من سليم إلى سلمى

بقيت سلمى معتكفةً في فراشها وهي تغالب تأثرها الشديد، وتفكِّر فيما يكون من أمر سليم بعد أن يطَّلع على خطابها. وقد اشتدَّ ندمها على كتابتها هذا الخطاب، وشعرت بأنها أخطأت في حق سليم، وكان عليها أن تتأنَّى ولا تنساق مع عواطفها المهتاجة فتقضي بجرة قلم على علاقتها بعد أن توطدت وارتبط قلباهما.

وكانت تتوقع أن يأتي سليم لمقابلتها على أثر اطلاعه على خطابها، فبقيت حتى عصر ذلك اليوم وهي كلما سمعت طرقًا على باب المنزل حسبت أنه هو القادم، فيشتد خفقان قلبها وتضطرب أعصابها. فإذا تبينت أن القادم غيره عاودها اليأس ولاح لها أنها فقدت حبيبها إلى الأبد، فيزداد جزعها وندمها على كتابة ذلك الخطاب إليه.

ولم تكن تستطيع أن تفرِّج عن نفسها بالبكاء؛ لأن أبويها كانا يلازمان غرفتها، ولا يتركانها إلا فترات يسيرة لمقابلة زائر أو إنجاز عمل في المنزل. كما أن سعيدة الخادمة الماكرة العجوز حرصت على أن تبقى قابعة بالقرب من سريرها، متظاهرة بشدة جزعها وتفانيها في خدمتها وتلبية مطالبها.

وكان أبواها يتوقَّعان أيضًا أن يجيء سليم كعادته عند الأصيل، فلما ولَّى النهار دون أن يجيء، قلقا عليه، لكنهما لم يذكرا ذلك لسلمى مخافة أن يزيد هذا في توعكها وضعفها، وهما لا يعلمان شيئًا من أمر خطابها إليه وخطاب والدته الذي وقع في يدها. كما أنهم جميعًا لم يعلموا بأمر مرضه وملازمته الفراش؛ لأن حبيبًا حين زارهم عصر ذلك اليوم لم يشأ أن يخبرهم بذلك، لما علمه من أمر مرض سلمى، وخشيته أن يزيدهم قلقًا وانشغالًا، فخرج من هناك مكتفيًا بأن تمنَّى لسلمى عاجل الشفاء، ومضى إلى منزله في حلوان حيث أنبأ أمه بمرض سليم واتفقا على نقله إلى منزلهم للعناية به.

وأمضت سلمى ليلتها وهي على تلك الحال من القلق والاضطراب، ولم تنم إلا فترات متقطعة تخللتها الأحلام المزعجة. وأصبحت وهي أسوأ حالًا منها بالأمس. فدعا والدها الطبيب لفحصها، وداخلهما بعض الاطمئنان حين قرر أن مرضها يسير لا يلبث أن يزول بالراحة والاستجمام، ووصف لها دواء يعاون على التعجيل بالشفاء.

على أنها في الواقع لم تكن في حاجة إلا لما يعيد إلى قلبها ما فقده من الأمل والسعادة بتبادل الحب مع سليم. فلم يُجْدِها تناول الدواء نفعًا، وبقيت تتقلَّب في فراشها حائرة مضطربة ولا تجد شهية للطعام أو الشراب، إلى أن حان وقت الأصيل، فعاودها الأمل في أن يجيء سليم كعادته، واضطجعت في سريرها متشاغلة بمطالعة أحد الكتب، وهي تُرْهِف السمع لعلها تسمع صوته أو وقع خطاه حين وصوله.

وأخيرًا، سمعت طَرْقًا على باب المنزل، فاشتدت دقات قلبها، ولم تتمالك نفسها فألقت بالكتاب على الوسادة بجانبها، ولبثت ترتقب معرفة الطارق بعد أن خرجت والدتها بنفسها لفتح الباب.

وكانت أدما هي التي طرقت الباب، وقد جاءت لحاجة في نفسها تتعلق بحبيب، وهي لا تدري شيئًا عن مرض سلمى. فلما علمت بذلك من والدتها، بدا عليها الوجوم والاضطراب، وسارعت إلى الدخول عليها في غرفتها متعثرة الخُطا. وما كادت سلمى تراها حتى تذكرت ما بها من المرض والضعف بسبب الحب ومتاعبه فلم تتمالك عواطفها وأجهشت بالبكاء. فهمت بها أدما وقبلتها، وجلست بجانبها على السرير، محاولةً مواساتها والترفيه عنها، ولكن لسانها لم يكن يقوى على الكلام لشدة ما هي فيه من الارتباك.

