نسيان

«مستحيل، مستحيل!»

خرجت هذه الكلمة من فمي، وخرجت معها أنفاسي لاهثة متقطعة.

كنت أجلس ورأسي على كفي، وعيناي مليئتان بالدموع.

حزينة، تعسة، لا أرى شيئًا أمامي سوى ظلام يتراكم كأنما فقدت بصري.

فقدت كل الأشياء ألوانها، واصطبغت بلون واحد، السواد!

وأحسست أني أختنق.

هل نفد الهواء من حولي؟ هل انطبقت أضلاعي بعضها على بعض؟ مستحيل، إني لا أطيق، لا أحتمل.

وقمت من مكاني ونظرت إلى النافذة، كانت الشمس تهبط منكسرة وراء الأهرام الثلاثة، والسحب الرمادية تغشى الفضاء، والنخل الطويل الهزيل يمتد متهالكًا بين الأشجار، لا نسمة تهب، ولا شيء يتحرك، الطبيعة كلها ساكتة كأنها ميتة.

وأغلقت النافذة، وألقيت بجسدي المتداعي على السرير دون أن أغير ملابسي أو حتى أخلع حذائي.

وتقلبت على جنبيَّ في ضعف يائس.

أود لو أخلِّص نفسي من تلك الستارة الحديدية التي تحول بيني وبين الهواء.

ونظرت إلى السقف بعينين ذابلتين، ولمحت الدائرة الصفراء الصغيرة وسط السقف يتدلى منها سلك النور. وتعلقت عيناي بالدائرة التي أخذت تتسع شيئًا فشيئًا، وظهرت داخلها عينان واسعتان سوداوان وأنف مستقيم وشفتان رقيقتان.

واقترب الوجه قليلًا، قليلًا، وانتفضت واقفة أخفي وجهي بكلتا يدي، وندَّت مني صرخة مكتومة.

آه، مستحيل، لا أحتمل!

أريد أن أنساه، أريد أن أنسى وجهه، لماذا يطاردني؟ لماذا لا يفارقني؟

إني أحبه، نعم أحبه!

كنت أسمع صوته في التليفون كل يوم: هدى حبيبتي، أنت لي، أنت حياتي، أنت سعادتي، أنا أحبك، أحبك.

وذهبت إليه خائفة مترددة.

لماذا كنت خائفة؟ لا أدري، لعلي كنت أفكر في مدى ما يحدث بيننا إذا خلا كل منا بالآخر.

لكني كنت مشتاقة إليه، أردت أن أجرب ولو مرة واحدة وجودي معه على انفراد، كنت أتخيل ذلك كثيرًا، وأرى نفسي بين يديه وفي أحضانه، وأحس بشفتيه وهما تضغطان على شفتي، وأحس بصدري وهو يلامس صدره، وأسمع همه الهادئ «أحبك، أحبك» فأغيب في سعادة غامرة حتى أفيق أخيرًا على واقعي، فأشعر بالضيق وأحاول أن أعود مرة أخرى إلى أحلامي، فأعود ثم أفيق، حتى مللت هذه الأحلام التي لم تعد تعطيني أكثر مما أعطتني من سعادة.

وتعودت هذه السعادة حتى فقدت لذتها، وأحسست أني أشتاق إليه، إليه هو، بلحمه ودمه، فذهبت إليه، قدماي تتعثران، وقلبي يصعد ويهبط.

كنت أريد أن يمنحني الواقع سعادة جديدة، أو لعلي كنت أريد أن أعرف مكان الخيال من الحقيقة، أو مكان الحقيقة من الخيال.

ووصلت إليه وأنا ألهث وأرتعد، فأخذني بين ذراعيه، وظللت في أحضانه، وبعد مدة لا أدري مداها، أرخى ذراعيه من حولي وتباعدنا قليلًا.

