظريات والمذاهب والآراء التي نجدها في الشرق عن الوجود والقيم والنفس وما بعد الطبيعة والمعرفة ذاتها قد نشأ في الأصل عن طقوس دينية واجتماعية، وممارسات روحية وسحرية وعملية، بحيث صارت تلك الآراء والمذاهب مع الزمن صورًا فكرية — منطقية ورمزية، تبلورت فيها تلك الطقوس والممارسات التي امتزج فيها الدين والشعر والسحر والأسطورة والاحتفال، وكان الغرض منها هو «الخلاص» أو «الفناء» والاتحاد بالكائن الأعلى أو بالكل، أو إعادة التجانس والتوافق بين الإنسان والعالم وبينه وبين المجتمع، أو إصلاح نظم السياسة والأخلاق والتربية من داخل الفرد قبل كل شيء، أي تحويل الروح وتغيير الكيان الإنساني بأكمله بصورة فعالة، وليس مجرد المعرفة النظرية لذاتها (كما كانت الحال في فلسفة اليونان في معظم عصورها ومدارسها)، ولا جعل الإنسان هو «مالك الطبيعة وسيدها والمسيطر عليها» (كما حدث في التفكير الغربي منذ عصر النهضة إلى عصرنا الحاضر، مع استثناءات صوفية عرفانية، أو رومانتيكية ووجودية، أو تأويلية «هيرومينوطيقية» لا تُقلِّل بحال من تفوُّق مبدأ السيطرة على العالم الذي أصبحت «الثقافة» الحديثة بقدراتها الهائلة بالنسبة إليه أشبه بالطفل المعجز الجبار الذي يلعب بالنار، أو بالثمرة الحلوة المُرَّة التي نضجت على فروع شجرة الفلسفة والعلم المنهجي).
هكذا نجد أنفسنا — كما يقول الناطقة — بين قرنَي الإحراج، فإن نحن بلورنا المفاهيم والقضايا الفلسفية الكامنة في الفكر الشرقي في نسقٍ مشابه للنسق العقلي اليوناني، وقعنا في المبالغة، ووجدنا أنفسنا على حافة «اللامعقول»، وإن حاولنا أن نُجرِّد العقل الفلسفي اليوناني من عقلانيته حتى لا يكون أفضل حظًّا من «اللاعقل» الشرقي الأسطوري، تردَّينا في هاويةٍ مظلمة غابت عنها كل مصابيح العقل. وفي الحالين نخطئ التحليل والتفسير ونفتقد المنهج، نتطلب في الماء جذوة نار، أو نلقي الماء على جذوة نار.
والأمر مع الدين ليس أفضل حالًا مما هو عليه مع الفلسفة، فإذا كنا قد لمسنا بعض المشكلات التي تواجه «بَلْورة» الحكمة البابلية في نسقٍ عقلي، فإن صعوباتٍ مماثلةً تواجه محاولة استخلاص نظام أو نسقٍ ديني (لاهوتي)، وترجع هذه الصعوبات إلى سببين: طبيعة الشواهد والبيِّنات المتوافرة لدى الباحثين، ومشكلة الفهم التي تعوقها حواجز التفسير وقوالب التصوُّر المسبقة.
أما نصوص الأساطير المعروفة التي تروي قصص الآلهة وأعمالهم وصراعاتهم، كما تتناول نشأة الكون وخلق الإنسان وأخبار الهبوط «لأرض اللاعودة» والرجوع منها … إلخ؛ فهي تمثل جزءًا أساسيًّا من الإبداع الأدبي في حضارة الرافدين، لكن هل لها قيمة من الناحية الدينية بجانب قيمتها الأدبية التي لا تُنكَر؟ أم أنها — كما يزعم أوبنهايم — تهمُّ ناقد الأدب أكثر مما تهمُّ مؤرخ الدين، وتُردِّد قصصًا شعرية تغنى بها شعراء البلاط السومريون وقلَّدهم فيها الكتاب البابليون منذ العصر البابلي القديم لإمتاع الملك وحاشيته أو تسلية الجمهور، باعتبارها ذكريات من الماضي البعيد؟
وأخيرًا نأتي إلى نصوص الطقوس نفسها بصيغها التقليدية المحفوظة عن أداء الشعائر، ولوازم التضحية كما كانت تتم في المعابد وفي الاحتفالات برأس السنة الجديدة، وكما كانت تجري على سبيل المثال في معبد «الإيزاكيل» في بابل، بيد أن معلوماتنا عن تاريخ هذه الطقوس وتطورها ومدى ثباتها عبر العصور ومراكز العبادة … إلخ؛ لا تزال شحيحة ولا تكشف عن طبيعة «الحياة الدينية» بمعناها الأصيل، شأنها في ذلك شأن نصوص الطقوس السحرية التي كان الهدف من ورائها هو طرد الأرواح الشريرة أو إيذاء الأعداء وتدميرهم، هذا فضلًا عن استحالة الكلام عن «دين» واحد أو «تجربة» دينية واحدة في حضارة امتدَّ عمرها — كما قلتُ — آلاف السنين، وخضعت لتقلُّبات النشوء والتطور والازدهار والأفول في أماكن وعصور مختلفة، كما تباينت ظواهرها وآثارها الاجتماعية أشدَّ التباين من وجهة نظر الملك والكاهن، والإنسان العادي أو «رجل الشارع» المجهول والمظلوم على الدوام.
لهذه الأسباب كلها يصبح الحذر من التعميم والتفسير الشامل أمرًا يفرضه موضوع البحث المتنوِّع في أبنيته وأبعاده، كما يؤكده تجدُّد البحث العلمي نفسه، ومفاجأته المتوقَّعة وعدم توصله إلى نتائج وأحكامٍ نهائية في فهم النصوص وترجمتها؛ مما يعزز ضرورة إعادة التقويم والتفسير في كل مرة، ومن داخل ظروفٍ ونصوصٍ محدَّدة يمكن أن تثير من الأسئلة أكثر بكثير مما تقدِّم من أجوبة.
(٢) مفهوم الأدب ودور الإبداع أو المبدع فيه
- (١)
تعود بدايات النصوص الأدبية الأكدية (باللغتين البابلية والآشورية) — بعد بدايات أسبق منها بنصوص ووثائق إدارية وغير أدبية بالمعنى الدقيق — إلى نحو منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد، وقد توافرت هذه النصوص وتنوَّعت منذ عام ١٨٨٠ق.م. (أي في آخر فترات ازدهار الأدب السومري — بين عامي ٢٠٠٠ و١٨٠٠ق.م. الذي يصعب فصل تراثه عن التراث الأكدي) بحيث يمكن القول إن الإبداع البابلي قد تدفَّق نحو سنة ١٦٠٠ق.م.، ويبدو أن الأعمال الأدبية التي كتبت بعد هذه المرحلة كانت محدودة العدد؛ إذ شحَّت المصادر البابلية أو انعدمت تمامًا فيما يسمى ﺑ «العصر المظلم» الذي امتدَّ من أواخر العصر البابلي القديم إلى الثلث الأخير من الألف الثانية قبل الميلاد. وقد شهد العصر التالي — وهو العصر الكوشي الذي كان عصر التقنين للتقاليد والنماذج الأدبية والعلمية — ظهور سلسلة من الأعمال الأدبية المعبِّرة عن الحساسية الدينية وعن تطوِّر موقف الإنسان من الدين (كالتراتيل ونصوص الحكمة).
وقد استمر تدوين النصوص السومرية حتى القرن الأول قبل المسيح، أي بعد انقراض اللغة نفسها بقرونٍ عديدة، مع إثبات الترجمة الأكدية في معظم الأحوال بين السطور، كما استمر استخدام السومرية والأكدية في الطقوس والتراتيل الدينية حتى بعد انقراضهما وحلول اللغة الآرامية محلهما؛ أي أن التراث الأدبي ظل حيًّا في عصر الأخمينيين الفارسيين (٥٣٨–٣٣١ق.م.) وعصر المقدونيين والسلوقيين (٣٣٠–٩٦ق.م.).
- (٢) ما زال التأريخ لأدب وادي الرافدين القديم وتتبُّع مراحل تطوره وتحوله يُمثِّل مشكلة تواجهها صعوباتٌ كثيرة؛ فلم تتوافر بعدُ الدراسات والبحوث الكافية عن أجناس هذا الأدب وأساليبه وخصائص نثره وشعره، سواء من ناحية الفن الشعري أو من ناحية العروض، بل إن تمييز الأعمال الأدبية من الأعمال غير الأدبية (الدينية والسحرية والتاريخية والعلمية … إلخ المتداخلة معها) لم يزل كذلك أمرًا شاقًّا لا يخلو من المعضلات، صحيح أن هناك دراساتٍ عديدة عن أعمالٍ أدبيةٍ محددة، كالملاحم والأساطير، وهناك بحوث تناولت جنسًا أدبيًّا معينًا أو ذهبت في التخصص إلى حد تحليل بنية البيت الشعري في النصوص الملحمية مثلًا، غير أن الوقت لم يحنْ بعدُ لتقديم تاريخٍ أدبي بمعناه الشامل والعام.١٦
- (٣)
وتواجهنا كذلك مشكلة تعرُّف أصحاب الأعمال التي يمكن الاتفاق على وصفها بأنها أعمالٌ أدبية، وتحديد أسماء مؤلفيها أو «مبدعيها»؛ فقد جرت عادة الدارسين على نسبتها لمؤلفين مجهولين؛ لأن «الشاعر» لم يوقِّع باسمه على هذا العمل أو ذاك إلا في حالات نادرة، وحتى في الحالات النادرة التي توجد فيها أسماء على بعض الألواح، يصعب الجزم بأن الاسم لشاعر أو أديب؛ إذ إن الأرجح في معظم الأحوال أن يكون هو اسم الناسخ الذي دوَّن النص على اللوح الطيني، أضف إلى هذا أن قوائم الأعمال الأدبية وفهارسها المتوافرة بأعداد كبيرة، تنسب هذه الأعمال في كثير من الأحوال لمؤلفين محددَّين، ولكننا نفاجأ في بعض الأحيان بأن أسماء هؤلاء المؤلفين هي في الواقع أسماء آلهة، وبأنها في أحيان أخرى أسماء شخصيات تاريخية أو كتبة ونُسَّاخ سبق تعرُّف أسمائهم من نصوص أخرى، وكثيرًا ما يتعذر على الباحثين تحديد علاقة هؤلاء «المؤلفين» بمعظم الأعمال المذكورة في الفهارس؛ لسبب بسيط هو أن نصوص هذه الأعمال نفسها مفقودة!
وإذا كان من الصعب تفسير ظاهرة غياب أسماء المؤلفين والأدباء، أو إرجاعها لسببٍ واحد — كالزهد في الشهرة مثلًا أو إنكار الذات والحرص على إخفائها، على العكس من المؤلف والأديب المعاصر الذي طغت عليه النرجسية والتهافت على ذيوع الاسم وبريقه في كل وسائل الإعلام والتوصيل الممكنة والمستحيلة! فلا يجوز أن نستنتج من ذلك أن كل هذه الأعمال الأدبية أعمالٌ جماعية شارك في تأليفها شعراء وأدباء ومنشدون؛ فقد يتَّضح من مضمون النص أن قصيدة أو ملحمةً معينة قد أُلِّفت لمناسبةٍ خاصة أو في موقفٍ محدَّد، وأنها في الحقيقة من وضع مؤلِّفٍ واحد (كما في ملحمة «إيرا» — إله الأوبئة والدمار — المتأخرة التي كُتبت في فترة انتشار الطاعون والاضطرابات في المدن البابلية؛ وذلك لتبشير سكانها بانفراج الشدة وزوال غضب ذلك الإله الذي صمم على القضاء عليهم؛ إذ يذكر المؤلف اسمه في خاتمة القصيدة الملحمية ويزعم أنها أوحيت إليه في الحلم، وأن الإله المخيف — الذي نجح وزيره إيشوم في تهدئة غضبه — سيبارك الإله الذي تُتلى الملحمة في معبده المقدَّس، والملك الذي سيسمعها والمغني الذي سيُنشِدها، والكاتب الذي ستعلمها ويدوِّنها على الألواح …)١٧ ولا يصح أيضًا أن نفهم من تكرار الموضوعات والصور الفنية، والأوصاف والصيغ البلاغية، في أعمال مختلفة تنتمي إلى جنسٍ أدبيٍّ مُعيَّن، أن هذا العمل جزء من تراثٍ شعبي تناقلته الشفاه جيلًا بعد جيل، فعلينا أن نتذكَّر أننا نتعامل مع حضارة قامت فيها الكتابة بدورٍ بالغ الأهمية، وأن القراءة والكتابة كانتا محصورتين في شرائح محدودة من السكان، وبخاصة في طبقة «الكتاب» الذين يفضل تسميتهم «الأدباء» أو «المثقفين». ويمكن أن نتصور أن هؤلاء الكتاب والمثقفين قد تعلَّموا تلك الصيغ والأساليب والموضوعات المكرَّرة ضمن ما تعلَّموه في مدارس التعليم «الأدوبا» أثناء دراستهم للنصوص الأدبية المأثورة وتدرُّبهم على حفظها وتدوينها على الألواح. ولا يصدق هذا على الملاحم والتراتيل الدينية والقصص والأساطير وحدها، وإنما ينطبق كذلك على النقوش الملكية التي اشتملت على «حوليات» الملوك ووقائع حكمهم، وأخبار بطولاتهم وتضرعاتهم للآلهة، والتي ألَّفها الكتاب في العصور اللاحقة (كالعصر البابلي الحديث) متأثرين بالنقوش المدونة في عصورٍ أسبق. - (٤) وأخيرًا تأتي المشكلة التي أشرنا إليها من قبلُ، وهي افتقاد ما يمكن تسميته «الفن الشعري» في الأدب الأكدي؛ فنحن لا نعرف ما المُثل الفنية التي تطلَّع إليها الأدباء، ولا الغايات التي أرادوا تحقيقها، ومن ثم لا نعرف المقاييس والمعايير التي يمكن أن نزن بها أعمالهم؛ ولذلك يبقى الاختلاف بين العلماء — وبيننا نحن القراء العاديين — على قيمة هذه الأعمال ومستوياتها الفنية أمرًا يحكمه الذوق ويقوم على أسسٍ ذاتية، كما تتفاوت فيه أحكام العلماء والقراء على قدر خبرتهم باللغة الأدبية والإنتاج الأدبي في هذا الأدب وفي غيره من الآداب القديمة. وطبيعي أن يزيد العلم بطبيعة اللغة الأصلية وخصائص الأعمال الأدبية فيها من رهافة الذوق ودِقَّته، ولكن هذا العلم نفسه بالأجناس والنماذج الأدبية، وببنية الشعر وخصائصه وعوامل تأثيره … إلخ؛ لم يزل — كما سبق القول — بعيدًا عن الوصول إلى نتائج نهائية يمكن الإجماع على صحتها، فضلًا عن أن أرض الرافدين المعطاءة لا تزال تدَّخر للباحثين كنوزًا لم يُكشَف عنها بعدُ، وربما تخيَّر من الأحكام السائدة في كثير من هذه الأمور.١٨
لو أطلقنا اسم «الأدب» على النصوص المسمارية التي لا تنحصر وظيفتها في «الأخبار» والتقرير المباشر، لوجدنا أنفسنا أمام شكلَين من أشكال التعبير يمكن أن يطلَق عليهما ذلك الاسم: الأول شاعري في روحه وأساليبه التي طوَّرتها التقاليد الأدبية وثبَّتتها مع الزمن، والثاني «أدبي» وإن لم تتضح فيه تلك التقاليد بصورةٍ مباشرة أو مقصودة.
