كتاب من سلمى

بقي سليم في العربة حتى وصلت إلى بيت سلمى، فاستأذن في الانصراف، ولكن أبويها ألحا عليه في البقاء لتناول العشاء وقضاء بقية السهرة، ونظر إلى وجه سلمى فإذا هي تلتمس بقاءه أيضًا فأطاع إشارة عينيها مذعنًا، ودخل الجميع المنزل والخادمة سعيدة معهم. وبعد أن غسلوا وجوههم من آثار الغبار الذي تراكم عليها في الطريق، أخذت سعيدة معطف سليم لتنظفه من الغبار، ثم تظاهرت بأنها تبحث عن الفرشاة، ومضت بالمعطف إلى غرفة منعزلة، وهناك أخذت تفتش جيوبه، فعثرت في أحدها بورقة عرفت من لونها وهيئتها أنها هي التي كتبها داود إجابةً لطلب سيدتها وردة وبعث بها إلى سليم على لسان والدته، فأخفتها في جيبها.

وجلس الجميع يتجاذبون أطراف الحديث بعد العشاء، وقد سُرَّت سلمى بعودة البِشر والملاطفة إلى وجه سليم، وكان قد وطَّن نفسَه على التظاهر بالسرور أمامها، تاركًا أمر المستقبل للأقدار.

وفي آخر السهرة انصرف سليم إلى الفندق الذي يسكنه، وبقي طول الطريق مستغرقًا في التفكير، وما زال صوت سلمى يرن في أذنيه وهي تودعه وتنظر إليه في حب وحنان قائلة: «مع السلامة وإلى اللقاء قريبًا.»

واشتدت به هواجسه إذ تصوَّر المصاعب التي أحدقت به ولم يدرِ كيف يتخلص منها، وأشد تلك المصاعب حديث داود عن سلمى وحبيب، ثم تذكر رسائل والدته وما كتبته إليه أخيرًا من إصرارها على تركه سلمى، وتصور مدى التضحيات التي قدمتها والدته في سبيل تربيته وتربية أخيه، فآثرت بقاءها أرملة بعد موت أبيهما؛ رغبة في راحتهما. وتذكر أنها طالما سهرت عليه وتعبت في سبيل إتمامه تعليمه، وأنها أصبحت أشد تعلقًا به بعد زواج أخيه، ولا شيء يسليها عن ترملها وأحزانها إلا اهتمامها بمستقبله، وكيف أنها كانت تعد الدقائق والساعات لكي تزوجه وتفرح به وتقيم ببيته؛ لأنها كانت تؤثره على شقيقه لذكائه ولطفه. ثم نظر إلى ما هي فيه الآن وكيف أنها وقعت في وهدة اليأس من جراء مخالفته لها حتى أنها ربما تقضي أسًى وحزنًا ويكون هو السبب في كل ذلك.

فلما تصوَّر هذه النهاية تحرَّكت عواطفه واشتد الحزن حتى بكى وأخذ يناجي نفسه قائلًا: «إن هذه المتاعب مصدرها سلمى، فتركها والتخلص منها ينقذني من جميع هذه الأحزان مرة واحدة، ولكن آه كيف أتركها وكيف أتخلى عنها وقد ارتبطنا معًا برابطة المحبة، وقد وعدتها وعدًا وثيقًا بالاقتران، فماذا يكون من أمرها إذا أخلفت الوعد؟ بل كيف تفعل لو علمت أن هذا الأمر قد خطر ببالي؟! لا لا يا سليم … لا أترك سلمى ويجب ألا أتركها لئلا أكون سببًا لشقائي وشقائها! ولكنها تحب حبيبًا، آه من هذا الحبيب! ولكن كيف يمكن أن تحبه وتخون عهدي؟»

ثم صمت برهة وعاد فقال: «أما إذا تحققت أنها تحبه فلا يتعب ضميري بتركها، لكن من يخبرني أنها تحبه أو لا تحبه … ولكنني سمعت ذلك بأذني من رجل غريب لا أعرفه ولا يعرفني، وقد رأيتها بعيني جالسة إلى جانبه يضحكان وعلى وجهيهما آثار المحبة ولما رأياني داخلًا بُغِتا وخَجِلا. أليس ذلك كافيًا لإثبات ما سمعته عنها؟ إذن هي خائنة … وإذا تركتها من يلومني؟ سلمى خائنة؟! لا لا … سلمى لا تخون وكيف يمكن أن يكون ذلك الملاك خائنًا؟ إنها ملاك طاهر نقي وقد عرفت ذلك باختبارها، إنها أطهر البشر، نعم إنها أطهر بنات جنسها ولا يمكن أن تعرف الخيانة والغدر.»

