سليم وسلمى

عاد سليم في العربة من شاطئ النيل وعيناه مبتلتان بالدموع وقد أخذ منه القلق كلَّ مأخذ، واشتدَّت به لوعة الغرام، وكان يظن أن أمره ما زال مجهولًا من كل إنسان على أنه كان يشعر أن كتمانه حبَّه مضرٌّ بصحته وعقله، ويود من صميم قلبه أن يلقى صديقًا يبث إليه شكواه تخفيفًا للوعته.

ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة
يواسيك أو يؤسيك أو يتوجع

وكان يثق بصديقه حبيب كل الوثوق ولكن خشي مفاتحته بالأمر من تلقاء نفسه.

ولكن حبيبًا كان من الرقة وحسن الذوق على جانب عظيم، فبقي رغم وقوفه على سر حب صديقه، لا يخاطبه بشيء في شأنه، ولا يسأله عنه؛ خوفًا من أن يعد ذلك منه تطفلًا أو فضولًا.

وكان سليم مقيمًا بغرفة مفروشة في نُزُل بأحد شوارع القاهرة؛ لأنه كان وحيدًا بها، ولم يأتها إلا منذ بضع سنين ليمارس مهنة المحاماة، ولما كان غير واثق بنجاحه فيها، آثر ألا يأتي بوالدته معه، وتركها مقيمة بمنزل أخيه المتزوج في مدينة الإسكندرية، على أن يأتي بها لتقيم معه متى استقر به المقام بالقاهرة.

واتفق له بعد مجيئه إلى القاهرة ببضعة أشهر، أن تعرَّف إلى سلمى خلال تردده إلى بيت أبيها، وهو من أبناء بلدته، فتعلَّق قلبه بها، واعتزم خطبتها لنفسه لِمَا آنس فيها من الأدب والتهذيب والكمال. لكنه لم يخبر والدته بذلك أول الآمر، فلما أطلعها عليه بعد حين، فوجئ بعدم موافقتها على هذه الخطبة، وراجعها مرارًا فلم تزدد إلا إباءً. وأخيرًا بعثت إليه بذلك الخطاب الذي تسلَّمه من مكتب البريد، مذكرة إياه بحقوقها عليه، مؤكدة أنها إن لم يعدل عن خطبة الفتاة فلن تعده ولدها، بل لن تبقى على قيد الحياة لأنها إن لم تمت حسرة وكمدًا فستقتل نفسها لتستريح من شقائها بعقوقه ومخالفته إرادتها!

وكان رغم شدة تعلقه بسلمى، وإعجابه بخصالها، لا يريد أن يخالف والدته، فوقع في حيرة كادت تدفع به إلى وهدة اليأس والانتحار.

فلما عاد إلى غرفته أضاء الشمعة وبدل ثيابه، ثم جلس إلى مائدة بجانب سريره وأخرج كتاب والدته ليعيد قراءته، فلما نظر إليه عاد فطواه وأرجعه إلى جيبه خوفًا من إثارة عواطفه، وأشعل سيجارة أخذ يدخنها وفكره مشغول بما هو فيه من الارتباك، وباضطراره إلى كتمان أمره عن خطيبته حتى لا تتكدر، وربما أدَّى بها الحزن إلى ما لا تحمد عقباه.

وما زال في هواجسه هذه حتى الصباح، فنهض إلى عمله كالعادة، وعند العصر ركب عربة مضى بها إلى دار سلمى ليمتِّع طرْفه وسمعه برؤيتها وحديثها، وكان يرتاح لمجالستها وينسى وهو معها كل متاعبه ومشاغله.

وما كادت المركبة تقف به أمام البيت حتى سارعت سلمى إلى استقباله وقلبها يطفح سرورًا ووجهها يُشرق ابتسامًا، فلما دخل سلَّم على أهل البيت وقد أبرقت أسرَّته، ثم مد يده إلى سلمى مسلِّمًا وجلسا يتجاذبان أطراف الحديث وكلٌّ منهما لا يرفع نظره عن وجه الآخر، وأهل المنزل فَرِحون بائتلاف قلبَيِ الخطيبين وبما جمعه الله فيهما من صفات الكمال.

