شيء آخر

خرج الدكتور رجب من باب شقته، وأغلق الباب وراءه، وتقدم بخطوات ثقيلة إلى المصعد، ثم هبط إلى الدور الأرضي، ووقف له عم عثمان البواب، وحياه تحية الصباح، ورد عليه الدكتور برأسه في حركة كسول. وعند باب العمارة رأى العربة «الكاديلاك» الفاخرة تنتظر كعادتها كل صباح، عربة «سيد بك الحناوي»، ورأى هو الفيات الصغيرة تقف خلفها في خجل، إنه يرى هذا المنظر المؤلم كل يوم كأنه لوحة ثابتة لا تتغير. وفتح الدكتور سيارته وحنى قامته الطويلة ليدخل من الباب الصغير، وسارت السيارة ببطء ليس فيه حماس، ودخلت من شارع جانبي ثم خرجت إلى شارع آخر، ثم دخلت في حارة ضيقة، ثم خرجت إلى خرابة كبيرة، وانحرفت إلى اليسار، وأخرج الدكتور رأسه من النافذة وبصق على الأرض.

كل يوم يمشي في هذا الطريق السخيف ويشم رائحة الخرابة العفنة، ويرى أولاد الحارة بأثوابهم القذرة، يتشاجرون بألفاظ قبيحة، وحينما يرون عربته يجرون خلفها ويقذفونها بالطوب ويصنعون خلفها قطارًا يصفر ويهلل: «الدكتور أهه أهه»، ولا ينقذه منهم إلا توفيق عبده «التمورجي» الذي يلمح عربة الدكتور من بعيد وحولها العيال، فيشمر جلبابه، ويمسك طرفه بأسنانه ويجري نحوه، ويهب في الأولاد كالكلب المسعور، وينزل عليهم ضربًا بالعصا، ويتفكك قطارهم نصف العاري، ويختبئون في شقوق على الأرض كالأرانب. ويسترد توفيق أنفاسه، ويبلع ريقه في زهو، ويقترب من عربة الدكتور، ويحييه بيده، ويبتسم ويقول: «صباح الخير يا سعادة البيه، أصلهم كلهم ولاد حرام.»

ويبصق الدكتور على الأرض، وينظر إلى توفيق في غيظ: «صباح الزفت والقطران إنت لسه عايش، طول ما بصطبح بوشك العكر ده طول ما ربنا مش حيتوب عليَّ من القرف بتاعكم.»

ويبتسم توفيق ويقول: «ليه يا بيه، ده انت الخير والبركة، ربنا يخليك لنا.»

ويرد الدكتور بسرعة: «ربنا يخرب بيتك، امشي انجر، اسبقني على المستوصف، وزيح البلاوي من سكتي.»

– حاضر يا بيه.

ويجري توفيق وطرف جلبابه في فمه، إن البيه الدكتور مبسوط النهاردة هكذا يقول له «الترمومتر»، والترمومتر هو كلمة صباح الخير يا سعادة البيه، فإذا لم يرد عليه البيه بتاتًا فكأنه لم يسمع، ومعنى ذلك أن الحالة «ج» ومزاج البيه كالقنبلة المضغوطة التي ستفرقع بعد قليل، على دماغه طبعًا ودماغ كل هيئة المستوصف بما فيهم الحكيمة ست عنايات، وإذا قال له صباح الزفت والقطران وسكت فإن مزاجه نص نص، وإذا كمل الزفت والقطران بوشك العكر والقرف بتاعكم وربنا يخرب بيتك فمعنى ذلك كله أن البيه «مبسوط» وآخر مزاج.

ووصل الدكتور إلى المستوصف، وركن سيارته بجوار الرصيف أمام الباب بعد أن أحكم إغلاقها بالزجاج والمفتاح، والتفت حوله ونادى بصوت عالٍ: يا فيشاوي.

– أيوه يا سعادة البيه.

– انت فين يا حمار، خليك واقف جنب العربية اوع تنتقل، أحسن ولاد أخوك وولاد اختك وولاد المحروسة خالتك يركبوها حمار، فاهم يا حمار؟!