وفيما هو في هذه الهواجس وصل إلى باب المنزل وصعد إلى غرفته فدخلها وأضاء الشمعة وأشعل سيجارة وقد ذهب الرقاد من جفنه وضاق صدره، فأراد الجلوس ولكنه أحس كأن تلك الغرفة سجن مظلم، فانقبضت نفسه ولم يستطع الجلوس، فأخذ يذرع أرض الغرفة وهو سابح في هواجسه يردد تلك القصة في ذهنه، تارة يغضب وطورًا يغار وتارة يحزن. فأخذت تتجاذبه جواذب الحب والغيرة والحزن والغيظ والحنق واليأس والحنو حتى ضاق ذرعًا باحتمال ذلك، ولم يعد يستطيع البقاء في الغرفة فخرج منها، ونزل إلى الشارع للترويح عن نفسه فنادى مركبة ركب فيها وهو لا يدري إلى أين يريد الذهاب، فسارت العربة في شارع الفجالة وبعد أن مشت برهة سأله السائق عن الجهة التي يريدها فقال: «سر إلى العباسية.» فَجَرَتِ المركبة وهو غافل عن كل شيء حوله، ولم يجذبه منظر الشارع المضيء بالغاز والأشجار تظلله وتحجب عنه ضوء القمر إذ كانت الليلة مقمرة؛ لأنه كان مشتغلًا بسلمى وحبيب ووالدته عن كل شيء حوله. ولم ينتبه حتى وقفت المركبة إلى جانب المرصد، فتحول سليم منها إلى ذلك الفضاء الرملي الشاسع الأطراف يتخلله بناء المرصد من جهة وقشلاقات العباسية من جهة أخرى والسكون مستولٍ على الفضاء، وضوء القمر يغمره والسماء نقية وليس فيها أثر للغيوم.

فمشى بين أشجار السنط المتفرقة على جوانب المرصد، محاولًا التشاغل بالنظر إليها وإلى ما حوله من الفضاء الواسع، والسائق ينظر إليه ويعجب من انفراده هناك في منتصف الليل.

وأخيرًا، جلس سليم على حجر وجده خلف شجرة هناك بحيث لا يراه السائق، وأخذ يتأمل حاله، ويفكر فيما أحدق به من الشواغل والعواطف المتضاربة، وتصور سلمى في تلك الساعة راقدة في فراشها وقد استغرقت في النوم فلا تدري شيئًا عن اضطرابه وتردده، ثم تصور والدته وقد جلست حزينة، كئيبة باكية، فارتعدت فرائصه وتساقطت عبراته وأخذ في البكاء محاذرًا أن يسمعه أحد، وكان لشدة اضطرابه يخيل إليه أن تلك الأشجار أشباح رقباء يرونه ويسمعون شهيقه. وما زال بين بكاء وخوف حتى أنهكه التعب فخارت قواه وذبلت أجفانه، فأسند رأسه إلى تلك الشجرة، وما لبث قليلًا حتى أخذه النوم وهو على تلك الحال.

ورأى في منامه كأن سلمى قادمة إليه، ووجهها يفيض نورًا، وعليها رداء أبيض ناصع تجرره وراءها، وهي باسمة الثغر، وعيناها السوداوان تنظران إليه في توسل وعتاب. ولما دنت منه جثت أمامه وقالت له والعبرات ملء عينيها: «سامحك الله يا سليم على إساءتك الظن بي، وإني والله لبريئة من تلك التهم، وما كان لي أن أدنس شرفي أو أخون عهدك بعد أن وقفت قلبي وعواطفي على حبك، فهلا أشفقت على هذا القلب الكسير الذي لم يعرف الحب لأحد سواك؟»

فاستيقظ بغتةً وقد ارتعدت فرائصه وصاح قائلًا: «سلمى حبيبتي سلمى، روحي وقلبي، لا عاش من ظن بك سوءًا.»