وخرجت من عنده وفي نفسي أحزان غريبة غامضة لا أدري ما هي، هل كانت الحقيقة أقل من الخيال؟ أم هو إحساس بضعفي وقد استرددت قوتي الضائعة؟ أم هو فتوره وهو يودعني، وقد غاب الوجد القديم الذي فتنني؟

وسرت أتخبط في ظلام وقد سيطر على نفسي شعور واحد، إنني لن أعود إليه.

وفي اليوم التالي استيقظت من نومي وأنا أحس بانتعاش، وعاد إليَّ حماسي القديم للسعادة، ولكني تذكرت الأمس، لا، لن أعود إليه، وقلت لنفسي: حينما يكلمني في التليفون سأرد عليه في فتور.

وشعرت براحة لهذه الأفكار، تلك الراحة التي تعقب الأخذ بالثأر.

وجاء ميعاده، ولم يدق جرس التليفون، وأحسست ببوادر قلق تحوم في خجل حول نفسي.

لماذا قلقت؟ ألم أقل إني لن أعود إليه؟ ولكن ماذا لو تكلم؟ حسبي أن أرد عليه في فتور!

وأحسست بالقلق فعلًا، فأخذت أقوم وأجلس، وأتمشى وأذهب إلى التليفون، وألقي عليه نظرة فاحصة، ثم أعود فأنظر من النافذة.

وأحسست بثورة عليه تملأ نفسي، ثورة غريبة لا تعرف حدودًا.

وذهبت إلى التليفون مرة أخرى، وأحسست أن هذه الثورة تستحيل شعورًا غامضًا يشبه التمني.

كنت أتمنى أن تُبعث الحياة في هذه الكتلة السوداء، فيخرج منها صوت، لكنها ظلت جامدة ميتة!

وكانت لحظات قاتلة رحت أضيعها في جولات مضطربة في أنحاء البيت.

ورأيت أمي تصنع كعكة بالبيض، وحاولت أن أملأ فراغي بشيء، فأخذت مضرب البيض ورحت أضرب الخليط بشدة، ووضعت يدي في الدقيق وأخذت أخض وأحرك ذراعي بقوة وعنف، كأني أود أن أستنفد كل قوتي، قوتي التي أفكر بها فيه.

وأخذت أغنِّي وأنا أعمل، أغني بصوت عالٍ جدًّا، كأني أحيي حفلة كبيرة مليئة بالناس، وأحرك رأسي وذراعي في الهواء، وأرقص وأهتز إلى اليمين وإلى الشمال على نغمات الأغنية المرحة الصاخبة.

وعانقت أمي وقبلتها وأنا أقول لها: «يا سلام عليكي يا ماما، الكعكة حاتطلع جنان!»

كنت أصيح من أعماق نفسي، وأحرك الجو حولي في اهتزازات عنيفة.

لكن في اللحظة التي كنت أسكت فيها قليلًا لأستريح، كانت صورته تتجسم أمامي وصوته يهمس في أذني، فأسد أذني وأشيح بوجهي وأنغمس في لهوي وصخبي.

وأحسست أن البيت ضيق لا يتسع لحركاتي وانطلاقاتي، ولم أستطع الخروج وحدي.

كنت أريد أن أجمع أكبر عدد من الناس حولي لنتكلم في صوت واحد، ونضحك بفم واحد، ثم يعلو صوتي وضحكي عليهم جميعًا.

وخرجت معي جماعة كبيرة من إخوتي وأصدقائي، وذهبنا إلى الهرم.

وهناك، في الفضاء الواسع، وعلى الرمال الدافئة، خلعت حذائي وطوحت به في ذلك الفضاء الهائل الذي يفصل بين الأرض والسماء، ونسيت نفسي.

أحسست أن جسمي لم يعد لحمًا، وإنما أصبح مادة غريبة مثل الريش وأني أستطيع أن أبقى معلقة في الهواء دون أن تمس قدمي الرمال!

وانعدمت فجأة كل الصلات التي تربطني بالبشر، ونظرت حولي، وأخذت ألف وأدور حول نفسي، وتنبهت إلى صوت يرتطم في جدار الهرم الأكبر، وتفقدته، فعرفت فيه صوتي.

