تعلمت الحب

هبطت بي العربة السريعة في الطريق الزراعي المترب، واختفت العمارات العالية والمداخن السوداء وظهرت بشائر الريف، ورأيت حقول «الذرة» تقترب من جانبَي الطريق، بعضها أخضر وبعضها أصفر، يتخللها النخيل الطويل الهزيل، وسحبت زجاج النافذة إلى أسفل لأشم رائحة الريف بما فيها من تراب وزرع وماء، تلك الرائحة العجيبة التي أعشقها، والتي أشمها أحيانًا في القاهرة حينما أمر في ليالي الخريف بعربات «الذرة المشوي» أو عندما تأتي إحدى القريبات من الريف فأشم حولها رائحة الفطير، أو حينما تأتي عربة الرش في ليالي الصيف وتُندي شارعنا بالماء.

وطلبت من السائق أن يتمهل، وجذبت أنفاسًا طويلة فامتلأ صدري بهذه الرائحة الحبيبة، وانتشيت وذاب بعض الوحشة التي أحسستها وأنا أفارق القاهرة، وشعرت كأنني أعود إلى وطني، إلى أصلي، كأنما أزحف بجسمي على الأرض السوداء المبللة بالماء وأتحسسها بلساني لأرتوي منها وأغمس رأسي في شقوق الأرض أشم باطنها وأضع خدي الملتهب على سطحها الرطب.

وطافت برأسي فكرة أصل الإنسان: ماذا كان؟ حيوان من خلية واحدة يزحف على هذه الأرض! أو قطعة طين من هذا الطين الذي يغطي الأرض؟ وتنبهت فجأة وقد أحسست أن العربة وقفت، ورأيت عددًا كبيرًا من الفلاحين يحيط بالعربة، وسمعت أصواتًا خشنة تقول: «الست الدكتورة وصلت.»

وهنا صحوت من غفوتي وتذكرت أنني الست الدكتورة التي وصلت، وأنني قدمت من القاهرة لأتسلم عملي اليوم بوحدة طحلة المجمعة.

ونزلت من العربة، وما إن استقرت قدماي على الأرض حتى رأيت رجالًا بالجلاليب ونساء بالطُّرَح ينحنون على يدي يقبلونها، وقادوني إلى البيت المخصص لي في مظاهرة حارة من آلاف التسليمات والترحيبات.

ودخلت البيت، ووجدتني داخل صالة كبيرة منسقة في وسطها منضدة كمائدة الطعام وضعوا عليها حقائبي!

– ده بيت لطيف فعلًا، مين اللي رتب الفرش ده؟

وسمعتهم يقولون في صوت واحد: «محمود.»

– محمود مين؟

وأشاروا إليه، كان رجلًا ريفيًّا جاوز الخمسين من عمره، قصير القامة يلبس جلبابًا ليس له لون معين، وطاقية صفراء من الصوف، وكان شكل وجهه غريبًا عليَّ، فيه قبح شديد منفر، أنفه كبير على قمته شعر أسود قصير، وعيناه مدفونتان في حفرتين شديدتَي الضيق، وأهدابه متلاصقة كأنها لزجة، وشفته العليا أعرض من السفلى على عكس الناس.

وأدرت وجهي عنه بسرعة، وطلبت منهم أن ينصرفوا لأستريح. وانصرفوا جميعًا إلا هو ذلك المحمود، رأيته يأخذ حقائبي ويقول بلهجة ريفية: الشنط دي نطلعها فوق يا ست الدكتورة؟

وكدت أقول له دعها وانصرف، ولكني كنت متعبة فعلًا وفي حاجة إلى بعض الملابس التي بداخل هذه الحقائب فقلت له: «أيوه، طلعها فوق.»

وأخذ الحقائب وصعد السلم، وكان البيت مكونًا من طابقين: طابق علوي فيه حجرة النوم والحمام، وطابق سفلي فيه حجرة الطعام والمطبخ.