ثم التفت حوله فإذا هو في قفر لا شيء أمامه إلا الأشجار الشائكة والخلاء الواسع، فندم على يقظته وود لو يعود النعاس إلى جفنيه فيرى حبيبته في ذلك الثوب الملائكي ويتمتَّع بطلعتها الباهرة، ولكنه لم يستطع فعاد إلى البكاء وأخذ يناجي نفسه قائلًا: «إن خيالك يا حبيبتي أصدق شاهد على إخلاصك، وبياض ردائك دليل على نقاوة ذلك القلب الذي ما عرفت فيه إلا الطهارة والنقاء. قبح الله ذلك الواشي قبيح الوجه، إن وجهه لدليل على ما في قلبه من السوء، وما أنت إلا طاهرة لا عيب فيك. آه لو كنت تعودين إليَّ فأتزود منك نظرة ثانية! إني ثابت في حبك ثبات الجبال الراسيات.»

ومرَّت بذهنه صورة والدته ورسائلها، لكن حبه لسلمى طغى على ما عداه. ثم نهض ومضى إلى حيث كانت العربة في انتظاره، وقد أخذ منه برد الليل كلَّ مأخذ، فأحس بالتعب وخشي أن يكون قد أصيب بمرض، ولكنه عاد فودَّ لو يكون مرضه حقًّا فيشغله عن تلك الهواجس.

ومضت به المركبة عائدة إلى القاهرة وهو يفكِّر في ذلك، فتصوَّر أنه أصيب بمرض عضال، وأنه اشتد عليه حتى قارب الوفاة، فأجفل وقال يحدث نفسه: «لا، لا أريد الموت الآن حتى لا أكون سببًا لشقاء سلمى.»

ثم رجع إلى صوابه فرأى أنه أصبح عبدًا لعواطفه ولم يترك لعقله فرصة للعمل، فقال مناجيًا نفسه: «ما هذا يا سليم؟ خذ الأمر بالصبر، وتدبر الأمور بالحكمة! نعم يجب أن أصبر:

وأصبر حتى يعلم الصبر أنني
صبرت على شيء أمرَّ من الصبر!»

ولاح له أن يكاشف أحد أصدقائه بأمره، ولكنه حار ولم يدرِ أيهم يكاشف؟ وتذكر أن مصدر شقائه كان هو حبيب أعز أصدقائه فتأوه وعادت الدموع تنهمر من عينيه، لكنه تجلَّد وقال: «من أدراني أنه كما بلغني عنه ذلك الشيطان؟ أعوذ بالله من شر كل شيطان!»

وما زالت المركبة ماضية به حتى بلغت الفندق فنزل منها، ودفع للسائق أجرته، ثم صعد إلى غرفته ودخلها وقد أخذ التعب والبرد منه مأخذًا عظيمًا فبدل ثيابه ونام.

•••

استيقظ سليم في صباح اليوم التالي على قرع باب غرفته، فنهض وفتح الباب فإذا بخادم الفندق يحمل إليه كتابًا ليس عليه خاتم البريد قائلًا: «جاءت بهذا الخطاب لك منذ ساعة امرأة عجوز، وقد انصرفت بعد أن أوصتني بأن أسلمه إليك حين تستيقظ.»

فأخذ سليم الكتاب، وما كاد نظره يقع على العنوان حتى اختلج قلبه في صدره؛ لأن الخط الذي كتب به يشبه خط سلمى، فدخل الغرفة وفض الخطاب فإذا هو بخطها وعليه توقيعها، فازداد خفقان قلبه، وجلس على سريره وأخذ يقرأ الخطاب، فإذا فيه:

حبيبي ومنية فؤادي سليم

أكتب إليك هذا الخطاب، ولعله آخر ما أكتب إليك، وهذه هي يدي ترتجف، وهذا قلبي يخفق، بينما دموعي تتساقط على الورق، وأنا في حال لم أشعر من قبل بمثلها، ولكنني أستحلفك بما أكنُّه لك من محبة طاهرة خالصة من كل دنس أن تحفظ ما تقرؤه سرًّا لا يطلع عليه سواك، وأن تعيره أذنًا صاغية وتعتبره صادرًا عن قلب يتقد حبًّا وإخلاصًا، قلب لم يكن يعرف الخفقان قبل أن عرفك، ولا عرف القلق أو السهاد إلا منذ حللت فيه.