وقالت سلمى له بعد قليل: «أرجو أن تكون قد سُررت أمس بمشاهدة الزينة في حديقة الأزبكية!»

فقال: «الواقع أني سُررت بها كثيرًا، ولكن سروري لم يتم لأني كنت أود لو أنك كنت معي لنشاهد تلك المناظر البديعة معًا.»

فقالت: «إن ما يسرك يسرني، وقد كنت طول الوقت منشرحة الصدر لعلمي أن صدرك سينشرح ولا شك بتلك المناظر.»

قال: «بورك فيك يا عزيزتي، وإني لأحمد الله على أن رأيتكم جميعًا في عافية. على أني كنت أود لو أن التقاليد لم تَحُلْ دون ذهابك معي فأزداد سرورًا بمصاحبتك.»

قالت: «وماذا تعني بذلك؟»

قال: «أعني أن الناس لا يعلمون بما تم من أمر خطبتنا، فلو أنهم رأونا نتنزه معًا لأدى ذلك إلى تقوُّلهم علينا، مما لا أرضاه لك.»

فخجلت سلمى وأدركت أنه يشير إلى بقاء خطبتهما في طي الكتمان، ثم نظرت إليه نظرة كلها حب وحنان، وقد تضرجت وجنتاها خفرًا وحياءً وأطرقت ولم تتكلم.

فتبسم سليم، وقد ازداد إعجابًا بجمال سلمى وكمالها، ثم وجَّه خطابه إلى والدتها قائلًا: «أليس كذلك يا سيدتي؟»

فقالت: «إنك معدن اللطف والكمال يا ولدي، ولكن الناس أكثرهم لا يتورعون عن القال والقيل، ومن الحكمة ألا نتيح لهم الفرصة لذلك، وكل آتٍ قريب.»

قال: «هذا هو اعتقادي أيضًا، ولكنني أود أن نذهب للتنزه جميعًا في مكان خارج المدينة بمعزل عن الرقباء وتكونين وحضرة العم معنا فنقضي يومًا من الأيام الجميلة.»

قالت: «نحن لا نتأخر عن القيام بما فيه سرورك.»

قال: «إن سروري لا يتم إلا بسروركم جميعًا.» ثم حوَّل نظره إلى سلمى مستطلعًا رأيها فقالت: «أنت تعلم ما يسرني، فاتفِقوا فيما بينكم على الموعد الذي يعجبكم وأنا رهن مشيئتكم.»

قال: «سنعيِّن المكان والزمان في فرصة أخرى.»

ثم أخذوا في أحاديث مختلفة، وفيما هم في ذلك سمعوا رنين جرس الدار، ثم دخل حبيب فقاموا جميعًا للترحيب به، فسلَّم عليهم وجلس يشاركهم الحديث، ولما سألوه عن والدته وشقيقته قال: «هما في خير وتهديانكم أزكى السلام، وكان في عزمهما الحضور إلى القاهرة اليوم، ثم آثرتا تأجيل ذلك إلى يوم الجمعة المقبل، لتقضيا معكم بعض الوقت، ثم تتوجهان إلى بيت الخواجة سعيد؛ لأننا تواعدنا مع أسرته على زيارة الأهرام معًا، ويا حبذا لو شاركتمونا هذه الزيارة!»

فقال سليم: «الحق أنها زيارة ممتعة، ولئن وافق عمي والأسرة على ذلك لنكونن جميعًا من السعداء.»

فاستحسن الجميع ذلك الرأي، وتمَّ الاتفاق على الذهاب إلى الأهرام صباح يوم الجمعة القادم، ثم أخذوا في أحاديث أخرى.

