شيء جديد

في صباح كل يوم كان يسير في الشارع من بيته إلى مكتبه، وفي أول كل ليلة كان يسير في الشارع من بيته إلى حيث يغيب حتى منتصف الليل.

وكانت له شخصية كل شيء فيها يوحي بالإهمال والفتور؛ مشيته البطيئة، وخطواته الطويلة وهو يحرك ذراعيه وساقيه بلا اكتراث كأن الأرض من صنعه، وجفناه المتدليان على حافَتَي عينيه في تكاسل من لا يهمه أن يرى شيئًا لأنه عرف كل شيء، وبذلته الرمادية البسيطة كأنها بلا خياطة، من تحتها ياقة قميصه مفتوحة بلا ربطة عنق، والسيجارة، أو نصف السيجارة، في فهمه دائمًا تحترق وحدها ببطء دون أن يدخنها، كأنه نسيها أو أشفق من أن يضغط عليها، فتركها تنهار وحدها بين شفتيه.

كل يوم وكل ليلة يسير في هذا الشارع أربع مرات، نصفها ذهاب ونصفها إياب، ولا شيء فيه يتغير، هو هو، بالأمس كاليوم كأول أمس، سائر كأنه نائم، سارح في ذهابه وإيابه، حتى تظن من فرط إهماله أنه لا ينظر أبدًا إلى المرآة، لولا تلك الوسامة الغريبة التي يتميز بها قوامه وملامحه.

حتى كانت ليلة من ليالي الصيف، واللون الرمادي الذي يصحب أول الليل يغلف كل الأشياء بضوء خافت، لا هو نهار ولا هو ليل، ونوافذ البيوت والعمارات مغلقة «بالشيش» وقد لفظت من الحر كل سكانها إلى الشوارع والكباري والكازينوهات. الضجة كلها في الخارج، لكنه كان في بيته، لم يلبس بذلته ويخرج ككل ليلة.

كان بالبيجاما البيضاء الخفيفة، مستلقيًا على أريكة بجوار السرير، ولأول مرة يبدو متحمسًا رغم أنه لا يمشي ولا يتحرك، وكان حماسه في عينيه، ارتفع لأول مرة الجفنان المتدليان، وظهرت عيناه بُنِّيَّتين قاتمتين تغرقان في بياض محمر، لهما نظرات متكبرة، فيها لمعة عميقة تروح وتجيء في ثبات وبطء تحت حاجبين كثيفين.

كل شيء فيه تغير، وكل ملامحه تحمست، إلا السيجارة التي احترق نصفها في فمه مهملة كما هي في مكانها، تلوذ متهالكة بطرف شفتيه، كأنه أراد أن يبقيها هكذا من فرط غروره ليتحدى بها ذلك الحادث الجديد الذي سلبه رغمًا عنه إهماله وفتوره.

ودارت عيناه الحمراوان في اهتمام حول محتويات الشقة، كأنه يتأملها لأول مرة، ولا يعجبه نظامها. وكان لشقته طابع خاص يشبه إلى حد كبير شخصية صاحبها، في نظامها المهمل طبيعته المغرورة، وفي ذوقها البسيط أناقته المتكبرة.

وقام عن الأريكة فجأة، جاءته فكرة نقل تمثال المرأة العارية من مكانه بجوار السرير، ووقف قليلًا أمام التمثال يتأمله. كان هو أول شيء يسترعى انتباه أية امرأة تدخل معه حجرة النوم فتقف أمامه تتأمل النهدين البارزين في صلابة، والخصر الضامر اليابس، وتنظر خلسة إلى نهديها وتتحسس خصرها. ويبتسم هو لنفسه في مكر خبيث؛ لقد تعمد أن يضع هذا التمثال الناعم الرشيق والمبدع في نعومته ورشاقته، ليطفئ غرور أية امرأة تدخل معه حجرة النوم فيستمتع بكل ضعفها وكل أنوثتها دون شوائب، لكنه الليلة تراوده فكرة نقل التمثال من جوار السرير، هذه المرأة الجديدة القادمة الليلة ربما لا تراه في مكانه هذا، يغلب على ظنه أنها لن تدخل معه حجرة النوم. ووضع يده على التمثال يتحسسه ثم بدأ يزحزحه وهو يتلفت حوله لا يعرف أي مكان يختاره له. وابتسم لنفسه في مكر شديد وهو يضعه برفق بجوار المكتبة الزجاجية في الصالة، وجلس على الكرسي الكبير المواجه لها وراح يتأمل منظر التمثال وهو يقف عاريًا رشيقًا بجوار صفوف الكتب المتراصة وراء الزجاج.