إنني أكتب إليك الآن وقد انتصف الليل وهجع الناس مطمئنين، وأنا وحدي الساهرة المعذبة أسيرة القلق والاضطراب.

وإني لأشكر الله على أن وقفت أخيرًا على سبب متاعبك، بعد أن أخفيته عليَّ كرمًا منك ورحمة بي. نعم أشكر الله على أني عرفت الداء وصرت قادرة على وصف الدواء، وكما أنك تحملت العناء في سبيلي، يجب أن أتحمل في سبيلك مثل هذا العناء.

لقد وقع في يدي اتفاقًا خطاب والدتك إليك في شأني، وقد فهمت منه أنك تقاسي أمورًا مضنية من أجل حبي، وتكافح مكافحة الأبطال لكي تفي بعهدك لي، فأكرم بك من محب صادق وصديق مخلص!

أما التهم الموجهة إليَّ في هذا الكتاب، فلا أريد أن أبيِّن بطلانها الظاهر، ولكن أكتفي بأن أقول: «إن والدتك طيبة القلب وقد عانت كثيرًا في سبيل تربيتك وزهدت مباهج الدنيا من أجلك، ووضعت كل آمالها فيك، فأقل ما تنتظره منك أن تكون تعزيتها في شيخوختها.»

ولا شك في أنك إن أصررت على عزمك وخالفتها، ستكون سببًا لشقائها. ولما كنت أعلم أن العهود التي بيننا هي مصدر متاعبك، لاعتبارك إياها عهودًا مقدسة لا يسمح لك شرفك بنكثها، وأكرم به من شرف أثيل! فقد لاح لي أن أكتب إليك مذكرة إياك بأن الضرورات تبيح المحظورات، ولأقول لك وكلي أسف إني قد رأيت من الواجب عليَّ أن أجعلك في حِلٍّ من تلك العهود، لتكون حرًّا تختار لنفسك الزوجة التي ترضيك وترضى عنها والدتك.

فنحن منذ الآن، كما كنا قبل عشر سنين، لا عهود بيننا ولا روابط.

آه يا سليم! إني أكتب هذا وقلبي يقطر دمًا، ويداي ترتجفان، وعيناي لا تريان ما أكتب لما حال بينهما وبين هذا القرطاس من الدموع، ولكن عزائي الوحيد أني أضحي في سبيل راحتك وسعادتك.

فإذا قرأت هذا فبادر بالكتابة إلى والدتك جابرًا كسر قلبها، وإنها لأحق مني بالرثاء. وقد يهون عليك أن تعود بتصوراتك إلى ما كنت عليه منذ عشر سنين يوم لم يكن لسلمى صورة في ذهنك. أما والدتك فلن تستطيع نسيانها ولا يليق ذلك بك، وهي التي حملتك وأرضعتك ووقفت حياتها على تربيتك. وثق بأني لذلك أحبها وأؤثر راحتها على راحتي.

ولا بد لي قبل الختام من أن أودعك الوداع الأخير فربما لا أراك بعد الآن، وإن كانت صورتك لن تبرح هذا القلب الذي ملَّكتك وحدك إياه. وحسبي أن تذكرني في ساعات صفوك سواء أكنت بين الأحياء أم بين الأموات، فإني على الحالين لن أنسى هواك، وسأبقى إلى الأبد أحب محبيك وأبغض مبغضيك، وأرجو أن تصفح عن جرأتي هذه، ودم سعيدًا سالمًا للمخلصة الوفية …

سلمى

وما انتهى سليم من قراءة الخطاب حتى كان قد بلله بالدموع واشتد به الوجد والحزن فاستلقى على السرير وأطلق لنفسه عِنان البكاء. وكان وهو يقرأ الخطاب قد لاح له أن يتفقد خطاب والدته الذي أشارت إليه سلمى، ولكن الحزن والهيام أنسياه ذلك، فبقي ممعنًا في النحيب حتى جفَّت دموعه وجفَّ ريقه في حلقه وكاد يختنق، ثم أحس بقشعريرة فالتحف بالغطاء وكان لا يزال متعبًا لطول سهره بالأمس وشدة الهيام وكثرة البكاء، فأخذته سِنة من النوم.

