كشف السر

نهض حبيب من فراشه في صباح اليوم التالي وهو ما زال قلقًا حائرًا، ثم استقلَّ القطار إلى القاهرة، حيث توجَّه إلى مقر منصبه، وبقي يعمل حتى الساعة الثانية عشرة، وانتحل عذرًا أبداه لرئيسه، فسمح له بالخروج من الديوان قبل الميعاد المحدد.

ومضى لفوره إلى مكتب سليم، فعلم أنه لم يحضر إليه في ذلك اليوم، فقلق عليه وانطلق إلى الفندق الذي يسكنه، فوجد باب غرفته مفتوحًا، وما كاد يدخل حتى وجده ممددًا في سريره وقد استغرق في النوم، فعجب لرقاده حتى تلك الساعة، ولاحت منه التفاتة فإذا بورقة ملقاة على السرير بجانب سليم، ولاحظ أن خطها يشبه خط سلمى وكان يعرفه، فازداد تعجبه وأراد إيقاظ سليم، لكنه آثر التريث حتى يرى ما في تلك الورقة، فتناولها ويده ترتجف لعلمه بما في الاطلاع عليها من منافاة للآداب العامة، لكنه برر فعلته هذه بأنه على علم بأمر سليم مع والدته بسبب سلمى، وبأن اطلاعه على تلك الورقة بغير علمه قد يعاونه على أن ينفعه بشيء.

ولكنه خشي أن يستيقظ سليم فجأة فيراه وهو يقرأ الورقة، فأعادها إلى حيث كانت بجانبه على السرير، مكتفيًا بالنظر إليها وهو واقف بإزائه فوقعت عينه على الفقرة التي ذكرت فيها سلمى أنها تحلُّ سليمًا مما بينهما من العهود، وأنها تفعل ذلك مضحية بقلبها وسعادتها في سبيل إنقاذه من تردده وحيرته بينها وبين والدته. ولم يستطع لاضطرابه أن يقرأ بقية ما في الورقة، ولكنه فهم مضمونها، وأعجب كل الإعجاب بإخلاص تلك الفتاة وتضحيتها.

ثم لاح له أن سليمًا قد نام والرسالة في يده وباب الغرفة مفتوح عن غير قصد منه، وهو لذلك قد يغضب ويخجل إذا استيقظ ورآه بجانبه، فتقهقر خارجًا من الغرفة وهو يحاذر أن يحدث صوتًا يوقظه، وكان خدم الفندق مشغولين بمهامهم فلم ينتبهوا لدخوله وخروجه، ولكنه خشي أن يدخل أحد غيره غرفة سليم ويرى مثل ما رأى، فأغلق الباب وراءه وانسلَّ راجعًا من حيث أتى وهو يفكر في أمر صديقه ومتاعبه، وقد نسي ما جاء من أجله.

ولم يشأ أن يرجع إلى حلوان قبل أن يراه ثانية ويفهم منه شيئًا عن حاله، فتوجَّه إلى مقهًى قريب وجلس فيه ساعة وهو على مثل الجمر، ثم عاد إلى غرفة صديقه وطرق الباب، فسمع سليمًا يقول بصوت ضعيف: «ادخل» ففتح الباب ودخل فإذا بسليم ما يزال في سريره وقد كلَّل العرق وجهه وتوردت وجنتاه كأنه محموم.

وما كاد سليم يشاهده حتى هاجت عواطفه وأشجانه، فدمعت عيناه وهو يرد تحيته في صوت ضعيف مضطرب حزين ويشير إليه بأن يجلس بجانبه، فانفطر قلب حبيب لهذا المنظر المؤثر، وترقرقت الدموع في عينيه، ثم انحنى على صديقه في سريره وأمسك يده يجسها فإذا هي تتقد سخونة، فعلم أنه مصاب بالحمى، لكنه تجاهل وقال له: «ما لي أراك في الفراش يا عزيزي حتى هذه الساعة؟ هل تشكو من شيء؟»

فقال: «لا شيء يا عزيزي إلا أني أشعر بانحطاط قواي وارتفاع حرارة جسمي، ولعلي مصاب بالحمى.»

قال: «لا بأس عليك، وهل شعرت بذلك اليوم فقط؟» فقال: «نعم، ولكني شعرت أمس ببعض التعب وأرقت قليلًا، فأصبحت اليوم كما ترى ولم أستطع الخروج، ثم اشتد بي التعب وشعرت بالحمى فأخذتني سِنة من الكرى ولم أفق إلا منذ قليل.»

وتذكر سليم كتاب سلمى ومجيء حبيب إليه في تلك الساعة على غير المعتاد.