ووضع محمود الحقائب بجوار الدولاب وتراجع إلى الوراء وهو يقول: الست الدكتورة تطلب إيه للغدا؟

ونظرت إليه ورأيت وجهه، كان قبيحًا، لكني لم أشمئز منه كالمرة الأولى، وكنت أريد أن ينصرف لأستريح فقلت: «لا أنا مش حاتغدى دلوقت، روح انت يا محمود.»

ولكنه لم ينصرف وقال لي كأنه يعزمني في بيته على الغداء: «لا مش ممكن إزاي سعادتك تقعدي من غير غدا والسفر متعب.»

كنت أسمعه وظهري له لأتفادى دمامة وجهه، لكني أحسست أن في صوته شيئًا مألوفًا لدي، كأنما سمعته قبل اليوم.

واستدرت إليه، ورأيت وجهه، واهتزت عيناي على ملامحه لا ترغبان في الاستقرار على شيء منها، وقلت له في عزم وغضب: «أنا مش حاكل دلوقت!»

وانصرف، وزحزحت السرير بجوار النافذة، وألقيت جسمي عليه، ومددت ساقي، وثنيت الوسادة تحت رأسي لأتمكن من رؤية المزارع من خلال النافذة وأنا نائمة، وأغمضت عيني وأنا أجذب نفسًا عميقًا هادئًا.

آه! ما أجمل الاسترخاء! وما أشق أن أُساق في تيار متدفق، لا أتوقف لأن كل ما حولي لا يتوقف: الساعة تدق دائمًا، والعربات والقطارات تجري بسرعة وتُصفر، وحياة المدينة الجارفة — حياة القاهرة — بنهارها وليلها وعملها ولهوها تبتلع اليوم، وتجعلني أتلفت حولي في قلق وأقول: هل من مزيد، هل يصبح اليوم أربعين ساعة؟

ومددت ذراعيَّ وساقيَّ وتثاءبت في تراخٍ شديد.

آه! ما أحلى التوقف بلا ساعة وبلا زمن! اليوم أمامي طويل عريض، بلا مواعيد، والأرض الواسعة الخضراء حولي جميلة بلا مواصلات، والناس الطيبون قريبون مني في أية لحظة يلبون طلباتي.

ووضعت يدي تحت رأسي وتمطيت، أنا هنا ملكة، ملكة نفسي قبل كل شيء.

وسمعت طَرقًا على الباب فقمت من فراشي ونزلت وأنا أحس أنني خفيفة كالريشة، وفتحت الباب، ودخل محمود بوجهه القبيح، لو لم يكن له هذا الوجه المنفر؟! إنه الشيء الوحيد الذي يُتلف مزاجي في هذا الهدوء.

وسمعته يقول: يا ست الدكتورة الغدا جهز.

– غدا؟! هو أنا طلبت غدا؟

– أنا قلت مش معقول حضرتك تفضلي من غير غدا، ودي حاجة بسيطة مش قد المقام يا ست الدكتورة.

ودخلت امرأة ريفية تحمل على رأسها صينية كبيرة مغطاة بفوطة بيضاء نظيفة، ووضعت الصينية على المائدة وانصرفت، وأخذ محمود يرتب الأطباق، ويُعد الأكواب، وما إن تأكد أن كل شيء في مكانه حتى تراجع نحو الباب في حركة خفيفة وقال: تطلبي حاجة تاني يا ست الدكتورة؟

ولا أدري بمَ ذكَّرتني لهجته، وكأنما سمعتها قبل اليوم، ورفعت عيني إليه ورأيت وجهه. ولأول مرة تبينت عينيه، كانتا سوداوين ضيقتين فيهما نظرة مألوفة لديَّ كأنما رأيتهما من قبل، من سنين بعيدة، ربما وأنا طفلة، وأحسست كأنه قريبي، وقلت له وأنا أبتسم: لا، كتر خيرك يا عم محمود.