•••

فلنترك سليمًا نائمًا، لعله يستريح من تلك الجواذب والدوافع، ولنرجع إلى حبيب وما تمَّ له بعد وصوله مع والدته وشقيقته إلى البيت.

فإن والدته كانت أثناء سير القطار، وحديث شفيقة يدور مع أخيها حول أدما، تتردد في ذهنها خواطر من هذا القبيل، على أنها سُرَّت لما رأت في حبيب ميلًا إلى أدما. ولما وصلوا إلى البيت وغيَّروا ثيابهم، واغتسلوا من الغبار، كان الخادم قد أعد لهم طعام العشاء، فتناولوه وسارت شفيقة إلى فراشها عاجلًا كجاري عادتها لأنها كانت خالية البال ساكنة العواطف، لا هَمَّ لها سوى مساعدة والدتها في تدبير أمر البيت والترتيب واللبس والطعام، وإذا انتهت من ذلك لا يبقى أمامها سوى النوم.

فلما توجهت تلك الليلة إلى فراشها خلت والدة حبيب به، وأخذا يتجاذبان أطراف الحديث، وكل منهما يفكر في أدما بغير علم الآخر.

فقالت الوالدة، وقد رأت حبيبًا صامتًا كأنه يفكر في أمر: «ما لي أراك منشغل البال يا حبيب؟ ألعلك تشكو من شيء؟»

فانتبه حبيب، وانتصب جالسًا، وقال: «لا يا أماه، لست أشكو شيئًا وإني بفضل دعائك ورضائك عليَّ بكل خير وعافية.»

قالت: «سلمت يا ولدي وعسى أن يبقيك الله لي سالمًا، وشقيقتك لكي أفرح بك وأزوجك!» قالت ذلك ونظرت إليه كأنها تنتظر ما يبدو منه، وكانت كلما خاطبته في أمر الزواج قبل ذلك اليوم ينكر عليها أمره، ويأخذ في إقناعها بأن الزواج متعب، وأن البقاء بدون زواج أفضل وأكمل وأسعد، وكانت تستاء من ذلك وتتوسل إليه ألَّا يقول ذلك؛ لأن الزواج أمر لابد منه، إن عاجلًا أو آجلًا، وهو يقول أن لا مأرب له فيه، وأنه سعيد بمعيشته مع والدته وشقيقته.

أما تلك الليلة فإنه لم يجبها، بل بقي صامتًا. وتذكر الفرق بين حاله في الأمس واليوم، فقد كان خاليًا لا همَّ له سوى إتمام عمله ومرضاة والدته، والاشتغال بالمطالعة والكتابة ساعات الفراغ، والقلب خالٍ والعواطف هادئة والحياة هنية سهلة لا يكدرها اضطراب ولا يشوبها قلق ولا تعترضها غيرة أو شوق، والعقل حر يجول في الموضوعات العلمية والفكاهية والأبحاث الممتعة، فأصبح اليوم منشغلًا تتنازع في نفسه العواطف بين الحب، والشوق، والاهتمام. فلما خاطبته والدته ولم يجبها، ظنته في شاغل مزعج يريد إخفاءه عنها، فعاودته السؤال قائلة: «كيف تقول إنك غير منزعج وأراك صامتًا لا تتكلم؟!»

فارتبك في أمره لا يدري بماذا يجيب، وقد صعب عليه التصريح بما يخالج نفسه من ناحية الفتاة، وهو يتردد بين الحياء والارتباك، فغلب عليه الحياء فقال: «قلت إني بخير ولا شاغل لي، ولكنني أفكر فيما رأيناه اليوم في الأهرام من المناظر البديعة، وما تمتعنا به من الهواء النقي.»