•••

كان حبيب وحده من بين الحاضرين يعلم أمر خطبة سلمى لصديقه سليم، وقد كان في قلق عليه منذ وقف على حقيقة حاله مصادفة على ضفة النيل؛ ولذلك سارع بعد خروجه من الديوان إلى زيارته في غرفته بالفندق ليرى ما تم له، فلما لم يجده هناك وعلم أنه ذهب إلى بيت خطيبته، لحق به إليه.

وكان يتوقع أن يرى على وجه صديقه شيئًا من علامات الاضطراب، واعتزم أن يعزيه ويسعى في تخفيف كربه، ولكنه شاهده على غير ما كان يتوقع وكأنه لم يكن في شيء مما كان بالأمس، فعجب لتأثير المحبة في قلوب المحبين، وكيف أنها مع ما يخالطها من الأكدار تكون أكبر تعزية لهم! وهكذا خفَّ قلقه على صديقه، ولكنه بقي معتزمًا مفاتحته في الأمر في فرصة أخرى لعله يستطيع مساعدته بشيء.

ولما حان وقت العشاء نهض حبيب مستأذنًا في الانصراف لكي يلحق القطار الذاهب إلى حلوان بعد قليل، فودعوه بمثل ما استقبلوه به من الإعزاز وخرج من هناك إلى المحطة رأسًا، مؤجلًا المرور ببيت الخواجة سعيد إلى فرصة أخرى.

أما سليم فبقي في بيت خطيبته إلى حوالي الساعة الحادية عشرة، وكانت الساعات تمر مسرعة كالسحاب دون أن يشعر بها لفرط سروره بمجالسة خطيبته واستئناسه بحديثها وإعجابه بكمالها، فضلًا عما كانت عليه من الجمال وخفة الروح. ثم ودعهم وخرج وقلبه يود البقاء، ولم ينسَ قبل خروجه أن يضغط يدها وهو يصافحها مودعًا، فضغطت يده بدورها متمنية له السلامة في الذهاب والإياب.

ولم يكد سليم يخرج من البيت حتى عادت إليه هواجسه وأخذ يفكر فيما هو فيه من الارتباك، فانقبض وجهه وقلبه، وما كاد يصل إلى غرفته حتى وجد بطاقة زيارة متروكة له باسم داود سليمان، فأخذه العجب لأنه لا يعرف أحدًا بهذا الاسم، ثم دق جرسًا أمامه داعيًا الخادم، فلما جاءه سأله عمن أتى بتلك البطاقة، فقال: «إن صاحبها أتى لمقابلتك، فلما لم يجدك تركها على أن يعود صباح الغد.»

وبعد أن صرف سليمُ الخادمَ، جلس يكتب إلى والدته خطابًا يرد به على خطابها، ولكنه كان مشتت الفكر لا يدري ماذا يكتب، فكتب سطرين ثم مزق الورقة وعاد فكتب سطرين آخرين ولم يعرف كيف يعبر عن أفكاره لشدة ارتباكه فمزق هذه الورقة أيضًا وأطرق مفكرًا وقد أخذ منه الارتباك مأخذًا عظيمًا. وبقي كذلك حينًا غير قصير، ثم نهض دون أن يكتب شيئًا فبدَّل ثيابه وتمدد في سريره محاولًا النوم. لكنه بقي مسهدًا يتقلب في فراشه إلى أن طلع الفجر فغادر الفراش وارتدى ثيابه، ثم أخذ يشغل نفسه ببعض أوراق القضايا التي وكل فيها.

وفيما هو في ذلك طرق الخادم باب الغرفة ثم دخل وأنبأه بقدوم الزائر الذي ترك بطاقته بالأمس فأمره بالمجيء به.

ودخل عليه الزائر، فإذا هو كهل طويل القامة، أفطس الأنف، ضيق العينين، في فمه اعوجاج ملحوظ وأسنانه بارزة، فرد تحيته بمثلها ورحب به.