وكانت سلمى تحب أدما وتأنس إلى حديثها وتثق بإخلاصها لها، فحدثتها نفسها أن تخلوَ إليها وتكشف لها عن سبب مرضها وضعفها. ولكنها عادت فآثرت الكتمان، واكتفت بأن نظرت إليها وتنهدت متحسرة على أنها ليست مثلها خالية القلب من الحب وما يجرُّ إليه من تعب وشقاء. ولم تكن تدري بالحب المتبادل بين أدما وحبيب، ثم قالت لها: «هنيئًا لك يا أدما، إني أغبطك على ما أنت فيه!»

فوقعت هذه العبارة وقوع السهم على قلب أدما، إذ تذكرت السبب الذي جاءت من أجله، ولاح لها أن سلمى عالمة بأمر علاقتها بحبيب، وأنها تغبطها على ذلك، ثم همَّت بأن ترد عليها في صراحة، لكنها خجلت من ذلك فتجاهلت وقالت: «على أي شيء تهنئينني يا عزيزتي؟! إن حالتي لأحق بالتعزية.»

فهمَّت سلمى بأن تصرح لها بأنها تهنئها على خلو قلبها من شواغل الحب، ولكن الحياء أمسكها، فبدا عليها التردد، ثم قالت وفي صوتها ما ينم عن أنها لا تقول ما تعتقد: «إنما أردت تهنئتك على ما أنت فيه من صحة وعافية.»

فتحققت أدما صدق ظنها، وأن سلمى على علم بما بينها وبين حبيب من الحب، ولا تريد أن تظهر ذلك.

ومضت فترة وهما صامتتان، وكل منهما مشغولة بالتفكير في شأنها الخاص. ثم مضت أدما مستأذنة في الانصراف وودعت سلمى متمنية لها عاجل الشفاء، ثم عادت إلى منزلها وقلبها يحدثها بأنها ستجد حبيبًا هناك. لكنها لم تجد في المنزل أحدًا غير والدتها، فأظلمت الدنيا في عينيها، وأمضت بقية يومها في قلق وارتباك ما عليهما من مزيد.

•••

كانت أدما بعد العودة من رحلة الأهرام تتوقع أن يجيء حبيب لمقابلتها في اليوم التالي؛ ليستأنفا ما بدآه هناك من حديث الحب وما إليه.

ولبثت تنتظر مجيئه منذ ظهر ذلك اليوم وهي لا تكاد تحوِّل نظرها عن ساعة الحائط الكبيرة، تعد الدقائق الباقية على موعد انصرافه من الديوان إلى منزلها، وتكاد لفرط شوقها إلى لقائه تهمُّ بعقارب الساعة فتقدمها عمدًا لتقرب موعد اللقاء.

وبقيت حتى الساعة الثانية بعد الظهر وهي تارة تعود بذاكرتها إلى مناجاتهما بالأمس بجوار أبي الهول، وتارة تتخيله قادمًا إليها وهو يبتسم فلا يسعها إلا أن تقابل ابتسامته بمثلها، ثم تدرك أنه لم يأتِ بعد، فتأخذ في إعداد العبارات المنمقة لتعبر له بها عن شعورها نحوه متى جاء. كل هذا ووالدتها مشغولة عنها ببعض شئون المنزل، ولا علم لها بما يعتمل في صدرها من عوامل الوجد والهيام.