ورن صدى «عم محمود» في نفسي، لماذا قلت له عم محمود؟ لست أدري، لكني لم أستطع أن أقول له محمود «حاف» كالمرات السابقة.

وأكلت بشهية تشبه الشهية التي كنت آكل بها وأنا في العاشرة من عمري حينما كنت أعود من المدرسة وألقي حقيبتي وأجري لألحق بكرسيٍّ على المائدة، وما إن يمتلئ فمي بالطعام حتى أسمع أمي تهتف بي كعادتها من المطبخ: غسلتي إيديك يا آمال!

وتذكرت أنني لم أغسل يديَّ، فقمت وغسلتهما، والتهمت بقية الطعام ثم نمت، نمت أيضًا بشهية تشبه شهيتي وأنا طفلة، ولم أستيقظ إلا في الصباح التالي لأجد كل شيء مشرقًا متألقًا.

الشمس الدافئة تدخل إلى نصف السرير وحقول الذرة تلمع وتهتز مع النسيم الوادع، ونظرت من النافذة التي تطل على الوحدة فوجدت المرضى الفلاحين يقفون أمام حجرة الكشف متجمعين، ولمحت التومرجية — النساء والرجال — بملابسهم البيضاء يروحون ويجيئون في مباني الوحدة، وأحسست بالنشاط والحماسة فلبست المعطف الأبيض ونزلت مسرعة.

وعلى باب حجرة الكشف وجدت عم محمود يلبس ملابسه البيضاء النظيفة ويبدو فيها «تومرجي» متمرنًا قديمًا وليس الفلاح الذي رأيته أمس.

وبدأت الكشف، ودخل المرضى واحدًا واحدًا بنظام دقيق وعم محمود يروح ويجيء بينهم في حماس غريب، يحمل على الأم طفلها، ويحمل على الرجل ملابسه، وعيناه ببريقهما العجيب تتبعان كل شيء باهتمام شديد. وانتهى الكشف وذهبت إلى حجرة الغيار حيث وجدت كل شيء معدًّا، الحقن معقمة، والعمليات وغيرها جاهزة، وبعد حجرة الغيار صعدت إلى القسم الداخلي، فوجدت العنابر نظيفة تلمع، وأسرَّة المرضى مرتَّبة، والمُلاءات بيضاء، وكل شيء يدعو إلى السرور والدهشة.

واستدرت لمن حولي من التمورجية وسألت: «مين اللي نظف هنا؟»

فقالوا في صوت واحد: «عم محمود.»

إنه يفعل كل شيء، ويحب أن يفعل كل شيء.

ونزلت واتجهت إلى بيتي، وعند الباب سألني عم محمود بلهجته المألوفة: حضرتك تحبي تتغدي إيه؟!

ونظرت إليه، إنه أيضًا لا ينسى شيئًا، وأطلْتُ النظر إلى عينيه، فرأيت فيهما شيئًا عجيبًا لم ألحظه من قبل، شيئًا ربما رأيته من قبل، في عينَي أبي أو أمي، حنان غريب.

وتذكرت لهجته، وعرفت لماذا أحسست أنني سمعتها من قبل، إنها تشبه لهجة أمي، أو أبي.

وناولته جنيهًا وأنا أقول: فرخة سمينة يا عم محمود وعليها أي حاجة، كفاية شوية شوربة، واوعَ تنس تحط فيها «ضرس الساقية» وضحك، وضحكت.

وذات صباح نزلت إلى الوحدة كعادتي فوجدت المرضى غير منتظمين ككل يوم والوحدة مهمَلة، وصفقت وناديت عم محمود وجاءني تمورجي آخر يقول: عم محمود غايب النهاردة يا ست الدكتورة، يلزم خدمة؟

ونظرت إليه، أحسست بفرق هائل بينه وبين عم محمود.

– نظم العيانين دول بسرعة، وخلِّي حد من التمورجية يكنس الطرقة، وواحد تاني يجهز الغيار وعمليات الفتح، يَلَّله بسرعة دخل العيانين واحد واحد.