ولما استتب الجلوس بالزائر افتتح الحديث في الشأن الذي جاء من أجله فقال: «لقد جئت أمس لمقابلتكم فلم يسعدني الحظ بذلك إلا الآن.»

فقال سليم: «أهلًا وسهلًا، وإني ليسعدني أن أكون في خدمتك.»

قال: «أشكرك يا سيدي على هذا الفضل الكبير، ولكني أرجو أن تجيب لي قبل ذلك طلبًا بسيطًا.»

قال: «ما هو هذا الطلب؟» قال: «تقسم لتحفظنَّ ما أقوله لك سرًّا مكتومًا عن كل بشر.»

فتبسَّم سليم والتفت إليه قائلًا: «إن في طلبك هذا إهانة لي وطعنًا في كرامتي؛ إذ لا يخفى عليك أن المحامين مكلفون حفظ الأسرار التي يقفون عليها بحكم مهنتهم كما يحفظ الكهنة سر الاعتراف، فلا داعي لأن تكلفني مثل هذا القسم.»

فقال داود: «معاذ الله، إني لم أُرِد طعنًا أو إهانة، وأنا أعلم طهارة ذمتك ولولا ذلك ما جئت إليك مستشيرًا، ولكن الأمر الذي جئت فيه يتعلق بالأعراض؛ ولذلك طلبت إليك القسم زيادة في الحرص على هذه الأعراض.»

فقال سليم: «إن العادة لم تجرِ بمثل ذلك قبل الآن، ولكنني إكرامًا لخاطرك ولمن أشرت إليهم، أقسم لك بالذمة والشرف لأكتمن كل ما تقوله لي الآن.»

فشكره داود على ذلك وقرَّب كرسيه منه ثم أخذ يقص عليه قصته.

•••

قال داود: «إني من أصحاب الأملاك الزراعية في مديرية الغربية، ولكن إقامتي بالقاهرة في شارع شبرا قرب منزل الخواجة سليمان.»

فلما سمع سليم ذلك خفق قلبه لأن الخواجة سليمان هو والد حبيبته سلمى، فأصغى إلى داود بكل جوارحه، وواصل هذا كلامه فقال: «وكنت منذ أربع سنوات أتردد إلى بيت جاري المشار إليه ونتبادل الزيارات فيما بيننا كعادة الجيران في بلادنا، وكان له ابنة اسمها سلمى …»

فاشتد خفقان قلب سليم، وازداد اشتياقًا إلى استطلاع الحكاية فأنصت لسماع تتمة الحديث، ومضى داود فقال: «وقد آنست في تلك الفتاة لطفًا وتهذيبًا قلَّ مثالهما كما رأيت منها مَيْلًا إليَّ، وكنت أستأنس بها كثيرًا حتى علقتها ومال قلبي إليها.»

وهنا كاد قلب سليم أن يقفز من بين ضلوعه، وشبت نار الغيرة فيه، لكنه أمسك عن إظهار عواطفه ليقف على نهاية القصة.

فقال داود: «فلما رأيتها تحبني وتظهر لي الميل الشديد تلميحًا وتصريحًا، ورأيت أباها يلاطفني ويكثر من دعوتي إلى زيارتهم، لاح لي أن أخطبها منه، وبقي هذا الأمر يتردد في فكري زمنًا طويلًا خوفًا من أن يكون في الأمر دسيسة أو خديعة، ولكن الحب أعمى بصيرتي فصممت على خطبتها منه وفاتحته في الأمر، فرأيت منه ميلًا شديدًا إليَّ، وقال لي: «إن سلمى تكنُّ لك أضعاف هذا الميل.» فازددت تعلقًا بالفتاة وصرت أُكثر من التردد إلى البيت، وكنت أحيانًا أخلو إلى الفتاة ونظل الساعة والساعتين نتبادل عواطف الحب، ولم أكن أرى منها إلا حبًّا وهيامًا وطالما صرَّحت لي بأنها لم يعلق قلبها بسواي إلى غير ذلك من عبارات المَحبة.»