وازداد قلق أدما، ونفد صبرها منذ أخذت الدقائق تمضي بعد ذلك دون أن يحضر حبيب. ولم تعد تستطيع الاستقرار في مكانها، فأخذت تنتقل من غرفة إلى غرفة، ومن شرفة إلى شرفة، وعيناها شائعتان تحملقان في أشباح الغادين والرائحين في الطريق إلى المنزل، وكلما لمحت شخصًا في مثل قامة حبيب، أو يرتدي بذلة قريبة اللون من بذلته، تسارعت دقات قلبها، ثم لا تلبث قليلًا حتى تتبين أن القادم ليس هو، فتصعِّد الزفرات، وتعود إلى غرفتها متخاذلة، لتعاود الوقوف أمام المرآة، لتتحقق أن عينه لن تقع على شيء فيها لا يرضيه، وفي بعض الأحيان كانت تصادف والدتها في إحدى تلك الغرف، فلا يسعها إلا التظاهر أمامها بأنها تبحث عن ورقة أو كتاب، لتخفي عليها ما يشغلها ويقلقها.

ومضت ساعتان، كأنهما لطولهما سنتان، وأدما على هذه الحال، وكلما عادت إلى الساعة، حاسبةً أن عقاربها أتمت دورة كاملة منذ رأتها لآخر مرة، وجدت أنها لم تقطع سوى دقائق معدودات.

وأخيرًا، وفيما هي مطلة من إحدى النوافذ، إذا بها ترى حبيبًا مقبلًا نحو المنزل، فخفق قلبها، وارتعشت ركبتاها، وبردت أطرافها. ثم أبرقت أسرَّتها، وهان عليها أن تلقي بنفسها من النافذة بين يديه في الطريق، ولا سيما حين رأته يختلس النظر إلى شرفة غرفتها. ثم همَّت بأن تمضي إلى تلك الشرفة لتطل عليه منها، لكنها فوجئت بأن رأته وقد انعطف فجأة عن الطريق المؤدي إلى المنزل، ثم اتخذ سبيله في العطفة المجاورة التي بها منزل سلمى؛ فأخذتها الدهشة ولم تصدق عينيها أول الأمر، ثم حسبت أنه ضل الطريق ولا يلبث أن يرجع. فلما طال انتظارها دون أن تراه راجعًا، تحولت عن النافذة وساقاها لا تكادان تقويان على حملها، وأخذت الهواجس تتقاذفها، ولم تملك عواطفها فارتمت على أول مقعد صادفها واعتمدت رأسها بيديها آخذة في البكاء.

وبعد قليل، سمعت وقع أقدام بالقرب منها فانتبهت لنفسها، وأدركت أن أمها على قيد خطوات منها، فمسحت عينيها ونهضت متجلدة حتى لا تلحظ عليها أمها شيئًا. على أن فكرها ما زال مشغولًا بحبيب وسبب توجهه إلى منزل سلمى.

ولاح لها أن تلحق به إلى هناك كي تقف على ذلك السبب، غير أنها لم تجرؤ على ذلك، واكتفت بأن تسللت من المنزل إلى المنزل الملاصق له، وتظاهرت بالسؤال عن صديقة لها من الساكنات فيه، في حين أنها كانت تقصد أن تطل على منزل سلمى من نافذة هناك.

وما كادت تطل من هذه النافذة حتى وقعت عيناها على حبيب خارجًا من منزل سلمى، فخفق قلبها بشدة، ورجح لديها أنه دخل هناك عن غير قصد ثم انتبه لنفسه فعاد أدراجه إلى منزلها. وسرعان ما تحولت عن نافذة منزل الجيران وعادت إلى منزلها حيث وقفت تطل على الشارع من شرفة غرفتها في انتظار وصول حبيب.

وكانت دهشتها أشد حين رأته يخرج من العطفة التي بها منزل سلمى، ثم يلقي على منزلها هي نظرة خاطفة، وينثني عائدًا إلى المدينة دون أن يعرج عليه، وهمَّت بأن تناديه ولكن الحياء غلب عليها فأمسكت، وبقيت واقفة تنظر إليه من الشرفة حتى توارى عن نظرها، فأحسَّت كأن قطعة من قلبها فصلت منه بسكين، وازداد اضطرابها وامتقاع لونها، ثم تحاملت على نفسها متحولة عن النافذة إلى سريرها حيث ارتمت عليه متظاهرة بحاجتها إلى الراحة، وبقيت ملازمة سريرها والهواجس تتقاذفها. وهي تارة يعاودها الأمل في رجوع حبيب لمقابلتها بعد أن ينتهي من إنجاز المهام العاجلة التي شغلته عنها، وتارة يداخلها اليأس فترجح أنه لن يرجع، وأن ما صرح به أمس من مبادلتها الحب والإخلاص لم يكن إلا مجاراة لها. وهنا يأخذها الندم على تصريحها له بأنها التي أرسلت إليه ذلك الخطاب، بل تلوم نفسها كل اللوم على كتابته، وتعد ذلك عملًا من أعمال النزق والطيش لم يكن يليق بمثلها أن تقوم به.