كنت أضحك وأقهقه، فأحس أن الهواء الذي يملأ هذا الفضاء العريض يدخل كله إلى صدري.

وأحسست أني أخف وأعلو، حتى أصبح رأسي في مستوًى لا يبعد كثيرًا عن قمة الهرم، ونظرت تحت قدمي، فرأيت القاهرة نائمة متكورة مثل بقعة من السواد!

القاهرة، المدينة الباهرة الصاخبة، ترقد على الأرض وفوقها ملاءة سوداء رقيقة، كشحاذ معدم يبيت على الرصيف! مسكينة ضعيفة، فاقدة الوعي.

وأحسست بقوًى غريبة تجتاح نفسي.

كل شيء في هذه المدينة تافه، صغير، حقير، إنه لا يزيد على أن يكون جزءًا من هذه الكتلة السوداء الملقاة في عرض الطريق، كل شيء فيها تافه، صغير، حتى عمري الذي قضيته في جوفها، ماضيَّ وحاضري، ومستقبلي، وكل شيء، كل شيء لا يزيد عن ذرة في هذه الكتلة السوداء، حتى هو: هو الذي كان يمنحني السعادة والشقاء، هو الذي أعيش على فرحة لقائه، وأحيا بخفقات أنفاسه.

هو الذي كنت أضيع يومي وأمسي وغدي وأنا أفكر فيه، هو، من يكون؟ لا شيء سوى ذرة في هذه الكتلة السوداء الملقاة في عرض الطريق.

واحد من هذه الأجسام المسترخية في غيبوبة تشبه الموت، في مربع صغير من هذه المربعات التي يتساند بعضها على بعض! إنه نائم الآن لا يحس بشيء، ذراعاه متراخيتان إلى جوار جسده، ذراعاه اللتان التفتا حولي ذات يوم، وأفاضتا عليَّ اللذة والسعادة.

كم كانت لذتي صغيرة، وسعادتي ضئيلة، تنبع من ذراعين عاجزتين!

وعدت إلى بيتي وصدري مليء بالهواء، ورأسي ممتلئ بالأفكار، ولمحت التليفون قابعًا في ركنه كحشرة سوداء صغيرة، فرشقت بطنه المنقطة بنظرة احتقار بالغة، وذهبت إلى فراشي، وأغمضت عينيَّ ثم فتحتهما، ورشقت الحشرة السوداء بسهم آخر مسموم، ثم أغمضت عينيَّ وفتحتهما.

كانت الحشرة لا تزال أمامي.

وجمعت قواي وأنفاسي وقذفتها بسهم آخر، وأغمضت عينيَّ ونمت، وقد نسيت كل شيء.

وأشرق الصبح، وكان كل شيء حولي متألقًا، الأثاث، والسقف، والجدار، ونفسي.

ما كان أشبهني بآنية من الفضة، نظيفة مجلوة، ليست فيها بقعة واحدة من الصدأ!

وكنت أشعر بصوتي طلقًا مثل رنين الفضة.

واسترخيت في فراشي، وقد غمرتني السعادة، سعادة الخلاص من ذلك الكابوس الذي اسمه الحب.

لم يعد لأحد سلطان على قلبي، لقد تحررت.

ما أجمل القلب الخالي، وما أمتع الحياة حرة طليقة خالية من القيود والأغلال.

يا إلهي! ما أحلى الحرية.

وأغمضت عينيَّ في راحة.

ودق جرس التليفون، فانتفضت، وشملتني رجفة من قمة رأسي إلى أخمص قدمي، وامتدت يدي بلا وعي لتلتقط المسماع، وجاءني صوته يقول لي: يا حبيبتي!

وسمعت لساني يجيب في غيبوبة: يا حبيبي، يا حياتي!

وسمعت صدري يلهث، وصوتي يفتر ويتهدج، وتدركه بحة!

وتقلبت في فراشي في ذعر، وأنا أتشبث بالغطاء، كأنما أخشى على شيء غالٍ في نفسي، شيء عزيز أخشى عليه الهوان.

آه، يا لضعفي!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