ولاح له أن العبارات التي قرأها في كتاب سلمى، رغم ما تتجلى فيها من الشهامة وعزة النفس، لا تخلوا من الاحتيال، ولعل سلمى هي التي أرسلت إليه حبيبًا ليستطلع فكره وأثر ذلك الكتاب في نفسه.

على أنه ما لبث قليلًا حتى طرد هذه الخواطر من مخيلته، مستبعدًا تواطؤ سلمى وحبيب ضده، ثم حاول إخفاء ما يعتلج في صدره من الغيرة والشك، وبقي صامتًا متعللًا بانحراف صحته.

أما حبيب فراح ينظر إليه نظرة المحب الصادق المخلص الذي يفتدي أصدقاءه بنفسه، وحدثته نفسه مرارًا بأن يستطلعه حقيقة حاله، لكنه خشي أن يذكره بأمر يود نسيانه لما هو فيه من المرض.

فلبثا حينًا صامتين وكل منهما مشغول بهواجسه، ثم قال حبيب: «كيف حالك يا عزيزي، لعلك أحسن الآن؟»

فقال سليم بصوت مختنق: «أحس صداعًا شديدًا في رأسي وكأن نارًا تتقد في جسمي.»

فقال: «هل أدعو لك الطبيب؟»

قال: «لا أرى حاجة إلى الطبيب الآن، ولكن ربما أحتاج إليه بعدئذٍ.»

قال: «هل أدعو الخادم ليأتيك بشيء من المرق أو شراب الليمون، كي تبل معدتك؟» قال: «لا بأس من ذلك.»

فدعا حبيب الخادم وأمره بإحضار قدح من شراب الليمون، فلما جاء به تناوله سليم بعد أن أنهضه حبيب وأسنده جالسًا في السرير، وشرب جانبًا منه، ثم وضعه على المنضدة المجاورة للسرير وعاد إلى التوسد والعرق قد بلل ثيابه.

وهنا أشار عليه حبيب بأن يغير ملابسه المبتلة، فقبل، وشعر على أثر ذلك ببعض الراحة، فمضى يجاذب حبيبًا أطراف الأحاديث، ويجاهد لإبعاد الهواجس التي عاودته، في شأن علاقة حبيب بسلمى. وكلما نظر إلى حبيب ازداد غيرة وحيرة وتفكيرًا في سبب مجيئه في تلك الساعة على غير المعتاد، وعقب وصول كتاب سلمى. وما زالت هذه الهواجس تلح عليه حتى تمكن منه الاعتقاد بتواطؤ حبيب وسلمى ضده فأراد أن يحتال لتحقق ذلك، وفاجأ حبيبًا بأن قال له: «أليس مريبًا أن تجيء إليَّ اليوم على غير المعتاد، فتجدني في هذه الحال؟ فهل ترى كان مجيئك اتفاقًا، أم أن قلبك حدثك بأني مريض؟»

فقال حبيب: «الواقع أني لم يخطر ببالي أن تكون مريضًا، وقد فارقتك أمس عند عودتنا من رحلة الأهرام وأنت في عافية وسرور، وقد جئت إليك اليوم مصادفة، معتقدًا أني سأجدك معافًى مسرورًا كما تركتك.»

ولم يشأ أن يذكر سبب مجيئه؛ لئلا يقوده الحديث إلى ذكر سلمى لعلاقتها بأدما فيثير بذكرها أشجان صديقه المريض.

ولكن تكتمه هذا رجح ظن سليم، إذ كيف يمكن أن يكون مجيئه لزيارته في غرفته مصادفة، مع علمه بأنه لا يكون بها في مثل الوقت الذي جاء فيه؟ وعلى هذا وقر في ذهنه أن حبيبًا يحتال عليه ولم يصدقه، ولكنه تجاهل وكظم عواطفه مؤثرًا الصمت.

وفي الساعة الثالثة بعد الظهر أحس حبيب بالجوع، فاستأذن سليمًا في الانصراف، ومضى إلى أحد المطاعم فتناول غداءه وفكره ما زال مشغولًا بأمر صديقه وخطيبته. وأخيرًا رأى أن يتوجه إلى منزل الخواجة سليمان لعله يستطيع الوقوف على بعض ما غمض عليه من أمر سلمى وسليم، وكيف وصل إليها كتاب والدته إليه.