ولنأخذ أمثلةً قليلة لتوضيح ما سبق «وتطبيقه» بقدر الإمكان، فالبيت الثاني من «الدوبيت» يجيء مُكمِّلًا أو شارحًا لمعنى البيت الأول، مثل البيتَين الآتيَين من ملحمة جلجاميش:
وقد يأتي معنى البيت الثاني مغايرًا لمعنى البيت الأول؛ تمهيدًا لتدرج موضوع القصيدة العام، مثل البيتين أو السطرين الأوَّلين من ملحمة الخلق البابلية:
وللتمثيل على وحدة المعنى في الأبيات الأربعة نذكر إحدى «الرباعيات» في ملحمة الخلق أو التكوين السابقة الذكر، وهي على لسان الإله «إبسو» زوج الإلهة «تيامت» أو «تعامة» في تبرير عزمه على القضاء على أبنائه من جيل الآلهة الحديثة التي أقلقت منامه:
لا شك أنَّ الكثير من أسرار «الشاعرية» في النصوص الأدبية الصريحة للغاتٍ منقرضة، كالسومرية والأكدية؛ لم يزل بعيدًا عن «قبضة» العلم، ولكن يبدو أن «ديناميات» المعنى وسحر الألفاظ يتعاونان على إيجاد ما نسميه اليوم «الوحدة العضوية» التي كان الدور الأكبر فيها للمعنى أو الدلالة التي توجِّه التشكيلات والإيقاعات الصوتية المتنوعة كما سبق القول، ولو سألنا: هل كان هذا «الشعر» مما يُقرأ أو مما يُتلى وينشد في المعابد والقصور والاحتفالات والطقوس بمصاحبة الجوقة والآلات الموسيقية — لما وصلنا لإجابةٍ قاطعة. والمرجَّح أن شكله وتنغيمه كانا أقرب إلى «الخطاب المرتَّل» منهما إلى الإلقاء أو التعبير الدرامي، ولا بد أن هذا الشكل كان يتحكَّم في اختيار الموضوعات والمواقف التي تعد أكثر شاعرية من غيرها. والمهم في النهاية أن شاعرية النصوص — حتى في الترجمات التقريبية التي لجأ إليها أمثالنا من غير المختصين — تتجلى في حالات يمكن أن توصَف بالشاعرية: كالوصف الرائع لصراع مردوخ مع تعامة (في ملحمة الخلق)، والأحداث التي أدت إلى الطوفان الذي قضى على البشر والأحياء باستثناء «أوتونابشتيم» وصحبه في الفلك (سواء في قصة الطوفان كما وردت في اللوح الحادي عشر من جلجاميش أو في ملحمة أتراحاسيس) وبعض القصص البديعة مثل قصتَي آدابا وآيتانا (اللتين سيأتي الحديث عنهما)، وقصة نرجال إله العالم السفلي وزوجته أرريشكيجال وغيرها من القصص الزاخرة بالوصف والتعبير الشاعري الذي كان خليقًا بأن يخلب ألباب المستمعين ويحقق لهم المسرة والمتعة الجمالية (على الرغم من قصورهما الواضح عن وصف تفاصيل الواقع الحي ومفردات البيئة التي تدور فيها الأحداث الأسطورية).
أول ما نلاحظه على «جلجاميش» أنها تشبه من بعض الوجوه «الرواية التربوية» التي تتبع سيرة البطل وتقلُّبات حياته وتجاربه التي تؤدي به إلى معرفة النفس والتسليم بالمصير الذي يخضع له سائر البشر. ويلحُّ مؤلف النسخة الأخيرة — أو مؤلفوها — على معنى الخلود الذي راح البطل «المأساوي» يبحث عنه ويطمح إلى تحقيقه من وراء مغامراته المختلفة. ويتضح من قراءة الملحمة أنه لم يلتمسه في الذرية والأبناء — كما يعتقد الناس في الشرق عمومًا — ولا في المنشآت والمباني الضخمة التي سخَّر شعبه لتشييد صروحها — كالسور الهائل المحيط بمدينة أوروك ومعبد إيانا؛ إذ يزهد في النهاية في هذا الخلود بحيث لا يبقى له منه إلا «المجد» والذكر الطيب الذي هو «عُمرٌ ثانٍ» للإنسان (كما عبر شوقي في رثائه لمصطفى كامل). ويتمثل الأمل في هذا النوع من الخلود في وصف العالم الآخر كما يصوَّره اللوح الثاني عشر المضاف إلى الملحمة، حيث يصبح جلجاميش قاضيًا حكيمًا يوجِّه النصح لأرواح الموتى ويحكم على أشباحهم، على نحو ما يحكم رب الشمس «أوتو-شمش» بين الأحياء.
والأمر الثاني الجدير بالملاحظة أن المؤلف يشير إلى حكمة جلجاميش التي اقتنع بها أو استسلم لها بعد أسفاره الكثيرة ومغامراته الخطيرة! عندما يذكر أنه نقش حصاد تجاربه على مسلة حجرية، مما يفهم منه أن الملحمة نفسها ربما كانت هي هذا النقش نفسه الذي ينقله إلى القارئ أو السامع، وسواء أكانت الإهابة بالنقش مجرد حيلة أدبية أم لم تكن (وكأنما تُذكِّرنا بزعم بعض كتاب الرواية الحديثة أنهم ينشرون أوراق البطل ومذكراته أو يثبتون روايات شهود العيان!) فإن دلالتها واضحة على ضرورة تخليد الحكمة في ذاكرة الأجيال عن طريق نقشٍ حجري ينجو من بطش الفناء.
وثالثة هذه الملاحظات أن بطولات البطل — الذي ثلثاه إلهي وثلثه بشري — وكل أمجاده التي توهم أنها حقَّقت له الخلود (كالانتصار على وحش الغابة حواوا أو حمبابا وقتل ثور السماء الذي أرسلته عشتار — ربة الحب المنتقِمة لصدوده عنها — كالعاصفة المدمِّرة على أوروك، ومظاهر العسف والجبروت التي تطالعنا بها بداية الملحمة) لم تفلح في ضمان الخلود، ويبدو أن «وعيه الشقي» بالحقيقة الفاجعة قد بدأ من وعيه بمفارقة اللحظة المأساوية الحاسمة، وهي اللحظة التي أدرك فيها حتمية فناء الإنسان عندما أخذ يُقلِّب جسد صديقه ورفيقه أنكيدو، ويكتشف أنه جامد كالحجر، وميت لم يبق فيه حيًّا إلا الديدان! ولا نريد بهذا أن نقول إن جلجاميش قد سبق أدباءَ وفلاسفةً ومتصوفةً عديدين إلى التنبُّه لقيمة «اللحظة» واعتبارها الخلود الوحيد المتاح للفنانين. ولكن ربما لا نبتعد عن الصواب إذا قلنا إن وعيه المأساوي بحقيقة الخلود قد بدأ من لحظة الموت؛ موت الحب الحقيقي الوحيد الذي جرَّبه مع أنكيدو الذي لم يسبق له أن أحبَّ أو صادق غيره، لا الموت «البيولوجي» الذي طالما لاحظه دون أن يتوقف عنده! ثم ازداد ذلك الوعي عمقًا وإحساسًا بالضياع مع اللحظة الأخرى التي اكتشف فيها أن «الحية الخالدة» قد سرقت منه نبتة الحياة الأبدية «فجلس على الأرض وأخذ يبكي.» صحيح أن مؤلف الملحمة لم يتغلغل في وجدان بطله عن طريق ما نسميه اليوم بالتداعي الحر أو المونولوج الداخلي ليحلل مشاعره أو يسجل مظاهر «التنوير» لديه، ولكنه أول من أشار على كل حال إلى أن حكمة الخلود الوحيدة بالنسبة للبشر هي تقبل «وجودهم-للموت» من ناحية، والتفاني في العمل معهم ومن أجلهم من ناحيةٍ أخرى.
ويتجلى فشل جلجاميش الذريع في الوفاء بشروط الخلود — الذي هو من حق الآلهة وحدهم — في إهماله لحكمة «سيدوري» ربة الحانة التي نصحته بأن يحيا في اللحظة ويستمتع بالمتاح فيها فلم ينتصح، وفي دعوة «نوح البابلي» (أوتنابشتيم) له بمقاومة النوم ستة أيام كاملة فلم يصمد للاختبار، ولم يفطن إلى ضرورة الشرب من «نبع الشباب» الذي أشار عليه ذلك «الخالد الوحيد بين البشر» بأن يستحم فيه ولكنه كتم سره عنه. أخفقت إذن كل المحاولات، ورجع البطل الذي أتعبه الطموح والتهالك على الشهرة والمجد لكي يختم «رحلة حجه» إلى الخلود المستحيل بدموع الحسرة والندم، فهل أراد الشاعر أو الشعراء المجهولون أن يُلمحوا إلى اقترابه من حكمة معرفة النفس والوعي بالحدود البشرية، أم تركوا ذلك للقراء على مر الأجيال؟
ونلتقي بموضوع الإنسان الذي أضاع الخلود بغير ذنب منه (والمذنب بغير ذنب هو البطل المأسوي بالمعنى التقليدي!) في القصة الشعرية عن «آدابا» الصياد، ابن الإله «إيا» والموكل بمعبده في أريدو، الذي اتُّهم بكسر جناحي الريح الجنوبية التي قلبت قاربه أثناء رحلة صيده، واستُدعي للمثول أمام الإله الأكبر «آنو» فنصحه أبوه الماكر الحكيم بأن يلبس ثوب الحداد لكي ترقَّ له قلوب حارسي بوابة إله السماء، وأن يمتنع عن تناول خبز الحياة ومائها عندما يقدَّمان إليه؛ وبذلك ضيع على نفسه فرصة الخلود الذي كتم أبوه سرَّه عنه؛ لأن الآلهة وحدها — كما جاء على لسان ربة الحانة في جلجاميش — قد استأثرت بالخلود:
ونجد الموضوع نفسه في قصة «الراعي الذي صعد إلى السماء» وهو «إيتانا» ملك مدينة كيش والثاني عشر في قائمة أسماء الملوك السومريين بعد الطوفان. كان «إيتانا» قد عقم الولد؛ فراح يبحث عن «نبتة الإنجاب» في كل مكان، وهداه رب العدالة شمس إلى حفرة كانت حية قد حبست فيها نسرًا، بعد أن غدرت بعهد الصداقة بينهما والْتهمت صغار، ويطلق الملك سراح النسر الذي يعترف بجميله؛ فينطلق به إلى حيث يجد النبتة المقصودة في السماء، وعندما تغيب الأرض عن ناظري الملك المحروم من الولد يستولي عليه الرعب والقلق؛ فيقرر الكف عن البحث، ويسقط مع النسر على الأرض مع انتهاء النص وقبل نهاية الأسطورة. والظاهر أن «إيكاروس» السومري ثم الأكدي قد انتهت قصته نهايةً سعيدة؛ إذ تذكر قائمة الملوك السومرية اسم ابنه وخليفته «بليخ»، كما يبدو أن بحثه عن نبتة الخلود لم يصدر فحسب عن نزعة البقاء بعد الموت في ولد يحمل اسمه ويرث عرشه، وإنما كان الباعث الأقوى عليه هو حرصه على تحقيق السعادة لشعبه والأمن والقوة لمدينته، على نحو ما نفهم ذلك أيضًا من مخاطرات جلجاميش وسعيه الدائب لإحراز المجد لنفسه وشعبه.
وأخيرًا فإن المناظرات على لسان النبات والحيوان، والأمثال والأقوال السائرة والحِكم الشعبية، يمكن أن تساعدنا على الحياة مع رجل الشارع المجهول، والتعاطف مع همومه ودعاباته اليومية وسط جبال الألواح التي خصصت لأمجاد الأبطال وأعمال الملوك العظام أو الصغار. ولا شك أن هذه النصوص الشعبية تلطِّف كثيرًا من العاطفية المسرفة والإشفاق المهين على الذات اللذَين تتَّضح بهما نصوص الحكمة السابقة، وربما نجد لها أصداء في حكمتنا الشعبية الغنية بالتهكم والمرارة.
هل أكون بهذا قد أجبت عن السؤال المطروح في بداية هذه الفقرة عن الإبداع في الأدب البابلي ودور المبدع فيه؟ لا أظن هذا؛ فالحديث في هذا الموضوع وفي غيره لا يحرص على تقديم الإجابات بقدر ما يحرص على إثارة التفكير والسؤال، ويكفيه أن يعرض قضية الإبداع الأدبي الذي لا شك في وجوده وإمكان الشعور به — على الرغم من كل المشكلات التي تواجهه — من خلال الترجمات «العلمية» الموثوق بأمانتها ودقَّتها لأقصى حدٍّ ممكن … ولستُ أدري إن كان القارئ سيوافقني في النهاية على القول بأن كتابة تاريخ شامل للأدب البابلي لا يزال أمرًا سابقًا لأوانه، ومع أن العروض الجيدة متوافرة يمكن الاستفادة منها، فإن الصعوبات والإشكالات التي تواجه التأريخ الدقيق لهذا الأدب تقتضي قراءة كل عملٍ أدبي وتفسيره وتذوُّقه على حدة، مع مراعاة عوامل التطوُّر والتحوُّل التي طرأت على الدين والفكر وأوضاع السياسة والاقتصاد والأخلاق، والنظر في علاقة الإنسان بالآلهة والكون والحياة بقدر الطاقة، وبقدر ما تسمح به الدراسات التفصيلية القليلة في هذه الميادين، وعسى أن أكون قد حاولتُ شيئًا قليلًا من هذه المهمة الكبيرة، أو أمسكتُ بخيطٍ واحد من خيوط عقدتها العسيرة.
- (أ)
لم يكن هدف الإبداع الأكدي هو «الفن للفن»، وإنما ظل مرتبطًا بأغراضٍ عمليةٍ عامة، مثل تمجيد الدين والقوى السياسية الكامنة وراءه؛ ولذلك كان أكثر الأعمال الأدبية يُتلى في الاحتفالات و«التمثيليات» الدينية العامة، أو يُخصُّ لتسلية الملك وحاشيته، أو يُرتَل مع طقوس العبادة والتعزيم التي كانت تُقام لطرد الأرواح الشريرة من أجساد المرضى أو تسجيل أعمال البطولة والبناء.