وعند العشاء، سمعت وقع أقدام على سلم المنزل، فاختلج قلبها، وقفزت من سريرها لتفتح باب غرفتها وتستقبل القادم الذي رجحت أنه حبيب. ولكنها ما لبثت أن سمعت صوت القادم فإذا هو أبوها، فعاودت الانقباض، وعبثًا حاولت التجلد حتى لا يلحظ أبواها انقباضها وكدرها، فجلست معهما على مائدة العشاء دون أن تستطيع تناول شيء من الطعام، ولبثت بعد ذلك ساعة تتظاهر بالاستماع لحديثهما، وفكرها مشغول بما هي فيه. ثم فقدت كل أمل في مجيء حبيب، فنهضت وأوت إلى فراشها، وباتت ليلتها تتقلب فيه على مثل الجمر، وتتقاذفها عوامل اليأس والرجاء، والشك واليقين، إلى أن اقترب الفجر وكان ذهنها قد كلَّ وتعب فأدركتها سِنة من النوم، تخللتها أحلام مختلفة متقطعة، بعضها مفرح لأنه يعيد إليها موقف حبيب معها في منطقة الأهرام وهما يتناجيان بعبارات الحب، وبعضها محزن مزعج لأنه يعيد إليها صورته وهو يمر بمنزلها في طريقه إلى منزل سلمى وعودته منه دون أن يعرج لمقابلتها.

وأصبحت متعبة مكدودة، فلم تبرح فراشها، زاعمة لوالديها أنها تشعر بصداع شديد. ثم ضاقت بملازمتهما غرفتها للاطمئنان على صحتها، فتحاملت على نفسها ونهضت فجلست على مقعد في الشرفة متشاغلة بالتطريز تارة وبالمطالعة في بعض الكتب تارة أخرى.

ولما حان موعد الغداء، تناولت مع والديها قليلًا من الطعام، ولبثت ساعة تترقب أن يجيء حبيب عقب انصرافه من الديوان. فلما لم يجئ، نهضت وارتدت ثوب الخروج، ثم خرجت بعد أن استأذنت والدتها لكي تزور صديقتها سلمى. وهي إنما أرادت بهذه الزيارة أن تبحث ما دعا إلى توجه حبيب إلى هناك بالأمس. ورغم وثوقها بأن سلمى مخطوبة لسليم كان الشك يساورها في وجود علاقة بينها وبين حبيب. ولكنها كانت تستبعد ذلك، وتحاول طرد هذه الوساوس من ذهنها، إلى أن وصلت إلى منزل سلمى ثم قابلتها بعد أن علمت من والدتها بأنها مريضة ملازمة فراشها، فقويت شكوكها ولا سيما بعد أن لاحظت أن سلمى تحاول أن تخفي عليها شيئًا تضمره في قلبها. وعادت إلى منزلها وقد ازدادت ضعفًا على ضعف، وما كادت تصل إلى غرفتها حتى ارتدت ملابس النوم وارتمت على سريرها حيث أخفت وجهها بالغطاء، وأطلقت لدموعها العِنان، لعلها تفرج بعض ما تعانيه من الغم واليأس وضيعة الآمال.

وفي الصباح التالي، لاحظت والدتها انقباض وجهها وضعفها. فأشارت عليها بأن تخرج معها للتنزه قليلًا في إحدى الضواحي، فوافقت على ذلك. وخرجتا معًا من المنزل، وما زالتا تتمشيان حتى وصلتا إلى محطة السكة الحديدية، فوقفتا هناك قليلًا وهما تتأملان جموع القادمين إلى القاهرة والمسافرين منها، وفيما هما كذلك، لمحت أدما حبيبًا داخلًا إلى المحطة مسرعًا، فخفق قلبها لهذه المفاجأة، وتوقعت أن يراهما فيعرج عليهما، ولكنه انطلق في سبيله لا يلوي على شيء.