واستقبلته الأسرة مرحبة، ولكنه لم يرَ سلمى بينهم فسألهم عنها فقالت والدتها: «إنها شعرت ببعض التوعك هذا الصباح، فبقيت في الفراش.» فاكتفى بأن تمنى لها عاجل الشفاء، ولم يذكر أي شيء عن سليم لئلا يشغل بالهم عليه. وبعد أن قضى عندهم بعض الوقت ودَّعهم وانصرف إلى محطة باب اللوق حيث استقلَّ القطار إلى حلوان، عائدًا إلى منزله، فاستقبلته والدته ولاحظت على وجهه آثار الانقباض، فقلقت وخافت أن يكون لذلك سبب يتعلق بأدما، فابتدرته بالسؤال عن انقباضه، فلما أخبرها بأن صديقه سليمًا مريض، سألته في لهفة: «وماذا به يا ولدي، شفاه الله وعافاه؟»

فقال: «أصابته الحمى، وقد خفَّت حدتها قليلًا والحمد لله حين فارقته منذ قليل.»

قالت: «هل تركته وحده في غرفته؟»

فقال: «نعم يا أماه وهذا ما يقلقني عليه؛ إذ ليس عنده من يقوم بخدمته.»

قالت: «كيف تتركه وحده وهو غريب لا أهل له في القاهرة، ولو أن والدته علمت بمرضه لسارعت إليه كي تخدمه وتمرِّضه، ولكنها بعيدة عنه وا أسفاه!»

قال: «لا شك أنها لو علمت بمرضه لجاءت من الإسكندرية على عَجل، ولكن لا داعي لإزعاجها بنبأ مرضه، وعلينا نحن قيامًا بواجب الصداقة أن ننظر في أمر خدمته وتمريضه حتى يتم شفاؤه بإذن الله.»

قالت: «صدقت يا بني، هذا واجب علينا، وأرى إذا عاودته الحمى غدًا أن ندعوه ليقيم معنا بضعة أيام ريثما يَنْقَه منها.»

قال: «غدًا أذهب إليه لتدبير الأمر والاتكال على الله.»

قالت: «سأذهب معك ليطمئن قلبي عليه، فهو بمثابة ولدي. ولكن هل علمت أسرة الخواجة سليمان بمرضه؟»

قال: «لا، وكنت عازمًا على إبلاغهم ذلك، لكني وجدت سلمى مريضة أيضًا فلم أخبرهم به خشية اشتداد مرضها؛ لأنها مخطوبة له كما تعلمين، وهي تحبه محبة عظيمة.»

قالت: «إذن نذهب إليه نحن غدًا كما اتفقنا.»

•••

كانت الخادمة العجوز سعيدة قد أدركت في الأيام القليلة التي عاشرت فيها سلمى أنها عزيزة النفس أبيتها، لا ترضى بالذل ولا تحب التزلف، وأيقنت أنها إذا اطلعت على ما كتبته والدة سليم إليه في شأنها فلا بد من أن تضحي بقلبها في سبيل الإبقاء على محبة أمه له ورضاها عنه.

وكانت قد عرفت مضمون الكتاب قبل مجيئها من الإسكندرية؛ لأن سيدتها وردة هي التي كانت تتولى أمر كتابة الخطابات إلى سليم على لسان والدته، بوساطة داود. وقد اجتمعت بهذا في القاهرة فأخبرها بما فعله مع سليم، واعتقدت أن الطريق قد مهد للتفريق بينه وبين سلمى. ثم انتهزت فرصة تنظيفها معطف سليم حين وجوده في المنزل عقب رحلة الأهرام، وسرقت منه خطاب والدته لكي تطلع سلمى عليه، ثم ذهبت بالخطاب إلى غرفة سلمى وألقته خفية بجانب سريرها. فلما أوت إليه سلمى بعد العشاء، لمحت الخطاب فتناولته وقرأته، وأدركت أنه سبب كدر سليم. وقضت ليلتها مسهدة تفكر في أمره ولا تدري ماذا تفعل، ثم غلبت عليها طيبة قلبها وعِزة نفسها، فكتبت إلى سليم ذلك الخطاب الذي أحلَّته فيه من خطبتها، وبعثت به مع خادمتها سعيدة.

على أنها شعرت بالندم على تسرعها بكتابة ذلك الخطاب، وحدثتها نفسها بأن تنادي سعيدة وتأخذه منها، ولكن هذه كانت قد توارت عن نظرها، فشق عليها الأمر وازداد قلقها؛ لأنها كتبت الخطاب وهي شديدة التأثر، فلما خفَّ تأثرها أخذت تلوم نفسها على كتابة تلك العبارات، وكلما تصورت أنها ضحت بسعادتها وآمالها في المستقبل بحرمانها من سليم شعرت بأبلغ الأسى والأسف، وارتعدت فرائصها وبكَّتها ضميرها، فأصبحت من جراء ذلك دائمة القلق خائرة القوى، فلازمت الفراش تسكينًا لما بها وإخفاء لعواطفها، ولكن اعتكافها أقلق والديها لأنها وحيدتهما، وكانا إلى شدة محبتهما لها معجبين بذكائها ولطفها، وما كانا ليقبلا خطبة سليم لها لولا ما لمساه من محبتها له، ومن اتصافه بالشهامة وكرم النفس والاستعداد لمستقبل عظيم.