فلم يتمالك سليم عند ذلك عن الانتفاض من شدة التأثر، وعلا وجهه الاحمرار وأحس كأن نارًا تتقد في جسمه غيرة وحنقًا، لكنه تجلد حتى يسمع بقية الحديث، مكتفيًا بإظهار عنايته بتتبعه.

فقال داود: «ولا أكتمك أني وصلت في حب هذه الفتاة إلى درجة أن صورتها لم تكن تفارق ناظري ليلًا ولا نهارًا، وظننت نفسي قد بلغت نهاية السعادة بالحصول عليها. على أني لم أخطبها رسميًّا لأن أباها العجوز — سامحه الله — قال لي: «إن الخطبة لا بأس من تأخيرها.» ثم طلب مني بعض المال على سبيل القرض، لاحتياجه إليه في دعوى مقامة عليه، لا أعلم ما هي وربما كانت مثل الدعوى التي أرجو أن أستطيع رفعها ضده بمساعدتك، فنقدته مائة جنيه. ونظرًا إلى ثقتي به لم أكلفه كتابة صك بها، وقد كنت أحسبه أشرف رجل على وجه هذه البسيطة كما كنت أحسب ابنته أطهر فتاة رأتها عيني. ولكني اضطررت بعد ذلك إلى العدول عن خطبة الفتاة لسبب أخجل أن أذكره.»

فاشتعل قلب سليم غيرة وحنقًا، ولم يتمالك عن النهوض عن الكرسي بغتة لشدة الانفعال، لكنه عاد إلى عقله وخاف الفضيحة فتظاهر بأنه يبحث عن علبة سجايره ثم تناولها ودفع إلى داود سيجارة منها، وأشعل لنفسه أخرى وجلس لسماع الحديث وهو يجاهد نفسه لإخفاء عواطفه.

ولم تَخْفَ حالته على داود، لكنه تجاهل وواصل كلامه فقال: «نعم، إنني أخجل من ذكر سبب عدولي عن خطبة الفتاة، ولا سيما أن الأمر يمس العرض.»

فقال سليم: «لا داعي للخجل، وقد أقسمت لأكتمن السر.»

فتردد قليلًا، ثم قال: «ماذا أقول؟ يكفي أني دخلت يومًا منزل الخواجة سليمان هذا دون أن أقرع الجرس، فلما دخلت غرفة الفتاة وجدتها جالسة بجانب شاب — كنت أعده صديقًا للأسرة — في هيئة مريبة.»

وهنا يعجز القلم عن شرح حالة سليم عند سماعه ذلك الاتهام الموجَّه إلى حبيبته التي يعتقد فيها العفاف والطهر، فلم يستطع إمساك عبراته، وغادر الغرفة متظاهرًا بأنه يريد حاجة خارجها، ثم عاد بعد أن مسح دموعه فجلس على كرسيه ساكتًا مصغيًا ولكن قلبه يتقد غيرة وحنقًا.

وتجاهل داود ما لاحظه على سليم، وأخرج منديله فمسح به أنفه وشاربيه وعاد إلى إتمام حديثه فقال: «ولما رأيتها مع الشاب المشار إليه في تلك الخلوة المريبة، لم أتمالك عن الخروج حالًا وقد اتقدت نار الغيرة في قلبي، ورجعت من حيث أتيت وبقيت مدة لا أزور ذلك البيت. على أني كنت أفكر دائمًا في أمر المائة جنيه التي اقترضها مني أبو الفتاة، وأخيرًا لاح لي استشارة محامٍ ماهر لرفع الدعوى على الرجل مطالبًا إياه بأداء ذلك الدين. ثم رأيت أن أطالب الرجل أولًا، فلما طالبته أخذ يماطلني ويعدني تارة بالدفع، ويسألني تارة عن سبب عدولي عن خطبة الفتاة فألفق له بعض الأعذار. وأخيرًا كشفت له حقيقة ما وقفت عليه من أمر ابنته فقال لي: «إن ذلك الشاب صديق الأسرة كما تعلم، ولا شكَّ في أنه هو الذي غرَّر بالفتاة مستغلًّا بساطتها، لكنه لم ينل منها شيئًا.» ولما يئس من إقناعي، ورأى أني مصرٌّ على إرجاع مالي الذي أخذه، أنكر أنه اقترضه مني. فهل تظن أني إذا رفعت عليه دعوى أستطيع ربحها؟»