وابتسم، إنها ستجلس حتمًا على الكرسي، إنه يفهمها ويستطيع أن يخمن تصرفاتها.

ودارت عيناه الحمراوان مرة أخرى حول محتويات الشقة، وامتُقِع وجهه قليلًا. إن الشقة تبدو منظمة ونظيفة أكثر من اللازم، ويظهر عليها واضحًا الانتظار والاهتمام الساذج. وقام بسرعة على غير عادته وفتح أحد الأدراج وألقى منه بعض المجلات على الأرض، ودخل المطبخ وأحضر فنجانَ القهوة التي شربها في الصباح ووضعه دون أن يغسله على المنضدة في وسط الصالة، وفتح صفيحة القمامة، وجمع منها بعض أعقاب السجائر، ثم ملأ بها المطفأة ووضعها على يد الكرسي الخشبية.

وعاد وجلس على الكرسي الكبير يتأمل المنظر، وابتسم في مكر، إنه يفهم المرأة الجديدة، إنها تختلف عن كل النساء اللائي عرفهن. لقد أثارها منه شيء واحد فقط هو إهماله، مشيته المستهترة، ونظرته المتكبرة في إطراقها معرضة عن كل شيء، ونص السيجارة التي ينساها بين شفتيه كأنه تائه عن نفسه، أو ضائع عن وجوده.

لم تثرها جاذبيته التي فتن بها كل امرأة من قبل، وكانت جاذبيته كالصواريخ يطلقها على النساء الآمنات من بعيد، وهو مستلقٍ على ظهره يتثاءب ويتمطى وفي يده ورقة وقلم. كان كاتبًا وأديبًا مشهورًا، يكتب بطريقة ماكرة يثير بها النساء وكأنه لا يثيرهن، ويختار كلماته ومعانيه بذكاء غير مألوف، فتأتي كتاباته خليطًا مقنعًا من المثالية والإباحية، والطيش والعقل، والقوة والضعف. يكتب فيودع كلماته كل رجولته بتناقضها، ويترك سطوره على الورق لها وهج وفيها لهيب يقنعان الناس بأن الأبيض يمكن أن يكون أسود، والأرض يمكن أن تكون فوق، والسماء تحت، ولا شيء في ذلك يبدو غير طبيعي. كانت هذه هي جاذبيته، التي عرفها وصقلها.

وأصبحت لياليه محجوزة، ككراسي سينما مترو في أول عرض، في كل ليلة يعتصر بذراعيه العريضتين جسد امرأة، وشفتاها بين شفتيه ترددان عن ظهر قلب كتاباته، وفي بعض لياليه كان يحس أنه إله فعلًا، وأحيانًا يتواضع فيكتفي بأن يكون ملكًا للأرض ويترك للسماء إلهها، لكنه الليلة لا يحس أنه إله أو حتى ملك، هذه المرأة الجديدة لها عينان سوداوان واسعتان كعدستي المنظار المكبر، تستقر نظراتهما اللامعة الكاشفة في جوفه كأنها سكين حاد يشطر داخله كالبطيخة شطرين، فيحس أنه ينزل عن عرشه، ويقف بجوار الناس الذين يسميهم عاديين.

وحينما دقق إليها النظر لأول مرة، من حيث لا تراه، رآها تجلس بشعرها الأسود الناعم يميل إلى الوراء قليلًا، تضع ساقًا على ساق وتنقر بأناملها المسحوبة على حافة الكرسي.

ولم يَدْرِ لماذا بدت كل الوجوه حولها باهتة كأنها مرسومة بالقلم الرصاص أو ممسوحة بالأستيكة وملامحها هي مرسومة بالحبر! كانت تمتد عند أنفها العالي الدقيق وتستدير عند شفتيها الممتلئتين، وكانت في جلستها تبدو ذات قوام ممشوق، كتفاها العاريتان من الأمام والخلف، وصدرها المحبوس داخل فستان السهرة الضيق، وخصرها النحيل، وساقاها الممتلئتان تحت ذيل الفستان الخفيف، وكل ما في جسمها يميل إلى استدارة جذابة مثيرة، وعيناها السوداوان اللامعتان بنظراتهما القوية المتوهجة التي تعيد أجرأ المفتونين إلى رشده.