•••

بكَّر حبيب في اليوم التالي فاستقلَّ أول قطار غادر حلوان إلى القاهرة، وما وصل إليها حتى أخذ طريقه إلى غرفة سليم ليعوده ويطمئن عليه قبل الذهاب إلى الديوان.

ووجده مستيقظًا في فراشه، وعلى وجهه آثار الضعف والهزال، فحيَّاه وجلس بجانبه يواسيه ويرفِّه عنه بمختلف الأحاديث إلى أن قال له: «لقد أسفت والدتي كثيرًا حين علمت بمرضك، وكانت تعتزم المجيء معي الآن لتراك وتطمئن عليك، ثم اتفقت معها على أن آتي بها بعد الظهر.»

فقال سليم: «جزاها الله خيرًا، لا داعي لتعبها.»

ولاحظ حبيب أن في نظرات سليم وعباراته ما ينم عن التبرم والجفاء، فعجب من ذلك ثم عزاه إلى اضطراب سليم وقلقه بسبب المرض والوحدة، وواصل ملاطفته ومواساته قائلًا: «إنك اليوم أحسن حالًا منك أمس، ولعلك سعدت بنوم عميق هنيء!»

فتنهد سليم أسفًا وقال: «لم أنم إلا فترات قصيرة متقطعة، تخللتها أحلام مزعجة، وقد أرسلت الخادم منذ قليل ليأتيني بمسهِّل أتناوله اليوم، كما أوصيته بإعداد بعض المرق لأتغذى به.»

فقال حبيب: «حسنًا فعلت يا عزيزي، وأرجو أن أراك بعد الظهر وقد تم لك الشفاء!» ثم أعطاه بعض الصحف ليتسلى بمطالعتها، وودعه منصرفًا إلى مقر عمله.

فلما خلا سليم إلى نفسه، عادت إليه هواجسه في شأن سلمى، وودَّ لو يعلم حالها بعد أن بعثت إليه بخطابها الأخير، وكأن قلبه دلَّه على أنها مريضة مثله. ثم تذكَّر ما كان فيه من النعيم بقربها، وما آلت إليه حاله فلم يتمالك عواطفه وغلبه البكاء. وما زال يطلق لدموعه العِنان حتى عاد الخادم بالدواء المسهِّل، وقرع باب الغرفة مستأذنًا في الدخول به، فمسح سليم عينيه وأذن له في الدخول، ثم تناول منه الدواء وشربه، وأخذ يتشاغل بمطالعة الصحف التي تركها له حبيب، بينما انصرف الخادم لإعداد المرق الذي طلبه.

وفي الساعة الأولى بعد الظهر، عاد إليه حبيب فوجده ممددًا في سريره، وجسَّ يده فإذا بنبضه يتسارع وحرارته عادت إلى الارتفاع، فأدرك أن الحمَّى عاودته ولا تلبث أن تشتد وطأتها كأمس، لكنه تجاهل وسأله: «كيف حالك الآن يا عزيزي؟»

فقال سليم بصوت ضعيف: «كنت في الصباح أحسن حالًا مني الآن.»

فأخذ يغالطه ناسبًا ذلك إلى تأثير المسهل الذي تناوله، ثم قال له: «إن هواء حلوان نقي جافٌّ منشِّط، ويا حبذا لو ذهبت معي للإقامة معنا أيامًا هناك لتبديل الهواء!»

فاعتذر سليم من عدم استطاعته ذلك شاكرًا، وقال: «لا داعي إلى مغادرة الفراش والانتقال الآن.» ثم أصر على الامتناع برغم إلحاح حبيب، فرأى هذا أن لا سبيل إلى إقناعه إلا بأن يأتي إليه بوالدته لتتولى إقناعه بنفسها. فاستأذن في الانصراف، وسارع إلى منزله في حلوان مستقلًّا قطار الساعة الثانية بعد الظهر، حيث أنبأ والدته بما حدث، فوافقته على الذهاب معه لإحضار سليم، وبعد أن تناولا الغداء، غادرا المنزل إلى المحطة حيث استقلَّا القطار إلى القاهرة، فوصلا إلى غرفة سليم وقت الأصيل، وكانت الحمى قد اشتدت وطأتها عليه فأخذ يئن ويتوجع.