وكانت والدتها قد رأته هي الأخرى، فقالت: «ترى ما الذي جاء بحبيب إلى المحطة في هذا الصباح؟ لعله جاء لاستقبال صديق له قادم من الإسكندرية!»

فسكتت أدما ولم تُجب لانشغال بالها بأمر حبيب، على أنها ظلت تنتظر مع والدتها حتى يخرج من المحطة وتقف منه على سبب مجيئه، وعلى ما أخره عن مقابلتها منذ رحلة الأهرام حتى ذلك الوقت. فطال انتظارهما حتى غادر القطار المحطة قاصدًا الإسكندرية، وخرج منها جميع من كانوا في تشييع المسافرين فيه وليس فيهم حبيبًا، فأيقنتا بأنه سافر فيه، وشغلهما أمر هذا السفر الذي لا تعلمان سببه. وكانت أدما أكثر قلقًا بطبيعة الحال، لما في قلبها من الشواغل التي لا تعلم بها والدتها. فلم تعد تستطيع المشي ولا الوقوف، وجاهدت لإخفاء ما بها على والدتها متظاهرة بأن الصداع الشديد عاودها، ثم عادتا إلى المنزل في إحدى مركبات الأجرة، فتناولت أدما بعض الأدوية المسكنة، وأوت إلى سريرها للراحة والاستجمام، وهناك انتهزت فرصة انفرادها واشتغال والدتها عنها ببعض شئون المنزل، وأخذت في البكاء.

•••

لبث سليم حتى العصر وهو ينتظر رجوع حبيب من القاهرة إلى منزله الذي نقله إليه في حلوان. فلما لم يرجع حبيب حتى ذلك الوقت، نفد صبره ولم يعد يستطيع البقاء في ذلك المنزل لحظة واحدة. ولم تكن الحمى قد فارقته بعد، ولكنه رغم ذلك نهض وارتدى بذلته معتزمًا الخروج.

وجاءت والدة حبيب إلى غرفة سليم لتطمئن عليه وهي تحسب أنه ما زال نائمًا كما تركته منذ حين، فلما رأته مرتديًا بذلته أخذتها الدهشة ووقفت تنظر إليه متسائلة، فقال لها: «لقد رأيت أن أخرج للتنزه قليلًا في حديقة حلوان.»

فهمَّت بأن ترد عليه مُشيرة بالانتظار حتى يرجع حبيب من القاهرة ويصحبه إلى الحديقة، لكنها خشيت أن تذكِّره بغياب حبيب فيزداد تأثره، وآثرت أن تتركه يمضي وحده للترويح عن نفسه بعض الوقت في الحديقة. حتى إذا رجع منها استسلم للنوم بعد تناول طعام العشاء، ولا يستيقظ حتى يكون حبيب قد عاد من الإسكندرية ومعه والدة سليم، أو يعتذر إليه بما يراه.

وغادر سليم المنزل آخذًا طريقه إلى الحديقة، وفيما هو يمر بمحطة السكة الحديدية هناك، رأى القطار قادمًا إليها من القاهرة، فوقف ينتظر هبوط الركاب منه لعل حبيبًا أن يكون بينهم. فلما تحقق أنهم نزلوا جميعًا وليس فيهم حبيب، اشتدَّ سخطه عليه وغيرته منه على سلمى، ثم لاح له أن يستقل هذا القطار عائدًا إلى غرفته بالقاهرة حتى لا يجشِّم نفسه عناء مقابلة حبيب بعد ما رابه من أمره. وكان القطار قد بدأ يتحرك فسارع إلى الركوب، وألقى بنفسه على أحد المقاعد فيه، وهو يتنفس الصعداء كأنما أزيح عن صدره حمل ثقيل.

ولما وصل إلى غرفته، خلع بذلته وارتدى ثوب النوم، ثم تمدد في سريره، وقد أنهكه التعب وآثار الحمى وارتيابه في علاقة سلمى بحبيب.