ورآها بعد ذلك كثيرًا، وحينما سمعها تتكلم لأول مرة بُهت. كان صوتها يجمع بين الضدين العنيفين في شخصيتها، منتهى الرقة والضعف، ومنتهى المنطق والعقل. وهو لا يحب المرأة التي تتكلم، ويكون كلامها معقولًا، إنه يريدها بلا منطق، بلا عقل، المرأة في رأيه لم تخلق لها شفتان لتقول شيئًا سليمًا، وإنما لتهذي، لتهرف، لتفتح فمها وتقول أي شيء، أو لا تقول شيئًا، وعليه هو أن يقفل فمها بشفتيه.

ورغم ذلك كان يحب أن يسمعها وهي تتكلم، ويتحرق شوقًا إلى شيء فيها لا يدريه، لكن منطقها العنيد كان يقف دائمًا بينه وبينها.

لهذا كان حضورها إليه الليلة مثيرًا، مع أنه تعود ألا يثيره شيء، وملامحه المتكبرة الزاهدة في كل شيء مشتاقة ومتلهفة إليها، وعيناه الحمراوان تدوران على محتويات نفسه من الداخل والخارج في قلق تشوبه لذة جديدة منعشة.

وأخيرًا دق جرس الباب ودخلت هي، كانت تلبس ثوبًا رماديًّا بسيطًا، وتضع على رقبتها «إيشارب» خفيفًا أحمر يلهب لونها الأسمر المحروق وخديها البارزين. وخطت إلى داخل الصالة، في رشاقة طبيعية، وجلست على الكرسي الكبير المجاور لمكتبه في بساطة كأنها تجلس على مقعد في الأتوبيس.

وكانت عيناها تبتسمان في كبرياء عنيد، وفي نظراتها رغم ذلك سحر غريب جامع للسذاجة والذكاء معًا، وابتسم في حذر، وهو يثبت عينيه في عينيها ويقول لها بصوت جعله متزنًا: «أهلًا وسهلًا.»

وابتسمت ابتسامة جريئة، وقالت وهي تنظر إلى جبهته العريضة: «أهلًا بك.»

ولم يقل شيئًا بعد ذلك، أحس من لهجتها الجادة ونظرتها الجريئة أنها مسلحة أكثر من اللازم.

وسمعها بعد دقائق تقول: «فين الحاجات اللي عندك وعاوز تفرجني عليها؟»

وخُيل إليه أنه ارتبك أوتلعثم، لكنه أجاب بسرعة: «حاضر، حالًا أجيبها.»

وقام واختفى في حجرة النوم، وفتح الدولاب ونظر إلى وجهه في المرآة، لقد كذب عليها، وأوهمها أن لديه أشياء فنية تستحق أن تراها، وكان يريد أن يحضرها إلى بيته فحسب، كان يظن أنها بمجرد أن تضمها الشقة معه وحده ستنسى هذه الأشياء ولا تسأله عنها.

وتذكر جاذبيته التي تعشقها النساء فأغلق الدولاب، وأخذ من أحد الأدراج مجلة صغيرة، ثم عاد إليها وقال وهو يناولها المجلة: «قرأت العدد ده؟»

ونظرت إلى غلاف المجلة ثم قالت: «أيوه.»

وسألها: «وإيه رأيك في المقال بتاعي؟»

وقالت في بساطة: «كله كدب.»

وخيل إليه أنه أهين، لكنه سألها في اهتمام: «كدب ازاي؟»

وابتسمت في ذكاء وهي تقول: «معرفش ازاي؟ لكن على العموم كتاباتك مش إنت، أو إنت مش كتاباتك.»

وأحس من هذه الكلمات القليلة أنها نفذت إلى شيء في أعماقه، إلى النبع العميق في نفسه الذي يغمس فيه قلمه ويكتب عكس ما يحس، لكنه قال في حماس من يدافع عن تهمة حقيقية: «بالعكس، أنا عمري ما اكتب غير ما احس.»

وابتسمت في عدم مبالاة وكأنها تنهي المناقشة: «جايز.»

وأحس بالغيظ منها، أو على الأصح من نفسه، ما هذه المناقشة السخيفة التي تدور بينه وبينها، وهي الآن في بيته بلحمها ودمها؟ كيف يضيع الوقت في كلام كأنه في الأتوبيس!

وصمت قليلًا وتغيرت ملامحه وارتسمت عليها ابتسامة عريضة، وقام وهو يتجه إليها قائلًا: تعالي افرجك على شقتي.

وقامت معه، ودار بها في أنحاء الشقة، وعند مدخل حجرة النوم توقف قليلًا وهو ينظر في عينيها: «ودي أودة نومي.»