- (ب) كان الأديب والفنان «صانعًا» أكثر من أن يكون معبِّرًا عن وجدانه أو رؤيته الذاتية، لقد التزم بالقواعد والتقاليد الأدبية والفنية الموحَّدة، وكرَّس فنه لتمجيد الآلهة والملوك وأهداف الجماعة، وحرص على التكرار والتماثل والاطراد والبُعد عن التجديد والتحريف، واعتبر نفسه مجرد ناسخ أو جامع أو صانع وهب جهده لتقليد النماذج المكتملة منذ بداية التاريخ الذي نزلت فيه نظم الملك والشرائع والمعايير المقنَّنة من قِبل الآلهة على البشر، وأوقف مواهبه — كما سبق القول — على نسخها وتكرارها، وتدريب المتعلمين عليها، ومحاكاتها بالقدر الذي يُقرِّبها من تلك الأصول الإلهية المقدسة، ولا شك في أن هذا يرجع إلى حدٍّ كبير لارتباط الإبداع الأدبي والفني في حضارة وادي الرافدين بالرؤية الدينية وإمساك الآلهة بخيوطه، وإلغاء دور الإنسان في صنعه أو الإقلال من شأنه إلى أقصى الحدود، وإذا كان قد حدث تغيُّرٌ أو تطوُّر، يفترضه العقل والمنطق في حضارة امتد عمرها عشرات القرون، فقد اقتصر على تكرار البشر للنماذج الإلهية المكتملة منذ البداية، وانصبَّ على درجة تمثلهم لتلك الأشكال غير التاريخية أو على مستوى دقتهم الفنية والحرفية، وربما يكون هذا هو أحد العوامل التي تفسر تبجيل النصوص السومرية إلى حد التأليف بها حتى العصور المتأخرة كما سبقت الإشارة إلى ذلك، كما تلقي بصيصًا من الضوء على ظاهرة اختفاء أسماء «المبدعين» من الألواح إلا في الحالات النادرة كما تقدَّم.٢٨
- (جـ) كان من الطبيعي أن ينعكس هذا على ندرة الإبداع الأدبي المنبعث من القلب أو غيابه في بعض الأحيان، فمن الظواهر الغريبة في الأدب البابلي أننا لا نكاد نملك شيئًا يستحقُّ الذكر من شعر الحب، ولولا أن أحد فهارس الأغنية يورد السطور الأولى من إحدى الأغنيات٢٩ لذهب بنا الظن إلى تصور انعدام الشعر الوجداني، وهو أمر لا يمكن تصوره. وفي انتظار ظهور نصوص من شعر الحب البابلي يمكن القول إن بعضه قد دخل في التراتيل والصلوات التي تُسبِّح بحمد الآلهة، كما أُدمج بعضه الآخر في النصوص الشعرية المؤثرة من الأدب السومري، وهي نصوص البكائيات على المدن والمعابد المدمَّرة، أو في رثاء الموتى لأنفسهم والتحسُّر على حرمانهم من الزوج أو المحبوب.٣٠
- (د) وفي النهاية نذكر ما يمكن أن يسمى بأدب السيرة الذاتية أو أدب المذكرات الذي نلمس فيه على الدوام أصداءً من أصوات القلب الصادقة، ومن الأمثلة عليه سيرة «أدريمي» (من الربع الثالث للألف الثانية) ملك ألا لاخ٣١ (تل عطشانة بالقرب من أنطاكية) التي وجدت مدوَّنة على تمثاله، وسيرة سرجون الأكدي (من أواخر الألف الثالثة ق.م.) التي تروي حكاية ميلاده الخرافي التي تشبه قصة ميلاد موسى عليه السلام، وسيرة أم «نابونيد» (٥٥٥–٥٣٩ق.م.) آخر ملوك بابل الكلدانيين وأوسعهم أفقًا وأتعسهم حظًّا، ثم سيرة مردوخ الإله البابلي الأكبر. وقد لاحظ العلماء أن بعض هذه السير متداخل مع النقوش الملكية التي تحدَّثْنا عنها من قبلُ، ومن النصوص التنبئية والطقوسية، كما يضم حكايات يمكن أن تندرج تحت أدب القصة أو الرواية القصيرة في الأدب الأكدي، مثل قصص «الخوارق» التي تروي عن بعض الملوك فيما يسمى بأدب الفخر «تارو» (كالقصص التي سبق ذكرها عن سرجون الأكدي أو العظيم (٢٣٣٤–٢٢٧٩ق.م.) مؤسس الدولة أو السلالة الأكدية، وحفيده نارام-سين (٢٢٥٤–٢٢١٨ق.م.) وربما تُبيِّن الكشوف المتجدِّدة أن هذا النوع من قصص الخوارق والأعاجيب كان يمثل أشكالًا أو أجناسًا أدبية مستقلة).
(٣) التاريخ: من صنع الآلهة أم البشر الفانين؟
عرفنا من الفقرة السابقة أن «الإبداع» الأدبي والفني في حضارة بلاد ما بين النهرين قد ارتبط بالرؤية الدينية للتاريخ، وأن الأديب أو الكاتب — الذي اعتبر نفسه مجرد ناسخ أو جامع أو صانع — قد انحصر جهده في محاكاة النماذج الأدبية وتكرار التقاليد والمثل الفنية التي نزلت مكتملة منذ بداية الخلق مع ما أنزلته الآلهة على البشر من نظم الملك والحكم، والسنن والقوانين المقدسة. وطبيعي أن ينقلنا هذا للسؤال عن طبيعة التاريخ الإلهي ودور الإنسان فيه، وأن يتطرق بنا للحديث عن نظم الحكم ذاتها، وهل عَرَفتْ شيئًا مما نسميه اليوم بالديمقراطية أو الشورى، أم ظلت ترزح تحت وطأة التسلط من جانب الآلهة الذين أمسكوا بخيوط الحركة التاريخية، والملوك الذين مثَّلوهم على الأرض ونطقوا الأوامر باسمهم؟ ثم كيف انعكست هذه الرؤية الإلهية للأحداث التاريخية على تكوين المجتمع بطبقاته المختلفة، من الملك وحاشيته وكهانه وكبار موظفيه، إلى رجل الشارع والعبد الرقيق؟ وكيف تطور مفهوم العدل والقانون عبر العصور والسلالات المتعاقبة؟ وأخيرًا كيف أصبحت «الطاعة» هي فضيلة الفضائل؟ وكيف ينبغي أن نفهمها على الوجه الصحيح منذ أن بدأت ظواهر الشك والحيرة والتساؤل، وارتفعت أصوات الاحتجاج والتمرد والمقاومة من منتصف الألف الثانية قبل الميلاد على أقل تقدير؟
كان للآلهة في هذه الحضارة سلطان غير محدود على الإنسان، ينضوي تحته الملك — الذي طالما تفاخر بأنه ابن الآلهة، والرجل العادي على السواء. وكان أهم مظاهر السلطة الإلهية أنها مصدر الملكية التي تنزلها على الأرض، وأنها هي التي تُحدِّد مصائر البشر وأقدارهم وتحتفظ بألواحها في «أعلى مكان من سماء آنو». لقد هبطت الملكية إلى الأرض قبل الطوفان وبعده، وكلما خلا كرسي العرش بسبب وفاة الملك أو أي سببٍ آخر، عادت برموزها الدالة عليها إلى السماء لتوضع أمام عرش كبير مجمع الآلهة وأبيهم الأول، حتى إذا بدأ عهد جديد هبطت من جديد راجعة من السماء.
مهما يكن الأمر في تفسير الأسطورة، فالمهم في هذا السياق أن الآلهة كانوا يرقبون عن كثب أحداث الساعة وقضاياها البارزة عند قيامهم بالتحديد السنوي لمصير بابل وأهلها، كما كانوا يؤكدون وجودهم الطاغي في كل مكان، وتأييدهم أيضًا للنظام السائد وسلطاته المستمَدَّة منهم، ومن ثم تصبح «الأوامر-الأفعال» التي يتفوَّه بها الملك من نوع الأوامر التي ينطق بها مردوخ نفسه، ويلتزم مجمع الإلهة بتثبيتها وصونها من أي تغيير أو تبديل (والاعتقاد بأن قول الشيء وتسميته يساوي في الحال فعله أمر مشترك بين سكان وادي الرافدين والمصريين القدماء …) ولذلك كان تحديد المصائر وأسمائها خير ضمان لحماية النظام من الفوضى، وتنفيذ الأوامر (الملكية الإلهية) بمجرد النطق بها أو حتى التفكير فيها، وتوجيه شئون الحكم والمجتمع والدين والحياة بعيدًا عن المصادفة، بل ربما كانت — بالنسبة لطبقة الكهنة على الأقل — ضمانًا واقيًا من التسلط الفردي والتعسف المطلق للملك وأعوانه!
وعلى الرغم من وجوه النقص والتناقض والأخطاء والمبالغات التي شابت الكتابة التاريخية عند البابليين والآشوريين، ومن اكتسابها في العصور المتأخرة (في القرنين السابع والسادس أثناء حكم السلالة الآشورية أو السرجونية وفي عهد الإمبراطورية البابلية الجديدة) صبغة روائية جعلتها في كثير من النقوش الملكية أقرب ما تكون إلى أدب الرحلات، فقد عَرف سكان بلاد النهرين منذ أقدم العصور السجلات التاريخية على اختلاف أشكالها، سواء في ذلك الحوليات التي تُدوِّن الوقائع البارزة حسب التسلسل الزمني، أو القوائم بأسماء الملوك وجداول السلالات، أو العروض والتقارير الموجزة عن حدثٍ معيَّن له أهميته، كبناء معبد أو القيام بحملةٍ عسكرية، ولا شك أن هذه الكتابات تُسجِّل أحداثًا صنعها بشر، ولكنها تنصُّ صراحة على أنها قد تمت بأمر من الآلهة، وعلى أيدي نواب الآلهة، كما أن العروض أو التقارير التي ذكرناها كانت تقدَّم للإله المقيم في أحد معابده، من قِبل نائبه الذي يشكره على تأييده ونصره.
هذا الاهتمام بتسجيل الأحداث الماضية والحاضرة في مئات النقوش والألواح التي وصلتنا، شاهدٌ ناطق على امتلاك الحس التاريخي. بيد أن الاعتقاد بأن جميع الأحداث من تدبير الآلهة وتقديرهم، وأن الآلهة هي التي خلقت أصولها ونماذجها المكتملة مع خلق الكون والإنسان؛ قد أدى إلى إنكاره فكرة الزمن المحدود، ورفض تصور التاريخ بمعناه المرتبط بفعل الإنسان ودوره فيه، أو بمفهوم التعاقب والتطور والتقدم التي نألفها اليوم. ولعل هذا الاعتقاد كان يقوم أصلًا على اعتقادٍ أسبقَ منه أو مرتبط به بأن «المعرفة» وحي وإلهام من الآلهة؛ ولذلك فهي مقدسة، ويجب أن تبقى «سرية» ومقصورة على الصفوة الجديرة بها، وفي مقدمتهم الكهان بطبيعة الحال، الذين لا يهبونها إلا لمن يستحقونها من المتمرنين والمتدربين. ولما كان الوحي أو الإلهام ثابتًا لا يتعرض للتغيير أو التطور، فالشيء الوحيد الذي يستطيع الإنسان أن يفعله معه هو أن «يكرره» ويُنسِّقه ويُنظِّمه، وما دام مصدر المعرفة والتاريخ واحدًا، فإن كل تطوير أو تحسين يلحق بهما ليس نتيجة جهد أو اجتهاد فردي، بل مِنَّة من أحد الآلهة — الماثلين في كل شيءٍ طبيعي أو صناعي — على الإنسان، أو هبة وفضل من أحد نوابه المؤتمرين بأمره على الأرض. ويبقى على الإنسان أن يثبت «طاعته» و«خدمته» لهما بمحاكاة هذه المعرفة الموحَّدة في نماذجها الإلهية المثلى، وتسخير «علومه» — كالتنبؤ والتنجيم والكهانة — في اكتنافه أسرارها، وتفسير بشائرها أو نذرها، وتنفيذ أوامرها أو تجنب أخطارها؛ ولذلك كان فعله «التاريخي» الوحيد هو استعادة ذلك الفعل الإلهي، وانصبَّ جهده في «الزمن» على الحنين الدائم لزمن «سرمدي» فوق الزمن، أي لزمنٍ أسطوريٍّ أو ذهبيٍّ مقدَّس أَنزلت فيه الآلهة النواميس والنظم الحضارية على البشر قبل الطوفان وبعده.
تأثر مؤرخ ما بين النهرين بهذه النظرة، ووضعها نصب عينَيه عندما أرَّخ أحداث بلاده ووقائعها المهمة وأسماء ملوكها وحكامها، فبلاد «سومر» وحضارتها قد خلقتها الآلهة في صورةٍ كاملة لا تقبل التغيير، وهي ماثلة في الحاضر كما كانت منذ القدم وكما ستكون في المستقبل؛ لأن فعل الإلهة ثابت لا يزاد عليه شيء ولا ينقص منه شيء.
ويصدق هذا على النصوص المتأخرة التي ترثي المدن السومرية المخرَّبة فيما يعرف بأدب البكاء على المدن. صحيح أننا لا ننتظر من كُتَّابها أن يهتموا بالعوامل التاريخية التي أدت إلى دمار هذه المدن، أو أن يقدموا تاريخًا لهزيمة سومر ومحنتها؛ لأنهم يبكونها وينعونها في إطارٍ أدبي بعيدٍ عن التاريخ السياسي، ولكنهم في نواحهم على مدنهم — مثل مدينة أور التي سقطت في أيدي العيلاميين — لم يشيروا إشارةً واحدة إلى أن هذا السقوط من فعل الإنسان، أو أنه كان نتيجة أسبابٍ تاريخية أو سببٍ واحد على أقل تقدير؛ فلم يكن الجوهر المدمَّر العاتي، بموجب فهم السومري القديم، إلا جوهر «أنليل» إله العواصف الباطشة، ومُنفِّذ الأحكام التي قرَّرها مجمع الآلهة المسيطر على الدولة الكونية، ولم تكن جيوش العدو إلا الثوب الخارجي الذي ارتداه الجوهر ليُحقِّق نفسه. فالجيوش الغازية، بمعنًى أصدق وأعمق، هي ضرب من العاصفة، عاصفة أنليل الذي نفَّذ حكمًا على أور وأهلها نطق به مجمع الآلهة:
هكذا تناولت هذه النصوص وغيرها أحداثًا تاريخية وقعت في «الماضي»، ولكنها تحدَّثت عن الآلهة أكثر من الحدث التاريخي ذاته، وتجاهلت الأسباب البشرية الكامنة وراءها لتُبرز أفعال الآلهة وتقديراتها.
ورث البابليون والآشوريون هذا الاهتمام بالماضي عن السكان الأصليين لبلاد ما بين النهرين، وربما يبدو ولأول وهلة أن الاهتمام بالماضي يعود إلى دافعٍ سياسي قومي، وهو رغبة البابليين والآشوريين في تسجيل أحداثه ليكون مرحلةً ضرورية من مراحل توحيد عناصر حياتهم، وتحقيق وحدة حضارية لشعوبهم، والاستفادة من «دروس» الماضي بغية التخطيط للحاضر والمستقبل.
