في منطقة الأهرام

بكَّر الجميع في الصباح التالي إلى منزل الخواجة سليمان، ثم جاءوا بأربع عربات ركبوها إلى منطقة الأهرام وقد أعدوا كل ما يحتاجون إليه في نزهتهم.

وسارت بهم العربات حتى وصلوا إلى الجزيرة وكلهم فرحون بذلك الاجتماع ولا سيما حبيب؛ لأنه كان ينتظر ذلك اليوم بفروغ صبر. أما سليم فكان في العربة مع سلمى ووالديها وكل منهما يسترق النظر إلى الآخر ويحاذر كشف سريرته.

وكان ذلك النهار صافي الجو هادئًا، فمرت العربات في طريق الأهرام المظللة بالأشجار تتناغى فوقها الأطيار، وعلى كلٍّ من جانبي الطريق بساتين يانعة تكسوها الأعشاب الخضراء، وتسرح فيها الماشية من البقر والجاموس يسوقها رعاة من الأحداث تكسو أجسادهم خِرق بالية ولكنهم فرحون بما رزقهم الله من العيش السهل على ضفاف النيل الخصبة المرعى الرقيقة النسيم، وليس فيهم إلا مَن أنعشته نسمات الصباح فأخذ يغني كأنه يشارك الأطيار في تغريدها. أما الماشية فكانت تسرح وتمرح في مرعاها غافلة عن شواغل بني الإنسان.

كانت العربات تحمل قلوبًا تتقد حبًّا يخامره في بعضها تردد، وفي بعضها الآخر تحسر أو ارتباك، والآباء والأمهات في غفلة عما شَبَّ في أفئدة أولادهم من العواطف، والطبيعة فوق كل ذلك تضحك من ضعف بني الإنسان وتستخف بما يستعظمونه لكثرة ما مر بها من الأجيال، وما شهدت من الأهوال حتى تساوى لديها الكبير والصغير والحب والبغض.

وما كادت العربات تدخل ذلك الطريق حتى لاحت لمن فيها أهرام الجيزة الكبرى من خلال الأشجار، قائمة كأنها جبال راسيات. واشتغلت بها أفكارهم وطارت إليها قلوبهم وقد خيِّل لهم لعظمها أنها منهم على أقرب من مرمى القوس، في حين أن بينهم وبينهما مسيرة ساعة أو تزيد.

وأخيرًا وقفت العربات بهم عند مرتفع تعلوه الأهرام الثلاثة كأنها جبال منتظمة الهندام، فترجلوا جميعًا ومشوا صُعدًا يطلبون الأهرام وعيونهم شاخصة إليها حتى شغلهم حينًا من الزمان لم ينطق خلاله أحدهم ببنت شفة. ولما دنوا منها أشرفوا على تمثال أبي الهول القابع على مقربة منها كأنه الحارس الأمين.

وهُرع لاستقبالهم هناك كثير من التراجمة والأدلاء في ملابس أهل البادية، وجعلوا يخاطبونهم بلسان أعجمي أرادوا به أن يكون اللغة الإنجليزية ولكنه كان مزيجًا منها ومن الفرنسية. وكان هؤلاء لكثرة تردد الإفرنج إلى الأهرام يحسبون كل زائر لتلك المنطقة إفرنجيًّا، وقد رجح لديهم هذا الظن لما رأوا السيدات في الزي الإفرنجي، على أنهم ما لبثوا قليلًا حتى علموا أن هؤلاء القادمين ليسوا من الأجانب؛ إذ سمعوهم يتكلمون باللغة العربية، فتقدم شيخهم وسألهم قائلًا: «هل لكم في الصعود إلى قمة الهرم الكبير؟»

وهنا أعرب سليم عن رغبته في الصعود، فأوقفه حبيب محذرًا إياه قائلًا: «إني لا آمن عليك هذا الصعود، فإن في ذلك خطرًا كبيرًا، وكم من أناس خسروا حياتهم لتجرئهم على صعود الهرم، فزلَّت أقدامهم خلال ذلك.»