– حاضر يا سعادة البيه.

ويبتسم فيشاوي لنفسه في سعادة، هذه هي تحية البيه الدكتور له كل صباح.

وقف الدكتور رجب على باب المستوصف، وفي عينيه نظرة اشمئزاز وقرف، ورأى «توفيق» وهو يخترق كوم اللحم البشري المتجمع أمام الباب: وسع السكة للبيه، وسع يا جدع انت خلي عندك دم، لمي يا ولية ولادك من السكة، اتلحلح يا أخي اتلحلح، البيه واقف مش عارف يفوت، اتفضل يا بيه، وسع يا جدع، اوعي يا ولية، ابعد شوية يا راجل، اتفضل يا بيه.

وينشق الكوم البشري الملتصق بالأرض عن شق ضيق يفوت منه الدكتور رجب وهو يكتم أنفاسه حتى لا يشم رائحة الجراثيم الملوثة بالتراب، ورائحة العرق المريض والأنفاس العفنة.

ووصل الدكتور إلى حجرة مكتبه، واستقبلته ست عنايات بابتسامة عريضة: صباح الخير يا بيه.

– صباح الزفت يا ولية.

ونظر إليها شزرًا ثم قال: «انت مالك يا بت بتسمني كده؟! يظهر انكم بتيجو على العيا، جاتكم عيا.»

– اسكت والنبي يا بيه أحسن طول الليل عندي كحة وعاوزة أعمل أشعة عشان اطمن.

– تطمني على إيه يا ولية؟ هي الجتة دي كلها يجيلها سل؟ امشي غوري من قدامي، سل لما يلهفك.

وابتسمت ست عنايات وخرجت، لقد تعودت على هذه الشتيمة اللذيذة من البيه الدكتور، بل إنها حينما ينسى الدكتور رجب وسط شغله الكثير أن يشتمها تحاول أن تجر شَكَله بطريقة خفية فتدخل إليه تمشي في دلال كأنها مكسوفة وتقول بصوت ناعم فاتر: تسمح لي والنبي يا بيه آخد أجازة بكرة.

وتسكت وتنظر إليه وهي تعرف أنه سيبدأ بالشتيمة، وفعلًا ينظر إليها في عجب، ويهز رأسه في سخرية: ليه عاوزة أجازة بكره؟ ناوية تموتي بكره؟ إلهي ربنا ياخدك ويريحنا منك.

وتبتسم ست عنايات، ولا تكتفي بهذا النصيب الضئيل من الشتيمة فتقول في دلال: والنبي يا بيه ربنا يخليك أصل كل سنة وانت طيب حاعمل الكحك بكره.

– كحك؟ الناس مش لاقية العيش وانتِ بتعملي كحك؟ وكمان لكِ عين تطلبي أجازة، غوري، غوري من قدامي، آل كحك آل! انزاحي يا ولية شوفي لك شغلة.

وتخرج عنايات، ويجلس الدكتور إلى مكتبه، ويخرج المفاتيح من جيبه ويفتح ثلاثة أدراج من المكتب، ويخرج رزمة من الورق ورزمة من الدوسيهات والأشعات وثلاثة أقلام حبر ودباسة وعلبة سجائر وعلبة كبريت، ثم يقوم ويفتح دولاب صغير، في الحائط، ويخرج منه بالطو أبيض، ويضع جاكتته وينحني بقامته الطويلة إلى رف سفلي ويخرج منه فوطة وصابونة وكوب زجاج فارغ، ثم يعود إلى المكتب ويجلس ويضغط على زر بجواره فيضيء فانوس الأشعة، ويفتح أول «دوسيه» أمامه وينظر فيه، ثم يُفتح الباب ويدخل توفيق عبده: «سعادة البيه فيه واحد عاوز يقابل سعادتك.»

– والله سعادتي مش فاضي يقابل حد، مش شايف يا أعمى أنا قدامي إيه؟ مش شايف يا بهيم أنا مش باين من الدوسيهات؟

– حاضر يا سعادة البيه.