التاريخ إذن يعيد نفسه، وما من جديد فيما يحدث فيه، ويمكن التنبؤ بمستقبل الأحداث إذا عرف ماضيها معرفةً كافية؛ فالكون يسير وفق نظام لا يتغير، والحياة الإنسانية يسودها هذا النظام نفسه، ويضفي على أحداثها الاطراد الدقيق الذي يترتب عليه تكرار الظواهر وتكرار نتائجها في المراحل الزمنية المتعاقبة، ولما كان مصير الأرض وأقدار الناس فيها بيد الآلهة، فمعرفة إرادة الآلهة في الماضي تفيد في التكهن بما تريده في المستقبل. وإذا كان تاريخ بلاد ما بين النهرين قد بدأ في صورةٍ مكتملة مع بداية الخلق، كما بدأت معه الحضارة — هبة الآلهة للبشر — في صورةٍ مكتملة أيضًا مع نزول نظم الحكم أو المُلك من السماء إلى الأرض، فقد ارتبط التاريخ والحضارة بنظام الحكم الذي تعلمه الملوك الأوائل، قبل الطوفان وبعده، من الحكماء السبعة (وهم الآلهة السبعة المقرِّرة للمصائر في مجموع الآلهة)، فالحكم هو الذي أدى إلى ظهور الحضارة، وهو الذي يضمن استمرارها، ودونه تُدمَّر وتنقلب إلى فوضى كما حدث قبل الطوفان عندما تمرَّد البشر على الآلهة وتقاعسوا عن تقديم فروض الطاعة والخدمة لهم؛ فقرروا القضاء عليهم والعودة بهم إلى حالة الفوضى الكونية التي سبقت الخَلْق، ومع ذلك فإن رحمة الآلهة بهم لم تشأ أن تقضي عليهم قضاءً تامًّا؛ فقررت الإبقاء على فئةٍ قليلة تكون بمنزلة بذور للحضارة الجديدة بعد هلاك البشرية الآثمة. وتُحدِّثنا المصادر السومرية بأن الملكية هبطت مرةً أخرى بعد انحسار الطوفان، وأن مملكة «كيش» (تل الأحيمر حاليًّا) وسلالتها الأولى في العصر المعروف بفجر السلالات — في وقتٍ مبكر من الألف الثالثة قبل الميلاد — هي أولى ممالك ما بعد الطوفان، كما كان الملك الراعي إيتانا — الذي سبق الحديثُ عنه — هو أول الحكام التاريخيين بعد الطوفان.
الواقع أن الاعتقاد بتكرار التاريخ الإلهي الذي أُلغي فيه دور الإنسان إلى أبعد حد، لم يمنع مؤرخ وادي الرافدين من إدراك المتغيرات التي أصابت الملوك والممالك والآلهة نفسها، وميزت عصورًا تاريخية على عصورٍ أخرى، وقرَّبت إليه حقيقة الصعود والهبوط السريعين في مصائر الشعوب والحضارات. فقد لاحظ تكرار ظاهرة زوال الأمم والممالك — شأنها شأن زوال الأفراد — وظهور أممٍ وممالكَ جديدةٍ في مراحلَ متعاقبةٍ من الزمان المحدود، وربط هذه الدورات المتتالية لنظم الحكم بما لاحظه في الطبيعة ودوراتها المنتظمة؛ فهنا تجدُّدٌ بعد موات، وخصوبةٌ بعد جفاف، وهناك صعودٌ بعد هبوط ثم انهيارٌ بعد ازدهار، وكما تُبعث الطبيعة حية من الموت بمشيئة الآلهة، كذلك يخضع التاريخ البشري بدوراته المتعددة لإرادتها.
هل خلت الحياة، فيما تلا ذلك العهد القديم، من صور الشورى التي عرفناها؟
يبدو أن أزمة الحكم الفردي وجبروت التسلُّط المطلق للملوك أصحاب الإمبراطوريات الكبرى بعد ذلك لم تكن في أحد جوانبها إلا انعكاسًا لأزمة الحكم الإلهي نفسه وتضاؤل حظ الآلهة في مجمعهم من الديمقراطية؛ فقد زالت المساواة التي تمتعوا بها بعد اضطرارهم إلى تفويض «مردوخ» القوي الشاب بالدفاع عنهم وحمايتهم من قوى الظلم والعماء (راجع ملحمة الخلق البابلية)، ثم تتويجهم له بعد انتصاره؛ مما ترتب عليه انفراده بالسيطرة المطلقة، وتحوله من بعدُ إلى الإله البابلي الأكبر أو الإله القومي للإمبراطورية (منذ عهد السلالة البابلية الأولى ١٨٩٤–١٥٩٥ق.م.)، وانفراد الملك البابلي تبعًا لذلك بالحكم، واستغناؤه عن أصحاب الشورى ومجلسهم. وقد تكرر الأمر نفسه في فترة ازدهار الدولة الآشورية وانفراد إلهها آشوري بالسيطرة على الآلهة المحليين، بحيث لم يكتفِ بأن يكون هو الإله القومي لآشوري، وإنما أصبح هو الإله الخالق، أبا الآلهة جميعًا وواهب الملك والرخاء والانتصارات المدوِّية في الحروب الوحشية (وبخاصة في عهد الإمبراطورية الآشورية الحديثة، وفي ظل السلالة «السرجونية»، في القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد حتى القضاء عليها نهائيًّا بسقوط نينوى سنة ٦١٢ق.م.).
وحتى لا نتصور أن حياته على الأرض كانت تحت رحمة الظلم المطبق عليه من كل ناحية، فينبغي علينا الآن أن ننظر في مفاهيم الحق (كيتو) والعدل (ميشادو) والقانون التي تطورت هي الأخرى تطورًا ملحوظًا، ربما لم يؤدِ هذا التطور المقترن بالجهود الجادة في سبيل الإصلاح القضائي والاجتماعي إلى إزالة الشعور العام بالكآبة أو الاكتئاب الذي يخامرنا ونحن نتابع الكثير من مشاهد الحياة اليومية في بلاد بابل وآشوري (كما عرضها الاشتاذج، كونتينو في لوحاتٍ نابضة بالحياة)، ولكنه سيساعدنا على تأمُّل قضية العدل بصورةٍ بعيدة عن التحيُّز والتسرُّع والتعميم.
(٤) العدل والطاعة والميزان
إذا كان «الحب» هو غاية سعي الإنسان في الغرب، «فالعدل» هو مطلب الإنسان الشرقي ومنتهى أمله، وإذا نحن قلنا «الحب» فقد أشرنا ضمنًا إلى البذرة التي غرسها شعب الإغريق العجيب في تربة الحضارة الغربية؛ فنمت شجرتها، وأزهرت، وأثمرت حرية وفكرًا عقليًّا وعلمًا منهجيًّا وشغفًا بالمعرفة لذات المعرفة، وقلقًا دائمًا ومغامرة لا تهدأ ولا تتوقف عن البحث عن الحقيقة. أما إذا قلنا «العدل» فقد وضعنا أيدينا على أصل الشقاء المتجدِّد في نشدان الأمل البعيد، ولمسنا جذور الشجرة اللعينة التي لم نزل في الشرق نبلو المر من ثمرها منذ آلاف السنين: قهر الحاكم للمحكوم وخوف المحكوم من الحاكم، غدر بعضنا ببعض وتسلُّط بعضنا على بعض، حلمنا الأزلي بالحق وفشلنا في التوصل إلى «حقنا» في حياةٍ كريمة أو سوية تليق بالإنسان (ولا أقول حياةً حرة أو مبدعة!) …
غير أن هذا الإحساس بالخوف واليأس والظلم لا ينبغي أن يخفي عنا الحقيقة، والحقيقة أن هذه الحضارة العظيمة قد عرفت جهودًا صادقة في إقامة العدل والقانون، وكفِّ المظالم عن البسطاء والمساكين، والانتصاف للفقير والأرملة واليتيم من عدوان القوي والمستغلِّ اللئيم. وأول الأسماء الجديرة بالإشادة بها هو اسم «أوركاجينا» إنسي أو حاكم مدينة لجش السومرية (تقع بالقرب من تلو واسمها الحديث هو الهباء) من أواخر القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، الذي تتمثل فيه النزعة الإنسانية الحقَّة لأول مرة في تاريخ البشرية، حرص هذا الرجل على رفع المظالم التي حاقت بالناس «منذ القدم في سالف الأزمان» على أيدي الموظفين «البيروقراطيين» الذين استغلُّوا مناصبهم في فرض الضرائب الباهظة على أبناء لجش؛ إذ كان جباة الضرائب منتشرين في كل مكان، «من حدود نينجرسو — وهو إله هذه المدينة وحاميها — حتى البحر.» كما استحلُّوا لأنفسهم كل ما وقعت عليه أيديهم دون وازع من ضمير ولا خوف من عقاب. وها هي بقايا النصوص التي وصلتنا من تشريع «أوركاجينا» تنطق بما اقترفت أيدي أولئك الموظفين: «كان الموكَّل بالملاحين يسرق السفن، ورئيس الرعاة يسرق الحمير والأغنام، والموكَّل بمصايد الأسماك يسرق الأسماك، وإذا ابتعت أغنامًا كان المتنفِّذ يأخذ أحسنها لنفسه، وإذا حفر ابن رجلٍ فقير حوض سمك، كان المتنفِّذ ينهب سمكه وينجو من العقاب.» والأدهى من ذلك أن الضرائب التي حاصرت الإنسان في حياته لاحقته بعد مماته؛ إذ كان يحرم على أهل الميت أن يواروا جثمانه التراب قبل أن يؤدُّوا للموظفين مقادير من الشعير والخبز والجعة تترك بيته ينعى من بناه.
(المينا يساوي ٦٠ شاقلًا أو ما يعادل كيلوجرامًا واحدًا.)
صحيح أن قوانين هذه الشريعة قد صانت معظم حقوق «رجل الشارع» العادي من الطبقة المتوسطة بين الأحرار والعبيد، ولكن الشكوى لم تنقطع من فساد المحاكم والقضاء والقضاة، ولم تتوقف نصائح الحكماء بعدم التردد على المحاكم، وإطفاء لهب الخصومات وتجنب «سفرها المغطاة» … (راجع نص النصائح الحكيمة في هذا الكتاب، من سطر ٣١–٤٨). ولم تترسخ فكرة العدالة باعتبارها حقًّا من حقوق الناس بغير تفرقة بينهم في الجزاء والعقاب تبعًا لوضعهم الطبقي والاجتماعي، بل إن «الظلم الأكبر» الذي سيطر على نفس الرافدي منذ أقدم العصور وحاول جلجاميش ملك أوروك (حكم نحو سنة ٢٦٧٥ق.م.) أن يقهره بسعيه الخائب إلى الخلود؛ هذا الظلم الأكبر قد تراجع أو تضاءل بالقياس إلى نوعٍ آخرَ من الظلم الذي استفحل خطره منذ أواخر الألف الثانية قبل الميلاد (أي أثناء وما بعد العصر الكاشي من نحو ١٥٧٠–١١٥٧ق.م.) الذي كان على الإجمال عصر بؤس وقنوط وتزمُّت «سلفي» في كل الميادين … وشهدت عليه أروع نصوص أدب الحكمة البابلية (التي يُرجَّح أن تكون قد نشأت في حدود هذا العصر أو دُوِّنت فيه على أقل تقدير) وهي نصوص تصرخ بمشكلة الذنب والعقاب الذي يتحمله الأتقياء البررة بغير ذنب يستحقون عليه ذلك العقاب، ووصل الأمر إلى حد فقدان معنى الحياة والسخرية من كل القيم التي انتفت قيمتها، بل أوشك أن يقع في هوة التجديف على الآلهة نفسها وتحميلها مسئولية الظلم الذي فُطِر عليه الإنسان عندما سوَّته وجَبَلت طبيعته من الطين ودم إلهٍ مذبوح، ومن الشر والكذب والعدوان، حتى لقد ترددت هذه العبارة السومرية الأصل في نصوص بابلية عديدة: لم يولد لأمٍّ طفلٌ بغير إثم أو خطيئة …
غير أن هذا القلق بقضية العدل والظلم لم يستطع أن يهز أركان الإيمان بالحكمة الإلهية الخافية عن عقول البشر ومداركهم المحدودة، ولم يزعزع من اعتقاد الإنسان بضرورة التسليم بإرادة الآلهة، ولا من الواجب الذي يفرض عليه خدمتهم وتقديم القرابين لهم، والالتزام بالعقد أو العهد القائم بينه وبينهم منذ الخَلق الأول.
وبقيت «الطاعة» هي القيمة الكبرى، والفضيلة العليا، والمبدأ الأسمى الذي يوجه حياته وتفكيره وسلوكه، ويسري في أقواله وتضرعاته وأمثاله وحكمته الرسمية والشعبية، ولم يتخلَّ الإنسان عن واجب الطاعة حتى في أوقات المحن الفردية والجماعية التي دفعته إلى التشكك واليأس، وصوَّرت له أن الآلهة الكبرى أو الآلهة الخاصة قد تخلَّت عنه وعن عائلته، وهجرت مدينته و«ضربتها بقبضتها»، وتركتها نهبًا للصوص والمجرمين أو للغزاة المتوحشين. وإذا كان قد رفع صوته بالاعتراض والاحتجاج — على لسان بعض المثقفين الحساسين أو «المغتربين» — فقد كان لا يلبث أن يعترف في النهاية بأن الإله الأكبر — سواء أكان هو أنليل أم مردوخ أم آشور — قد رضي عنه وقبل توبته ورفع قبضته عنه.
نبدأ بالسؤال الثاني فنقول إنه وجد بصورة ضمنية في إقرار عددٍ كبير من الملوك والحكام بتكليف الآلهة لهم بسنِّ التشريعات والقوانين الكفيلة بإقامة العدل بين الناس، وتحميلهم مسئولية رعايتها والسهر على حمايتها وتنفيذها، فها هي ذي الإلهة السومرية «نانشة» إلهة مدينة «لجش» تقول إنها:
بل إن النصوص لتذكر أنها كانت تقوم في ليلة رأس السنة من كل عام بمحاسبة البشر، وتصبُّ جام غضبها على وجه الخصوص على:
وبقيت فكرة الوزن والميزان مرتبطة بالشئون العملية والتجارية، ولم تصبح رمزًا من الرموز العقلية والحضارية حتى بعد أن أوكلت مسئولية العدالة لإلهها الأكبر وراعيها الأول، وهو إله الشمس «أوتو-شمش» الذي كان أحد الآلهة الكونية (الفلكية) الكبرى عند البابليين، وواهب النور وكاشف الضر والسر، وراعي الفقراء والتائهين والمعوزين وكل ذي نفس بلا استثناء … لقد كان ضوء «شمش» يراقب القضاة ولا يرحم المرتشين والذين يحيدون عن جادة العدل في أحكامهم (راجع نص الترتيلة للإله شمش):
هكذا اتفق شمش ونانشة — على الرغم من البون الشاسع بين إله يفيء السماوات ويبدد ظلام المناطق العليا والسفلى، وإلهة دويلةٍ صغيرة محدودة المساحة والقدرة — على حماية الأرملة واليتيم والمستضعف الفقير، وإنزال العقاب بالظالمين والقضاة المرتشين والتجَّار المنحرفين، أي على تحقيق العدل — ولو من الناحية النظرية — لكل الناس. لكنهما وغيرهما من الآلهة الكبرى والآلهة الخاصة أو الشخصية التي تتولى حماية الأفراد، لم يمسكوا بميزان العدل والحقيقة في أيديهم، واكتفوا بمراقبة الموازين في أيدي الناس. ومثلما بقيت عدالة الأرض مهدَّدة على الدوام بمظالم القضاة وفساد الحكم والكهنوت والإدارة، ظلت عدالة السماء كذلك أبعد ما تكون عن العدالة المطلقة في نظر البابلي القديم، وألحَّ عليه هذا الشعور بعد أن أصبح اضطهاد البررة الصالحين أمرًا متكررًا كل يوم. وإذا أضفنا إلى هذا أن الأمل المؤجَّل والعزاء المرتجى من هذه العدالة في حياةٍ أخرى لم يكن أفضل حالًا من الأمل والرجاء في هذه الحياة، فلم يقلل إيمانه الغامض بالحياة الأخرى من قسوة الإحساس «بالظلم الأكيد»؛ لأن صورة هذه الحياة قد ظلَّت كما رأينا صورةً مشوشة مختلطة، وبقيت مصدر الاكتئاب والقلق والرعب الفظيع. ومما زاد من خوفه تلك الصور التي اطلع عليها «أنكيدو» في حلمه الذي رواه لصديقه جلجاميش ولازمته فيما يبدو جيلًا بعد جيل: «دار الظلمة، البيت الذي لا يخرج منه من دخله، الطريق الذي لا يرجع منه من سلكه، المنزل الذي حرم ساكنوه النور، التراب طعامهم والطين قُوتهم، ويُكسون كالطير بأجنحة من الريش …» وإذا كانت تظهر في بعض النصوص إشاراتٌ مبهمة إلى وجود نوع من المحاكمة للموتى، كانت تتم في قصر «أريشكيجال» ذي البوابات السبع، فإننا لا نجد أية تفصيلات لهذه المحاكمة، ولا نعثر على ميزان للعدالة في يد آلهة العالم السفلي أو في أيدي قضاتها. ثمة إشاراتٌ أخرى إلى أن الإله شمش كان يحاسب الموتى باعتباره راعي أرض اللاعودة وحامي حمى العدالة، ولكن تنقصنا التفصيلات الدقيقة مرةً أخرى، كما نفتقد الإشارة إلى الميزان. وإن كان لنا أن نفترض على أية حال أن من يصدر الحكم في صالحه يثاب على ذلك بأن تنعم روحه بحياةٍ راضية، وتنال ما تشتهي من مأكل ومشرب.