فلما سمعت سلمى ذلك اقشعر جسمها خوفًا على حبيبها ونظرت إليه وفي ملامح وجهها ما ينم عن خوفها على حياته، فتأثر بتلك النظرة تأثرًا شديدًا، ولكنه تذكر حديث داود عنها، فانقبض قلبه وظهر ذلك على وجهه فحوَّل نظره عنها مغضبًا، فدنت هي منه تاركة والديها يذهبان إلى الجانب الآخر من الهرم ليتأملا ارتفاعه ومعهما الخواجة سعيد، ثم التفتت وراءها فإذا بحبيب واقفًا إلى جانب أدما وأخته شفيقة يشرح لهما تاريخ بناء الهرم، وهما شاخصتان إليه مشغولتان بما يقول، فعلمت أن لا أحد يسمعهما إذا تكلمت فقالت لسليم: «ألا تخاف الصعود إلى قمة هذا الهرم، وهي على هذا الارتفاع الهائل؟» قالت ذلك وهي ترنو إليه وتلاحظ حركاته.

فقال: «لو كان ارتفاعه أضعاف ما هو عليه، ما خفت الصعود إلى قمته.»

قالت: «ولكنني أنا أخاف عليك.»

قال: «مم تخافين؟»

قالت: «لا أريد أن تعرِّض حياتك للخطر.»

فصمت ولم يُبْدِ جوابًا، وكأنه كان يريد التكلم ويمنعه التردد، فعادت هي تقول: «لعلك لا تخاف عليَّ إذا حاولت الصعود وربما تزلُّ قدمي فلا أصل الأرض إلا جثة بلا روح؟»

فلما سمع ذلك منها اقشعرَّ بدنه، وهاجت عاطفة الحب في قلبه، وتذكر ما كان بينهما من الإخلاص وغلبت عليه عواطفه فقال: «نعم أخاف عليك خوفًا شديدًا، لا من الصعود إلى قمة الهرم فقط، بل أخاف عليك حتى من هذا النسيم اللطيف، ومن عيون البشر فإنها أحدُّ من السهام على قلبي!»

فعجبت لعبارته الأخيرة إذ لم ترَ لها محلًّا، ولاح لها أنها تخفي وراءها شيئًا يُكنُّه في ضميره ويود إخفاءه عليها، فبهتت وأخذت تفكر في ذلك ثم قالت متجاهلة: «إذا كنت تخاف عليَّ إلى هذا الحد فكيف لا تشعر بأني أخاف عليك أيضًا؟»

فازدادت في قلبه عوامل الغيرة والحنق، وضاق صدره بما يكتمه، فأخذ ينكت الأرض بعصاه متشاغلًا ويداه ترتعشان، ووجهه يزداد انقباضًا.

فابتدرته قائلة: «ما لك لا تجيب عن سؤالي كأني لا أستحق جوابًا؟» قالت ذلك وهي ترنو إليه بعينيها كأنها تقول له: ما الذي تكتمه؟ ولماذا الكتمان؟

فنظر إليها شزرًا وأراد التكلم فشرق بدموعه، فحوَّل وجهه إلى السهل الرملي المحيط بالهرم إخفاءً لما به.

fig1
وقالت سلمى لسليم: «ألا تخاف الصعود إلى قمة هذا الهرم؟»

فلحظت منه ذلك وتساقطت العبرات على خديها وقد امتقع لون وجهها، ثم مسحت دموعها بمنديلها من حيث لا يراها، ولكنه التفت إليها بغتة وقد همَّ بأن يبوح لها بما في قلبه، فلما رأى الدموع تترقرق في عينيها، أمسك. وبقي الاثنان لا يتكلمان كأنهما أصيبا بجمود وكلٌّ منهما يفكِّر في أمر يحاذر أن يطلع الآخر عليه وقد نسيا ما حولهما.

وفيما هما في ذلك إذا بمنادٍ ينادي سلمى، فبغتا والتفتا إلى مصدر الصوت فإذا بأدما تنادي سلمى قائلة: «تعالي يا عزيزتي سلمى واسمعي ما يقوله حبيب أفندي!»