وما رأته والدة حبيب في هذه الحالة حتى تناثرت الدموع من عينيها حنانًا وإشفاقًا، فمالت عليه وقبَّلته قائلة: «لا بأس عليك يا ولدي!» ثم أخذت تواسيه وتهون الأمر عليه.

ولم يتمالك سليم عواطفه إزاء حنانها وعطفها، إذ تذكر والدته فأخذت الدموع تنهلُّ من عينيه، وتمتم قائلًا: «آه يا أماه!»

فازدادت والدة حبيب تأثرًا، وانحنت عليه وهي لا تستطيع إمساك دموعها، وأخذت تمسح العرق المتصبب من وجهه قائلة: «أنت بخير يا ولدي، فاطمئن وثق بأني لك كوالدتك، فأنت مني بمنزلة حبيب.»

فاشتد هياج أشجان سليم، وأمعن في البكاء برغم محاولته التجلد، وود لو أنه لم يفارق والدته، ولم يعرف الحب الذي أقصاه عنها وحملها على اتهامه بالعقوق. بينما واصلت والدة حبيب تهدئة روعه. أما حبيب فلم يتمالك عن البكاء هو الآخر، لكنه حوَّل وجهه عن سرير صديقه حتى لا يلحظ بكاءه فتزداد أشجانه.

وأخيرًا مالت والدة حبيب على وجه سليم وقبَّلته قائلة: «إنني أسألك بحق والدتك عليك أن تكف عن البكاء، وأن تذهب معنا إلى حلوان، فمنزلنا هو منزلك، وكلنا في خدمتك حتى يتم شفاؤك قريبًا بإذن الله.»

fig2
وقالت والدة حبيب لسليم: «اطمئن وثِقْ بأني لك كوالدتك؛ فأنت مني بمنزلة حبيب.»

وحاول سليم أن يرد عليها، فخنقته عبراته ولم يستطع التكلم؛ إذ تذكر أن والدته غير راضية عنه. ثم استطاع التجلد قليلًا بعد حين وقال وكأنه يحدث نفسه: «إنني أستحق هذا الذي أنا فيه، بل أستحق أكثر منه، فهكذا يكون جزاء العقوق ونكران الجميل.»

فعجبت والدة حبيب، ولم تفهم مراده لخلو ذهنها مما بين سليم ووالدته. وخشي حبيب أن تلح والدته في سؤال سليم عن مراده فيصرح لها هذا بسره الذي يحرص على كتمانه. فأشار إليها بأن تكف عن الحديث مع سليم لأنه في بحران الحمى، ثم قال لها: «سأذهب الآن لأحضر طبيبًا يفحصه ويقرر ما ينبغي له من العلاج، فامكثي أنت بجانبه ريثما أعود.»

ثم غادر الفندق على أثر ذلك، وتوجَّه إلى أقرب طبيب من هناك ودعاه إلى مرافقته لفحص سليم وعلاجه، وفي طريقهما إلى الفندق طلب إليه حبيب أن ينصح لسليم بتبديل الهواء في حلوان، ليقيم بمنزله هناك لأنه غريب عن القاهرة، فوعده الطبيب بذلك، وبعد أن فحص سليمًا قال له: «لا خوف عليك من هذه الحمى، ويكفي لشفائك منها أن تلتزم الراحة وتبدل الهواء بالإقامة في مكان جوُّه جاف، ومع هذا سأصف لك دواء يعاونك تناوله على سرعة الشفاء.»

فسأله سليم: «هل ترى أن لا بد من تبديل الهواء والانتقال من هنا؟»

فقال الطبيب: «نعم لا بد من ذلك، ويحسن أن تقصد حلوان لجودة هوائها وهدوئها، على أن يكون انتقالك إليها بعد زوال نوبة الحمى.»

فسكت سليم موافقًا وهو يقول لنفسه: «لا بأس بإقامتي أيامًا بمنزل حبيب في حلوان، فلعلي أستطيع هناك الوقوف على شيء يكشف لي حقيقة علاقته بسلمى، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم.»

وبقي حبيب ووالدته مع سليم في غرفته حتى انقشعت عنه نوبة الحمى، ثم ساعده حبيب في ارتداء ثيابه، وبعث في طلب عربة مغلقة لنقله فيها إلى المحطة لركوب القطار منها إلى حلوان. وما زال هو ووالدته يتعاونان على خدمته والمحافظة عليه من البرد حتى وصلوا إلى المنزل، وخصصوا لإقامته أحسن غرفة فيه. وتنافس حبيب ووالدته وشقيقته في الترحيب به وتعهده بالغذاء والدواء والغطاء، حتى داعب النوم جفنيه وما لبث أن غط في نوم عميق، ولم يستيقظ إلا في الصباح، وقد شعر بأنه استرد بعض قواه وتحسنت حالته.