ويخرج توفيق ويغلق الباب، ويضع الدكتور صورة أشعة على الفانوس وينظر فيها بدقة، ثم يقلب في أوراق الدوسيه، ويكتب في إحدى الصفحات: «درن رئوي مزدوج — حالة سيئة — لا يقدر على العمل، يستحق إعانة.»

ويفتح الباب ويدخل توفيق: يا سعادة البيه فيه واحدة بره عاوزة تقابل سعادتك ومعاها جوزها مريض عندنا.

– خليها تدخل.

وتدخل امرأة في الثلاثين تقريبًا ناشفة كعود الذرة المقطوع، وثيابها مهلهلة، ويستند على ذراعها الطويل الرفيع هيكل رجل عيناه غائرتان في رأسه وفمه مفتوح على آخره يلهث: والنبي يا بيه الرجل ده ورَّاني المُر، ومعايا منه ست عيال، إلهي يكفيك شر العيا تدخله المصحة.

– اسمه إيه؟

– عباس عبد الله محمد.

ويفتش الدكتور في الدوسيهات أمامه، ثم يخرج من بينها دوسيه بنفس الاسم، وينظر فيه بضع دقائق، ثم يقول: يا ستي ده كان في المصحة!

– أيوه يا بيه قعد في المصحة كام شهر وبعدين خرج.

– طيب يا ستي وأنا أعمل إيه، مفيش سراير فاضية دلوقت، خليه في البيت لغاية ما سرير يفضى، والمصحة تبعت له يبقى يروح.

– والنبي يا بيه ربنا يخليك، أنا باشتغل وبأكل العيال الستة واحنا غلابة قوي و…

– مش في إيدي يا ستي، لما المصحة تبعت تقول فيه سراير فاضية حابعت لك، ده كل اللي عندي!

– ربنا يخليك يا بيه.

– ربنا ياخدني أحسن، قلت لك مش في إيدي!

– يا سعادة البيه إحنا فقرا و…

– أيوه، حكاية فقرا دي مش شغلتي يا ستي، أنا شغلتي دكتور، طبيب، حكيم صدر، أفهم في السل بس!

– ربنا يخليك يا بيه.

– أوه! مش عاوز دعاوي، يا توفيق، يا هباب! يا زفت الطين، خد الست دي من هنا، خليني أعرف أشتغل.

ويأخذها توفيق خارج الحجرة، وفي ذراعها الرجل اللاهث، ويغلق الباب وراءه، ويشعل الدكتور سيجارة، ويفتح «دوسيه» آخر، وينظر في الأشعة، ثم يكتب تقريره، وينتقل إلى دوسيه ثانٍ، وثالث، ويدق جرس التليفون بجواره على المكتب: آلو.

– الست عنايات موجودة؟

– مين عاوزها؟

– حسين.

– يا سي حسين اطلبها والنبي بعد الساعة اتنين، أصل ده تليفون حكومة، تليفون مستوصف يا خويا، ويقفل السكة.

وتدخل عنايات ومعها طفلة: والنبي يا بيه، بنت أختي بقالها يومين بتكح، وفي النازل، والنبي تشوفها بالأشعة عشان أمها تطمن.

– شافك ربنا بدري! مين يا ولية اللي اسمه حسين اللي بيطلبك في التليفون ده؟ مش عيب عليك وانت كركوبة وشعرك شايب تدي مواعيد في التليفون؟

وتبتسم عنايات في سعادة، ثم تضحك ضحكة قصيرة رنانة، وتقول وهي تنظر إليه في دلال: كركوبة إيه يا بيه، ده أنا من مواليد واحد وتلاتين!

– يا بت بلاش كدب، بقى ما حضرتيش ثورة ١٩؟ بس بلاش كدب، مين الواد اللي اسمه حسين ده؟

– ده جوز اختي كان عاوز يطَّمن على بنته.

– غوري، خليهم يحضَّروا حجرة الأشعة.

– حاضر يا بيه.

وتخرج عنايات ومعها الطفلة، ويعود الدكتور إلى الدوسيهات والأشعات، ثم يُفتح الباب وتدخل تمورجية بملابس زرقاء وتقول بصوت خائف: خلاص يا سعادة البيه أودة الأشعة جهزت.