ولكن لماذا نفتقد رمز الميزان؟ وما الداعي للبحث عن شيء لم يوجد على الحقيقة في هذه الحضارة؟ الواقع أنه لو قُدِّر للميزان أن يتحوَّل من أداة قياس أو حساب تجارية إلى رمزٍ ذي أبعاد ودلالاتٍ شاملة — كما حدث في حضارة مصر القديمة التي ارتبط فيها لمئات السنين وفي مختلف النصوص والصور والنقوش «بماعت» أو «ماعتي» رمز العدل والصدق والاستقامة، والحق والقانون الذي يقوم عليه الوجود، والنظام الذي يُوجِّه حركته — لقدم للناس عزاءً عن قسوة الموت وظلمه، وأملًا في عدالة لم تعرفها دنياه. وليس هذا من قبيل المقارنة بين الحضارات؛ لأن مثل هذه المقارنة فاسدة أصلًا كما أكدتُ أكثر من مرة، وإنما هو نوع من التوضيح لحقيقةٍ أكبر من أن تكون مجرد شعورٍ غامض، وهي أن عذاب الشك والقلق والتشاؤم الذي سيطر على حياة الناس في أرض الرافدين منذ منتصف الألف الثانية على أقل تقدير — لم يكن ليسمح بوجود رمز الميزان أو غيره من الرموز المشعَّة بمعاني الأمل والاستبشار، فضلًا عن الصورة المخيفة لأرض اللاعودة، والإحساس الملازم بالإثم أو الخطيئة «الأصلية» التي تحمل الآلهة مسئوليتها منذ أن سَوَّوْا طبيعة الإنسان، وحمل هو نفسه كل تبعاتها وآلامها.
(٥) الأسطورة في أرض النهرين وتفسير متجنٍّ
على الرغم من أن الكاتب السومري والبابلي كان شديد الحرص — كما رأينا من قبلُ — على إخفاء اسمه وشخصه، فلا نستطيع أن نتصور أن ذلك كان زهدًا منه في كل رغبة في الوصول إلى القراء من جيله والأجيال التالية؛ فالكتابة مفهوم متضايف مع القراءة، ولو أخذنا «الكتابة» بمعناها الأصيل لوجدناها «معاصرة» على الرغم من ألوف السنين التي تفصلنا عنها، يستوي في ذلك أن نقرأ لكُتَّاب يعيشون معنا ونعيش معهم، أو لكُتاب فارقونا قبل قرون وقرون … ﻓ «الكلمة» حاضرة، أو ينبغي أن تكون حاضرة عند من يعرف كيف يقرأ (يستوي في ذلك أيضًا أن يكون ما يقرؤه كتابة على الطين، أو نقشًا في الحجر، أو حروفًا مدونة على بردية أو مطبوعة في كتاب …) وماذا نقرأ في الكلمة قديمة كانت أو حديثة، أسطورية أو عقلية أو تقريرية؟ نقرأ فيها «نفسنا البشرية» بصورة من الصور، فهمنا للعالم والآخرين «من أشباهنا وإخوتنا» كما يقول بودلير، تصوُّرنا لذواتنا وعلاقتنا بها وبما طبعته أختام الزمن «الأسطوانية» وغير الأسطوانية عليها، نقرأ فيها ما أردناه نحن البشر وما نريده على الدوام؛ تجاربنا في الماضي، همومنا في الحاضر، أحلامنا الشاخصة لمدن المستقبل، حسراتنا على ضياع الجهد والتعب، وإصرارنا على مواصلة السير رغم العثرات. كل الكلمات التي نستخرجها من ذاكرة الزمن قد نقش عليها أثر الإنسان وظله، ليس مهمًّا أن تكون هذه الكلمات قد كُتبت بالصورة أو بالصوت أو بهما معًا، ولا فرق بين أن تكون بالخط المسماري (الإسفين) الهيروغليفي، بالآرامي أو الإغريقي أو المسند والنبطي، وأن تُكتب من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين — بل ليس من الضروري أن تكون كتابة بالصورة أو الحرف، فقد تكون نقشًا أو رسمًا على جدار، تمثالًا أو نحتًا بارزًا أو قليل البروز، هرمًا أو مصطبة أو معبدًا أو سورًا أو قصرًا أو حتى مقبرة حُفظت فيها الجثث والكنوز، فهذه كلها «كلمات» أو بالأحرى «رموز» (والمعرفة والكتابة لم تفقدا أبدًا طابع «السرية» و«الرمزية» في حضارات الشرق القديم) وهي تخاطبنا وتسألنا، وربما تتحدانا وتدعونا أن نعرفها كما نعرف أنفسنا، يصدق هذا على كل كتابة في كل حضارة، فما بالك إذا كانت الحضارة حضارتنا، والكُتَّاب أسلافنا وأجدادنا، بحكم الانتماء العرقي والتاريخي والجغرافي والحضاري؟ إن ما كتبه هؤلاء «الأجداد» في حضارة منطقتنا «يقول» لنا شيئًا أو أشياء، وكثيرًا ما يتعلق هذا القول بالموضوعات والأفكار نفسها التي ما زالت تشغل عقولنا أو تؤرق ضمائرنا بصورٍ وصيغٍ مختلفة، والقول يجيئنا عبر السنين الطوال من وراء «حُجُب» تغطيه، صور واستعارات ورموز وتركيبات لغوية ودلالية معقَّدة، وأسماء وأحداث مجهولة تحفل بها الأساطير والملاحم وحكايات الحيوان والنبات، والتراتيل والأغاني والترانيم، والحِكم والأمثال والرسائل والسجلات التاريخية والنقوش الملكية والوثائق والعقود والبيوت … إلخ، وجميعها تُعبِّر بمختلف الأساليب عن «قول» الإنسان في سياقٍ تاريخي واجتماعي وفكريٍّ معين، أي عن تصوُّره للعالم والمجتمع، وفهمه للذات والآخرين، ومعرفته وتعبيره عن هذه المعرفة. وكل تحليل للغة هذا القول ومضمونه — على صعوباته وغوامضه التي لا حصر لها، وبخاصة حين يكون النص قديمًا وبلغة منقرضة — هو في الحقيقة النهائية تحليل وفهم لأنفسنا ووعينا في طبقاته وأقنعته وأشكاله المختلفة. والهدف الأخير هو «معرفة أنفسنا» معرفةً أعمق، وهي معرفة لن يُتاح سرها — الذي لا يستنفد أبدًا — إلا لمن يُقبل عليها بغير «قبليات» مسبقة، ويتعاطف معها ويستحضر أو يستقرئ ما تقوله عن طبيعة أنفسنا وغاية إنسانيتنا منذ أقدم عصورها، لعلها تكشف عما أردنا أن نعرفه عنها عبر الزمن وفي ثنايا الوعي الدفين (بشرط واحد هو امتلاك الأدوات الضرورية لهذا التحليل والتفسير).
كل ما سبق يدعونا لدراسة الأسطورة — هذا الموضوع المشتبك مع الدين والفن والحياة الاجتماعية والثقافية في شتى مظاهرها — بوصفها وسيلة للمعرفة والفهم والتفسير العقلي للعالم، لا بوصفها حكاياتٍ شعريةً وتفسيراتٍ خرافيةً سابقة على العقل والعلم والمنطق، أي تحليل ونقد «العمل المعرفي» الذي تحقَّق في الأسطورة وتحولاتها المختلفة في الدين — الذي تُمثِّل مركز الثقل فيه — والأدب والفن والعلم نفسه (الذي كاد يتحول منذ بدايات العصر الحديث إلى أسطورة تصورت خطأ أنها صفَّت الأسطورة، ولم تفطن — إلا بعد أن استيقظت على إنجازات التقنية وأخطارها — إلى أنها قد بعثت أسطورة من نوعٍ جديد …).
هكذا تصبح الأسطورة شكلًا ضروريًّا للتفكير في كل العصور، يدخل في جدل أو حوار مستمر لا ينفصل عن أشكال التفكير العقلي والعلمي (يكفي مثلًا أن نتأمل أسطورة جلجاميش أو بروميثيوس وامتداد نماذجهما الأولية والجمعية في أشكالٍ معرفية مختلفة إلى يومنا الحاضر …)، وهكذا تنفتح أمامنا آفاقٌ جديدةٌ واسعة في حوارنا مع الإنسان، أعني مع أنفسنا وما تريده وما أرادته على الدوام من معرفتها بذاتها وبالعالم ومحاولات تغييرها، ويبقى الماضي حاضرًا فعَّال الأثر في حاضرنا ومستقبلنا لو أحسنَّا «تذكُّره» وتجربته واستحضاره، هي مهمةٌ علمية وحضارية في وقتٍ واحد، بغيرها لن يتسنى لنا أن «نعرف» الذات الممتدة في أغوار الماضي-الحاضر، والغافلة فيما يبدو عن المستقبل الذي يندر أن تُفكِّر فيه وتعمل له؛ لأنها تتركه للمصادفة التي تأتي أو لا تأتي بالوعود أو الكوارث. إن هذه الذات «الماضية» تظلُّ حاضرة في كل أبعاد الزمن وأقنعته ومراياه، ولو أهملناها لكان شأننا شأن من يحاول أن يعرف الشجرة والثمرة قبل أن يعرف البذرة والنواة — وكيف لنا أن نعرف ما نحن عليه وما سوف نكونه بغير أن نعرف ما كُنَّاه؟
الحوار إذن مع الأسطورة في تاريخنا الحضاري هو حوار مع «تحولات» ذاتنا و«ثوابتها» وتصوراتنا لها عبر الأديان والنظم والعصور، ولا بأس علينا أن نراها في مرايا «الآخر» الذي سبقنا إلى تحليلها والكشف عن أسرارها، سواء بعلمه اللغوي والتاريخي والأثري الدقيق، أو بتفسيراته الفكرية والفلسفية المتباينة، ولقد أشرتُ من قبلُ إلى أمثلة من هذا التفسير، وأستأذن القارئ في عرض تفسيرٍ معاصر أعتقد أنه — على الرغم من شموله ونفاذه — قد حاد عن جادة الحق والإنصاف.
إذا كانت الأساطير الإغريقية قد أضفت على معظم آلهتها ملامح إنسانية، انعكس عليها تعاطفهم مع البشر أو عداؤهم لهم، وإذا كنا نعترف بأن بعض أبطال هذه الأساطير قد جسَّد «الوجه والقلب الإنساني» بكل عذابه أو بكل حنينه (كما نرى في الثائر «نصف الإلهي» بروميثيوس الذي تمرَّد عليها ثم عوقب أشنع العقاب باسم الإنسان ومن أجله، أو في الشاعر الأسطوري «أورفيوس» الذي تغنَّى بأشواقه لزوجته وحبيبته، وحمل لهفته عليها إلى العالم السفلي ليفقدها بسبب هذه اللهفة نفسها) إذا صح هذا في جملته، فربما نميل إلى الظن بأن آلهة الحضارات القديمة في الشرق الأدنى (المصرية والرافدية والسورية والحيثية … إلخ، كما نقرأ عنها في الأساطير ونتأمل صورها وتماثيلها وأطلال معابدها وأبنيتها الضخمة …) قد فقدت كل ملامح الإنسان حتى أصبحت غير إنسانية، وتعالت عليه بجبروتها وقسوتها وجموحها وشهوتها للانتقام حتى صارت فوق الإنسانية.
إن صورة الموت المتكرِّرة على الدوام في مصر، برموزها المعمارية والهندسية «البلورية»، قد استقرت في النهاية في قبضة «رع» إله الشمس، و«أوزير» رب الأرض الأصلي، وهيمنتهما تكرار في الزمان وجمود متعالٍ في المكان، وكما تولد الشمس نفسها كل يوم، يمدُّ أوزير في الحياة البشرية القصيرة المتغيرة ليحوِّلها إلى خلود وثبات، فآلهة الطبيعة المصرية تجلب السعادة بصفتها آلهة التكرار المستمر، وفوق كل تغيرٍ حي يحكم الموت الذي قدَّرته السماء شفاءً ونجاة، كما تحكم هندسةٌ مفعمة بالأمل في المصير الذي سوف يتصل اتصال الخلود، وفي سكينة المستقبل الذي يحمل كل سكون الماضي وثباته ويتخطى عالم الإنسان، وفي سماءٍ صافية تمثل الصورة الأولية الكاملة للنظام الأرضي الملبَّد بسحب الحزن والتقلُّب. ولم تكن مصر كما تصورها «هيجل» على مثال الهيولى الإغريقية هي دين اللغز الذي يمثله أبو الهول (وهو لغز السؤال عن الحرية والوعي الذاتي كما يُعبِّر عنهما الوجه الإنساني الذي يحاول أن يرتفع فوق الحسِّ ويتجرَّد من الطبيعة المحسوسة)، وإنما كانت هي دين «الاغتراب» في أقصى حالاته، والصمت «البلوري» الذي يجسِّد — بجلاله ونظامه المتصلِّب — ماهية عمارتها الخاضعة لأمر إله الموت أوزيريس، أو بالأحرى إله الحياة في الموت.
