فصل الخطاب

أخذ سليم يقلب ظروف الخطابات الواردة إليه، فوقعت عينه على ظرف من بينها عرف لأول وهلة أنه بخط سلمى، فبغت وخفق قلبه. لكنه تجلَّد حتى لا تلاحظ إميلي تأثره واضطرابه، ثم تظاهر بحاجته إلى النوم، ووضع الخطابات كلها دون أن يفضها على المنضدة التي بجانب السرير، فانطلت حيلته على إميلي، ونهضت للانصراف وانتظار فرصة أصلح لاستئناف حديثها معه على حدة.

ورأى هو أن يطيب خاطرها بكلمة تنمُّ عن مبادلتها مثل شعورها نحوه فقال لها: «يلوح لي أني سأكون في المساء أشد حاجة إلى يدك اللطيفة يا عزيزتي.»

فخفق قلبها ونظرت إليه لترى ماذا يقصد بهذه العبارة، فإذا به يبتسم وينظر إليها بطرف عينه كأنه يعجب من أنها لم تفهم مراده، ثم قال لها: «سأحاول بعد النوم قليلًا أن أقرأ هذه الخطابات التي جاءتني من القاهرة، ولا شك في أن الرد عليها بخط يدك سيكون أسرع وأبدع، ولا سيما أن يدي ما زالت ضعيفة من أثر المرض. فما قولك؟»

فابتسمت وقالت: «إني رهن إشارتك، ويسعدني جدًّا أن أتولى عنك هذه المهمة.» ثم استأذنت وانصرفت إلى حيث انضمت إلى والدتها ووالدته في الغرفة المجاورة وجلسن يقطعن الوقت بالحديث متهامسات، مبالغة في توفير الهدوء والراحة لسليم.

وما خلا إلى نفسه في غرفته حتى سارع إلى مجموعة الخطابات الواردة إليه، وفضَّ الخطاب الذي كُتب طرفه بخط سلمى، فإذا هو بخطها من الداخل أيضًا، وقد كتبت فيه تقول:
أبعين مفتقر إليه نظرتني
فأهنتني وقذفتني من حالق؟
لستَ الملوم، أنا الملوم لأنني
أنزلت آمالي بغير الخالق!

قرأت خطابك الأخير أكثر من عشرين مرة، لعلي أستطيع أن أهتدي إلى تعليل معقول لما تضمنه من تهم خطيرة وأدلة ومستندات ملفقة، ولكني لم أجد سببًا يمكن الركون إليه إلا أنك رغم ذكائك تورطت في تصديق بعض الحساد وذوي الأغراض.

وقد حاولت أكثر من مرة أن أُرجع تلك الاتهامات الباطلة إلى رغبتك في التخلص مني لحاجة أخرى في نفسك، ولكني تذكرت أني صرَّحت لك في خطابي الأخير بأني وإن كنت لم أحب ولن أحب سواك، لا يسعني إلا أن أضحي بسعادتي كلها مادامت تتعارض مع ما يجب عليك لوالدتك الحنون من طاعة وبر وإحسان، فأحللتك من عهودك لتكون حرًّا تخطب وتتزوج ممن ترضى عنها والدتك. فهل جزاء من تقدم على مثل تلك التضحية أن تتهمها بالخيانة والغدر والنفاق؟

وليت شعري كيف رضيت لنفسك، وأنت رجل صناعتك المحاماة وتمييز الحق من الباطل، أن تعدل عما كنت تعتقده فيَّ من الطهر والإخلاص، ثم ترميني بشر ما تُرمى به فتاة، لا لشيء إلا أن رجلًا لا تعرفه زعم لك أني أوقعته في حبي ثم اكتشف أني عالقة القلب بصديق لك كنت تُنزله منزل الأخ الشقيق؟

وأخيرًا، ما هذه الورقة التي ذكرت أنها وقعت في يدك اتفاقًا، فكانت صك خيانتي ودليل مكري وخداعي وتضليلي؟ إنني لا أريد أن أصدق أبدًا أنك عنيت ما قلت عن هذه الورقة ولا عن ذلك الصديق، فأنا لم أكتب هذه الورقة ولا علم لي بشيء مما فيها، بل أنا لم أكتب طوال حياتي أي خطاب لرجل سواك. وقد عرضت جميع أصدقائك الذين أعرفهم فلم أجد بينهم أحدًا يمكن أن يصدق فيه ذلك الاتهام!