وتدخل عنايات، وتقترب من المكتب وتقول له: «أودة الأشعة جهزت اتفضل يا بيه.»

ويقف الدكتور، ويلبس النظارة السوداء، ثم يقول في حدة: خليكي هنا جنب المكتب، مش عاوز ورقة تضيع هنا ولا هنا، المحفظة في الجاكتة في الدولاب، الكباية قدام عنيك أهه على المكتب، عاوز الثلج يتغسل بالصابونة، مفهوم؟

– حاضر يا بيه.

ويدخل الدكتور إلى حجرة ضيقة، متر ونصف في مترين ونصف، لها شباك واحد، عليه ستارة سوداء، وجهاز الأشعة يبتلع نصف مساحة الحجرة، والنصف الآخر يشغله عشرة من المرضى متلاصقين كأنهم مربوطين بحبال، ويرن صوت نفيسة الرفيع، وهي تقول للمرضى: الزقوا في بعض شوية كمان، خلي الدكتور يعرف يمر.

ويمر الدكتور بصعوبة، كأنه يفلت من خرم إبرة، ويقف أمام جهاز الأشعة، وينادي على أول مريض، ويضغط على زر فينطفئ النور، ثم يضغط على زر آخر فيضيء الجهاز، وينظر إلى صدر المريض من خلال الجهاز في دقة، ويقول له: خذ نفَس.

لكن المريض يكتم نفسه، فيقترب منه الدكتور ويقول له: مش بتفهم عربي، خذ نفس يعني تعمل كده.

وفتح الدكتور فمه على آخره، وجذب من هواء الحجرة نفسًا، وقبل أن يخرجه إذا بالمريض الواقف أمامه يكح في فمه، ويتراجع الدكتور إلى الوراء في غيظ شديد، ويخرج منديله ويمسح رذاذ اللعاب الذي تناثر على وجهه، ويبصق في الحوض المجاور له: الله يقرفك يا شيخ! بقى مالقتش حتة تكح فيها غير زوري؟ تعالى اقف تاني ورا الجهاز، اقف كده وقفت عليك حيطة!

وانتهى الدكتور من الكشف على المرضى العشرة، وفتحت الممرضة الباب، ودخل عشرة آخرون وقالت له: تاني دفعة يا بيه.

وانتهى الكشف على ثاني دفعة، ثم ثالث دفعة، ثم الحريم، ثم المخالطين، والدكتور يجفف عرقه، ويبصق من حين إلى حين في الحوض. وأخيرًا انتهى الكشف، وأقفل الدكتور الجهاز، وخرج من الزنزانة مسرعًا.

– أف، الله يلعن أبو ده شغل!

كانت أول كلمات ينطق بها الدكتور، وهو يجلس على مكتبه، ويجفف عرقه.

وفتح الباب، ودخل توفيق: فيه واحد مريض عاوز يقابل سعادتك.

وانفجر فيه الدكتور صائحًا: يا حمار! يا مغفل! مش شايف أنا شكلي إيه، مش شايف أنا لسه يدوبك طالع من إيه؟ خلي عندك دم! سيبني شوية آخد نفسي، أشم شوية هوا من غير سل! اقفل الباب يا حمار لغاية ما عرقي ينشف.

ثم نظر إلى عنايات في غضب: فين يا ولية المية الساقعة؟ غسلت التلج بالصابونة؟! اعملي فنجان قهوة مظبوط.

ويذهب الدكتور إلى حوض صغير بجواره، ويغسل يديه ويجففهما، ويدخل توفيق عبده في حماس، ويقول: فيه واحد بيه عايز يقابل سعادتك، بيقول إنه …

وقبل أن يكمل توفيق كلامه، دخل من الباب رجل طويل أنيق، وصافح الدكتور رجب في حرارة، والدكتور ينظر إليه كأنه لا يعرفه، وجلس الضيف بجوار الدكتور، وقال وهو يفرك يديه: أهلًا أهلًا، إزي الدكتور؟

ووضع الدكتور رجب القلم من يده على المكتب، وقال في برود: رضا، أدحنا عايشين.