ودخلت أمامه بجرأة بلا ارتباك، ونظرت بعينين ثابتتين إلى السرير والدولاب والشماعة، ثم تعلقت عيناها بالحائط، كانت صورته داخل إطار أنيق، وأطالت النظر في الصورة، وكان هو يقف وراءها يرى شعرها الأسود الناعم من الخلف، ويرى ظهرها وخصرها، وتملكته رغبة جارفة في أن يلف ذراعيه حول ذلك الخصر النحيل، لكن إحساسًا غريبًا جعله يدلِّي ذراعيه إلى جانبيه في تأدُّبٍ وتعفف، وسمعها تقول: «الصورة حلوة بس ناقصة حاجة.»

وسألها بلهجة متأدبة: «ناقصة إيه؟»

قالت: «النظرة الطبيعية بتاعتك.»

ولم يَدْرِ لماذا تغير شكل عينيها وهي تنظر إليه، واختفت منها النظرة القوية المتحدية، وأحس كأنما شحن جسمه فجأة بسخونة لاسعة، وسمع دقات قلبه، وأنفاسه تتلاحق، ورأى ذراعيه غير الواعيتين تتحركان ناحية خصرها وجذبها إليه، ومال بشفتيه عليها وهو يضغط على كلمات خافتة غير مسموعة، ولم تصل شفتيه إلى شيء، وأفلتت منه وخرجت إلى الصالة.

وخرج وراءها، وجلسا متقابلين كل منهما مطرق كأنه يفكر، وأخيرًا رفعت إليه نظرة جادة وقالت بلهجتها القوية: «أنا كنت عارفة إنت عاوزني آجي ليه!»

وتظاهر بالدهشة: «ليه؟»

وتأججت عيناها ببريق جديد وقالت: «أنا كنت متأكدة إنك بتكدب عليَّ، وانت بتقول عندي حاجات لازم أفرجها لك، لكن جيت عشان أفهمك.»

– يا ترى «فهمتيني»؟

وأجابت بسرعة: «طبعًا.»

وسألها: «فهمتي إيه؟»

وقامت واقفة كأنها تهم بالخروج وقالت: «لا ده موضوع طويل وأنا اتأخرت، بعدين نتكلم فيه.»

ولم يستطع أن يصبر عليها بعد ذلك، إنها تستخف به أكثر من اللازم، كأنه حشرة أو حيوان صغير تُجري عليه تجربة ما، وأحس بالغيظ؛ لأول مرة في حياته تستخف به امرأة، ولأول مرة يفقد ثقته بنفسه، وحينما رآها تقف لتخرج كان لا بُدَّ أن يقف هو الآخر، لكنه كان يعرف أنه لن يدعها تخرج بهذه السهولة بعد أن أصابت كبرياءه فقال لها: وأنا كمان كنت عاوز أفهمك.

وابتسمت في سخرية: «وعشان كده جبتني هنا!»

ونظر في عينيها بمثل نظرتها الجريئة الساخرة: «فعلًا.»

وسألته: «ويا ترى فهمتني؟»

ورد بسرعة: «طبعًا.»

وهزت كتفيها في عدم اكتراث، وقالت وهي تنظر إلى الباب ليفتحه لها: «الحمد لله.»

ووضع يده على مقبض الباب ليفتحه، لكن إحساسًا في أعماقه جعله يستدير إليها، إحساسًا بأن زيارتها لم تنتهِ بعد، وأن شيئًا ضخمًا لا يزال ناقصًا بينه وبينها، ورآها وهي تربط «إيشاربها» الخفيف حول عنقها، ولم يعرف كيف اقترب منها، وكيف التفَّت ذراعاه العريضتان حول خصرها، وكيف انتزع شفتيها من تحت يديها وأهوى عليها بشفتيه، لم يعرف كيف فعل ذلك، لكن حدث هذا في لحظة خاطفة، كان يحس أنه لا بُدَّ أن ينتصر عليها بأي شكل ولو بالقوة.

وبعد أن أغلق خلفها الباب ألقى بنفسه على الأريكة وأخذ يتحسس بيديه شعره وجبهته، وخيل إليه أنه يحاول أن يمسك بأصابعه شيئًا في رأسه أو في عقله أو في إحساسه؛ إنها أول مرة في حياته يغتصب قبلة من امرأة.

لقد تصرف الليلة بطيش غريب عنه، بعيد كل البعد عن شخصيته المتكبرة المهملة لكل شيء، لكنه يحس أنه يقترب من نفسه، من حقيقته، من النبع العميق الذي يغمس فيه قلمه ويكتب عكس ما يحس.

وقام بسرعة إلى مكتبه، وأمسك بالورقة والقلم، وأخذ يرسم بعض الخطوط والمثلثات كعادته عند بداية الكتابة.

ثم كتب، كتب شيئًا جديدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