وعبثًا حاول النوم ليريح جسمه وأعصابه، فبقي حينًا يتقلب في سريره وكله قلق وحيرة واضطراب، ثم لاح له أن يكتب إلى سلمى خطابًا ينبئها فيه بما كشفه من غدرها ونفاقها، فنهض وجلس إلى المنضدة التي إلى جوار السرير بعد أن أغلق باب الغرفة، وأخذ يكتب إليها ذلك الخطاب قائلًا فيه:

إلى الآنسة سلمى

أكتب إليك هذا الخطاب ولست أدري هل أستطيع الاستمرار في الكتابة حتى أتمه، أم أنتقل من الدنيا إلى الآخرة قبل ذلك. فأنا أكتب الآن ونار الحمى تتقد في رأسي وبدني، ورعشتها تهز القلم في يدي. ولكن هذا كله ليس شيئًا يستحق الذكر بجانب ما يعتمل في صدري وقلبي.

وقد حاولتُ أن أُمسك عن الكتابة إليك، بعدما تحققته من أمرك، ولكني خشيت أن أقضي نحبي قبل أن أُطلعك على معرفتي بخبيئة نفسك، وبكل ما حسبت أنه سيخفى عليَّ.

آه يا سلمى! وا أسفاه على الأيام التي قطعتها معتقدًا طهر حبك وإخلاصك، حريصًا على أن أكذِّب ما أسمعه عنك برغم وضوح صحته، وقيام الأدلة والقرائن كلها ضدك.

حتى والدتي يا سلمى، عَقَقْتُها لأجلك، ولم أستمع لما كررته من النصح لي بالابتعاد عنك، رغم إنذارها إياي بأنها لن ترضى عني أبدًا ما دمت على صلة بك، وبأنها ستموت حسرة وغمًا إن أبيت إلا التعلق بحبائل هواك.

وقد ساقت إليَّ الأقدار رجلًا لم أعرفه ولم يعرفني من قبل، فسمعت منه اتفاقًا قصة علاقته السابقة بك، وكيف انخدع بما أظهرت له من الوفاء والإخلاص، ولم يدخر في سبيل رضاك جهدًا ولا مالًا، ثم إذا به يستكشف مصادفة أنك عالقة القلب بسواه. وشد ما أسفتُ وتحسرت حين كشف لي الرجل عن اسم غريمه ومنافسه فيك، فإذا هو صديق لي طالما اعتقدت وفاءه وإخلاصه، وأنزلته من قلبي منزلة الأخ الشقيق، غير عالم بأنه مثلك داهية في المكر والخداع والنفاق!

وأخيرًا، وقعت في يدي بعد خطابك الأخير ورقة بخط يدك، تبثين فيها ذلك الصديق، بل ذلك العدو، ما تُكنين له من شدة الحنين والاشتياق. فكان أن انكشف الغطاء عن عيني، وأدركت أن ما طالما سمعته منك، وما قرأته في خطابك الأخير، عن المحبة الطاهرة، وتضحيتك في سبيلها، لم يكن سوى خداع وتضليل!

وا أسفاه على خيبة الرجاء فيك يا سلمى! إني مرسِل إليك مع هذا بالورقة المشئومة التي هي صك خيانتك ودليل خداعك ومكرك. تاركًا لك أن تندبي المحبة الطاهرة التي طالما استحلفتني بها، وأن تذكري العبرات التي ذرفتها عند الأهرام، والعبارات التي نمقتها في خطابك الأخير لتظهري أمامي بمظهر الطهر والنبل والعفاف، ولتوهميني بأنك ما زلت الوفية الحافظة للعهود والمواثيق.

وا أسفاه على شدة إخلاصي وصدق محبتي لك يا سلمى! لقد أسلمت زمام قلبي لمن لا ترعى عهدًا ولا ذمامًا!

ولكن هذا القلب لن يشقى ويتعذب بعد اليوم. فهذه هي الحمَّى تندلع نيرانها في جسمي، وما أحسبها إلا قاضية عليه القضاء الأخير عما قليل. وحينئذٍ يخلو لك الجو، ولا يبقى هناك ما يحملك على سكب العبرات وتنميق العبارات لتموِّهي بها على سليم الساذج الغر الذي أخلص لك الحب، وعق في سبيلك والدته الحنون، وكذَّب عينيه وأذنيه وقلبه ليبقى معتقدًا أنك ملاك طاهر لا تعرفين المخاتلة والرياء.