ورد الضيف بسرعة: الحمد لله، طبعًا سيادتك متعرفنيش؟

– لا والله مش متذكر.

– أنا علي الدهان.

– أهلًا وسهلًا.

– أهلًا بك.

– علي الدهان مين يا فندم؟

– أنا من أعيان الحي ده!

– أيوه أهلًا وسهلًا.

– برضه ما سمعتش عني؟

– لا والله ما حصليش الشرف.

– إزاي ده؟ ده مصطفى أمين كتب عني كذا مرة في الأخبار.

– أصلي والله مش بشوف الأخبار.

– أمال بتقرا إيه؟

– المساء.

– يا خبر؟ وجرائد الصباح؟

– أصلي والله ما عنديش صباح، أقصد وقت الصباح زي ما انت شايف شغل مالوش آخر!

– ربنا يكون في العون، ده الطب مهنة إنسانية نبيلة، يا سلام ده أنت بتخدم الناس المرضى والفقراء، يا سلام ده ربنا حايجازيك أحسن جزاء، ده ربنا.

– ربنا ياخدني أحسن، سيادتك عاوز خدمة؟

– أيوه فكرتني، أنا جاي عشان البنت الخدامة بقى لها يومين بتكح، وخايف يكون عندها حاجة تعدي الأولاد بتوعي، قلت أجيبها لك تشوفها.

– قوي قوي أي خدمة، هاتها أي يوم يعجبك.

– متشكر قوي يا دكتور، على فكرة هو المستوصف ده تبع الصحة ولا الأوقاف؟

– الصحة!

– كده! كويس خالص، أنا أعرف ناس كتير في الصحة، لو عزت أي خدمة يا دكتور بس قوللي.

– متشكر قوي.

– فرصة سعيدة يا دكتور.

– مع السلامة.

ودخلت عنايات ومعها القهوة ووضعت الفنجان أمام الدكتور على المكتب: إنتِ رحت فين؟! تجيبي المية من الترعة، غطي الفنجان بالطبق ورشي شوية «فليت» أحسن الدبان بيزن في ودني زي الضبابير.

وخرجت عنايات وجلس الدكتور يفكر، وينظر إلى الدوسيهات المتراكمة على المكتب، ويسمع ضجة مئات المرضى الذين يطلبون مقابلته خارج الباب، وكل واحد منهم له طلب، وكل طلب عبارة عن مستحيل رابع.

أسرة المصحات لا تكفي المرضى، آلاف من مرضى السل يتجولون في الشوارع بلا عمل، بعد أن فُصلوا من أعمالهم، ولا يجدون مكانًا مناسبًا يجتذبهم سوى مستوصف الصدر، يتكومون فيه كما تتكون الصراصير في صفيحة الزبالة، ولكن ماذا يفعل هو لهم؟ إنه بائس مثلهم، وشعر الدكتور رجب بانقباض شديد، كل يوم يرى هذه المناظر البشعة، بقايا هياكل بشرية يابسة كالخشب، لاهثة دائمًا، بلا توقف، ونظر الدكتور حوله في يأس وملل، لقد مل عمله، مل الطريق الذي تسير فيه حياته، بل مل حياته كلها، ماذا فيها من جديد؟ كل يوم مثل سابِقِه ومثل لاحِقِه، الحياة كلها يوم واحد طويل، روتين يتنقل فيه بلا وعي، ليس هناك تغيير حقيقي وإنما تغيير مزيف، تغيير في الأسماء فقط لا غير، السبت، الأحد، الإثنين، إلخ، أسماء متعددة لشيء واحد هو اليوم، سبتمبر، أكتوبر، نوفمبر، إلخ، أسماء مختلفة لشيء واحد هو الشهر، سعاد، وفتحية، وخديجة، وسهير، كلها فساتين مزركشة ملونة من تحتها شيء واحد ثابت هو جسم امرأة، حتى الكوسة، والملوخية، والباميا، والبطاطس أسماء متعددة، لشيء واحد اسمه الأكل!

وشعر الدكتور رجب بصداع شديد، يكاد يفلق رأسه نصفين، فأمسك رأسه بيديه، وقال لنفسه بصوت ملول مكتئب: آه يا دماغي!