وأخيرًا، قُدِّر لي أن أقف على حقيقة كنت أجهلها وهي أنك اعتزمت خطبة فتاة من أهل الإسكندرية، وصدقني يا سليم إنني لم أحقد على هذه الفتاة قط، بل على عكس ذلك دعوت الله أن يبارك لها فيك ويبارك لك فيها لتعيشا سعيدين بمنجاة من متاعب الوشاة والحساد. وليس هذا لأني لم أتيقن بعد من أنك رميتني بتلك التهم الكاذبة وأنت على يقين من كذبها؛ ولكن لأني رغم ذلك كله ما زلت أرى قلبي أطهر وأنبل من أن ينبذ حب أول من طرق بابه وتربع فيه.

ومهما يكن من أمر، فلا تحسب أني أكتب إليك هذا الخطاب طامعة في أن تعود إلى ما كنا فيه، أو لأحملك على الندم والأسف لمقابلة تضحيتي وإخلاصي بالجحود والنكران وتلفيق التهم والأباطيل؛ ذلك لأني وطدت العزم على اعتزال العالم، وقضاء ما بقي لي من العمر في دير أو صومعة أتعبد فيها لخالقي وهو الخبير بما تكنُّ الجوانح والصدور، وإليه ترجع الأمور.

سلمى

لم يأتِ سليم على آخر خطاب سلمى حتى هاجت عواطفه وتناثر الدمع من عينيه، وأخذ يعيد قراءته في تدبر وإمعان، ثم تذكَّر ما لمسه في سلمى من صدق المحبة والوداد وكمال الخلق والعقل، ثم يقارن ذلك بالأسباب التي بنى عليها اتهامها واتهام حبيب، فلاح له أنه ظلمهما، وأن داود القبيح الوجه لا يمكن أن تحبه فتاة مثل سلمى، كما أن دعواه ضدها وضد حبيب، باعترافه هو نفسه، ليس في يده عليها أي دليل!

وأخذ يتذكر الورقة التي وجدها في رواية حبيب، فلاح له أيضًا أن خطها مختلف عن خط سلمى قليلًا. فاستبدت به الوساوس وبقي وقتًا غير قصير وهو شارد الذهن حائره. ثم أفاق من ذهوله وهمَّ بقراءة خطاب سلمى مرة أخرى، لكنه أشفق على رأسه أن يتصدع من تضارب العوامل المختلفة فيه، فطواه ووضعه في جيبه، ثم تناول من بين الخطابات خطابًا آخر كُتب بخط يشبه الخط الذي كتبت به خطابات والدته إليه، فتذكر أن السيدة وردة أخبرته بأن والدته كانت قد أرسلت إليه خطابًا طلبت إليه فيه الحضور من القاهرة. وما كاد يفضه ويقرأ أول سطر فيه حتى أخذته الدهشة، إذ وجد أنه موجَّه إلى شخص آخر سواه. فأعاد النظر إلى العنوان المكتوب على الظرف فإذا هو عنوانه كاملًا غير منقوص.

ثم لاحظ أن الشخص الموجه إليه الخطاب من الداخل اسمه داود، فتذكر ذلك الرجل القبيح الوجه الذي علم منه بخيانة سلمى وحبيب. ومضى يقرأ الخطاب لعل فيه ما يكشف سر إرساله إليه فإذا فيه:

عزيزي الأجل الماجد الخواجة داود

بعد السؤال عن صحتك الغالية، نخبرك بأننا تلقينا خطابك الذي أرسلته عقب وصولك إلى القاهرة، وسررنا كثيرًا لنجاح حيلتك اللطيفة مع الشخص المعروف، حتى إنه صدَّق الحكاية التي اخترعتها عن خيانة الفتاة، وبدت في وجهه أمارات الغيظ والقلق.