لقد تطور مفهوم الألوهية ببطء شديد في ديانة أرض النهرين، وبعد أن كانت العبادة مقرونة بالخوف ومرادفة له، اتسع معناها فصارت تمجيدًا للإله وثناءً عليه وتسبيحًا بحمده، بل أصبح من الممكن أن يحبَّه العابد، أو بالأحرى يحب خوفه منه ويجد فيه فرحه وسروره (راجع نص المعذب البار-لدلول، ونص الحوار بين المعذب والصديق) وظلَّت الآلهة تمارس سلطاتها الرهيبة التي ارتجَّت في تصوُّر سكان بلاد الرافدين القدماء بأبشع ألوان الضعف البشري — من عنف وقسوة وفظاظة وشراهة إلى الطعام والشراب وحقد وانتقام، حتى تحوَّلت أو تحوَّل بعضها على أقل تقدير — منذ منتصف الألف الثانية قبل الميلاد، وفي العصريين البابلي والآشوري المتأخرَين بوجهٍ خاص، في زمن «السلالة السرجونية» من القرن الثامن إلى أواخر السابع قبل الميلاد، واكتسبت خصال الرحمة والحب والعطف، والخير والعدل الرادع للمفسدين والمجرمين والمستغلين الظالمين، وقد كان ذلك فيما يبدو نوعًا من الاستجابة للتطلُّع الغامض نحو التوحيد (إذ كادت الآلهة البابلية تتوحَّد في شخص مردوخ، والآلهة الآشورية في شخص الإله القومي آشور …) كما كان تعبيرًا عن أمل أو شوقٍ غامض أيضًا إلى «ديانة خلاص» لم تتوافر شروطها أبدًا في حضارة ما بين النهرين، ولم تتحقق إلا بعد الفتح الإسلامي. وليس من الممكن بطبيعة الحال أن نُجرِّد شعوبًا كاملة في عصور وعهودٍ متتابعة على مدى ثلاثة آلاف عام أو يزيد من التاريخ المكتوب قبل الميلاد، ليس من الممكن أن نجرد أفرادها من كل علاقة حميمة بإله أو أكثر من عشرات الآلهة التي يزخر بها تراثهم الديني؛ بحجة أن «الذاتية الدينية الحقيقية» لم توجد إلا في ظل الديانة الإغريقية والديانات السماوية. ودليلنا على هذا هو التراتيل والضراعات العديدة لمردوخ وشمش وغيرهما، والنصوص الدينية والأدبية العديدة — مثل نصوص الحكمة — التي تشهد شهادة صادقة على العلاقة الحميمة التي كانت قائمة بين الإنسان الفرد وإلهه الخاص الذي اعتقد أنه يحميه من السوء ويتشفع له عند كبار الآلهة.
وأخيرًا فإن الأسطورة قولٌ شعري سجلت فيه الذات الإنسانية — كما رأينا في بداية هذه الفقرة — تفسيرها وفهمها للكون وظواهره، وعلاقتها بالعالم وبنفسها، وسعيها الدائب إلى معرفتهما وتغييرهما، أو التصالح معهما والخروج من «الاغتراب» عنهما، ولا بد من الانطلاق من نصٍّ محدَّد في سياقٍ زمني وديني واجتماعي محدد قبل الخوض في ذلك الفهم أو تفسير تلك العلاقة، ولا مفر من النظر في بنيته اللغوية الأصلية وسائر العوامل والقوى المؤثرة في «النص» قبل التسرع بإطلاق الأحكام العامة عليه ووضعه في قوالب وأطر غريبة عنه.
(٦) هل من تفسيرٍ ممكن؟
هل من تفسيرٍ ممكن؟ وهل يمكن المجازفة بتفسير حضارةٍ قديمة — يصفها الكثيرون في العادة، بأنها «منقرضة» أو «ميتة»، على الرغم من العقبات والمحاذير التي تحول دون هذا التفسير؟ وهل تستطيع محاولات التأريخ الشامل لمثل هذه الحضارة، والاجتهادات في تفسير نصوصها اللغوية وظواهرها وآثارها وشواهدها المختلفة، أن تمدَّنا بالبصيرة اللازمة لفهم حقيقة حاضرنا التي تتمثل في النظم والقيم والظواهر التي نعايشها، مع التسليم بتطور هذه الظواهر وتعقُّدها بما لا نهاية له، ومن تغيُّر بنية «الوعي» وتراكم «طبقات» متلاحقة عليه عبر مئات السنين والأحداث والتحولات التي تفصلنا عن القدماء، بحيث تحتاج «طبقات الوعي» بدورها إلى نوع من «الآثاريين» الذين لا يقلون مهارة ودقة وتفانيًا عن علماء الآثار؟ وهل يمكننا أخيرًا أن نُحقِّق — في بعض الأحوال على الأقل — تلك «التجربة الخلاقة» التي تتمخَّض عن اللقاء الحي بالنصوص اللغوية والشواهد الحضارية والفنية القديمة، بحيث نخرج من هذا اللقاء ونحن أوسع أفقًا، وأكثر حرية وإنسانية ومعرفة بأنفسنا (أي بما كُنَّاه — نحن أبناء هذه الحضارة وأحفادها — وما نكونه وما سوف نكون عليه في ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا).
- (أ)
لحضارة الرافدين القديمة وفكرها وحكمتها وجوه متعددة، تشير إلى ملامحها أعداد هائلة من النصوص والحقائق التي حفظتها الرُّقُم والألواح، والصور والنقوش والأطلال، والكتابات المسمارية على الطين والحجر والخشب والمعدن … إلخ، وتعاون الأثريون والمؤرخون وعلماء اللغة على فكِّ رموزها وجمعها وتصنيفها وشرحها وتفسيرها بمختلف الطرق والأساليب. وقد رأينا أن النموذج العقلي (المنطقي القياسي) كأن نعرف تطوره منذ الإغريق، يمكن أن يضم أجزاء الحضارة والحكمة البابلية في نسقٍ تصوري، ولكنه نسق لا يساعد على فهمها من الداخل، بل يختزلها في صورٍ باهتة، ومقولاتٍ جافةٍ نابعة من التفلسف الغربي وتابعة له، أي يعكسها على مرآة أو مرايا غريبة عنها.
ورأينا كذلك نموذجًا من التفسير «الخارجي» الذي قدَّمه مُفكِّر جدلي يوتوبي معروف، وناقشناه بالقدر الذي يسمح به هذا التمهيد العام، ولا شك أن من أصعب الأمور أن نحاول تجربة التفسير القائم على التفهُّم الحميم لروح حضارةٍ دينيةٍ قديمة، تفصلنا عنها فجوةٌ زمنية اتسعت وامتدت لأكثر من خمسة وعشرين قرنًا، وترسَّبت فيها — كما سبق القول — تراكماتٌ وطبقاتٌ عديدة فوق الوعي التاريخي والديني الذي تغيَّر تغيرًا جذريًّا بعد الانضواء تحت لواء الإسلام والاهتداء بهديه.
أضف إلى هذا أن المحاولة تفترض شروطًا لا غنى عنها — من علمٍ واسع باللغات الأصلية، وإلمامٍ شامل بالتاريخ الحضاري للشرق الأدنى القديم في مجموعه ومشكلاته الكثيرة التي لم تُحلَّ بعد، وتمرُّس على أساليب البحث العلمي المتخصص — وهي شروط ومهام يعجز عن الوفاء بها كاتبٌ بعيدٌ عن التخصص الدقيق، يحاول استعادة جانبٍ واحد من تجربة هذه الحضارة أو «إعادة بنائه» كما يُقال كثيرًا في هذه الأيام. وإذا كان بعض كبار الباحثين يعترف بأنه لا يدعي ملكيتها بالنسبة لأية حضارةٍ قديمة وغريبة عنه، فكيف بمن لا يمتلك شيئًا منها، ويقف جهده على التفكير في تفكيرها، ومحاولة فهمه وتجربته تجربةً حية قبل السعي إلى تفسيره؟٥٥إنَّ تكوين صُورةٍ شاملة ومركبة لهذا الفكر مطلبٌ مشروع وضروري، لكنَّ السُّؤال يطرح نفسه بعد الجهود المضنية التي انقضى عليها زهاء قرن ونصف قرن من الزمان، منذ بداية البحث العلمي والأثري الدقيق وفك رموز الكتابة المسارية: هل أصبحنا اليوم في وضع يسمح بتكوين هذه الصُّورة المركَّبة التي تربط بين الآلاف المؤلَّفة من النصوص والمعلومات والقيم المتنوعة، ثم تفسيرها تفسيرًا يكشف عن «روح العصر» أو «روح الشعب» (على حد تعبير هيجل وفلاسفة النزعة التاريخية من بعده) ويتيح لنا فهم «شخصية» هذه الحضارة وحكمتها المتغلغلة فيها؟ وهل يمكن أن يبرأ هذا الفهم من الأحكام والافتراضات المسبقة التي تُمليها — عن قصد أو غير قصد — نماذج التفكير الغربي المتأخر عنها من ناحية، والمشكلات والأزمات والهموم الحاضرة التي تميل «لإسقاطها» عليها من ناحيةٍ أخرى؟ ثم كيف السبيل إلى الوصف والفهم الخالص لهذه النصوص التي لم تُكتب ولم تُنطق في الأصل لنا، وهل يمكن أن يكون «محايدًا» أو أن يخلو من «ذاتيتنا» القارئة والمفسِّرة؟ إن هذه «الذاتية» — كما سنرى بعد قليل — تُلازِم بالضرورة قراءة النصِّ وفهمَه وتفسيره عند أصحاب المدارس والاتجاهات الجديدة في التاريخ والنقد الأدبي وفلسفة التأويل (الهيرمينوطيقا)، فما العمل إذا كان التراث الحضاري الضخم (الذي نتصدى لفهم جزءٍ ضئيل منه) لم يصل إلى وعي الأغلبية الساحقة من ورثته — بحكم الانتماء التاريخي والجغرافي والعرقي — ولا دخل في كثير من الأحيان في مناهج التعليم والتربية فيها، باستثناء نخبةٍ محدودة من العلماء المشتغلين بدراسته، أو من المثقفين المهتمين بالتراث الحضاري القديم؟ وأخيرًا هل يمكن الاطمئنان إلى أي تفسير أو تأويل، مع كثرة المشكلات التي لا تزال تواجه علماء هذه الحضارة في جوانبها المختلفة، ومع توقُّع ظهور نصوص أو لُقًى جديدة يمكن أن تجود بها أرض النهرين كل يوم، كما يمكن أن تغير الكثير من فروضنا وتفسيراتنا السابقة؟
- (ب) على الرغم من وجود قدرٍ كبير من النصوص السومرية والأكدية التي رأت النور، ونُشرت في طبعاتٍ محققة، وتُرجِم معظمها ترجماتٍ مختلفة إلى اللغات الأوروبية الحديثة وبعضها إلى اللغة العربية، فينبغي ألا ننسى الأعداد الهائلة من الألواح المتناثرة في شتى متاحف العلم في آسيا وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية التي لم تكشف الأستار عن نصوصها بعد، ولم يتوفر العلماء — لأسبابٍ لا حصر لها — على قراءتها وإكمال نواقصها، وبعض هذه النصوص — وبخاصة الرسائل وسجلات الحياة اليومية، بجانب عدد من النصوص الأدبية التي لم تدرس بعدُ دراسةً وافية — يمكن في مستقبل الأيام أن يشعَّ منه ضوءٌ خاطف يبدد الظلام المحيط بعصرٍ تاريخي معين، أو نظام اجتماعي أو اقتصادي أو حرفي؟ أو مدينة من المدن (كما حدث لحسن الحظ مع بعض المدن مثل نفر وأور وسيبار ونينوى)، كما يمكن — إذا ساعدت الحظوظ والمصادفات أيضًا — أن يلقي بصيصًا من الضوء على مساحاتٍ مكانية وفتراتٍ زمنية، لا تزال غارقة في ظلمات الصمت والغموض، أضف إلى هذا أن أغلب نصوص أدب الحكمة التي تهمنا في هذا الكتاب قد خلا من أي إشارةٍ واضحة إلى «الخلفية التاريخية والاقتصادية والسياسية والأيديولوجية» التي كانت وراء نشأته وتطوره ومراحل تدوينه، ربما لحرص الكاتب أو الناسخ — كما سبق القول — على إخفاء اسمه وشخصه وآرائه ومعتقداته، أو خوفه من التعبير عنها في ألواحٍ كتبت لكي يقرأها أو يسمعها الملك و«علية القوم» في القصر والمعبد ومراكز الحكم والإدارة والقضاء، أو لتلاوتها مع طقوس العبادة وممارسات السحر وطرد الأرواح الشريرة، ناهيك عما جرى عليه العُرف آنذاك من استخدام تلك الألواح لأغراض التعليم والتدريب على الكتابة وحفظ التراث والتقاليد «المقنَّنة» للأجيال التالية. صحيح أن بعض النصوص — مثل نصوص الحكمة بوجهٍ خاص وبعض القصص الشعرية والحكايات والأمثال الشعبية — قد أفلت من القيود والاعتبارات السابقة؛ فلمسنا فيها أشواك السخط والاحتجاج، وتشاؤم «المغتربين» أو الحساسين للمحن الحضارية، وهبَّت علينا منها رياح النقد الاجتماعي والديني التي أوشكت في بعض الأحيان أن تتحوَّل إلى عواصف شك وتمرد وتجديف، لولا التفاف سلطة التقاليد حولها! ولكن يجب مع ذلك ألَّا نبالغ كثيرًا في شأن هذه النصوص، ولا نسارع باستخراج الأفكار العميقة منها، أو استخلاص «المذاهب» و«النماذج» الكونية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية … إلخ، فمن الخطأ أن ننظر إليها بمعزل عن التراث التقليدي الذي تحتل مكانها فيه، أو عن ظروف الكُتَّاب الذين أبدعوها ودوَّنوها وحفظوها، والقراء والمستمعين الذين كُتبت لهم ووُجِّهت لخدمة أغراضهم الدينية والعملية والسحرية. وإذا تذكرنا قلة الدراسات الجزئية والبحوث التفصيلية الدقيقة في المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والأسس «المادية» لحياة المجتمع القديم في مختلف عهوده ومراكزه، من دراسة لأدوات الإنتاج وعلاقاته، وقوى السلطة صاحبة المصلحة فيها … إلخ، فقد أضفنا إلى الصعوبات السابقة صعوباتٍ أخرى تتصل بنقص الدراسات التاريخية لمعناها الاجتماعي الحديث الذي تُطالب به وتجتهد فيه بعض المدارس والحركات المعاصرة بصورةٍ مذهلة في التدقيق والتفصيل والاهتمام بكل الجزئيات الممكنة في الحياة اليومية (كما نجد لدى ممثلي حركة التاريخ الجديد أو مدرسة الحوليات الذين يطبقون المناهج والأساليب الاقتصادية والإحصائية والديموجرافية والأنثربولوجية واللغوية والتحليلية النفسية … إلخ)، وإزاء هذه الصعوبات لا يملك مؤرخ الحضارة، ومن ثَم مُفسرها ومُؤول نصوصها، إلا أن يسأل نفسه: هل أقنع بتفسيرٍ جزئي ومؤقت أستند فيه إلى البحوث التفصيلية المدققة في نصٍّ بعينه أو مجموعة من النصوص المترابطة بسياقٍ تاريخي أو معنويٍّ محدد، انتظارًا لمستقبلٍ بعيد تنتظم فيه التفسيرات الجزئية في نسق شامل؟ أم أخاطر بتقديم تفسيرٍ كلي، تسوغه الحاجة الدائمة إلى العروض الشاملة في كتب التاريخ العام أو في الكتب التعليمية، وتدفع إليه الرغبة في التبسيط إرضاءً لعامة القراء وإشباعًا للفضول الثقافي؟٥٦
- (جـ) ولو قلنا: لندع النصوص تتكلم بنفسها فلن يكون في هذا ضمانٌ كافٍ للموضوعية و«العلمية»؛ ذلك لأننا لا نرجع دائمًا إلى النصوص بلغاتها ولهاجتها الأصلية، كما أن القادرين على قراءتها لا يفتئون يواجهون مشكلات لا يُستهان بها في فهم معاني كثير من الكلمات و«العلامات» المجهولة حتى الآن، وتَعرُّف حقيقة الأحداث والوقائع والتقاليد والأسماء والأشياء التي لم يتيسَّر معرفتها، أضف إلى هذا مشكلة الترجمة نفسها، وبخاصة حين تتم عن نصوص قديمة للغات «منقرضة»، وبالأخص عندما تكون نصوصًا شعرية، مع كل مشكلات ترجمة الشعر ترجمة «مكافئة» أو معادلة بقدر الإمكان من لغة إلى أخرى، فما بالك إذا كانت الترجمة عن لغةٍ قديمة ولشعرٍ قديم لم تُعرف كل خصائصه الفنية بعدُ كما أسلفنا القول؟٥٧ ويزيدنا إحساسًا بهذه المشكلة — نحن الذين نعتمد على الترجمات المنقولة إلى لغاتٍ أوروبية حديثة — أن الثقاة في الأكديات والآشوريات يؤكدون وجود فروقٍ كبيرة بين ترجمة وأخرى، بحيث تكاد الترجمات تتعدد بتعدد القائمين بها، ويتعذَّر وجود نصَّين مترجمَين متفقَين تمام الاتفاق على فهم الكثير من المفردات والمعاني، بحيث يخطر المترجمون في معظم الأحوال إلى الحدس أو التخمين بمعنى السياق وتركيب العبارات الناقصة؛ كي لا تصبح ترجماتهم كشباك الصيادين المليئة بالثقوب والفجوات.