فقال سليم وقد أمسك عواطفه: «لا يخفى على فطنتك أن الدعاوى المالية لا تقوم إلا بالبينة، فهل عندك بيِّنة أو شاهد يشهد بذلك؟»

فقال: «إني دفعت إليه المبلغ سرًّا دون أن يعلم أحد بذلك، ولكن الشاب الذي حدثتك الآن عن صلته بالفتاة، علم بالأمر خلال تردده إلى المنزل، على أني ما أظنه يقبل إثبات هذه الدعوى؛ لأنه كان السبب الأكبر بل هو السبب الوحيد لما حصل، وبناءً عليه أقول إنه ليس لديَّ بينة أو شهود.»

فاشتغل بال سليم بذلك الشاب وأحبَّ معرفة اسمه فقال: «هل تعرف ذلك الشاب الذي أشرت إليه؟»

قال: «هو شاب لا أراه في القاهرة الآن إلا يسيرًا، واسمه حبيب.»

فاضطرب سليم عند سماعه اسم صديقه بعد أن سمع ما قيل عنه وعن سلمى، لكنه تجاهل وأجاب متظاهرًا بأنه غير مكترث قائلًا: «إني أعرف هذا الشاب معرفة بسيطة، وإذا لم تستطع الحصول على شهادته لا أظنك تستفيد شيئًا من رفع دعواك.»

فقال داود: «أما شهادته فأنا واثق بأني إن خاطبته في شأنها فلن يقبل أداءها، وربما ادعى أنه لم يرني قط ولا عرف شيئًا عني، وعلى هذا أرى الأولى بي أن أترك عوضي على الله، وأكتفي بأني تخلصت من الشرَك الذي كان منصوبًا لي، وأشكر الله أني عرفت حقيقة الفتاة قبل العقد عليها، ولو كان ذلك بعد الاقتران بها لكانت المصيبة أعظم. والآن لا حاجة بي إلى أن أذكرك بقسمك، لكي تكتم حديثنا هذا عن كل إنسان كما وعدت وتعتبر أني لم أقابلك الآن ولا خاطبتك في شيء.»

ثم نهض مودعًا شاكرًا لسليم حسن مشورته، وأراد أن ينقده أجر هذه المشورة فلم يقبل سليم، فخرج مكررًا الشكر، وترك سليمًا على مثل الجمر.

وما كاد ينصرف حتى أغلق سليم باب الغرفة وجلس يناجي نفسه وقد أخذ منه الغيظ كلَّ مأخذ، فقال: «أهذه حقيقتك يا سلمى؟ أين عفافك وأنَفتك؟ بل أين تهذيبك وأدبك؟ أفي يقظة أنا أم في حلم؟ لا لا، لا أصدق ذلك عنك. ولكن كيف أتهم الرجل بالافتراء، وما الذي يحمله على الكذب أو الإيقاع بيننا وهو لا يعرف عني شيئًا، وإنما قاده الاتفاق إليَّ؟ وما أعجب هذا الاتفاق الذي كشف لي أمورًا كنت عنها غافلًا!»