فمسحت سلمى دموعها دون أن يشعر بها أحد، والتفتت إلى صديقتها متظاهرة بخلو الذهن وقالت: «ماذا يقول يا عزيزتي؟»

وخطت نحوها وهي ما زالت تمسح عينيها بمنديلها متظاهرة بأن بعض الغبار تطاير إليهما حتى دمعتا، فانطلت حيلتها على أدما وقالت لها حين اقتربت منها: «يقول حبيب أفندي إن هذه الأهرام قد بَنَتْها الأسرة الرابعة من ملوك الفراعنة من حوالي خمسة آلاف سنة!»

فقالت سلمى: «قد كنا الآن في مثل هذا الحديث وقال لي سليم: إن ١٢ ألفًا من الناس عملوا في بنائها.» ثم نادت سليمًا وقالت له: «أليس كذلك؟»

وكان قد مسح عينيه وأخفى عواطفه، لكنه كان يود لو أنه بقي مع سلمى على انفراد حتى يبوح لها بما في فؤاده من الشك، فلما سمعها تناديه تقدم نحوها مضطرًا وأجاب بقوله: «لا تعجبوا لما يقال لكم عن قِدم هذه الأهرام، فإن أبا الهول الذي تشاهدون قفاه من هنا أقدم منها كثيرًا، وهو من صنع الأسرة الثالثة الفرعونية.»

فتعجبت أدما من ذلك وقالت: «كنت أسمع أن في هذه الناحية مكانًا قديمًا اسمه الكنيسة فأين هو؟ إني أود أن أراه.»

فقال حبيب: «هو إلى جانب أبي الهول.»

قالت: «هل هو كنيسة حقيقية؟»

قال: «لا، ولكنه هيكل من هياكل المصريين القدماء وإنما سمي كنيسة لأنه يشبه الكنائس من حيث كبره واتساعه.»

ثم أظهرت ميلًا شديدًا لمشاهدة أبي الهول والكنيسة، فقال لها حبيب: «ألا تتمهلين ريثما نشاهد هذا الهرم أولًا ونستريح قليلًا ثم نمضي إلى الكنيسة لمشاهدتها؟»

قالت: «أود مشاهدتها الآن، وأخشى أن يشتد الحر بعد قليل فلا أستطيع الذهاب إليها إلا بمشقة.»

فاقترح حبيب أن يسيروا جميعًا إلى هناك، وبدا أنهم موافقون على ذلك، لكن سلمى قالت: «إني أعرف ذلك المكان وقد شاهدته مرة قبل هذه برفقة والدي.» وقد أرادت بذلك أن تعود إلى الاختلاء بسليم ليتما الحديث لأنها قلقت لما شاهدت منه.

فالتفت حبيب إلى شقيقته شفيقة وقال لها: «هيا بنا يا شفيقة إلى الكنيسة مع الآنسة أدما.»

وكان يود لو أن شقيقته لا ترافقهما لكي يخلو إلى أدما ويستطلع ما في قلبها، لكنه تذكر أن شقيقته ساذجة وأنه يستطيع التفاهم مع أدما بالرموز والأحاجي دون أن تفطن هي إلى ذلك، ثم مضى معهما حتى أطلوا على أبي الهول من الخلف فإذا هو تمثال هائل يشبه أسدًا رابضًا ورأسه رأس إنسان، فداروا حوله حتى وقفوا أمام وجهه، فجعلت أدما وشفيقة تنظران إليه وتتعجبان لكبره وهوله، وقالت شفيقة لحبيب: «أخبرني يا أخي عن سر هذا التمثال الكبير، ولماذا جعلوا جسمه جسم أسد ورأسه رأس إنسان؟»

فقال: «جعلوه كذلك إشارة إلى اجتماع القوة والعقل؛ لأن الأسد مثال القوة، والإنسان مثال العقل.»

فقالت أدما: «ولكن كيف عرف المعاصرون أن القوم جعلوه كذلك لهذه الغاية؟»

فنظر إليها حبيب وقد اعتزم أن يستطلع خفايا قلبها وقال: «إنهم عرفوا ذلك بقراءة ما كتب عليه. هذا إلى أن الإنسان المتبصر لا تخفى عليه أن الطبيعة كلها رموز وأن لكل رمز معنًى. والرجل العاقل يستطيع أن يعرف الغايات بالنظر إلى المقدمات. أم أنت تتصورين أن الإنسان العاقل يخفى عليه مثل هذا؟»

قال ذلك ونظر إلى وجهها فإذا هي ترنو إليه منتظرة إتمام حديثه وقد كاد الخجل يتجلى في وجهها عند سماعها قوله، لكنها تمالكت عواطفها، وواصل هو كلامه فقال: «ثم هبي أن الإنسان لم يتمكن من فك رموز الطبيعة بوساطة النظر إليها، فإن الكتابة لم تدع سرًّا مسدولًا ولا أمرًا مكتومًا.»