وإذا تذكرنا حقيقة ارتباط الفكر باللغة، فلا مفر من القول إن حكمة حكماء بابل قد ارتبطت كذلك باللغة التي فكروا وكتبوا بها، كما ارتبطت باللغة (السومرية) التي نقلوا عنها مباشرة أو أخذوا عنها، وحاكوا نماذجها وصيغها وتقاليدها، أو استوحوها واستلهموها على أقل تقدير، وحتى لو استهنا بكل هذه الصعوبات، فما الذي يدرينا أنهم «عبَّروا» عن كل ما فكروا فيه، ولم يعملوا ألف حساب للسلطة السياسية والدينية القائمة؟ ألا تدعو كل هذه الاعتبارات والإشكالات إلى زيادة نصيب «الذاتية» و«التحيز» في كل تفسير نُقدِم عليه، بصرف النظر عن الذاتية والتحيُّز اللذين لا تخلو منهما أي ترجمة، ناهيك عن ترجمة عن ترجمة؟!
- (د)
وأخيرًا تأتي أعوص المشكلات التي تواجه من يتصدَّى لدراسة الماضي القديم تمهيدًا لفهمه وتفسيره، ألا وهي الشك في جدوى معرفة الماضي بالنسبة لمن يعيش في الحاضر ويتطلَّع إلى المستقبل، ولكن هل المشكلة هنا تتعلق بمعرفة الماضي في ذاته، أم بكون معرفتنا به وبأدق تفصيلاته غير كافية، ولا تساعد على محاولة شمِّه وتفسيره (مع العلم بأن بعض مدارس البحث التاريخي الحديثة تُنكِر ضرورة التفسير أصلًا وتتَّهم الفلاسفة بإفساد التاريخ وفرض قوانينهم هم عليه).
إذا كان هدف المؤرِّخ هو أن يعرف حقيقة ما حدث فعلًا في الماضي (كما تقول عبارة المؤرِّخ ليوبولد فون رانكه الشهيرة)، وإذا كان معظم الناس يتفقون اليوم على أن الماضي هو مفتاح فهم الحاضر ورؤية المستقبل (إذ لو أمكننا أن نعرف من أين جئنا، لأمكننا أن نعرف أين نحن وإلى أين نحن ذاهبون — كما يقول سنتايانا ١٨٦٣–١٩٥٢ في كتابه حياة العقل). وإذا عرفنا أن الذين لا يمكنهم تذكُّر الماضي واستيعابه، مقضي عليهم بتكراره بكل أخطائه ومآسيه، وإذا وافقنا أخيرًا على أن التاريخ كله «حاض» بصورة من الصور (كما يقول هيجل وكروتشه) فلا عجب أن تثير فينا دراسة حضارةٍ ماضية همومًا وأفكارًا لا تزال فعالة ومؤثرة، وتلقي على آلام الحاضر وآماله أضواءً كاشفة لبعض «ثوابته» التي تُحتِّم ضرورات الحاضر أن تتبدَّل وتتحول، هذا إذا استطعنا أن «نستحضرها» في وعينا بعد تحقيق كل وثائقها وأسانيدها، والعلم بكل أسسها وشروطها وجذورها (كالعقلية العامة، وأنماط العادات والتقاليد والمشاعر والقيم والمعتقدات والميول التي تمثل البنى الثابتة لمئات السنين بل آلافها تحت مدِّ الأحداث وجَزرها العابر). وطبيعي أن الدراسة التفصيلية للعوامل المحركة للتاريخ، ومن أهمها الجوانب الاجتماعية والاقتصادية التي ما زالت مفتقَدة إلى حدٍّ كبير فيما يتوافر اليوم من دراسات للتاريخ والحضارة في بلاد ما بين النهرين كما سبق القول؛ طبيعي أن دراسة هذه العوامل يمكن أن تُفسِّر الكثير من الظواهر والنظم والأنساق والأحداث الاجتماعية والسياسية والفكرية التي ما زالت تعمل عملها في الحاضر، «فالظواهر الآنية» نتاج ماضٍ يختلف طولًا وقصرًا حسب اختلاف الأحوال، والتحول وراء الظاهرة يرجع إلى عواملَ قويةٍ تكمن في بناء النظم القائمة أو بنية المجتمع، وتضرب بجذورها في الماضي، وعدم فهم هذه العوامل الصميمة هو سبب عدم فهم بعض الظواهر الحادثة الآن فهمًا كاملًا، على نحو ما يُعبِّر بعض ممثلي حركة التاريخ الجديد أو مدرسة الحوليات.٥٨إن من الواجب أن نبتعد في كل الأحوال عن تقديس الماضي وعبادته، أو حتى الزهو به (وإن كان الزهو بالتراث وأمجاده حقًّا مشروعًا تلجأ إليه الشعوب في أوقات الشدائد)؛ فالتاريخ نفسه موجود، والاهتمام بالماضي ودراسته وإحياؤه جزء من إنسانية الإنسان ومن تكوين شعوره وشخصيته، ومهما أنكر بعض الناس تأثير الماضي في الحاضر وقدرته على تسليط الأضواء على ظواهر الواقع الراهن ومشكلاته وأزماته، مُحتجِّين بأن عمل المؤرخ — كما سبق — هو «معرفة حقيقة ما حدث بالفعل» وحسب، فإن تفسير الحاضر على ضوء ما حدث بالفعل في الماضي أمر يصعب أن يَفلِت منه أحد، مهما بدا من بُعده عن النزعة العلمية الصارمة، وأقل ما يمكن أن يقال عنه إنه يُرضي رغبةً عميقة لمعرفة جذورنا، فضلًا عن ارتباطه ﺑ «تاريخية» الإنسان التي أصبحت بديهية في الوجدان المعاصر، وما فتئ يؤكدها معظم فلاسفة العصر (باستثناء بعض فلاسفة «البنية» أو البنيوية وعلمائها).
من هذا «المنظور التاريخي» إلى الوجود والذات بدأ لقائي بنصوص الحكمة وغيرها من النصوص في أدب وادي الرافدين القديم، ومنذ البداية أيضًا لم يفارقني اليقين بأنها يمكن أن تساعدنا على فهم الماضي وتفسيره، كما تساعدنا على صياغة مشكلات الحاضر واقتراح الحلول لها بصورةٍ موضوعية وبعيدة عن التحيز (بقدر ما تسمح به القراءة والفهم والتفسير التي لا تخلو أبدًا — في نظر النقد الحديث — من تحيُّز القارئ والمفسِّر وذاتيتهما …) ومن الطبيعي أن يكون التذوُّق الشخصي الغامض هو بداية اللقاء، وأن يكون الانطباع الأول مزيجًا من أشعة الفنية التي ترجع دائمًا إلى نوع من الشعور بالحرية، تتخلَّله مشاعر أخرى من الدهشة والحيرة والافتتان، هذا التذوق هو المقدمة الضرورية للفهم والتفسير والتقييم، أي للطريق المتعرِّج الطويل الذي يقطعه علماء اللغة والأسلوب، ونقاد الأدب والإبداع، هبوطًا وصعودًا من سياق إلى سياق، ومن وحدات إلى وحدات، ومن فجوات وهزات إلى نوع من السكون والاستقرار عند السياق الأكبر، والوحدة الكلية، والقيمة الجوهرية التي ألَّفت بين جميع المستويات والتشكيلات والوحدات والجزئيات.
قراءة النص إذن نشاط أو فعلٌ إبداعي، وهي تجربة تتم في الزمان، أي علاقة بين القارئ والنص؛ ولذلك ينفتح على إمكاناتٍ معنوية ووجودية غير محدودة، ولا داعي للدخول في تفصيلات مرهِقة عما تسمِّيه بعض مدارس النقد الحديث — أو نقد النقد، وبخاصة من التفكيكيين (مثل دريدا وبارت) — «تداخل النص» وسياقاته التي لا تنتهي، ولا ضرورة كذلك للتعرض لمشكلات قراءة النص عن التقليديين أو المجدِّدين (من شرح يراد به الفهم الحرفي للنص ومعرفة معاني كلماته وجمله وارتباط بعضها ببعض، وتفسير يُقصَد منه معرفة دلالة النص، جملة، وأجزاءً، على أمورٍ أخرى خارجةٍ عنه، كالحالة الاجتماعية أو السياسية أو الحالة النفسية للقائل) فالنصوص التي نقرؤها هنا مكتوبة بلغةٍ أصلية لم نتعلمها، ولم نتصل بها إلا عن طريق وسيطٍ تقريبي هو الترجمة بلغةٍ أخرى حديثةٍ مختلفة من كل ناحية، كما أننا لا نعرف إلا أقل القليل عن منشئها وظروف نشأتها، والسياقات الحضارية والاجتماعية المحيطة بها، والمهم أننا حاولنا — رغم كل المصاعب والمحاذير التي أشرنا إليها — أن نتصل بها اتصالًا حميمًا، وأن نربط تجربتنا بها بتجربتنا بماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، وفي كل تجربة اتصال أو تواصل — كما يعلم القارئ — مغامرة، وفي كل مغامرةٍ فشلٌ أو نجاح، وربما تطغى احتمالات الفشل على فرص النجاح، فما الذي شجعنا على المحاولة؟
الواقع أن هناك عوامل كثيرة أوجزها في ثلاثة: فأما الأول فقد ألمْحتُ إليه في بداية الحديث عن لقائي بهذه النصوص، وانجذابي إليها وحيرتي وذهولي إزاءها، ولستُ أحب الخوض في حديثٍ يتصل بأزماتي الشخصية وطبيعة كتاباتي الأدبية والفلسفية في الفترة الأخيرة من حياتي. وأما الثاني فيرتبط بإحساسي بمحنةٍ حضارية تتجاوز أشخاصنا الفانية، ولا يمكن تجاهلها ببساطةٍ بدعوى أنها وليدة تشاؤمٍ فطري، أو حساسية مفرطة؛ ذلك لأن الشعور بهذه المحنة أمر يتعلق بالذاتية المشتركة — على نحو ما يعبر فلاسفة الظاهرية أو الفينومينولوجيا — ويشارك فيه ملايينُ غيري، سواء أكانوا من البسطاء أم من أصحاب الرأي والقلم، وهي في كل الأحوال محنة لها حضورها الضاغط على أنفاسنا، سواء واجهها بعضنا باليأس العدمي، أو بالتحدي والأمل والعمل المخلص الدءوب كلٌّ في ميدانه، أو بالاستغلال والمزايدة الانتهازية، وهي تلقي على زماننا — ماضيه وحاضره ومستقبله — ظلالًا قاتمة، وتعمِّق اغترابنا عنها ومنفانا فيها: في ماضٍ نكاد نجهله كل الجهل ولا نحترمه الاحترام الكافي، وحاضرٍ ضعيفٍ مُترنِّح يدَّخر لنا المصائب كل يوم، ومستقبل نرفضه لأن غيرنا يجرنا إليه، أو نخافه ونشفق منه ولا نعدُّ العدة له. وردُّ الفعل الطبيعي لاختلال الشعور بالزمن هو العودة للماضي بحثًا عن الجذور تأكيدًا للهوية (وهو ما يعبر عنه جانبٌ كبير من نتاجنا الفكري الذي يطغى فيه الغثُّ الثرثار على العلمي الأصيل). وأما ثالث هذه العوامل فهو انشغالٌ استمر عدة سنوات بالفلسفة الظاهرية وفلسفات الوجود والتفسير (أو التأويل) التي خرجت من «معطف» منهجها، وقد رافق ذلك الانشغال اقتناع أساسي بأننا لن نستطيع فهم القديم إلا إذا نظرنا إليه بعيونٍ معاصرة واستخدمنا وسائل الفكر المعاصر، ولن تكون نظرتنا إليه حية ومبدعة حتى نكون في الوقت نفسه على وعيٍ بمشكلات الحاضر وأزماته، وبمطالب المستقبل وتوجهاتنا إليه. ولن يتم شيء من ذلك كله حتى نمتلك الحس التاريخي الواضح المتَّزن الذي يُهيِّئ لنا «الحضور» المبدِع الحر في أبعاد الزمن المختلفة (التي هي في الحقيقة حاضرٌ متصل في الشعور الحي الخلَّاق، لا في الشعور الصوفي أو المتعالي وحده).
(٦-١) فلسفة التفسير
بعد هذه المقدمة الموجزة أعود إلى بعض الأفكار التي استرشدتُ بها بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة في تفهُّم هذه النصوص البابلية ومحاولة قراءتها محاولةً أولية (لا تحول بطبيعة الحال دون قراءتها قراءاتٍ أخرى على يد باحثين آخرين …) ولقد كان «جادامر» هو أكثر من تأثرتُ بهم من أصحاب الأسماء السابقة؛ لأنه أشدهم اهتمامًا بالبعد التاريخي والحضاري في فهم معاني الخوص القديمة التي تنتمي إلى ماضٍ بعيد أو إلى حضارةٍ «غريبة» … وسوف أسوق بعض هذه الأفكار، لعلها أن تعين القارئ على المشاركة في التذوق والفهم، أو تُلهِم من يتصدَّى لغير هذه النصوص من الإخوة الباحثين في تراثنا القديم والوسيط والحديث.