ثم سكت حائرًا لا يدري بِمَ يفسر تلك الحكاية، وأخيرًا نهض بغتة وقد اتقدت الغيرة في بدنه كالجمر وقال: «آه منك أيضًا يا حبيب، آه من قلب الإنسان ما أفسده! أتحب سلمى وتحبك، ثم تظهران لي بمظهر الإخلاص؟ آه من هذا الزمان! الآن عرفت صدق مقال والدتي، وإنها والله لأصدق مني مقالًا وأوسع اختبارًا.» قال ذلك وأخرج كتاب والدته من جيبه وأخذ يقرؤه حتى وصل إلى قولها فيه:

لا تغترَّ يا ولدي بمظاهر البنات فإنهن أقدر البشر على المداهنة والنفاق، وقد يظهرن العفاف وهنَّ بعيدات عنه، ويبدين الإخلاص وهن أروغ من الثعلب. وفضلًا عن ذلك فإن الفتاة التي علقتها ليست ممن يليق بك الالتفات إليهن، وقد سمعنا عنها ممن عرفوها هنا أنها قد نصبت مثل هذه الشراك لسواك وأخفقت سعيًا وخابت آمالها ويكفيني التلميح عن التصريح.

فلما قرأ هذه العبارة، أخذ يلعن الساعة التي عرف فيها ذلك البيت؛ لأنه لم يعد يعرف الراحة منذ عرفه. وحدثته نفسه بأن يتخلَّى عن سلمى قبل عقد الخطبة، ولكن نار الحب ثارت في قلبه كأنها تكذِّب ما بلغه فقال: «لا لا يا سلمى، أنت والله حبيبتي ومنتهى أملي، وقد وهبتك هذا القلب وملكتك نفسي حتى استوليت على كل عواطفي، ولم ألقَ منك منذ عرفتك إلا كل جميل، فلا أنثني عن حبك ولا أظن بك سوءًا. ولكن ما هذه الحكاية التي سمعتها الآن؟ أهي محض اختلاق؟ كلا فقد علمت بها اتفاقًا، ولو كان بيني وبين راويها علاقة أو معرفة لاتهمته بالافتراء والكذب وقلت إنه واشٍ يريد فَصْمَ ما بيننا من علائق المحبة. أتحبين حبيبًا كل هذه المحبة وتقولين إنك تحبينه من أجل صداقته لي؟ تبًّا لك وله! ولكن … ولكن حبيبًا صديقي وقد عرفته منذ نعومة أظفاره ولم أرَ فيه إلا إخلاصًا وغيرة، ولكن … ولكن النفس أمارة بالسوء وعين الحب عمياء، فلا بد لي من التجلد والصبر، ثم ملاحظتكما ومراقبة خطواتكما وحركاتكما، فإذا تحقق لدي ما سمعته الآن … آه آه من الحب ما أمره وما أحلاه! لا لا، بل هو مر علقم وقد صدق من قال: «إن سوء الظن من حسن الفطن»، فلو أني لم أفتح قلبي لك وأضع ثقتي فيك ما عميت عن حقيقة حالك وحال ذلك الشاب الذي خدعني بصداقته سنين. ولكن مهلًا سوف تريان وأرى، وكل آتٍ قريب!»

ثم نهض وهو في أشد الانفعال، وخرج لا يلوي على شيء. وفيما هو في الطريق نظر إلى ساعته فإذا الساعة الحادية عشرة، ففطن لميعاد المرافعة في مجلس الاستئناف. وكان عليه أن يذهب للمرافعة في دعوى وُكِل فيها عن بعض الناس، ولكنه رأى أنه لا يستطيع ذلك وهو في مثل ذلك الانفعال، فسار وهو لا يدري إلى أين يذهب، فقاده الاتفاق إلى حديقة الأزبكية فدخلها وجلس على مقعد بإزاء البركة. وكانت الحديقة في ذلك الحين هادئة لخلوها من الناس، فأخذ يجول بأفكاره فيما سمعه في صباح ذلك اليوم وهو يكاد ألا يصدق أنه سمعه في اليقظة لغرابته وبعده من اعتقاده السابق.

ولبث في حيرة تتقاذفه الهواجس وتتلاعب به الظنون، وهو تارة ينقم على سلمى وسوء طويتها، وطورًا يكذب ما سمعه عنها ويجلها عن مثل تلك الدناءة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