•••

أمضى حبيب ليلته مسهدًا يفكر في أمر صديقه سليم بعد أن اطمأن عليه وتركه نائمًا، وهداه تفكيره إلى أن يسافر بنفسه إلى الإسكندرية فيقابل والدة سليم ويشرح لها أمره، فلا بد أن قلبها سيرق لفلذة كبدها حين تعلم بأنه مريض. وقد يكون غضبها وإنكارها عليه خطبة سلمى تأثرًا بوشاية بعض الحساد، فيسهل إقناعها بالعدول عن رأيها وتحقيق رغبة سليم؛ وبذلك يكون قد أدى له خدمة جليلة.

ثم تذكر حبيب أن اليوم التالي يوم جمعة، فاغتبط كثيرًا لأن خلوه من العمل في هذا اليوم مما يسهل أمر سفره إلى الإسكندرية.

وفي صباح اليوم التالي، خلا إلى والدته وأنباها بما اعتزمه من أمر السفر والغرض منه، وأوصاها بأن تكتم ذلك عن سليم كل الكتمان، ثم صحبها لرؤيته في غرفته فوجداه مضطجعًا في سريره وعليه دلائل البِشر والعافية؛ فاغتبطا بذلك وجلسا بالقرب منه يلاطفانه ويسليانه بمختلف الأحاديث.

وبعد قليل، نهض حبيب وغادر الغرفة مشيرًا لأمه بطرف عينيه أنه مسافر في المهمة التي اتفقا عليها، فلحقت به وودَّعته داعية له بالسلامة والتوفيق. ثم عادت إلى سليم في غرفته، ولحقت بها ابنتها شفيقة، وجلستا تجاذبانه الحديث وتقدمان له ما يحتاج إليه من الطعام والشراب والدواء.

ومضت ساعة وسليم يبدو باسم الثغر منشرح الصدر، ثم تجهَّم وجهه فجأة وظهرت عليه دلائل الانقباض الشديد؛ إذ تذكر خطاب والدته وحكاية داود عن سلمى وحبيب. على أنه ما لبث أن تجلد وتكلف الابتسام حتى لا ينكشف أمره أمام مضيفتيه، ثم تظاهر بالتلفت حوله وسأل: «أين حبيب؟»

فانطلت عليهما حيلته، وقالت أم حبيب: «سيكون هنا بعد قليل، فقد ذهب إلى القاهرة لإنجاز بعض المهام.»

فعجب سليم من ذهاب حبيب إلى القاهرة دون أن يخبره، وعاودته الهواجس فخيِّل إليه أن لذهاب حبيب إلى القاهرة علاقة بسلمى، ولا سيما أن اليوم يوم جمعة والأعمال معطلة في دور الحكومة، وكان المنتظر أن يبقى معه طول اليوم لو أنه كان مخلصًا في صداقته له وليس متواطئًا مع سلمى عليه.

واشتدت به الوساوس حتى اعتقد أن حبيبًا ما دعاه إلى الإقامة بمنزله في حلوان، إلا ليبعده عن القاهرة، فيخلو جوها لسلمى وله ويتساقيان كئوس حبهما الآثم وهما آمنان مطمئنان!

ولاحظت والدة حبيب أن غيابه أقلق سليمًا وأزعجه إلى حدٍّ ملحوظ، فأرادت أن تشغله عن ذلك والتفتت إلى ابنتها وقالت لها: «هلا أحضرت يا شفيقة كتابًا أو رواية لطيفة مما عند حبيب لكي يتسلَّى عزيزنا سليم بالمطالعة إذا شاء؟»

فنهضت شفيقة وخرجت من الغرفة ثم عادت بعد قليل وقالت وهي تشير إلى بضعة مفاتيح صغيرة في سلسلة بيدها: «الحمد لله لقد وجدت كل كتب حبيب ورواياته في خزانته الخاصة التي يحرص دائمًا على إغلاقها والاحتفاظ بمفاتيحها معه، لكنه لحسن الحظ لم يرتد معطفه، وهذه هي وجدتها فيه، فأي أنواع الكتب أو الروايات أحضرها؟»

فالتفتت والدتها إلى سليم وسألته: «ألا تحب مطالعة القصص؟»

فقال: «لا بأس ففي مطالعتها تسلية.» قال هذا وهو يجاهد لإخفاء ما به.

فهرولت شفيقة إلى خزانة كتب حبيب، ثم عادت بعد قليل وفي يدها رواية إفرنجية وقالت: «لا بد من أن تكون هذه الرواية جميلة مشوقة، فمنذ أسبوع رأيتها في يد حبيب يطالعها في شغف عظيم، وأمضى ليلة كاملة ساهرًا في غرفته حتى أتم قراءتها.»