كما أننا تلقينا خطابك التالي الذي بشرتنا فيه بنجاح سعيدة في سرقة الخطاب الذي أرسلناه إليه باسم والدته محذرة إياه أن يستمر في علاقته بالفتاة وتتهمها وأسرتها بالمكر والخداع. ثم نجاح سعيدة في إطلاع الفتاة على ذلك الخطاب، الأمر الذي أثارها وحملها على مقاطعته وإحلاله مما بينهما من العهود.

ولكن مضت مدة غير قصيرة دون أن تتلقى أم صاحبنا أي رد على خطاباته إليه، وأنت تعلم أن الانتظار يكلفنا مشاق ونفقات جسيمة في التقرب إلى والدته وغير ذلك، ولولا أن إميلي ميالة إليه ما تكبدنا كل ذلك العناء. وعلى كل حال أخبرك بأنني أغريت والدته بالكتابة إليه لكي يحضر إلى هنا. وقد كتبت بنفسي مع خطابي هذا إليك خطابًا إليه على لسانها، فعليك أن تستمر في مراقبته لترى ما يصنع بعد أن يتلقى خطاب والدته المذكور. ولك أزكى تحياتي وأشواقي وحبي …

وردة

انقشعت الغشاوة بعد ذلك عن عيني سليم، ووقف على سر المؤامرة التي دبرتها وردة مع داود وسعيدة للتفريق بينه وبين سلمى. ولم يتمالك عواطفه بعد ذلك، فانهمرت دموعه حزنًا وندمًا على ما جعله يفرط في حق سلمى ويتهمها ظلمًا وعدوانًا. ثم انقطع فجأة عن البكاء وأخذ في الضحك بصوت عالٍ فرحًا بظهور براءة سلمى وحبيب، ونجاته من الفخ الذي نصبته لإيقاعه وردة وصاحبها اللعين داود.

وفيما هو كذلك، دخلت عليه والدته، فما كاد يراها حتى قال لها: «أغلقي باب الغرفة من الداخل وتعالي.»

فعجبت لذلك الطلب، ولكنها أغلقت الباب وسارعت إليه متسائلة، فأشار إليها أن تجلس بجانبه على السرير. ثم أخذ يشرح لها هامسًا جميع الأسرار التي وقف عليها، ومؤامرة وردة من أولها إلى آخرها، فكادت لا تصدقه لغرابة الأمر ولطيبة قلبها، لولا أن قرأ عليها كتاب وردة التي أرسلته بخطها إلى داود ثم أخطأت ووضعته في الظرف الذي كتبت عليه عنوانه هو لتضع فيه الخطاب الآخر الذي كتبته باسمها إليه.

واغرورقت عينا والدة سليم بالدموع وقالت: «ويل لكل خائن غدار! وويل لي أنا أيضًا لأني كنت سببًا لشقاء سلمى المسكينة! ولكن عذري أني كنت مخدوعة ولا أعلم أنها ملاك طاهر وأن وردة وابنتها من الشياطين الملاعين!»

فقال سليم: «ليس الذنب ذنبك يا أماه، ولكنه ذنب تلك الفاجرة اللئيمة التي دبرت دسيستها القذرة، واشترك معها في تنفيذها ذلك الشيطان داود، وخادمتها الخبيثة العجوز، للإيقاع بسلمى البريئة، والتفريق بيني وبينها، وإن نفسي لتحدثني بأن أنتقم لها منهم شر انتقام.»

قالت: «يجب أن نخرج من هنا أولًا، دون ضجة، ثم ننظر في الأمر بعد ذلك.»

وسمعا وقع أقدام وأصواتًا خارج الغرفة، فقال سليم لوالدته: «سأتظاهر بورود كتاب إليَّ من القاهرة يدعوني إلى السفر إليها حالًا لعمل عاجل، ثم أذهب إلى منزلنا حيث تلحقين بي بعد أن أكتب إلى حبيب صديقي الوفي المظلوم، ليذهب إلى سلمى، ويبلغها أننا سنزورها بعد يوم أو يومين لتصفية الجو وإعادة المياه إلى مجاريها.»

فوافقته والدته على ذلك، ونهضت لتفتح الباب، بينما نهض هو وأخذ في ارتداء بذلته استعدادًا للانصراف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