آه يا سلمى! إن والدتي المسكينة لا علم لها بما أنا فيه الآن، ولا شك في أنها ناقمة غاضبة لمخالفتي نصحها وإرشادها. لكني على يقين من أنها لن تلبث قليلًا بعد موتي حتى تلحق بي حسرة وحزنًا. فإذا قدِّر لك أن تقابليها قبل ذاك فاستغفريها لذنبي وذنبك. ووداعًا يا سلمى! وداعًا إلى الأبد، وإلى غير لقاء!

سليم

وطوى سليم الكتاب، ثم وضعه في ظرف، ونهض من مقعده وقد شعر بدوار شديد فعاد إلى الاستلقاء في سريره، وأخذ يفكر في وسيلة يرسل بها الكتاب إلى سلمى.

ولبث مستلقيًا كذلك حتى الغروب، ثم جاء الخادم فأضاء المصباح وسأله عما يريده من طعام للعشاء، ولم يكن سليم يشعر بشهية لتناول أي طعام، لكنه طلب قليلًا من المرق، ثم تناوله وهو ما زال شاعرًا بدوار الحمى وحرارتها، وعاد إلى التمدد في سريره، والتفكير في أمره.

ولاح له أن متاعبه كلها لم تجئ إلا لوجوده غريبًا وحيدًا في القاهرة حيث خابت آماله في الحب والصداقة ولم يلقَ في مهنته النجاح الذي كان يرجوه، فأخذ يناجي نفسه قائلًا: «آه لو أنني نجوت من هذه الحمى الطاغية القاتلة، إذن لسارعت من هذه البلدة الظالم أهلها، ونقلت مكتبي إلى الإسكندرية، وهناك أجد القلب الذي لا يمكن أن يكنَّ لي إلا المحبة والحنان، قلب والدتي العزيزة!»

وفي منتصف الليل، زايلته الحمى، وشعر بأنه استرد بعض قواه، كما شعر بأن كتابته ذلك الخطاب إلى سلمى قد أزاحت عن صدره جانبًا كبيرًا من ثقل حيرته وتردده، وما لبث بعد ذلك قليلًا حتى أخذه النعاس، فنام لأول مرة منذ مرضه نومًا عميقًا هادئًا لا تتخلله الأحلام المزعجة.

واستيقظ في الصباح وهو أحسن حالًا، فارتدى بذلته، ووضع في جيبه الخطاب الذي كتبه إلى سلمى، ثم هبط إلى الشارع وركب عربة مضى بها حتى بلغ أول العطفة المؤدية إلى منزل سلمى، فأمر السائق بالوقوف هناك، وكلفه أن يصعد إلى المنزل ويسأل عن الخادمة العجوز سعيدة ويدعوها إليه.

وبعد قليل جاءت سعيدة، فما كادت عيناها تقعان على سليم وهو جالس في العربة حتى خفَّت إلى استقباله مرحِّبة، وقبَّلت يده متظاهرة بالبِشر والحبور لرؤيته. فقال لها: «لي عندك رجاء فهل أنت على استعداد لإجابته؟»

فقالت: «إنني خادمتك المطيعة يا سيدي، ورهن إشارتك في كل ما تطلب، ولو كلفني ذلك حياتي.»

فربَّت كتفها شاكرًا، وأخرج من جيبه خطابه إلى سلمى وناولها إياه قائلًا: «كل ما أرجوه منك هو أن توصلي هذا الخطاب إلى سلمى يدًا بيد، دون أن يعلم بذلك أي أحد، وإذا سألك أحد من أبويها عمَّن خرجت لمقابلته الآن، فلا تذكري أي شيء عني، فهل فهمت؟»

ثم نفحها ببعض النقود، فتمنعت عن أخذها مؤكدة أن رضاه عنها هو كل ما تتمناه، لكنه أصر على أن تأخذ تلك النقود فأخذتها، وعاد هو في العربة من حيث أتى. فلما وصل إلى محطة السكة الحديدية، تذكر ما فكر فيه أمس من السفر إلى الإسكندرية، وخشي أن تعاوده الحمى بعد الظهر فتقعده عن تحقيق هذه الرغبة، فهبط من العربة ونقد سائقها أجره، ثم دخل المحطة فابتاع تذكرة سفر إلى الإسكندرية، ثم اشترى بعض الصحف وجلس يتسلى بمطالعتها في القطار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