فقالت والدتها: «وأنا أيضًا رأيته مشغولًا بقراءتها عند فجر تلك الليلة.»

فتناول سليم الرواية، وأخذ يقلب صفحاتها متظاهرًا بالمطالعة. وخرجت شفيقة وأمها من الغرفة ليتركا سليمًا يطالع الرواية في هدوء، ويشرفا على شئون البيت.

•••

أخذ سليم يقلب صفحات الرواية، وفكره مشغول بسفر حبيب إلى القاهرة على غير انتظار، وفيما هو في ذلك وقعت عينه على ورقة مطوية بين الصفحات، وما كاد يتأملها حتى لاحظ أنها مكتوبة بخط يشبه خط سلمى، فازداد اشتعال نار الغيرة في قلبه، وتصور حبيبًا جالسًا مع سلمى يتبادلان أحاديث الحب والهيام، فندم على مجيئه إلى منزله. ثم أخذ يقرأ ما في الورقة، وهو يختلس النظر إلى باب الغرفة محاذرًا أن يراه أحد وهو يقرؤها، فإذا بها حافلة بعبارات الحب والاشتياق والصبابة؛ فلم يبق لديه شك في خيانة سلمى وحبيب، وتحقق صحة ما سمعه عنهما من داود، فاشتد خفقان قلبه، وأخذ ينتفض في سريره كأنما عاودته الحمى. ثم لم يتمالك عواطفه فقفز من السرير ثائرًا، وأخذ يخطر في جوانب الغرفة قلقًا حائرًا مضطربًا، والورقة في يده يعاود قراءتها ويناجي نفسه قائلًا: «تبًّا لها من خائنة ماكرة محتالة! بل تبًّا لي من مغفل ساذج إذ انطلت عليَّ حيلتها فاعتقدت أنها ملاك طاهر، في حين أنها ليست سوى شيطان رجيم!»

وسكت قليلًا إذ سمع وقد أقدام خارج الغرفة، فلما ابتعدت الأقدام، استأنف مناجاته لنفسه قائلًا: «أهذه هي المحبة الطاهرة التي كانت تستحلفني بها؟ أهذا جزاء إخلاصي ووفائي وعقوقي لوالدتي في سبيل حبك يا سلمى؟ لقد طالما كذَّبت ما سمعته عنك، وعاينت في ذلك ما لا طاقة به لقلبي؛ حرصًا على مودتك، وإيمانًا بطهارتك وعفتك ووفائك. ولكن آه! ها أنا ذا الآن قد تحققت صحة اتهامك، ولمست خيانتك، وإني لأشكر الظروف التي هيأت لي الوقوف على ذلك، لأنبذك نبذ النواة يا خائنة.»

ثم عاد إلى تأمل الورقة، فلاحظ اختلافًا يسيرًا بين خطها وخط سلمى، لكنه هزَّ رأسه مستخفًّا بهذه الملاحظة، وعاد يقول: «إنه خطها ما في ذلك شك، ولكنها كتبت هذه الورقة منذ عهد بعيد؛ أي إن حبها الآثم لحبيب ليس جديدًا، وقد استطاعا خداعي والتمويه عليَّ كل هذا العهد الطويل. على أني لا ألومه بقدر ما ألومها على ذلك؛ لأني ملَّكتُها قلبي ووهبتها روحي وأغضبت لأجلها والدتي المسكينة … آه يا والدتي! أين أنت الآن؟ ألا رحماك بولدك المسكين، واصفحي عنه، فقد كفى ما لقيه من الحزن والمرض وخيبة الآمال؛ جزاء عقوقه لك، وركونه إلى وعود فتاة خادعة محتالة، وإلى نفاق عدو في ثياب صديق!»

ولاح له أن يبادر بارتداء ثيابه ويغادر المنزل فورًا ليستقل القطار إلى القاهرة، ثم يستأنف السفر منها إلى الإسكندرية حيث يقابل والدته ويقبِّل يديها مستغفرًا نادمًا. لكنه شعر بأنه في حالة من المرض والتعب لا يقوى معها على السفر، وقد تعاوده الحمى وهو في الطريق فيحدث ما لا تحمد عقباه، فلم يتمالك نفسه واستلقى على السرير آخذًا في البكاء لفرط يأسه وغيظه وأساه.