ونظر إلى ساعته، ووجدها الثانية والربع، فقام، وغسل يديه، وخلع المعطف ولبس الجاكتة، ووضع الكوب، والفوطة والصابونة، داخل الدولاب، وأغلقه، ثم وضع أدوات المكتب والدوسيهات في الأدراج، وأغلقها، وخرج من المستوصف يحف به بعض التمورجية وكثير من المرضى، وأصواتهم تختلط بعضها ببعض، والنبي يا بيه كلمة واحدة أنا راجل غلبان، وسع يا جدع خلي البيه يفوت، ربنا يخليك يا بيه شوفلي سرير عندكم، يا راجل اوع من السكة خلي البيه يمر، و… ويركب الدكتور رجب عربته، ويأخذ نفَسًا طويلًا عميقًا، من هذا الشارع العريض بعد أن يخرج من «الخرابة» والحفرات.

ودخل إلى باب العمارة، ووقف، ورأى العربة الكاديلاك تقف في اعتزاز كعادتها، والسائق يمسح عليها كأنه يدللها، وتنهد الدكتور في حسرة وقال لنفسه: سيد بك الحناوي، المقاول، ساقط توجيهي!! يا خسارة السبع سنين طب!

وصعد إلى شقته يجر جسمه الطويل في ملل، كأنه يود لو تخلص منه هو الآخر، ودخل شقته، وقابله خادمه محمد النوبي بابتسامة بيضاء ناصعة: أهلًا سي رجب!

– عملت أكل إيه؟

– كوسة يا سي رجب!

وقال له في غيظ: كوسة؟ كل يوم كوسة كوسة، مفيش حاجة تانية في السوق؟ انت امبارح عامل كوسة!

قال الخادم: أبدًا يا سي رجب، امبارح عامل بطاطس، وأول امبارح فاصوليا، وأول أول بسلة وقبلها كانت كوسة.

ولم يرد عليه الدكتور، بل دخل إلى حجرة نومه، وهو يفكر في هذه الأيام التي تمر متشابهة، فلا يفرق بين أمس وأول أمس، هل أصبح إلى هذا الحد لا يشعر بمرور الزمن؟

وأخذ يخلع ملابسه في تثاقل وبلادة، لا شيء في الدنيا يثير الحماس.

ولم يَدْرِ ما حدث، فقد أخذ يتلفت حوله ويأخذ نفسًا عميقًا، وهو يقول: الله! ريحة إيه؟

ورأى خادمه، واقفًا على الباب، يقول: خلاص يا سي رجب الأكل على السفرة، وعرف الدكتور أن الرائحة التي هبت فجأة وأنعشت رئتيه لم تكن إلا رائحة اللحم المحمر في السمن البلدي.

وبخطوات سريعة نشطة قفز الدكتور إلى حجرة المائدة، وقد ذاب كل شعوره السابق بالملل والكآبة، ولم يشعر إلا وهو جالس أمام أطباق الأكل يشم كل طبق على حدة، وفي عينيه لمعان جديد.

وانطلق صوته في نشوة مجلجلًا: يا محمد! يا محمد، جبت فلفل أخضر؟

وجاء صوت محمد من المطبخ يقول: أيوه حاضر جاي أهه.

وفاضت سعادة جديدة في أعماق الدكتور رجب لمجرد أنه علم أن هناك فلفًا أخضر، والتهم الأكل في لذة، وشرب كوب الماء المثلج، ثم قام وغسل يديه، وأسرع إلى السرير، وتمدد في سعادة، وهو يفكر في سهرة الليلة، كيف وأين يمضيها؟! وهرش رأسه، وهمس في نفسه: النهاردة إيه؟ النهاردة إيه؟ آه! النهاردة الخميس، أيوه الخميس، يا خبر! ده أنا عندي ميعاد الليلة مع سهير، أنا مغفل صحيح، كنت حانسى سهير!

وانفرجت شفتاه قليلًا عن ابتسامة هانئة، واقتربت جفونه في تراخٍ شديد، وراح في سبات عميق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