قال هذا ونظر إليها بطرف عينه فإذا بها قد تورَّدت وجنتاها خجلًا وأطرقت متظاهرة بالتأمل فيما يقول.

فنظر إليها وقال: «ما رأيك يا آنسة أدما؟ أليس صحيحًا ما أقوله؟»

فأجابت وقد أبرقت عيناها قائلة: «ماذا أقول؟ ليس لي إلا أن أوافق على ما ذكرته من أمر الكتابة وما تدل عليه.»

فأعجبته فطنتها وفهم من ردها أنها التي كتبت إليه ذلك الخطاب، ثم وجَّه خطابه إلى شقيقته قائلًا: «أليس كذلك يا شفيقة؟»

فأجابت شفيقة ببساطة قائلة: «إن هذا التمثال مدهش حقًّا.»

فأدركت أدما أنه أراد لفت نظرها إلى بساطة شقيقته، حتى لا تتهيب وجودها معهما وتمضي في الحديث معه، فنظرت إليه مبتسمة وقد أسرع خفقان قلبها كأنها تقول له: «قد فهمت مرادك.»

ثم تحولوا عن التمثال وانحدروا درجات قليلة إلى الكنيسة، فإذا هي بناء خرب، لكن بقاياه تدل على عظمه، وأكثره مبني بأحجار الجرانيت الكبيرة، فلما وصلوا إلى باب الهيكل قالت له أدما: «إن هذا الهيكل متقن الصنعة من الخارج، فهل ترى هو كذلك من الداخل؟»

فأدرك مرادها وأجابها وقد هاجت عواطفه قائلًا: «إن داخله أكثر إتقانًا وإشراقًا من خارجه، فإن الناظر إليه من الخارج يظنه خربًا ولكن لو دخلتِ إليه ونظرتِ إلى داخله لرأيتِ ما يسرُّك وربما تفضلين البقاء فيه.»

فقالت وقلبها يزداد خفقانًا: «هل يدخله أناس كثيرون؟»

قال: «أؤكد لك أنه لم يدخله أحد سواك قط ولن يدخله أبدًا.»

قال ذلك مشيرًا إلى قلبه، ولكن شقيقته لم تفطن إلى ذلك وحسبته يتحدث عن الهيكل فقالت: «كيف تقول إنه لم يدخله أحد قبلها ولا بعدها؟ لعله كان مغلقًا، وسيغلق ثانية بعد أن ندخله الآن!»

فاستدرك قائلًا: «أنا أقصد زيارته في هذا اليوم فقط؛ لأننا أتينا إلى هنا مبكرين فلم يأتِ أحد قبلنا لزيارته، وأكبر الظن ألا يأتي أحد بعدنا، أما والدانا فإنهم دخلوه قبلًا ولا يدخلونه اليوم وكذلك الخواجة سليم والآنسة سلمى.» فاقتنعت شفيقة وسكتت، واستأنف هو وأدما حديثهما وقد تحقق كل منهما ما عند الآخر من العواطف المتبادلة. وكانت أدما أكثر من حبيب سرورًا لأنها أحبته قبلما أحبها، وكانت تخشى أن ترى منه صدودًا أو إعراضًا. والواقع أنه كان يرتاح لمجالستها ويلتذ بحديثها لكنه لم يكن يفكر في الاقتران بها، ولا يشعر بشدة خفقان قلبها كلما جاء لزيارة أبيها، ولا بأن الحب تمكَّن من قلبها، وصار يزداد تمكُّنًا يومًا بعد يوم؛ إذ كانت لتعقلها وحسن بصرها بالعواقب تخفي ذلك جهدها، وتنتظر أن يبدأ هو بإظهار المحبة جريًا على الغالب في مثل تلك الحال، فلما طال بها الانتظار، لم تعد تستطيع صبرًا على هذا الكتمان، ولم تجد سبيلًا أفضل من كتابة ذلك الخطاب وإرساله إليه دون توقيع، حتى إذا فازت بمرادها وتحققت أمانيها لم تعد تخشى التصريح له بما في قلبها، ولكنها لم تستطع ذلك لوجود شفيقة معهما فاكتفت بالتلميح.