وكان يومًا قاسيًا عليَّ، أحسست في كل لحظة من لحظاته أنني أفتقد شيئًا ضخمًا، المرضى يدخلون بلا نظام، وحجرة الغيار لا تصلح لشيء، والتمورجية على كثرتهم يروحون ويجيئون بغباء شديد وبلا نتيجة.

وانتهى العمل بعد أن تعبت وبُحَّ صوتي، وذهبت إلى بيتي، وعند الباب تلفَّتُّ كالتائهة حولي كأنما أبحث عن شيء مفقود، عن الحنان.

ووجدتني أُسرع إلى العربة دون أن أدخل بيتي، وأركب فيها وأنا أقول للسائق: «اطلع يا أسطى محمد بسرعة، على بيت عم محمود!»

وأحسست بالفرح وأنا أراه، وكنت على وشك أن أرتمي على صدره وأقبِّل جبهته كما أفعل مع أبي أو أمي، لكني تراجعت وتذكرت أنني الست الدكتورة وهو عم محمود التمورجي.

– ما لك يا عم محمود؟ انت عيان صحيح؟

– أبدًا يا ست الدكتورة شوية حمى خفيفة، سعادتك تعبت نفسك وجيتي لغاية داري، ده شرف كبير، هو احنا قد المقام؟

– مقام إيه يا عم محمود، مفيش فرق بين الناس وبعض.

وخرجت هذه الكلمات من فمي وحدها دون مجهود، كلمات أحسست أنها صادقة وليست كتلك المجاملات الشاقة التي ألِفتها في القاهرة، وشعرت أنني لا أجد فرقًا بيني وبين عم محمود، بل أحسست أنني أحبه، ذلك التمورجي الفلاح الذي يلبس جلبابًا ليس له لون وطاقية صفراء ويرقد على الحصيرة، وأحب أيضًا زوجته الفلاحة التي تلبس ملابس سوداء وتجلس إلى جواره على الأرض، وأحب أيضًا طفله الذي يسيل لعابه على ذقنه ويلعب في التراب بيديه.

وفي اليوم التالي، وجدتُني أتفرس في وجوه المرضى وكأنني أراهم لأول مرة، وخُيِّل إليَّ أنني أرى في كل رجل منهم عم محمود، وفي كل امرأة منهن زوجة عم محمود، وفي كل طفل منهم طفل عم محمود، ورأيت عيونهم جميعًا مليئة بالحب والحنان، وأحسست أنه يربطني بهم عاطفة جديدة قوية، وسمعتُني أقول للتمورجي الذي أمرته بتنظيمهم والشخط فيهم: حاسب يا حسنين شوية، بلاش شخط في العيانين، دول ناس زينا برضه.

وحينما عدت إلى فراشي في تلك الليلة أحسست براحة غريبة تسري في كياني، وسعادة دافئة تتمشى في جسمي، وأغمضت عيني ليستقبل قلبي حبًّا جديدًا.

وتنفست بهدوء وأنا أحس أن متاعب الدنيا كلها تذهب عني شيئًا فشيئًا مع أنفاسي الهادئة، والقاهرة، بصخبها وضجيجها وبسكانها المتخشبين كأنهم الآلات أو التماثيل، تتلاشى من إحساسي، والمستشفى الكبير الذي كنت أعمل فيه هناك ذاب من ذاكرتي، حتى حبي، حبي الذي تركته خلفي في القاهرة أصبح الآن لا شيء في رحاب ذلك الهدوء القوي الذي يغمرني، وفي غمرة تلك العاطفة الجديدة التي عرفتها. آه، قلتها وأنا أمد ساقيَّ، لقد وجدت سعادتي.

وجدت حبي، إنه هنا، في كل شبر من هذه الأرض الخضراء الوادعة، وفي كل عين من هذه العيون الحانية الدافئة، وفي كل قلب من هذه القلوب الطيبة البريئة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