وفيما هو كذلك، دخلت عليه والدة حبيب، وهي تحمل في يدها إناءً فيه شيء من مرق اللحم أعدته له، فبالغ بالتدثر بالغطاء متظاهرًا بأنه شعر بالبرد حتى لا تلاحظ عليه شيئًا ينمُّ عما هو فيه، فحسبته نائمًا ووقفت بإزاء السرير ثم أخذت تدعوه باسمه متلطفة، فمسح دموعه عن وجهه قبل أن يكشفه متظاهرًا بالاستيقاظ من النوم، والتفت إليها وهو ما زال ممدًّا في الفراش، فقالت له: «لقد حان وقت الظهر يا ولدي، ويحسن أن تتناول قليلًا من المرق.»

فقال لها: «شكرًا لك يا سيدتي، لا حاجة لي بأي طعام الآن.»

فقالت: «إن الطبيب أشار بأن تتناول شيئًا من المرق؛ لأنه يعاون على استرداد قواك.»

فاكتفى بأن أشار إليها بيده مصرًّا على الرفض، ولكنها لم تيأس من إقناعه، ووضعت الإناء الذي تحمله على المنضدة المجاورة للسرير، ثم انحنت عليه وأخذت تربِّت على وجهه متلطفة وقالت له في حنان: «إن المرق خفيف على المعدة، وسيفيدك تناوله فائدة كبرى بإذن الله.»

فتململ في مرقده ضجرًا، ولم يتمالك نفسه فقال لها: «لماذا لم يعد حبيب حتى الآن؟ أليس اليوم يوم الجمعة ولا عمل له في القاهرة؟»

فقالت: «لقد أخبرني بأنه ذاهب في مهمة خاصة، ولعل بعض زملائه أخَّروه هناك كي يتغدى معهم، ولا يلبث أن يعود إلينا بعد قليل.»

فحدثته نفسه بأن يرد عليها قائلًا: «بل هو الآن مع سلمى»، لكنه أمسك وسكت، فعادت هي إلى حمل إناء المرق بيدها، وقدمته له قائلة: «بالله يا ولدي إلا قبلت رجائي وتناولت هذا المرق الخفيف!» ثم مدَّت يدها الأخرى إليه بالملعقة، فلم يسعه إلا أن يمد يده لتناولها من يدها متأثرًا بعطفها وحنانها، ثم هَمَّ بالنهوض ليتناول الإناء من يدها الأخرى، وما كاد يحمله بعد أن استوى جالسًا حتى ارتجفت يده واهتز الإناء فانسكب جانب من المرق على حافة السرير، فاحمر وجهه خجلًا وأسفًا. لكن السيدة سارعت إلى تهدئة خاطره قائلة: «لا بأس يا ولدي!» ومسحت حافة السرير المبتلة بالمنشفة، وجاءته بمنشفة أخرى وضعتها على ركبتيه، وقالت: «بالهناء والشفاء يا ولدي، سآتيك بقطعة صغيرة من اللحم المشوي لتتغذى بها وفق مشورة الطبيب.»

فحاول أن يعتذر من عدم استطاعته تناول أي طعام آخر، لكنها سرعان ما انطلقت إلى المطبخ ثم عادت وهي تحمل إناءً به بعض اللحم المشوي، فوضعته على المنضدة. ثم فتحت خزانة بجانب السرير وأخرجت منها ملاءة بيضاء نظيفة لتضعها على السرير بدلًا من الملاءة المبتلة بعد أن يفرغ سليم من تناول الطعام. ولم تتركه حتى شرب المرق وتناول شيئًا من اللحم، فأبدلت ملاءة السرير، وبقيت بجانبه تسليه وترفِّه عنه بالأحاديث حتى رأته يغمض جفنيه وكأن النوم يداعبه، فنهضت وتسللت خارجة من الغرفة تاركة إياه لينام.

على أنه في الحقيقة لم يكن يريد النوم، بل تظاهر بذلك كي يخلو إلى نفسه، ويعاود التفكير في أمر سفره إلى والدته، وفي أمر سلمى وحبيب. وكلما مضت ساعة دون أن يرجع هذا من القاهرة، اشتدت الغيرة بسليم، وهاج حنقه عليه وعلى سلمى، حتى إن نفسه حدثته أكثر من مرة بأن ينهض ويغادر المنزل كي يستقل القطار إلى القاهرة ويفاجئهما في خلوتهما هناك، ثم ينتقم منهما شر انتقام.

ولما جاء المساء دون أن يرجع حبيب، لم يعد سليم يقوى على تحمل ما يساوره من الوساوس والهموم. وكان إلى ذلك يشعر بأنه أشد تعبًا وتخاذلًا منه بالأمس، ويتوقع أن تعاوده الحمى أشد مما كانت. وعبثًا حاولت شفيقة ووالدتها أن تُرَفِّها عنه، وضاق هو بمحاولتهما فتظاهر بحاجته إلى النوم، حتى اضطرهما إلى تركه وحده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