وكذلك كان شأنه أيضًا، فإنه لما تحقق ظنه وأيقن بأنها صاحبة الخطاب وبأنها تحبه إلى هذا الحد، مال إلى مكاشفتها أيضًا، ولكنه اكتفى بأن أوضح لها بالرموز أن قلبه مكرس لأجلها وأنه لن ينظر إلى سواها، واعتبر نفسه بذلك قد ارتبط معها بعهود وثيقة، وأحس أنها أصبحت منذ تلك اللحظة خطيبة له.

وحالما تصور ذلك شعر بانقباض داخلي لم يعرف له سببًا، ولكنه كان يلمح في ذلك الانقباض ظلامًا من الندم؛ إذ تذكر حال صديقه سليم وما آل إليه تعجُّله في خطبة سلمى من غضب والدته.

لكنه عاد فقال لنفسه: «إن أدما تليق بي، ولا أظن أني أوفَّق إلى أحسن منها ولا سيما أن والدتي وشقيقتي يحبانها كثيرًا.»

ثم خرجا من الهيكل صامتين وقلباهما يتكلمان، وشفيقة بينهما مشغولة بالنظر إلى ما حولها من الآثار العظيمة. وما لبثوا قليلًا حتى وصلوا إلى الأهرام حيث كان بقية أفراد الرحلة ينتظرون هناك.

•••

سُرَّ سليم وسلمى لبقائهما معًا على انفراد، بعد ذهاب حبيب وشقيقته وأدما لمشاهدة الهيكل. وكانت سلمى أكثر سرورًا بذلك لقلقها مما لاحظته على سليم من مظاهر الانقباض، وتشوقها إلى استطلاع سبب ذلك.

أما هو فكان لشدة تأثره يود نسيان ما يخالج ضميره من الشك في إخلاصها. ومع شدة رغبته في استطلاع حقيقة ما بلغه عنها كان كثير الميل لتكذيب ذلك وإجلالها عنه، مدفوعًا بما تمكَّن في فؤاده من حبها واحترامها. على أن الغيرة كانت تدفعه إلى تحقق الأمر بنفسه. فلما خلا إليها نظر إليها نظرة تشفٍّ عما يتردد في قلبه ويتجاذبه من عوامل الحب والغيرة، فأجابته بنظرة تتخللها عواطف تتقد محبة رغم ما يسودها من القلق والاضطراب.

وأخيرًا قال لها: «إلى أين ذهب حبيب وزميلتاه؟»

قالت: «ذهبوا إلى أبي الهول.»

فقال: «وكيف استطاع الذهاب الآن؟» فلم تفهم مراده وقالت: «وماذا يمنعه من الذهاب؟»

فأطرق ساكتًا مترددًا بين التصريح والكتمان، وداخلها الريب في سكوته، فعادت تسأله: «هل هناك ما كان يمنع ذهابه الآن؟»

فازداد ما عنده من الحيرة والتردد، وقال: «لا أدري.» فقالت: «ومن يدري إذن؟»

ونظرت إلى عينيه كأنما تبحث فيهما عما في ضميره، فلم يسعه إلا أن تنهد وقال: «أنت التي تعلمين.»

فبُغتت وسكتت قليلًا تفكر فيما ينطوي تحت هذه الكلمة، ثم قالت: «ماذا تعني؟»

قال: «لا أعني شيئًا تجهلينه.»

فازدادت قلقًا واضطرابًا، وعلا وجهها الاحمرار ثم قالت: «أراك تخاطبني بالأحاجي والمعميات، أفصح عن مرادك.»