قالت: «أظنك تفكر في شيء آخر؛ لأن وجهك منقبض، وفي نفسك شيء تريد إخفاءه عني، فإذا كنت تواجه شيئًا يزعجك، لماذا لا تصرح به لي، وإذا كنت تخفي ذلك عني فلمن تبوح به؟»

فحاول الدفاع عن نفسه عبثًا حتى رأى والدته قد علا وجهها الانقباض والحزن، وكادت تبكي، فقال وهو بين الإحجام والإقدام: «إذا كان في نفسي شيء فأنت أحق الناس بمعرفته.»

قالت: «قل إذن يا حبيبي!» وهمَّت إليه وضمَّته إلى صدرها وقبَّلته، وقد كادت تتساقط العبرات من عينيها.

فقال: «لا حاجة بك إلى الخوف يا أماه فإن الذي في نفسي لا يحزنك بل هو سبب كبير لفرحك.»

فأشرق وجهها وأبرقت أَسِرَّتها وازداد قلقها لاستطلاع أفكاره، وقالت بلهفة: «قل بالله! قل يا حبيبي لتسري عني وتخفف آلامي.»

قال: «أنت تعلمين أن أول شيء أسعى إليه في هذه الدنيا هو فرحك.»

قالت: «قل إذن قل! أستحلفك بربك أن تصرح بما في نفسك.»

فقال وقد علا وجهه الاحمرار: «إن في قلبي مثل ما في قلبك، والذي أريده هو الذي تأمرينني بإجرائه.»

قالت: «وما هو ذلك؟ ألعلك اعتزمت أن تتزوج كي تحقق لي أمنيتي!»

قال: «وأكثر من ذلك أيضًا.»

قالت: «ألعلك أحببت أدما التي أحببناها نحن!»

فأبرقت عيناه وخفق قلبه عند ذكرها وقال: «نعم يا أماه إني أحبها، ولا سيما حين تحققت أنكما تحبانها.»

فابتهجت وغلب عليها السرور حتى دمعت عيناها، وهمَّت إلى ولدها تُقَبِّله وقالت: «هذا هو مبعث سعادتي يا ولدي، وهذه هي الساعة التي قضيت عمري في انتظارها، فأشكر الله على ما وفقنا له ودبره بحكمته الأزلية.»

فقال حبيب: «ولكن هل المسألة موقوفة على رضانا نحن وحدنا؟ من يدري، لعل الفتاة لا توافقنا على ذلك!»

قالت: «إنني واثقة من رضائها، لأنها على ما يظهر لي تحب مبادئك وتميل إلى من كان مثلك، ولا أظنها تطمع في أحسن منك، وهي ليست من الثروة على أكثر مما أنت فيه.»

فعاد حبيب إلى تعقله وفكَّر في أمر مستقبله، وتذكَّر أنه كان منذ حين يخشى استغناء الحكومة عن خدمته، فقال لوالدته: «هَبي أنها وافقت، أفلا ترين أن زواجها بموظف مثلي معرض للفصل كل يوم، مما يعرضها للخطر؟»

قالت: «إن الله هو الرزاق يا ولدي، وهو يرزق الموظفين وغيرهم. ثم إنك الآن لست في حاجة إلى أكثر من إعلان الخطبة، وإلى أن يحين موعد الاقتران يفعل الله ما يشاء.»

فلم يقتنع حبيب بكلام والدته، ولكن حبه لأدما جعله يوافق دون اقتناع.

فقال: «صدقت يا أماه! وما دام الأمر كذلك، فإن إتمامه سهل بإذن الله. ولكن أمهليني قليلًا قبل أن تعلن الخطبة لكي أعد لها عدتها.»

فقالت: «افعل ما بدا لك، ولنحفظ هذا الأمر مكتومًا حتى يتم بإذن الله.» ثم ذهب كل منهما إلى فراشه، وبقي حبيب حتى اقترب الفجر مسهدًا يفكر في أدما وخطبته لها، وفيما دار بينه وبين والدته في شأنها. وكان على شدة تعلقه بها يشعر بإحجام داخلي وتخوُّف من الإقدام على خطبتها، فأخذ يبحث عن وسيلة لعلاج ذلك الأمر، ولما أعياه البحث دون نتيجة، قرر أن يكاشف بأمره صديقه سليمًا، لعله يشير عليه بالعلاج المفيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