إذا كان البحث الفلسفي الحديث قد أكَّد «تاريخية» الوعي والتفكير الإنساني — بما في ذلك التفكير الفلسفي نفسه — منذ عصر التنوير والمثالية الألمانية والرومانتيكية كما سبق القول، فإن من أهم النتائج التي توصل إليها أن من الضروري التفرقة بين منهج الفهم أو التفسير وبين منهج الشرح أو التعليل، فالأول يصلح للتطبيق على ظواهر الحياة النفسية والعلوم التاريخية والإنسانية، ويتوخَّى إدراك «الفردي» الذي لا يتكرَّر، ويساعد برؤيته الحدسية الوجدانية وأسلوبه في «تقمُّص» الظاهرة الفريدة وإعادة بنائها وإحيائها؛ على التبصر بجوانبها الإبداعية العصية على التشريح والتحليل والتعليل. أما المنهج الثاني فهو يلائم العلوم الطبيعية؛ إذ يرد الظاهرة الجزئية إلى القوانين الضرورية العامة عن طريق التفسير السببي أو العِلِّي، والنتيجة الثانية هي أن الجزئي أو الفردي لا يفهم إلا في وحدته الحية في إطار الكُلِّي، كما أن الكُلِّي لا يمكن فهمه إلا ابتداءً من الفردي (وهذا تعبير عما يسمى دائرة الفهم التي لم تزل مشكلةً عويصة عند أصحاب هذا الاتجاه).
هذا هو الذي يتعيَّن علينا أن نختم به هذا التمهيد.
(٧) استلهام تراث وادي الرافدين عند الشاعر العربي المُجدِّد
استلهام التراث موضوع ضخم، له أبعاده الفنية والثقافية والدينية والنفسية والاجتماعية والسياسية والفلكلورية … إلخ، وسوف نقتصر في هذا المجال المحدود على النظر في مدى إقبال الشاعر العربي المجدِّد على استلهام التراث الأدبي والفكري في حضارة وادي الرافدين، ثم نضيِّق من دائرة النظر فنكتفي بحديثٍ موجز عن استدعاء بعض شخصيات هذا التراث وأساطيره ورموزه عند واحد من أبنائه العظام، وهو بدر شاكر السياب، أحد رواد شعرنا العربي الجديد (١٩٢٦–١٩٦٣)، ويحسُن بنا قبل البدء في هذا الحديث أن نجمل ما بسطناه على الصفحات السابقة عن تجربة الاتصال بالتراث وطبيعتها ودورها في حياتنا؛ لأن قضية الوعي التاريخي الحي ليست في الحقيقة هي قضية الشاعر والأديب والفنان والمؤرِّخ وحدهم، وإنما هي قضية الإنسان العربي الراسف في أغلال التخلُّف وأزماته المزمنة.
إن الإنسان بطبيعته كائن تراثي-تاريخي، ولغوي-حضاري، وهو ينتمي للتراث شاء ذلك أو لم يشأ، وليس التراث في كل ميادينه مخزن «أشياء» صامتةٍ خرساء، وإنما هو وجودٌ حيٌّ متجدد؛ لأنه تجربة وجود شعب من الشعوب، وأسلوب حياته ونظرته للعالم والزمان، وموقفه من الحياة والإنسان.
والتراث في مجموعه — باستثناء الوحي المقدَّس الذي يتعلَّق بأصول العقيدة — مُبدَعٌ إنسانيٌّ صرف، وإنجازٌ زمانيٌّ عرضي يورثه إنسان لإنسان، فهو ظاهرة طبيعية ممتدة في التاريخ، ذات عناصر تاريخية تتشكَّل وتُشكِّل، تسكن وتتحرَّك، تسقط منها أشياء وتبقى أشياء، ومن ثم فهو الذي شكَّلنا أيضًا تاريخيًّا وحضاريًّا، وهو الذي صاغ كياننا لغويًّا وثقافيًّا ووجوديًّا. والأمر يتوقَّف علينا وعلى اختيارنا: هل نكون به أحرارًا؟ أم نكون له عبيدًا؟ وعلاقة العربي المعاصر بتراثه الديني والقومي والإنساني يترتَّب عليها الامتداد في التاريخ وفي التجربة بالكون والوجود، والالتزام بتجاوز حاضر التخلُّف الشامل، بغية الوصول إلى الوجود والوعي العربي المطلق من إسار الوهم والخرافة، وأغلال القهر والعقم. وليست مهمة الإنسان العربي — ولا الشاعر والأديب العربي بطبيعة الحال — هي «إحياء» التراث الرافدي القديم أو غيره وبعثه بكامل سحنته وهيئته ليكون محركنا المركزي أو المحوري، ففي هذا تنكُّر لفرديتنا الذاتية الراهنة، ولروح زماننا وعصرنا، ولقدرتنا الثابتة على إبداع أعمالٍ جديدة و«تراثٍ» جديد، كما أنها ليست في انتقاء عناصر منه هنا أو هناك من أجل تقمُّصها من جديد؛ فهذا أمر مصطنع، يقوم على خداع الزمن والذات، ويوهم باحترام التراث وتوقيره، بل إنها ليست في استلهام وجوه منه تروق لنا وتحلو في أعيننا في هذه اللحظة الزمنية أو تلك. إن الأمر في الواقع أخطر من هذا بكثير؛ لأنه يتعلق «بتحذير» هويتنا ووعينا وتجديدهما في آنٍ واحد، بحيث تتجسد كينونتنا الفاعلة المبدعة فيما ننشئه من أعمال في الفن والأدب والعلم والحياة السياسية والاجتماعية واليومية.
وإذا كنا جادين حقًّا في «إحياء التراث» — في إمداداته المختلفة ومنتجاته وأنماط الوعي والوجود المتعارضة فيه على مدى حقبه المتتالية — على أساس من احترامه والعلم به والنظر إليه نظرة تاريخية مُتَّزنة، فلا بد أن نخرجه من دائرة «الاختصاص» إلى دائرة «التثقف» التراثي العام، أي لا بد من تحويله إلى ثقافةٍ عامة معيشة، مع التنبُّه الدائم لشروطه أو ظروفه الموضوعية والمعرفية والتاريخية والاجتماعية الخاصة به، وبعناصر الاتصال والانفصال بينها وبين شروط وجودنا وظروفه «وينبغي الاعتراف هنا بأن الوعي بأصولنا وجذور تكويننا في حضاراتنا القديمة — رافديةً كانت أو مصريةً أو سوريةً وكنعانيةً — لم يزل بعيدًا عن المثقف والإنسان العادي، ولم يزل محصورًا في القِلَّة القليلة من علمائنا ودارسينا المختصِّين وبعض الهواة المطَّلعين والمبدعين الموهوبين …»
إن دور التراث — قديمه ووسيطه وحديثه — في حياة الفرد والأمة دورٌ خطير؛ لأنه يدخل في المركب الحي الذي يشكلهما نفسيًّا واجتماعيًّا وقوميًّا، ويحدد موقفهما الآنيَّ المتَّزن أو المتشنِّج من «الماضي» و«المستقبل»، والمنظور التاريخي الذي أكدناه على الصفحات السابقة — أو «تاريخية» التراث — يُحتِّم علينا أن نكون على وعيٍ تامٍّ بأن الذي يدخل في هذا المركب الحي ليس هو كل التراث؛ إذ تسقط منه كما سبق القول أجزاء على جنبات التاريخ وينبغي «تعليقها» أو «وضعها بين قوسين»؛ لأنها كفَّت عن الوجود الفعلي واتخذت مكانها في سجلات التاريخ أو متاحفه، كما تبقَّى منه أجزاء تؤدي غرضًا أو تلبي حاجة أو تعبر عن مقومات ومكونات وقيم لا يتنازل عنها إلا من يتنازل عن ملامح وجهه ووحدة شخصيته، وهذه الأجزاء يمكن دمجها دمجًا ماديًّا في حياتنا، أو استلهام عناصرها الجمالية والفنية والفكرية، بحيث ينتج عن هذا الدمج والاستلهام «تراث» يتصل «بتراث» (مهما أعلن أصحابه القطيعة والمخالفة أو أطلقوا صيحات التقويض والهدم كما سبقت الإشارة؛ لأن الانقطاع أو المخالفة تظل في النهاية نوعًا من أنواع الاتصال والتواصل، على نحو ما يبقى الصمت نوعًا من أنواع الكلام والتعبير …).
مهما يكن الأمر فإن السياب في قصيدته «مدينة السندباد» (١٩٥٨) قد صوَّر القهر والطغيان (أثناء حكم عبد الكريم قاسم) في مقاطعها الخمسة، واستدعى — في هذه القصيدة وحدها — شخصياتٍ تراثية من حضاراتٍ وعصورٍ مختلفة مثل لعاذر والمسيح وأدونيس وعشتار وتموز وقابيل:
ثم تنفرد عشتار ربة الخصب والحب بالمقطع الخامس الذي تتحول فيه عن وظيفتها المعروفة في أسطورتها المتناثرة في بعض قصائد السياب الأخرى (مثل قصيدته مدينة بلا مطر، ١٩٥٧):
وعندما يستدعي السياب أيضًا شخصية أيوب وتجربته في قصائده عن «سفر أيوب» وقالوا لأيوب «من ديوانه منزل الأقنان» وفي قصيدة أخرى سبقتها هي «أمام باب الله»، نجده يعتمد على صورة أيوب في السفر المعروف باسمه في التوراة «وبخاصة في الإصحاحين ١٦ و١٩» أو على الآيات التي يرد فيها ذكره في القرآن الكريم (سورة الأنبياء: ٨٣، وسورة ص: ٤٤) فهو حين يقول في القصيدة الأخيرة:
أو حين يقول في أبياته المشهورة من «سفر أيوب»:
فإنما يجعلنا نتمثل صورة «المعذَّب البار» في النص المعروف ﺑ «أيوب البابلي»، على الرغم من أننا نشكُّ في أن الشاعر نفسه قد عرف هذا النص أو فكَّر في استدعائه حتى ولو كان قد عرفه؛ ذلك أن صورة أيوب في التوراة والقرآن الكريم، وربما في المأثور الشعبي أيضًا، هي التي استقرت في وجدانه وألحَّت عليه أثناء مرضه الطويل، ومع أن المرض والعذاب قاسمٌ مشترك بين أيوب البابلي وأيوب العبري، فمن المشكوك فيه، كما قلتُ، أن يكون الأول خطر على بال الشاعر، فهل يكفي أن نُفسِّر ذلك باغترابه عن تراثه الخاص ولجوئه إلى تراثٍ آخر، أم نبرره بتغلغل مأساة أيوب التوراة والقرآن الكريم في الوجدان البشري العام، ودلالتها القوية على التمرُّد والعجز الإنساني، لا سيما في حالة السياب الذي صارع المرض القاسي وصبر عليه صبر أيوب الذي طال أكثر من صبر أيوب البابلي؟
مهما يكن الأثر في اختلاف الأجوبة الممكنة عن هذه الأسئلة، فلا بد أن يستخدم الأديب كما سبق القول أسطورةً معيَّنة تُلبِّي حاجةً فنية وشعورية لا يتم لتجربته التشكُّل إلا من خلالها. وقد استطاع السياب أن يخلق أسطورته «الأيوبية» الخاصة التي شاركه فيها بالتعاطف والإكبار كل فن قرأ له، كما استطاع أن يتحدَّى بها الأسطورة الجماعية في فترة من أحلك الفترات سوادًا في تاريخ بلاده، وأن يُثبت قدرة الشعر على الانتصار على القهر. وإذا كنا نفتقد لديه صورة أيوب البابلي الذي لا يقلُّ عن نظيره العبري في تحمُّل العذاب والظلم والغدر، فربما نستطيع كذلك أن نتلمس له العذر، متمنين للشاعر العربي المجدد أن ينفتح على تراثه ليبدع أسطورته الخاصة التي تجدد حياته وحياة الشعر والواقع … وهذا بالطبع أمرٌ متروكٌ لتجربته وموهبته وثقافته وانتمائه لجذوره.
إن عصرنا ليس عصر شك واختبار ومراجعة فحسب، ولكنه عصر يتطلَّب من الإنسان أن يفكك كل ما حصله في تاريخه من خبرات، ويشحذ كل ما أوتيه من الذكاء والوعي والصدق، ليعيد بناء نفسه وحضارته في عالم يكاد يختلف اختلافًا جذريًّا عن ذلك الذي تعهدناه منذ نصف قرن أو حتى ربع قرن لا يزيد.
وإذا كان غياب الوعي أو الحس التاريخي من أقوى أسباب محنتنا العربية الراهنة، فإن تجديد هذا الوعي بتجديد صلتنا بالماضي من أهم العوامل التي تساعدنا على تجاوز المحنة. ولا يصح أن نتشاءم أو نكتفي بإطلاق صيحات الرفض والقطيعة، وصرخات الشكوى والتحسُّر؛ لأننا نعيش اليوم عصر انتفاضة «الحجر» الذي يصرخ في يد الطفل والمرأة والشاب الأعزل في وطننا المحاصر السليب، هذا الحجر لا يكتفي بلطم وجه عدو لا حد لأطماعه اللاتاريخية واللاإنسانية، وإنما يضرب مستنقع وجودنا الآسن ووعينا الراكد الذي «نتصادم في حدسه» على حد قول أبي العلاء المعري. وأقصى ما يطمح إليه هذا الكتاب هو أن يكون كذلك حجرًا يُحرِّك مياه هذا الوعي، ولبنةً متواضعة تُضاف إلى لبناتٍ أخرى طيبة في بناء «هويتنا» العربية. إن الفكر العربي المعاصر لن يستطيع عبور محنته الراهنة وتخطِّي أوضاعه السائدة حتى يصبح فكرًا حرًّا، ومن مقومات هذه الحرية أن يتجرَّأ على الكشف عن جذور «لا حريته» وأصول أزماته الممتدة في تراثه الماضي ومظاهرها المختلفة الغالبة على حاضره والمعوِّقة لمسيرة مستقبله، وأن يبرز للنور إيجابياته وقيمه المضيئة التي يمكن أن تكون مصابيحَ هاديةً. وفي سبيل هذه الحرية وهذا الوعي الحر وضع هذا الكتاب.
في شهر إبريل ١٩٩٢
Geschichte und Kultur der semitischen Völker Zurich-Koln Benziger verlag Einsiedeln, 1961, S. 43-44.
Ernest Bloch, the principle of hope, vol 3, translated by Neville Plaice, Stephen and Paul Knight Oxford, Blackwell 1986, p. 1112ff, 1216–1220.
Dilthey, Wilhelm; Studien zur Grundlegung der Geistes Wissen schaften, In: Ders, Gesammelte schiften Bd.
Vii. Leipzig/Berlin, 1927, S. 3–75; Ders, Der Aufbau der ses-chichtlchen Welt in den Geistes Weissenschaten, In: Ders., Gesammelte Schriften, Bd. VII, S. 99ff.
Gadmar, Hans Georg; Wahrheit und Methode, Grundzuge einer phanomenologishen Hermenentik, Tubingen 1975, S. 361–373, 449ff.
Heidegger, Martin; sein and zeit. Tubingen, 15 te Auflage, 1979, S. 142ff.
وقد تحاشيتُ الحديث عن فهم وتفسير الكتاب المقدس عند كلٍّ من كارل بارت (١٨٨٦–١٩٦٨) ورودولف بولتمان (١٨٨٤–١٩٧٦) على الرغم من أهميتها بغية التركيز على السياق الذي نحن بصدده.
Salamun, Kurt (Hrsg); was ist philosophie? Neuere Texte zu ihreni, Sellestvestaduis, 2., erweiterte Auflage, Tubingen, Mohr, 1986, S. 96.
Habermas, Jurgen; Erkenntnis und Interesse, Frankfurt, 1968.
Heidegger, M.; Unterwegs zur sprache, Pfullingen 1960. S. 96.