قال: «هل يخفى عليك فهم ما أريد إلى هذا الحد يا سلمى؟»

قالت: «لم أفهم شيئًا، ولا أعلم ما يمنع حبيبًا من الذهاب مع أدما وشقيقته لمشاهدة الهيكل! أم تقصد أن أدما غريبة عنه؟ ولكنه — حتى لو لم تكن شقيقته معهما — شاب مهذب عاقل كما تعلم، فليس هناك ما يوجب المظنة.»

فحمي غضب سليم حين سمع امتداحها حبيبًا، واتقدت في قلبه نار الغيرة وقال: «صدقت إنه شاب مهذب وليس هناك ما يوجب أية مظنة.»

فازداد تعجبها وسكتت برهة تردد عبارته في ذهنها لعلها تجد لها معنًى، فلما أعياها ذلك قالت له: «ماذا تريد يا سليم؟ إنني أستحلفك بحياة المحبة الطاهرة التي بيننا أن تفصح عن مرادك فقد نفد صبري.»

فرنا إليها بعينين تتقد فيهما نيران الغيرة رغم محاولته إخفاءها وقال: «بالله عليك لا تذكري المحبة الطاهرة، فهي شيء كان فيما مضى فقط.»

فازداد خفقان قلبها وامتقع لونها، ونظرت إليه وقد نفد صبرها فشرقت بدموعها حين أرادت التكلم، ولم يسعها إلا أن تسكت آخذة في البكاء.

فابتدرها بالكلام وقد كادت دموعها تطفئ نار غضبه قائلًا: «كفى الآن يا سلمى، إني لا أعي ما أقول، ولا أستطيع أن أصرِّح بأكثر من ذلك، وعليك أنت أن تفهمي ما أعنيه!»

فهمَّت بالتكلم، ومدَّت يدها إليه وهي ترتجف فأمسكت يده ونظرت إليه باكية، ولكنه سرعان ما جذب يده من يدها نافرًا، وابتدرها بالكلام قائلًا: «لماذا تمدين يدك إليَّ؟ ألا تخافين رفضها؟»

قالت وقد علا بكاؤها: «ما هذا يا سليم؟ لماذا تخاطبني بمثل هذا الكلام؟ ما الذي جرى لك وماذا تضمر؟ إني أستحلفك بالمحبة أن تخبرني بحقيقة مرادك.»

فقال وقد اشتد غضبه: «أية محبة تعنين؟ دَعي ذكر المحبة فقد كفى ما لحق بها!»

فلم تتمالك عواطفها، وشعرت بتخاذل قواها، فجلست على حجر هناك، وجعلت رأسها بين يديها وأخذت في البكاء والشهيق حتى كاد يغمى عليها.

فنزلت تلك العبرات على قلب سليم بردًا وسلامًا، وأخمدت ما كان متقدًا في قلبه من نيران الغيرة والحنق، وعادت إليه عواطفه نحوها ناسيًا ما سمعه عنها، وأمسك عمَّا كان يريده من توبيخها وتعنيفها، وصار ينظر إليها نظره إلى ملاك طاهر، وقد ندم على ما فرط منه من الكلام، وهمَّ بيدها فأمسكها وأنهضها، فابتلت يده بالدموع التي كانت تتساقط على خديها، ووقفت هي ساكتة تمسح عينيها بمنديلها الذي في يدها الأخرى.

فقال لها: «خففي عنك يا سلمى وكُفِّي عن البكاء، فلست أطيق أن أراك باكية.»

فرفعت يدها عن عينيها ونظرت إليه بطرف قد كدرته الدموع فذبل وتكسرت أهدابه. فوقعت تلك النظرة في قلبه موقع السهم وهاجت فيه عاطفة الحب حتى ترقرقت الدموع في عينيه وقال: «عفوًا يا عزيزتي، واعتبري ما حدث كأنه لم يكن، فإني ما أردت بما قلته إلا تجربة محبتك.»

فتنهدت سلمى تنهدًا عميقًا وقالت وهي غير واثقة بصدق ما يقول: «أما زلت في حاجة إلى تجربة محبتي لك؟ ألم تعلم بمكنونات قلبي من قبل؟ أما والله إنك لأول وآخر من طرق قلبي وأقام به. فهل عندك شك في ذلك يا سليم؟ آه ثم آه من قلوب الرجال ما أقساها!»

فلما سمع منها ذلك خفق قلبه؛ لأنه ذكَّره بحديث داود عنها، ولكن الحب كان قد تسلط على عواطفه فقال لها وقد وطَّد نفسه على حبها رغم كل شيء: «كوني كيف شئت وافعلي ما بدا لك، فإني قد ملَّكتك هذا القلب تصنعين به ما تريدين.»

فلم يعجبها ما تخلل عبارته من الشك في صدق محبتها وقالت له: «ألا تزال ترميني بنبال الكلام المموَّه يا سليم؟ قلت لك صرِّح بمرادك وأطلعني على حقيقة رأيك إذا كنت مرتابًا في صدق طويتي أو داخلك شكٌّ في حبي لك.» قالت ذلك وتنهدت ثم انقطع كلامها وهي لا تقوى على الوقوف لشدة الانفعال، فحاولت الجلوس على ذلك الحجر فأمسكها بيدها وقال: «كلا يا سلمى، لست أشك في محبتك لي، ولا في محبتي لك، وإن قلبي لا يفتأ يحدثني بأنك تكنِّين لي مثل ما أكنُّه لك، فثقي بما أقول، ودعينا من هذا الحديث وهلمِّ بنا لنلحق ببقية الجماعة فإنهم ولا شك قد استبطئونا، ولنقضِ بقية اليوم في التنزه والترفيه عن النفس، تاركين شكوى الغرام إلى فرصة أخرى.»

وانطلقا عائِدَيْن حتَّى أطلَّا على الفضاء الرملي المحيط بالأهرام، فإذا بحبيب قد عاد مع شقيقته وأدما، وجلس الجميع على أكمة من الحجارة كأنها أثر هرم صغير كان قائمًا هناك.

ولاحظت سلمى أن الخادمة جالسة القرفصاء بجانب الأهرام حيث كانا واقفين، وهى توقد نارًا لإعداد الطعام الخفيف الذي جاءوا به معهم من القاهرة، فخشيت أن تكون الخادمة قد سمعت شيئًا من حديثها مع سليم، ولكنها استبعدت ذلك، ومضت معه مظهرة الانبساط حتى وصلا إلى مجلس الجماعة فاستقبلوهما بالترحاب. وكانت والدتها تنظر إليهما وهما قادمان وتشكر الله على تآلف قلبيهما لعلمها أن المحبة الطاهرة من ألطف العواطف وأعودها بالفائدة على الأسرة والمجتمع.

وبعد قليل فرغت الخادمة من إعداد الطعام، فأكلوا جميعًا، ثم أمضوا بقية الظهيرة يخطرون بين الأهرام وأبي الهول بين تنزُّهٍ وحديث وكل منهم يغنِّي على ليلاه.

وكان حبيب ينظر تارة إلى حبيبته أدما، وتارة إلى صديقه سليم وخطيبته سلمى، ويجول بأفكاره حينًا فيما وفِّق إليه من تحقيق ظنه وحينًا فيما عرفه من ارتباك صديقه سليم بسبب رسالة والدته وحنقها على الفتاة التي أحبها. وكان قد لحظ على وجهي سليم وسلمى آثار البكاء والاضطراب، لكنه تجاهل لعلمه أن تشاكي الغرام لا يخلو من مثل ذلك ولا سيما إذا خامره شيء من المصاعب والمعاكسات.

أما سليم فتجاهل ما سمعه عن علاقة سلمى بداود وحبيب، ووقر في ذهنه ألا صحة لذلك، ولا سيما بعدما ظهر له من صدق محبة سلمى له وشدة انفعالها ورقة عواطفها ولطيف عتابها.

وأما أدما فقد كان ذلك اليوم أسعد الأيام عندها، إذ تحققت آمالها وبلغت أمانيها، ولكنها ودت لو تتاح لها فرصة أخرى تخلو فيها إلى حبيب قلبها فتبثه لواعج حبها في صراحة حيث لا واشٍ ولا رقيب.

وفي نحو الساعة الرابعة بعد الظهر، ركبوا العربات عائدين إلى القاهرة. ولما بلغوا باب اللوق عرج حبيب وشقيقته ووالدته إلى محطة حلوان، وواصلت المركبتان الأخريان سيرهما، بعد تبادل عبارات الوداع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